الدراسات والبحوث

دور التصوُّف والعرفان في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة

د. إحسان الحيدري

دور التصوُّف والعرفان في الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة

د. إحسان الحيدري

أستاذ التعليم العالي في فلسفة الدين- جامعة بغداد- العراق.

 

ما هو متعارف عليه في تاريخ التصوف هو عزلة أصحاب الطريقة الناس، واعتكافهم في أماكن خاصة بهم، وابتعادهم عن السياسة وتنظيم شؤون الدولة؛ لأن تلك الأمور سوف تشغلهم عن عبادة اللّه والتقرب إليه، وقد مثّل هذا الأمر انسحاباً من المسؤولية المناطة بالإنسان بوصفه إنساناً مدنياً بالطبع، وعليه واجبات تجاه أسرته ومجتمعه، ولو أردنا تمثيل تلك الحالة المنكفئة على نفسها في واقعنا الحالي للاحظنا عدم وجود أي تأثير في الواقع المعاش من لدن الحركات الصوفية تجاه الغزو الثقافي المتمثل بالحداثة والتيارات العلمانية، وما يقابلها من تيارات متطرفة، وكلا الاتجاهين يسهمان في الابتعاد عن جوهر الدين الحقيقي؛ لذا نجد من الضرورة بمكان أن يكون للعرفان والتصوف في الوقت الحالي دور رئيس في نهضة المجتمع، ونفض الغبار عمّا علق في الدين من موضوعات مختلقة ما أنزل اللّه بها من سلطان، والتصدي لمسك زمام الأمور للوصول بالمجتمع الى بر الأمان.

إن الدين الإسلامي يمثل دستوراً شاملاً للحياة البشرية، ويدخل في جميع مناحيها من خلال تزويدها بالضابط الشرعي والأخلاقي لممارساتها، وبما أن العارف أو المتصوف يمثل التعبير الحقيقي عن جوهر الشريعة الإسلامية – بحسب منظوره على أقل تقدير – ومن ثَمَّ عليه الولوج في ميادين الحياة المختلفة لتغيير حالها، والارتقاء بها في سلم الكمال، ولو اقتصرنا على تهذيب سلوكنا والارتقاء بنفوسنا، وترك ما وراءنا خلف ظهورنا؛ ما كنا محققين للرسالة الإلهية التي خلقنا اللّه من أجلها، ولنا أسوة حسنة في الأنبياء وأوصيائهم، أمثال أنبياء اللّه: إبراهيم وداود وسليمان ونبينا محمد ووصيه علي عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، إذ كانوا قادة مجتمعاتهم وحاكمي زمانهم ، ومع ذلك هم يمثلون الذروة في القرب من اللّه، وهذه الحالة تعبر عن المزج بين التصوف والعرفان من جهة، وبين إدارة شؤون البلاد والعباد من جهة أخرى.

ولو أردت ضرب مثال واقعي على نفسي بوصفي أستاذاً جامعياً، ورب أسرة مؤلفة من عدة أفراد، وأردت الولوج في ميدان التصوف والعرفان لمعرفة حقيقة اللّه، وحقيقة العالم، وحقيقتي أنا كإنسان، عن طريق اتباع منهج عملي يتمثل بأداء العبادات والنوافل، وبعض الأوراد، وممارسة بعض الرياضات والسلوكيات؛ للارتقاء بنفسي وتهذيبها، وشيئاً فشيئاً تمكنت من الارتقاء من مقام الى آخر محاولاً بذلك الوصول الى مقام الفناء، لكني في الوقت نفسه تركت واجباتي تجاه أسرتي، وتجاه طلبتي، وتجاه مجتمعي؛ نتيجة الانغماس في سلوك الطريق الموصل الى حقيقة المعرفة، فهل أكون هنا أنا بصفتي إنسان قد أديت ما عليّ من رسالة حمّلني بها اللّه عند خلقه إيّاي، ومن ثَمَّ ما هو مصير أفراد عائلتي الذين قصّرت بحقهم إن انحرف أحد منهم عن جادة الصواب، وما هو مصير طلبتي إن تشربت الى مسامعهم وترسخت في عقولهم أفكار الغزو الثقافي الغربي ورفعوا راية الإلحاد، وما هو دوري في مجتمعي الذي يعاني الأم رين نتيجة الفساد الإداري والمالي، وتكالب الأعداء عليه من كل جانب، ما الذي سأقوله لرب العالمين عند لقائي به، هل أقول له إني نجوت بنفسي وتركت الآخرين خلف ظهري، فهل أكون عندها ممثلاً لخليفة اللّه في الأرض، كلا وألف كلا؛ لأني سأكون عندها ممثلاً لقمة الأنانية.

إن مجتمعاتنا الإنسانية والإسلامية على وجه الخصوص بحاجة ماسّة الى أن يكون للعرفان والتصوف دور رئيس ومؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية، وعدم الاقتصار على الحياة الدينية، وعلى المتصدي لحمل راية التصوف والعرفان أن يزاوج بين مبادئ الطريقة المتمثلة بإصلاح النفس الإنسانية، وبين الإصلاح المجتمعي، وإني لأكاد أجزم أن التقرب الى اللّه تعالى من خلال خدمة الآخرين وإصلاح حالهم، والسعي في إنقاذ البشرية من براثن الفكر الإلحادي والفكر المتطرف؛ لهو أقصر الطرق للوصول الى اللّه، وكل ما نحتاجه هو ترجمة ما نحمله من جوانب نظرية في مجال العرفان النظري والتصوف العملي الى أهداف ممكنة التحقيق؛ لأن التنظير المجرد البعيد عن التطبيق سوف لا يواجه بقبول من عامة الناس، وسيبقى محصوراً في نطاق ضيق، والسلوكيات الخاصة ببعض الطرق الصوفية وبعض سلوكيات العرفاء إن لم تكن على قدر من المعقولية ومواكبة للعصر الذي نعيش فيه، أيضاً سوف لن تلقى رواجاً عند عامة الناس.

إن الأهداف التي اجتمعنا من أجلها اليوم إذا أردنا لها الاستمرارية والانتشار فعلينا اتخاذ خطوات عملية لتحقيق تلك الأهداف، منها على سبيل المثال لا الحصر:

١. تحديد المرتكزات التي سننطلق منها.

٢. توحيد الرؤى بشأن الخطاب المنبثق من هذا التجمع.

٣. إيجاد خطاب واقعي عقلاني يتلاءم مع عصر التقنية والرقمنة الذي نعيش فيه، وعدم البقاء في عصور الاعتكاف والعزلة.

٤. النزول عند مخاطبة الآخرين لجذبهم الى المشروع الفكري الذي سنخرج به الى مستوی عقولهم من خلال استعمال المصطلحات الواضحة والمفهومة ؛ لأن البقاء على مستوى التنظير الذي تتكلم به النخبة سيعمل على تحجيم مشروعنا.

٥. الاستفادة من الثروة الفكرية الهائلة في تراثنا الإسلامي في مجال التصوف والعرفان، وتوظيف ما يصلح لتطبيقه في الوقت الراهن بالطريقة التي تسهم في إصلاح المجتمع، وعدم الاقتصار على إصلاح الذات الفردية.

٦. السعي لبناء منظومة فكرية جديدة تعمل على التصدي لإيقاف زحف التيارات العلمانية والمتطرفة على حد سواء.

٧. ترك الخلافات الجزئية في المسائل العقدية، والتوحّد حول الهدف الذي نرنو الوصول إليه.

٨. التركيز على أن الدعوة الى تهذيب النفس الإنسانية وتحليها بالأخلاق الفاضلة والسير نحو الارتباط باللّه، یرافقه تأدية ما علينا من واجبات تجاه محيطنا الاجتماعي.

إن ديننا الإسلامي يختلف عن بقية الشرائع السماوية والوضعية في كونه لا ينحصر في الإطار الدنيوي فقط، ولا في الأخروي فقط، بل يمازج بين الإطارين بطريقة يجعل من الدنيا ممراً للوصول الآخرة، فإن كان سلوكه مفيداً ومثمراً لنفسه ولمجتمعه وصل الى بر الأمان، وإن كان غير ذلك فأمره موكل الى اللّه تعالى، إن شاء رحمه، وإن شاء حاسبه؛ لذا أرى من وجهة نظري أن الممارسة العرفانية تتجلى في دعوة الآخرين لركوب سفينة النجاة للوصول الى بر الأمان، وعدم الذهاب منفردين في قارب للوصول الى ذلك الشاطئ.

من الطبيعي أن يكون منهجنا منبثقاً من القرآن الكريم، والمتمعن للآيات القرآنية يجد أن المنهج القرآني غير محدود وغير مقتصر لا على المجال الدنيوي، ولا على الأخروي، بل يشملهما معاً؛ لذا نجد أن التربية القرآنية تشير الى التربية الذاتية والتربية المجتمعية، ومن أراد الانتهال من فيض تلك التربية الربانية؛ عليه أن لا يقتصر على نوعية واحدة وترك الأخرى، لأنه سيكون عندها مقصر إما بحق نفسه أو بحق محيطه الاجتماعي، والنتيجة أن القصور الناتج عن إحدى الحالتين قد لا يوصله الى الغاية المنشودة بشكل صحيح، وكم نحن محتاجون في يومنا هذا الى شخصيات عرفانية تتسم بالسمو الأخلاقي، وتمتلك من المعرفة والعلم نتيجة للفيوضات الربانية ما تمكنها من قيادة المجتمع، ووضعه على الطريق المستقيم.

وإذا أردنا ضرب مثال واقعي في عصرنا الراهن نستدل به على مزاوجة العرفان مع السياسة ومع المجتمع، فبالتأكيد سيكون خير مثال لنا هو السيد الخميني، الذي انتقل من التوحيد بوصفه ضرورة عقدية إلى وحدة الأمة بوصفها ضرورة اجتماعية ودينية، ومن طغيان النفس والهوى إلى طغيان الحكام، وأن مجاهدة النفس والهوى تعد بمنزلة أولى درجات الصعود لمجاهدة الطغاة، ونرى انتقالته في تحويل عاشوراء الحسين في الزمن الماضي الى عاشوراء جديدة تنهض بالأمة، وتحمل الراية لتحقيق تطلعاتها، وكيفية تحويل النظرة الصوفية والعرفانية في مسألة الابتعاد عن المرأة إلى تثوير المرأة وتعليمها، وضرورة مشاركتها الرجل في العمل السياسي، فضلاً عن الانطلاق من الأفق الضيق لمفهوم العبادة إلى الدائرة الأوسع والأشمل، فنجده يعبر عن المشاركة في الانتخابات – بحسب الفهم الجديد – بكونه يمثل عبادة، ومن التوظيف والآلية نفسها نجده قد جعل من القضية الفلسطينية قضية عبادية، ومن ثَمَّ منحها موقعاً أكبر وأكثر حساسية؛ ما يعني أن العمل السياسي لديه بمنزلة العبادة، وهنا نلاحظ كيف استطاع السيد الخميني صياغة مفاهيم دينية جديدة، وإعادة توظيفها على نحو ينهي الخلاف القائم بين ما هو متعارف عليه من عزلة المتصوف الى الانطلاق نحو الحياة المجتمعية، وتغيير النظرة السوداوية للمتصوف نحو الحياة بوصفها عالماً حقيراً الى جعلها ساحة معركة لخوض غمارها ضد الطغاة؛ لنيل رضا الخالق والتقرب إليه.

فالإسلام من وجهة نظر السيد الإمام يمثل دين النهضة الاجتماعية والسياسية، والقرآن من وجهة نظره يمثل منهج حياة كاملة، وغير مقتصر على الجانب الأخروي وبعض الطقوس العبادية؛ لذلك دعا رجال الدين الى الخروج من صومعاتهم والاختلاط مع الناس، وتعريف الناس بأن الإسلام دين حياة، وأن عالم الملك غير مذموم في حد ذاته؛ لأنه يمثل تجلي الحق ومقام الربوبية، ومهبط الملائكة، ومكان الأنبياء والأولياء، ومحراب عبادة الصالحين، وموطن تجلي الحق على قلوب العاشقين؛ ومن ثَمَّ فإن التقرب الى اللّه يتجلى عن طريق خدمة البشرية، والعرفان لديه لا ينطلق من الإنسان الى اللّه، بل ينطلق من اللّه الى الإنسان، فتكون البداية ممثلة بجهاد النفس عند الفرد، لتنتهي بجهاد الأمة، أي من صراع الشهوات الى مقارعة الطغاة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى