الدراسات والبحوث

فتوَّة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي

فتوَّة الروح في فتوحات محيي الدين بن عربي

بين الوجود الحقِّ  ومحاق العدم

وبين الحقيقة والمجاز 

 

                                                                                                                                                                     د.ليلى خليفة*

*باحثة في تاريخ الحضارات، وأستاذة متخصِّصة في التصوَّف – الأردن.

 

 

كـلُّ مـن خـاف على هيكلـهِ    *     لـم يـرَ الحـقَّ جهـاراً علنـاً

فــــتـراه عــــنــدمــــا يشـهـــدهُ    *    راجعـاً للكـون يبـغي البـدنـا

 وتـرى الشـجعان قُدُمـاً طلبـاً    *    للـذي يحـذرُ مـنـه الـجُبنــــــــــا[1]

 

“فلمَّا نازعه الهوى واستعان بالنفس عليه، عزم الروح على قتل الهوى، واستعد. فلمَّا برز الروح بجنود التوحيد والملأ الأعلى، وبرز الهوى كذلك بجنود الأماني والغرور والملأ الأسفل، قال الروح للهوى: مني إليك، فإن ظفرتُ بك فالقوم لي، وإن ظفرتَ أنت وهزمتني، فالملك لك ولا يهلك القوم بيننا. برز الروح والهوى، فقتله الروح بسيف العدم وظفر بالنفس بعد إباية منها وجهد كبير، فأسلمت تحت سيفه، فسلمت وأسلمت وتطهَّرت وتقدَّست وآمنت الحواسُّ لإيمانها، ودخلوا في رقِّ الانقياد وأذعنوا، وسلبت عنهم أردية الدعاوى الفاسدة واتَّحدت كلمتهم، وصار الروح  والنفس كالشي‏ء الواحد [ ] ونقله من افتراق الشرع إلى جمع التوحيد”[2].

 

 

يتحدَّث الشيخ الأكبر محمد محيي الدين بن عربي(560ــــ 638ه) في الباب الأول من كتابه “الفتوحات المكيَّة”، عن لقائه فتى روحانيّاً في مكَّة المكرَّمة. كان ذلك، بالقرب من الحجر الأسود، بينما كان يسعى ويطوف بالكعبة المعظَّمة، “مسبِّحاً، ممجِّداً، مكبِّراً، ومهلِّلاً”، وكما يقول: “تارة ألثم وأستلم، وتارة للملتزم ألتزم” [3]. يحدِّثنا الشيخ عن هذا اللقاء، وعمَّا دار بينه وبين الفتى الروحانيِّ بأسلوب استثنائيٍّ مميَّز يستحوذ ببلاغته على تركيز القارئ حتى ينجح  بجعله  يتقلَّب معه في النصِّ سعياً وطوافاً،  بين  المجاز والحقيقة، والواقع والخيال، وبين الروح والجسد ، كما بين الصفا والمروة، وبين الحجر والمقام؛ حتى يشعر وكأنه يكاد يرى الفتى مع ابن عربي، ويكاد يطوف ويسعى، بل ويدخل معهما “كعبة الحجر”.

يخبرنا الشيخ أنَّ اللقاء بينه وبين الفتى الروحانيِّ قد تمَّ في حضرة غيبيَّة، يقول: “تيقَّنت أن الأمر غيب” ، ولكنه يستدرك قائلاً: “وإنَّه لدى الكشف والتحقيق حيٌّ ومرئيّْ”[4]. يصفه كما خلقه الله، بأنَّه “بسيط مركَّب”، “صامت ناطق”، “حيٌّ ليس بمائت”. حياته ذاتيَّة وما يمرُّ على شيء إلاَّ ويحييه. ويتحوَّل في كلِّ صورة يلبسها، فيحييها ويعطيها معناها.  له ما يلزمه من القوة والعلم  لذلك، وله أيضاً من الكرم والإيثار ليتحوَّل بصور كلِّ شيء من  العالم حتى السفليِّ منها، ليوصل المعاني إلى السالك. بل هو الذي يقوم على خدمته وحفظه في كلِّ آن وعندما ينام. جُهل مقامه عند الناس وفاتهم أمره، فوصفه الشيخ الأكبر بالفتى “الفائت”. وهو وإن كان في الاعتبار  السيد “الفائق” يفوق الخلق، فإنه يظهر بصورة العبد الخادم، يقول ابن عربي: “فإن الروح لا رياسة عنده في نفسه ولا يقبل الوصف بها”[5]. كالنور مثَله، يصل إلى كلِّ مكان من علوٍّ وسفل، وإن كان له الشرف من حيث نورانيَّته، فهو لا يتوانى أن يكون السيد الخديم، يقول ابن عربي:

 

خادمي نوري الذي كان عندي * والذي عند من هويت إمامي[6]

 

وإن كان زماناً تاجا،ً فإنه قد  يكون في زمان آخر، نعلاً، يقول ابن عربي:

 

فيراه تاجاً في الرؤوس مكلَّلاً * ويراه في رجل الرجال نعالاً[7]

 

هو الروح ماضٍ بحكم الأمر الإلهيِّ، بل هو حقيقة الأمر الإلهيِّ، لا يعترض أبداً.  له التسليم ولا يتصوَّر منه اعتراض. هو “الفتى”  حتى لو صيَّره الأمر الإلهيُّ “كلباً ظبياً”، يكون تارة “باسطاً ذراعيه”، يحمي فتية الكهف النيام، ملقياً الذعر في قلوب من يقرب الوصيد. ويكون تارة معلِّمهم ولا يُعرف أمره، يقول الشيخ:

وإخوان صدق جمّل الله ذكرهم * معلّمهم كلب وهم يزجرونه

يعرفهم بالحال والفعل قدرهم * فيعرفهم عيناً وهم يجهلونه

   يلازم باب القوم يحمي ذمارهم * ويحفظهم طبعاً ولا يحفظونه

يقول لهم بالحال إني منـكم  *  وعلمي بكم ما لا تعلمونه

    فلم يفهموا ما قاله وتواطـؤا  * على مسكه حفظاً بما ينظرونه[8].

 

فهم ابن عربي سر فتوَّة الفتى الروح، يشبّهه تارة بالقمر يخترق بأمر الله ليل هيكل الإنسان، ينيره وينير له طريقه إلى الحق، باقياً على تمام حقيقته في كلِّ تحولاته، ثابتاً على فطرته محامياً عنها. ويشبِّهه ابن عربي، تارة أخرى، بالصخرة أمام رمي السنان، يسميه بأبي الفوارس صخر بن سنان[9]، يقول:

 

والذي يفهم رمزي * هو صخر بن سنان

أكرم الموجود كفاً  *  ثابت عند الطعان[10]

 

فالفتى، وقد فطر على الكرم والفتوة التي تتميز بثباتها على مر الزمان، لا تهرم ولا تتغير، تغنت بها العرب، ونظم شعراؤهم في ثبات سمات الفتى الكامل الرجل، الكثير من القصائد، مما استحسنه شيوخ التصوف فيما بعد. نسوق على سبيل المثال ما نظمه الشاعر أمية بن أبي الصلت (جاهلي)[11] في وصف الفتى، يقول:

كريم لا يغيره صباح *عن الخلق السني ولا مساء[12].

 

يعتمد ابن عربي أن علم فطرة هذا الفتى الروح الثابت عند الطعان، هو علم التوحيد الذي يشمل علم ربوبيَّة الخالق وعبوديَّة الخلق. يعرِّف الفتى نفسه بالعبوديَّة، لا تدخلها رائحة الربوبيَّة. وبذلك، أخذ الله عليه ميثاق فطرته في الأزل حين أشهده على ذلك، وفقاً للآية الكريمة * أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى*[13].  بهذا الميثاق طوَّق الله  الإنسان، الذي خلق من علق النسيان، ليحفظ عليه عهده، فيشهد لسان حال الفتى استعداده الذود عنه حتى الموت، يقول ابن عربي:

 

قل للذي خلق الإنسان من علق * جعلت عهدك في التوحيد في عنقي[14].

 

ثم جعل الله ، يقول ابن عربي، لهذا الإنسان المطوَّق بعهد الفطرة وميثاقها في عالم الذرِّ، “يميناً في الحجاز”،  أنموذجاً ورمزاً، الحجر الأسود؛ ليتذكَّر ويبايع ويجدِّد العهد في عالم التراب. وقف الشيخ على حقيقة الفتى وعلى ألطاف إشاراته وألغازه في حوزة الحجاز ومكَّتها، فهم أنَّ حقيقته هي الروح القدس، والملك الموكَل بسالكي درب الحقِّ في علم التصوُّف، يقول: “الملك في وجودنا المطلوب للقيامة المعجَّلة التي تظهر في طريق التصوُّف هو الروح القدسيّ”[15]. يخبرنا ابن عربي أنَّه قبّل يمينه ومسح  من عرق الوحي جبينه، وعبر مجاز حقيقته وامتثل بالسمع والطاعة لأمره. وقد أمره الروح بالسير على إثره، حين قال له: “طُف على أثري وانظر إليَّ بنور قمري حتى تأخذ من نشأتي ما تسطره في كتابك، وتمليه على كتابك”[16]. طاف ابن عربي على إثر الفتى،  قمر الروح، جالسه وآنسه، فهم رمزه وعنوانه. أخذ عنه، وشهد له بالفتوَّة، فقال: “وفاز القمر بالفتوَّة”[17]. فهم رمزه  الحجر الأسود، وقد اسودَّ “اسوداد السيادة”[18]، ونظم مستعيناً بمقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين قبَّل الحجر قائلاً: “إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك”[19]، فقال ابن عربي :

 

                           رأيت جماداً لا حياة بذاته  * وليس له ضرٌّ وليس له نفعُ

                          ولكن لعين القلب فيه مناظر* إذا لم يكن بالعين ضعف ولا صدعُ

                          يراه عزيزاً إن تجلَّى بذاته  * فليس لمخلوق على حمله وسعُ [20]

 

تناول الشيخ الأكبر هذه الجوانب لفتوَّة الروح  وقد تجلَّت في الفتى الروحاني، من حيث مجازه ورمزه في الباب الأول من كتابه “الفتوحات”، تحت عنوان “في معرفة الروح الذي أخذت من تفصيل نشأته ما سطرته في هذا الكتاب، وما كان بيني وبينه من الأسرار”. وأما شخص هذا الفتى الروح،  فيؤكِّد ابن عربي  أنه إنسيٌّ، وأنه حيّ. ولكنَّه تعمد أن يُبهم هويَّته، فأومأ إليه ولم يذكره صراحة، وكأنه  أراد من ذلك استثارة همَّة من يرابط في الفتوحات، فيلقاه بالجهاد والفتح. وسنأتي على ذكر هويَّة هذا الفتى الروح، لاحقاً إن شاء الله.

 

ترتبط، إذاً، الفتوَّة عند ابن عربي بروح النبوَّة، وبالكعبة الشريفة وبيمين الله حجرها الأسود، كما ارتبط مكان الفتح عنده بمكَّة البركات، وكعبتها المشرَّفة. وكتب كتابه “الفتوحات المكيَّة” وقد استقى علومه كما رأينا “فتحاً” من الفتى الروح. وصار هذا الكتاب بين كتب العلماء في ميادين “الكشوف العرفانيَّة”، كعبتهم وقبلتهم. وإن كلمة الفتح ومشتقَّاتها من فتوحات وفتوح، أخذت معنى “الكشوف الإلهيَّة”. وأصبح معنى الفتح مصطلحاً صوفيّاً متعارَفاً عليه في هذا السياق، يقول ابن عربي:

 

فاقتنـوا للعـلم مـن أعمـالكـم  *  عـلم فتـح واشـربـوه لبنـاً[21]

 

كثيراً ما يترجم المعنى الاصطلاحيُّ اللّغويُّ للفتوحات الإسلاميَّة خطأً إلى اللغات الأوروبيَّة بالغزو أو بالاستيلاء  conquêtes ولو شئنا المعنى الحرفيَّ، لقلنا  overtures. والأصل في معنى هذا الاصطلاح (الفتوحات الإسلاميَّة) تقديره، أن نتيجة جهاد فتيان المسلمين وفتوحاتهم للبلدان التي لم يصلها الإسلام، أن الله سبحانه وتعالى، يقول عبد الكريم خليفة: “يمنّ على هذه  البلاد بفتحها وإخراج  أهلها من دار الجهل بالإسلام  إلى دار العلم والإيمان به”[22]. وفيما يصف ابن عربي الفترة التي كانت قبل فتح الله عليه “ورجوعه إلى هذا الطريق”، يقول “زمان جاهليَّتي”[23]. ونلاحظ أنه يتعمَّد أن لا يقول زمان جهلي، تمييزاً لفترة ما قبل الإسلام، على أنها جاهلة للإسلام، لا فترة “جهل”. وإن هذه الفترة على صعيد العلم العرفانيِّ، لها خزائن علوم شريفة، ترمز لفترة كمون في سلوك الفتى المريد لها وظيفة برزخيَّة شريفة، أفرد ابن عربي لها الفص السادس والعشرين من كتاب “فصوص الحكم” اندرجت تحت عنوان “فص حكمة صمديَّة في كلمه خالديَّة”[24]. وإن بلاغة الشعر الجاهليِّ وفصاحته جعلته حتى يومنا هذا أنموذجاً يُحتذى به. التزم به شعراء الصوفيَّة من دون استثناء ومنهم ابن عربي،[25] وعمر بن الفارض “سلطان العاشقين” وغيرهما كثر. وكأن اعتماد ابن عربي “الفتوحات المكيَّة” عنواناً لكتابه هو من باب الإشارة إلى الفتح المكّيِّ والفتوحات الإسلاميَّة يحتذي بها السالك. يجوز من البعد الكونيِّ للعالم الكبير (macrocosme) إلى البعد الكيانيِّ للإنسان، العالم الصغير(microcosme) ، ينتقل من الجهل بالطريق، إلى العرفان بالسلوك. بعد فتح مكة صدره وطوافه حول كعبة قلبه، ولقائه فتاه الروحانيَّ، تتوالى بعد ذلك عنده الفتوحات في مشارق روحانيَّاته، ومغارب حواسِّه.  يأخذ مسار الفتوَّة، الصور المجازيَّة التي تعبِّر عن سير الفتى برَّاً وبحراً، ليلا ونهاراً ، سماءً وأرضاً، شرقاً وغرباً، يقطع بلاد الروم  وأرض فارس، ويحط  بالهند والصين، يقول الشيخ:

 

نزلت بلاد الهند أطمع أن أرى * أريباً له بحرٌ على أرضها قد طما

                      فتلك برازخ الأولى شيدوا العلى * أقمنا بها والليل بالصين قد سجا[26]

 

وإن تتقدَّم الصور المجازيَّة في مصطلحات الفتوَّة والفتوحات، فإن  معنى طلب علم الكشوف العرفانيَّة والعلوم الإلهيَّة الذي تعلَّق بمفاهيم الفتوَّة والفتوحات في التصوُّف، لم يلغ المعنى  الظاهر الأول للفتوحات من جهاد وفروسيَّة وسياحة في طلب العلم.  يثير عنوان “الفتوحات المكيَّة” في مخيِّلة القارئ  صور ومعاني الفتوَّة والفروسيَّة والشجاعة والكرم، إلى جانب الواردات الإلهيَّة والعرفانيَّة والكشوف الغيبيَّة. وقد حرص ابن عربي على أن تكون سياحته حقيقيَّة معنويّاً وحسّيّاً؛ ومن يراجع سيرته،[27] يجد أنه وصل مشارق الأرض بمغاربها، قطع بواديها وبحارها، وحطَّ في مدنها وكان له تلامذة ومريدون حيثما حلّ. وكان لا يغفل عن أخبار جهاد المرابطين والمدافعين عن دار الإسلام حيثما أقام، فكثير من المرابطين كانوا من أهل التصوُّف. وفي هذا السياق الذي يجمع المعنى الظاهر والباطن، والذي حرص على اعتماده وبيانه في جميع مؤلفاته، لا تفوتنا الإشارة إلى مسار واحد، يعتبر من أهم الشخصيات التي عرفت بتأثرها بالشيخ الأكبر، وهو الأمير عبد القادر الجزائري (ت 1300هـ )، الذي طبَّق مبدأ جمع الفتوحات حسّاً ومعنىً، بالجهادين الأكبر (معنويّاً)  والأصغر (حسِّيّاً) على أرض الواقع.[28]

 

الفتوَّة في تراث التصوُّف والعرفان:

قبل أن  نتعمَّق في خصوصيَّة موضوع  الفتوَّة في مجال التصوُّف وعلم العرفان، ولا سيما عند ابن عربي، نعود قليلاً لنلقي نظرة سريعة على خلفية الفتوَّة بشكل عام. فقد جدّ الناس في طلبها  منذ قديم الزمان وفي جميع الحضارات الإنسانيَّة لما تحتمله من معاني الفروسيَّة، والقوَّة والفتاء الدائم،[29] وبما تشتمل عليه من معاني محاسن المكارم والأخلاق، والحكمة، تمثّل صفات الروح لا تهرم أبداً، في عمليَّة تجدُّد دائم. توسَّعت كتب الأدب[30] ودواوين شعر الحماسة في تعريف الفتوَّة والمروءة والتغنّي بما لها من مكارم الأخلاق، من حلم وصبر ونجدة وعفَّة وحياء وعفو وشجاعة وفروسيَّة، وكرم وإيثار،غايته الإيثار بالنفس. وأخذ مفهوم الفتوَّة عند القبائل العربيَّة في جزيرة العرب قبل الإسلام، أهميَّة جعلته من أهمِّ مقوِّمات السيادة. احتفت القبائل بأمثلة نموذجيَّة للفتيان، يتميَّز كلُّ واحد منهم بخصلة جعلته مضرب مثلها، فكان على سبيل المثل الكرم لحاتم الطائيِّ، والحلم للأحنف بن قيس، وهلم جرَّاً. وتصدَّرت الفتوَّة فترة صدر الإسلام بمواقف الصحابة والفتوحات الإسلاميَّة بفتيانها، كان من أبرزهم حمزة عم الرسول  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، وعلي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ــ، وقد قيل فيه “لا فتى إلا علي”، لأنه كما يقول ابن عربي: “الوصي والولي”[31] وسنعود إليه لاحقاً، وخالد بن الوليد صاحب الفتوحات الحاسمة، وغيرهم كثر من فتيان الفتوحات الإسلاميَّة. عبرت الفتوَّة طبقات المجتمع، وجذبت جميع فئاته، نجدها بين العامَّة وبين الخاصَّة، في أمور دنيويَّة وأخرى دينيَّة على حدٍّ سواء.  برزت في النقابات الحرفيَّة، وفي الشرطة والجند. ولمعت  بين فئات وحركات اجتماعيَّة مثل الظرفاء والطرفاء والعيارين والشطار. ونجد حكايات بطولاتها في البادية، كما نجد نوادرها في الحواضر وفي دواوين الخلفاء[32] ، وكان الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت. 622هـ) من أهمِّ الخلفاء الذي اعتنوا بالفتوَّة، وعرف بإحيائه “نظام الفتوَّة” بين الناس اجتماعيّاً وفي مؤسَّسات الدولة.[33]

دخلت الفتوَّة عالم التصوُّف، وصارت من أهم أعمدته. فقد أجمع شيوخ التصوُّف على أنَّ مذهبهم يقوم على مبدأ مكارم الأخلاق وعلومها. وعليه، تناولت كتب أدب التصوُّف علوم وأحوال ومقامات السلوك  مؤكِّدة أنَّه هو أولاً، ” خلق” “وعفة” “وكرم”؛ أي فتوَّة. وأنَّ التخلق بمكارم الأخلاق هو ممَّا لا بد منه للمريد، ولا يسمح له بالسياحة والتعمُّق في طريق العرفان، إلاَّ بعد التخلُّق بها. وقد ترك الشيوخ عبر قرون من الزمان، تراثاً صوفيَّاً أدبيَّاً بالعربيَّة وباللغات الفارسيَّة والتركيَّة وغيرها، يعتبر من أغنى تراث الإنسانيَّة في مادَّة العرفان. اشتهر من هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر كتاب “آداب النفوس”، للحارث المحاسبي (243هـ) ،”اللمع”، للسراج الطوسي(378هـ)، ، “قوت القلوب”، لأبي طالب المكّي (386هـ) “وكشف المحجوب”، للهجويري(465هـ)،  “ومنازل السائرين”، للهروي(481هـ) وغيرهم، تلبي احتياجاً خاصَّاً واهتماماً بالأخلاق والشعر والأدب  في مجال التربية الصوفيَّة، هو في الحقيقة جزء  من ذلك الاهتمام الذي عرفه العالم العربي  بظاهرة  كتب الأدب التي  كانت معروفة ومنتشرة من أقصى شرقه إلى أقصى غربه. ولا يفوتنا أن الحديث في الفتوَّة وبمقاماتها، لم يتوقَّف؛  ففي كلِّ زمان يأتي من يعيد توجيه بوصلة التصوُّف نحوها بما تتضمَّنه من معاني مكارم الأخلاق والإيمان والقوَّة والجهاد.

فصّل شيوخ التصوُّف في كتبهم ورسائلهم مسألة التخلق بمكارم الأخلاق وأخذوا على عاتقهم شرح دقائقها من حيث هي مقامات الطريق إلى الله ومنازله. فنقرأ مثلاً، رسالة القشيري (465ه) ، ومؤلفات  السلمي (412ه) في آداب الصحبة والتصوُّف ومقامات الأولياء، وخصوصاً كتابه في “الفتوَّة” ، وكتاب أبي حامد الغزالي (505ه) “إحياء علوم الدين”، وكتاب عوارف المعارف للسهروردي (632ه )، ونقرأ كذلك لوروزبهان البقلي الشيرازي (ت 606ه) كتابه “مشرب الأرواح ألف مقام ومقام من مقامات العارفين بالله تعالى”[34]، ولشمس الدين الرازي (666ه) كتاب “حدائق الحقائق”. عرفت هذه الكتب وغيرها الكثير، بعلوم التصوُّف وقواعده، وتتَّسع قائمتها لاعتبارها تشتمل على ما لا بد منه للمريد. وقد تميز ابن عربي بشرح علوم هذه المقامات بشكل دقيق ومفصل، شرعي وعرفاني لا سيما في كتابه الفتوحات المكيَّة، حيث فصل أحوال الارتقاء في مقامات العلوم الإلهيَّة والروحانيَّة، باعتبارها مقامات السلوك إلى الحقِّ بطريق الفتوحات، متطلبها التحقُّق في مقام المكارم والفتوة. فيكون الاعتبار فيها ينتهي إلى تحقُّق  العبد في أعلى مقامات الكرم والإيثار والفتوَّة، في مقام العبوديَّة في حضرات الأسماء الإلهيَّة. حرص الشيخ الأكبر على بيان علوم وأسرار درجات ومستويات المقامات، مؤكّداً للمريد ضرورة اكتساب واحتواء دقائق علوم كل مقام قبل الانتهاء منه، إلى ما هو فوقه (أو بعده) من المقامات.

إنَّ خلاصة مسألة ارتباط التصوُّف بالخلق الكريم وبالفتوَّة، أنه ارتباط جوهريٌّ تلقائيٌّ،لا خلاف عليه. وما هي إلاَّ الأخلاق الإلهيَّة جاء تفصيلها من حلم، وصبر، وكرم وغيرها في حضرات الأسماء الإلهيَّة، يتحلَّى بها المريد من دون تشبُّه بالله عزَّ وجلَّ. ليس للعبد أن يتشبَّه بصفات سيده، فذلك يعتبره ابن عربي، كما يقول  “سوء أدب”[35] ؛ والأدب مع الله ومع الخلق، يعتبر من أهم مقوِّمات الطريق إلى الله. يقابل المريد في كلِّ حضرة الصفة الإلهيَّة بما له من صفة العبد منها، فمثلاً، يقابل الكريم بصفته عبد الكريم، والحليم بصفته  عبد الحليم، ويبقى على ذلك في جميع الحضرات، حتى يتحقَّق بالمكارم، فيكون عبد الله[36]. مجمل القول في هذا السياق، أن التحقُّق بمقامات الطريق الصوفيِّ هو تحقُّق بمقامات المكارم وحضرات الأسماء الإلهيَّة، وهو في الاعتبار تحقُّق علميٌّ عرفانيٌّ إلى جانب كونه تحقُّقاً حسّيَّاً في الواقع؛ فهذه المقامات هي في حدِ ذاتها منازل علميَّة عرفانيَّة بامتياز. ولقد أبدع ابن عربي إيضاحها في فتوحاته من حيث بعديها الظاهر والباطن. يقطع المريد هذه المقامات متقلِّباً متحقِّقاً بها علما ً وعملاً، ظاهراً وباطناً حتى يصبح عالماً متحقِّقاً كما يصفه شيخنا: “بذي عينين”، عين الظاهر وعين الباطن، يقول: “إذ انكشفت الحقائق فلا ريب ولا مين وبان صبحها لذي عينين، كان الاطلاع وارتفع النزاع، وحصل الاستماع”[37]. ويعطي مفهوم الفتوح والكشوف لمقام الفتوّة بُعد التحقُّق بالمقامات، حيث ينتقل الفتى من التخلُّق إلى التحقُّق، يقول نجم الدين كبرى في أمر فتية أهل الكهف:”سمَّاهم باسم الفتوة لأنهم آمنوا بالتحقيق لا بالتقليد”[38]. أي بفطرتهم الأولى التي عادوا إليها، فالإنسان إن انقلب إلى ربّه على التقليد بقي عليه، لأنه يجني ما غرس في الدنيا، كما يؤكّده شيخنا ــ الفتى الحاتمي ــ، آخذاً بالأسباب، والله من ورائها، فعال لما يريد، لا يحجر عليه.

 

الفتوة لطالب علوم الفتوحات والكشوف العرفانيَّة

 كالإحرام لطالب بيت الله الحرام، وكالوضوء لطالب الصلاة:

في سياق ما تقدَّم، يتَّضح للباحث المبحر في بحار مؤلَّفات ابن عربي، وفي علوم فتوحاته العرفانيَّة والشرعيَّة، أن اكتساب العلوم الإلهيَّة عنده، يعتمد طريق الفتوح، بما يتضمَّنه من معاني  الفتوة والجهاد والسعي وبذل الجهد؛ فالفتى، كما يقول: “صاحب الفتوح ما عنده جموح”[39]. و”الفتيان، يقول، هم: “رؤساء المكانة والإمكان لهم الحجَّة والسلطان والدليل والبرهان. عليهم، قام عماد الأمر، وهم على قدم حذيفة في علم السر؛ لهم التمييز والنقد، وهم أهل الحلِّ والعقد. لا ناقض لما أبرموه، ولا مبرم لما نقضوه ولا مطنب لما قوَّضوه، ولا مقوِّض لما أطنبوه إن أوجزوا أعجزوا و إن أسهبوا أتعبوا إليهم الاستناد وعليهم الاعتماد”[40]. ولكن، إن يكن السعي والجهاد  للعبد، فإنَّ ابن عربي ينبِّه إلى أن نتائج النصر والفتح من ثمار الفهم والعلم، لا تكون إلاَّ  من عند الله لما جاء في الآية * إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ* . وإن أصل النصر والفتح، أنهما من صفات الله الناصر والفاتح، والله سبحانه وتعالى، من حيث هو فاتح “يُبيّن”، وإنه “إذا فتح أوضح وأعطى جزيل المنح”. ومن حيث هو ناصر فإنه “قاذف في قلب العارف ما شاء من العوارف”[41]. يقول:

 

من اسم العزيز النصر إن كنت تعقلُ *  ومن بعده فتح له النفس تعملُ.[42]

 

أحكم ابن عربي رباط فتوحاته بمفاهيم الفتوَّة والنبوَّة، وكان للقاءه الفتى الروحانيِّ في الحضرة الغيبيَّة، آثارها الحسّيَّة في كلِّ ما دوّنه فى مؤلَّفاته العديدة، خصوصاً في كتابه “الفتوحات المكيَّة” وهو الكتاب الأساسيُّ لمادة العلوم العرفانيَّة للشيخ، يأتي إلى جانبه كتابه “فصوص الحكم” الذي حظي  بشهرة واسعة عند أهل الاختصاص بما ناله من الشروحات باللغات المختلفة. وإن يقدمه بعض الباحثين على كتاب “الفتوحات المكيَّة”، إلاَّ أن كتاب الفتوحات، كما يتوافق عليه المتخصِّصون بدراسة مؤلفات الشيخ الأكبر،[43] يندرج في باب تفصيل الحكمة، هو في الحقيقة، المرجع الأساسيُّ التفصيليُّ لفهم ما جاء مجملاً في علوم حكم الفصوص. وإن الاعتناء الذي ناله كتاب الفصوص من قبل الشارحين، لدلالة على صعوبة الكتاب لمن لم يخض غمار الفتوحات. بكلمة أخرى، إن شارحي كتاب “فصوص الحكم” من شيوخ التصوُّف والعرفان، هم في الاعتبار، الفتية الذين خاضوا مصاعب كتاب “الفتوحات المكيَّة”، وفهموا علومه، فأقبلوا على شرح مجمل علوم  كتاب الفصوص ومبهمات إشاراته.

إنَّ من يتدبَّر كتاب “الفتوحات المكية”، يجد نفسه أمام خمسمئة وستين باباً، في سِلسلة من الأبواب، على شكل دوائر لولبيَّة، كلُّ باب يفتح على آخر، وكلُّ باب هو نفسه سلسلة من دوائر المعاني العلميَّة، واللطائف والأحكام (إلهيَّة، روحانيَّة، عرفانيَّة، فقهيَّة وحكميَّة)، تتدرج وتتلاحق، فتتداخل بها المواقف، والمسائل، والكشوف، ثم تعود لتنفصل عن بعضها البعض، لتجوز بالقارئ يعبر باباً آخر ومجموعة أُخرى من المعاني، من دون أن يكون هناك بالضرورة، علاقة واضحة وظاهرة تربط بين البابين. يُفهِم ابن عربي قارئه، أنَّ هذه الفتوحات لا يَثْبت فيها إلاّ من “بلغ أشدَّه” وتسلَّح بصبر الفتوَّة  وقوَّتها، وتأهَّب لمواجهة صعابها؛ ويسمّي طالب علومها “بالمتأهِّب الطالب للمزيد المتعرِّض لنفحات الجود بأسرار الوجود”،”[44] في إشارة إلى ضرورة الاستعداد لنيلها. فالفتوَّة عنده، تعتبر من مناهج التأسيس لدراسة مؤلَّفات علوم الكشوف والتجلّيات والتصوُّف العرفانيِّ، لا يأخذ السالك الإذن  بدخول الخلوة أو  بالسياحة إلاَّ إذا قدم برهان فتوَّته. فهي كالإحرام لمن يريد الطواف بالبيت الحرام، وكالوضوء لطالب الصلاة. ونجد حتى يومنا هذا أن شيوخ التصوُّف يمنعون مريديهم من قراءة مؤلَّفات ابن عربي وخصوصاَ “الفتوحات المكّيَّة”، حتى يرتئي الشيخ منهم، أن مريده بلغ أشدَّه، وتحقَّق بمكارم الفتوة والأخلاق، فأصبح أهلاً لذاك.

 

عناصر الفتوة: الكرم، العلم، والقوة.

تتوثَّق عُرى مفاهيم  العلم العرفانيِّ الصوفيِّ بمكارم الأخلاق، كما رأينا، وتحمل الفتوَّة بقوَّة راية هذه العروة، يقول ابن عربي:

                                  خلق وعلم جامع  *   أخذ التصوُّف عنهما[45]

 

وقد أجملنا في كتابنا في الفتوة عند ابن عربي[46] ، عناصر الفتوَّة  في  ثلاث صفات أساسيَّة هي، أولاً: الكرم والإيثار، ثانياً: القوّة (الفتاء) وبلوغ الأشّد ، وثالثاً: العلم الإلهيُّ والحكمة النبويَّة. خصال ثلاث لا بد من التحقّق بها وبرهانها لمن يخوض غمار الفتوَّة وفقاً لمذهب ابن عربي. إذ بها مجتمعة يكرم الفتى كلَّ ذي حق؛ فيكون عطاؤه وكرمه عن قوَّة  وعن علم.  ويعتبر الشيخ، العلم الإلهيَّ أصل كل العلوم، وهو واحد في أصله كثير في تفرُّعاته؛ فيتحدَّث عن “أحديَّة العلم” ، يقول: “ما ينسب (إلى العلم) من الكثرة ليس لعينه، وإنما ذلك لمتعلقاته”[47]. وإن كل علم عنده، يقول: “أصله من العلم الإلهي” وهذا هو المنطق الإلهيُّ العرفانيُّ الذي ينصُّ عليه ابن عربي، إذ إن “كل ما سوى الله من الله”[48]. وكذلك الدين عنده، واحد في أصل محتده الإلهيِّ وفقاً لما جاء في قوله تعالى: *إنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ*[49]، ولكنه متعدِّد في الشرائع والعبادات[50]. وكلاهما (الدين والعلم) نافذ أمره الإلهيُّ في كلِّ مخلوق من إنس وجن، بدليل قوله تعالى * وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ*[51]،  يفسِّرها ابن عربي”، كما وردت عن ابن عباس، بمعنى “ليعرفون”[52]. فاجتمع الدين بمكارم الأخلاق وبالفتوة وبالعلم، ليشكل وحدة واحدة في طريق التصوُّف.

ترجع أهميَّة العلم والحكمة في مقام الفتوَّة، إلى حقيقة أنه بالحكمة يكون الكيل في مواطن المكارم ومصارفها. فمثلاً في أي موطن، يكون الحلم مصرفه محموداً. وفي أي موطن، لا يكون الحلم محموداً، وكذلك الحال مع كلِّ المكارم. لذا كان العلم من متطلِّبات الفتوَّة بالضرورة. وإن طلب العلم والتحلّي به عملاً يعدُّ من أهمِّ مزايا الفتوَّة،  فلا يكون الفتى فتىً، حتى يفر من الجهل في طلب العلم، حكمة موسويَّة المشرب، يشير إليها ابن عربي قائلاً: “الفتى لا يزال للعلم طالباً من الجهل هارباً”[53] ، فمن فتوّة نبي الله موسى، وهو الكليم “كليم الله”، اتَّبع الخضر طلباً للعلم. فمن يدعي الفتوَّة عند ابن عربي، من دون علم، هو بلا شكٍّ مدعٍ ومنافق. ومن يدَّعي العلم دونما عمل (فتوة) ليس بعالم. فأهل الفتوة، يقول الشيخ مؤكِّداً: هم “أهل علم وافر”؛ وهو شرط الفتوَّة، مثله مثل المكارم والقوة. وقد جاء ارتباط مكارم الأخلاق بالعلم ربطاً إلهيَّاً محكماً في سورة القلم، حيث جاء ذكر الخُلق العظيم في سياق ذكر النون والقلم والسطر، في قوله تعالى في محكم التنزيل * نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ *[54]. ويصف ابن عربي صاحب الخلق العظيم، الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ “بخير فتىً” ، يقول:

 

هو النبيُّ رسولُ الله خيرُ فتى *  بالله نتبعه فيما يشرِّعه[55]

 

ويميِّز ابن عربي بين العالِم، وبين ومن يكون لديه علم ولا يُعد عالِماً[56]. وينبِّه إلى حقيقة أن مسمَّى العلم قد يُطلق على ما هو ليس بعلم، ويعطي مثلاً ما جاء في الآية الكريمة: * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ*[57]. العالِم عنده هو من يعلم ويفهم حقائق الأمور بكليَّتها ويعمل بها. ولا يتحقَّق له ذلك حتى يكون هو نفسه مجتمعاً في نفسه حسّاً ومعنىً، فكراً وذوقاً، علماً وعملاً، يفهم عن الله بكليّته. ولا يقدم ابن عربي الفكر العلمي على التحقُّق والذوق العلميِّ، يقول : “فمن دخل هذه الحضرة (العلميَّة) ذوقاً فقد حاز كل علم ومن دخلها بالفكر فإنه ينال منها على قدر ما هو فيه”[58]. في هذا السياق يعتبر الشيخ الأكبر، أن العمل بالعلم شرطٌ أساسيٌّ لمسمَّى العالِم؛ أما حال من  لديه علم ولا يعمل به، فهو عنده، ليس بعالم على وجه الدقَّة، لأنه لم يتحقَّق (ولم يتذوَّق) العلم الذي يدَّعيه، ولكن عنده معلومات. ويطلق على هؤلاء اسم علماء “الغَرةّ” الذين يزعمون العلم بالله[59]. وأما الراسخون في العلم، فيقول عنهم:”هم  المحققون بحقائق الفهم عن الله”[60].

يؤكِّد ابن عربي أن تحقُّق العبد بعلوم حضرات الأسماء الإلهيَّة مرتبط بتحقُّقه في مقام العبوديَّة لله في كل حضرة. بذلك يتَّضح عنده رباط مقام الفتوَّة بالتحقق بأعلى مقامات العبوديَّة لله وبالعلم الإلهيِّ. بهذا التحقُّق فقط، يكون للفتى العالم فهم الأمور من حيث كنهها وحقائقها، ومن حيث أسبابها ومظاهرها. يقر الأسباب ويتعامل معها، مثبتاً الله من ورائها. فمن يتحقَّق بحضرة الاسم العليم، يتحقَّق بعلم التوحيد ويعلم علماً يقيناً، أن ثمة أمراً يبقى في علم الله لا يدركه الإنسان، وهو العلم المكنون الذي ينفرد به الله تعالى. فيتأدب مع الله، ولا يخوض في علم الذات الإلهيَّة، ويعلم أن نصيب الإنسان من العلم ينتهي إلى ما هو “كهيئة المكنون”[61] وليس ما هو بمكنون[62]. أي له ما هو في الخفاء، وفي كنه الأشياء وحقائقها، ولكن ليس له ما هو غيب في علم الله، لا يعلمه إلاَّ الله. فهذا العلم “كهيئة المكنون” يقول ابن عربي، لا يعلمه إلاَّ العالمون بالله. أي الذين يعلمون أنه لا يكون لهم العلم بالله من حيث ذاته، فمعنى العلم بالله عند الشيخ الأكبر، كما يقول: “أنه لا يُعلم”. خلاصة المسألة، أن معرفة العالم بالله أن يعلم، أن ثمَّة أموراً لا يمكن العلم بها على التعيين، ولكن ما عداها فممكن. وإن العلم بالله  يورث العلم بما يعلمه الله مما هو “كهيئة المكنون”. وما الأكنة إلا أكنة قلوب العلماء بالله.[63]

يتناول ابن عربي مسألة الحكيم أو الفيلسوف  لديه علمٌ وخلقٌ، ولا يؤمن بشرع إلهي منزل، أو مسألة حال العاقل قبل التنزيل الإلهيِّ، في بابه المخصَّص لمعرفة “سر الشريعة ظاهراً وباطناً”[64]، مميزاً  بين علوم العقلاء والملهمين أصحاب الحكمة، والتي يذهب لاعتبارها في الأصل فطرة يوجدها الله في نفوسهم ويطلق عليها اسم “سياسة حكميَّة”، وعلوم الرسالة الإلهيَّة تكون بالتنزُّل على الأنبياء، تحوي علوم الآخرة والبعث وما تتضمَّنه من بُعد يتعدَّى طور العقل والحياة الدنيويَّة. قد يتشارك الفريقان (أهل الفلسفة وأهل العرفان) في الكثير من العلوم في ما يخصُّ الطبيعة والرياضة الروحيَّة والاتصال بالروحانيَّات، إلاَّ أن البعد الإلهيَّ يبقى فيصلاً يفتقر إليه الحكماء والعقلاء، ويبقى افتقارهم للتنزُّل الإلهيِّ بالشرائع التي تحمل علوم الآخرة، والتي لا تحاز إلاَّ بإلإعلام الإلهي. فيفوت أصحاب الحكمة الملهمين، حكم الشريعة المنزّلة من حيث هي رابط دنيا الإنسان بآخرتها. ولا يكون كمال العلم عند شيخنا إلا في بعده الإلهيِّ الذي تجتمع فيه كليَّة الأبعاد الطبيعيَّة، والروحانيَّة، والإلهيَّة، دنيا وآخرة. معنى ذلك، أن طالب العلم الإلهيِّ في مذهب ابن عربي، عليه أن يطلب علم الوجود وأشياءه من حيث الوجود الحق (وحدة الوجود) تجتمع فيه الدنيا والآخرة. فهذا هو العلم الأكمل الحقيقيُّ عند ابن عربي لا يفوز به إلا من تحقق بعلوم الفتوَّة والنبوَّة.

 

من لا قوَّة له لا فتوَّة له:

يقول ابن عربي في بابه الثاني والأربعين المخصّص “في معرفة الفتوَّة والفتيان ومنازلهم وطبقاتهم وأسرار أقطابهم”، أن “من لا قوَّة له لا فتوَّة له، كما أنَّه من لا قدرة له لا حلم له”[65]،  وكما أنَّ شرط التحقُّق بصفة الحلم الذي يظهر عند الغضب، أن يكون الشخص قادراً أن يأخذ بحقِّه وأن يعاقب قبل أن يعفو، فيستحقّ اسم الحليم، كذلك مفهوم  القوَّة، وهو متضمِّن في معنى الفتاء والفتوَّة، شرط من شروط الفتوَّة في طريق طلب المكارم العلى وعلومها. فبسيف المخالفة يخالف الفتى نفسه، وبسيف العدم يقتل هواه، وتمثِّل الفتوَّة بقوَّتها، جزءاً لا يتجزّأ من منهاج التصوُّف والعرفان. وأصل ذلك، أن فتوح العلوم العرفانيَّة، أمرها في الاعتبار خطير، وطريق الحضرة الإلهيَّة. كما يحذّر شيوخ التصوُّف وعلى رأسهم الشيخ الأكبر،  طريق برازخ  ومواقف، وفتن وابتلاء وفتوحات؛ فيها من علوم الدنيا والآخرة، ما هو من طور العقل والفكر، وممَّا هو  فوق طور العقل. وإنَّ قطَّاع الطرق بها كثر، وهم رمز ما يكون من باب التطلُّعات الفكريَّة  والشهوات الحسّيَّة. كما أنَّ عقباتها حادَّة وكؤود، ومزلّاتها مهلكة.  يسير السالك مريد هذا الطريق، تارة في أرض ذاته، وتارة في أفلاك نفسه، ويبيت تارة، مع أفكار عقله. وتارة، مع علوم قدسه؛ يحط ويتوقَّف ليتزوَّد في برازخ  قد لا يعود منها أبداً. فالفناء هو طريق البقاء بالله في سلوك التصوُّف؛ يموت العبد الفقير عن نفسه ويحيا بربه في عقيدة التوحيد، متحقّقاً بأنَّ الوجود الحق لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وهذا مراد طريق التصوُّف وغايته. يبادر فتيان هذا الطريق  لملاقة حِمام الفناء، والموت دونه. ويذكر ابن عربي في أكثر من مناسبة ما كان يتمثَّل به أبو السعود بن الشبل، الذي كان يعتبره  من أكابر الطريق[66]، في  قول الشاعر العربي حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام، ت. 231ه) [67]:

 

                        وأثبت في مستنقع الموت رجله  *   وقال لها من دون أخمصك الحشر[68]

 

“وفاز القمر بالفتوَّة”؛ رحلة قمر الفتوَّة  من تمام بدره إلى محاقه:

وصف ابن عربي الفتى الروح الذي لقيه  في الحرم المكّي  “بقمر الصدق”، وقال فيه من باب الإشارة: “وفاز القمر بالفتوَّة”. منبّهاً إلى أن فتوَّة الروح  تشبه فتوَّة القمر، وقد لبس دجى ليل الهيكل الجسمي، فأحيا بحياته الذاتيَّة  قلب السالك وأناره، وتحوَّل له في كلِّ صورة يخدمه حتى يبلغ مقصده من علم وتحقُّق بحال الآخرة، له معنى بطوليٌّ متعلّقه اجتياز الموت والثبات في “مستنقعه” كما ذكرنا. وكأن التخلُّق والتحلّي بالمكارم وبالفتوَّة هو من أجل هذا الاجتياز والثبات عنده. هنا يكمن بيت قصيد فتوَّة القمر يسري عند كماله لمحاقه فيجتازه، ليبعث هلالاً. يقول شيخنا:

 

من كان بدراً كاملاً في ذاته * علماً يصيره المحاق هلالا

                          عند المحقّق في المحاق كماله * في ذاته فكماله ما زالا[69].

 

إنَّ مفهوم القيامة الصغرى يرمز في سلوك أهل طريق التصوُّف، لهذا الإجتياز في الدنيا، قوله  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ “موتوا قبل أن تموتوا”. يموت العبد الفقير عن نفسه حتى يحيا بربه عبداً في عقيدة التوحيد. فإنَّ رؤية الله محاق، وإن  السالك المتحقّق، في الاعتبار، هو من قامت قيامته في حياته الدنيا. ولا يتمُّ ذلك إلا باجتياز ما تهابه النفس من هذا الخروج عنها. فلا يمكن للسالك أن يتحقَّق  بالوجود لله وحده “الوجود الحق”، إلاَّ بتحقُّقه في مقام الفقر لله، ولا يتمُّ هذا التحقُّق على أكمل وجه إلا، “بورود العبد هذا العدم، يقول شيخنا:

إن افتقاري ذاتٌ لي إلى عدمِ * وليس يعرفه إلاَّ الذي وردا.[70]

 

ويقول مؤكّداً ما يورثه الإيمان والثقة بالله من الشجاعة في مواجهة حِمام العدم:

 

قد صحَّ أن الغنى لله والكرما  * فما أبالي إن حلَّ بي عدمُ.[71]

 

التحقُّق بالعلوم الإلهيَّة إذاً، يستلزم من الفتى أن  يبادر وجوده وهو “الخير المحض”، بمواجهة واجتياز العدم، وهو في الاعتبار “الشرُّ المحض”، فيكون اجتياز المحاق حسّاً وحقيقةً، في الدنيا كما هو في الآخرة. وهنا  متطلَّب شجاعة لا يملكه ولا يجتازه إلاَّ من لقي الفتى، بدر التمام، الروح الإلهيّ. فهو يعلم يقيناً أنه بدرٌ تامٌّ  في ذاته لنفسه، وهو ذاهب إلى محاقه لنيل الكمال المحمديّ. يقدِّم الفتى السالك براهين فتوَّته، عندها يتعهَّد الفتى الروحانيُّ أن يجيزه ويعبر به أرض الهلاك، ليعيده عبداً سالماً باقياً بما كسبه، وبما تحقَّق له من علوم إلهيَّة بذاته وبربّه وبعقيدة التوحيد. وإذ تعتبر هذه الأرض التي لا بدَّ للفتى من اجتيازها، أرض هلاك، فذلك لأن المكاشف إذا دخلها بنفسه، تكون دليله، حتى ولو كانت مؤيَّدة بعلوم وحكم إلهيَّة، فإنها لن تثبت من هول ما ترى. فإما أن يسارع صاحبها بالعودة خوفاً على هيكله، أويعود قبل ان يصل، مؤيَّداً بقوَّته الوهميَّة معتقداً أنه وصل ، مدَّعياً الربوبيَّة، مثل فرعون وأمثاله كما ذكرنا. ويشرح الشيخ الأكبر هذا الحال في الباب الثاني والخمسين من فتوحاته”في معرفة السبب الذي يهرب منه المكاشف إلى عالم الشهادة إذا أبصره”. فيبدأ الباب شعراً بما أسلفناه في عنوان هذه الورقة، قوله:

 

كـلُّ مـن خـاف على هيكلـهِ    *   لـم يـرَ الحـقَّ جهـاراً علنـاً

   فـتـراه عنــدمـا يشـهـده       *     راجعـاً للكـون يبـغي البـدنـا

وتـرى الشـجعان قُدُمـاً طلبـاً   *   للـذي يحـذر مـنـه الـجبنـا[72]

 

ويذكر شيخنا أنه كان يعاتب صاحبه أحمد العصاد الحريري الذي كان إذ أُخذ عن نفسه، يعود سريعاً باضطراب واهتزاز حسّيٍّ، يقول: “أخاف وأجبن من عدم عينى لِما أراه”[73].  فالإنسان، يقول الشيخ،  “ردم ملآن بضعفه وفقره”، يعلم من جهة، حقيقته هذه، ويعلم من جهة أخرى  أصله ومقام خلافته، أي أنه يعرف أن لا حول له ولا قوَّة إلاَّ بالله، وأن لولا الله لم يكن شيئاً يذكر. فللوجود يقول ابن عربي: “لذةٌ وحلاوة، وهو الخير، ولتوهم العدم العيني ألم شديد عظيم في النفوس”[74] . ولكن العدم متوهّم، وما الموت إلاَّ حالة فرقان أجزاء “الكلم” الإنسان، وحالة جمعها “قرآنها” حالة وجودها. والدنيا حامل بالإنسان وشهر ولادتها، عند شيخنا شهر موته. وإن الزمان يسحق الإنسان ويفرق أجزاءه ولا يمحقه، فيردّد شيخنا في أكثر من مناسبة “الزمان مبرد يسحقك ولا يمحقك”. وإن الروح كما يقول “ألزمها الله الصورة الطبيعية دائماً في الدنيا والبرزخ في النوم وبعد الموت فلا ترى نفسها أبداً مجرَّدة عن المادَّة وفي الآخرة لا تزال في أجساد يبعثها الله من صور البرزخ في الأجساد التي أنشأها لها يوم القيامة، وبها تدخل  الجنة والنار”. وذلك، يشرح: “ليلزمها الضعف الطبيعي فلا تزال فقيرة أبداً”. أما ما يطرأ عليها أحياناً من ادّعاء الربوبيَّة، فيكون في أوقات غفلتها عن نفسها، وإلا، يتساءل: “كيف يكون منها التهجُّم والإقدام على المقام الإلهيّ؟”[75] .

لا يفنى السالك ولايموت ولا يفارق صورة إلاَّ ليبقى، كما يقول ابن عربي، في عينه بربه. لذا، وجب الدخول إلى الحضرة الإلهيَّة دونما شيء، في حالة العبوديَّة والافتقار والعدم،  ليتحقَّق، أن لا وجود له إلا في الوجود الحقِّ. لايجبن  ولا يخاف، إلاَّ من دخل ومعه شيء من الربوبيَّة؛ يخاف أن تزول مع ما يتوهَّمه من عدم، فلا يثبت، ويعود مسرعاً إلى الوجود حيث ظهرت فيه ربانيَّته. وهذا من الناس فائدته قليلة، يلاحظ شيخنا، بالمقارنه مع من دخلها كما يقول: “عبداً قابلاً بهمَّة محترقة إلى أصله ليهبه من عوارفه ما عوده، فإذا خرج، خرج نوراً يستضاء به”[76].  وهو يشبّه من يدخل “الجناب العالي” بشيء من الربوبيَّة كالداخل بسراج موقود تطفئه ريح الحضرة من نفس الرحمن، ولكن من يدخل بقبضة حشيش أوفتيل، فإنه يشتعل؛ واحد أظلم، والآخر يستضاء به.

ما العدم في مذهب ابن عربي إلاَّ نفي وجود “مستقل” عن وجود الله “الوجود الحق”، يشبّهه بمحاق القمر. وما المحاق، كما يقول: “إلاَّ استتار بدرّيَّة القمر عن الأبصار تحت شعاع الشمس الحائل بين الأبصار وبينه”. يقول الشيخ في بابه الثلاثين وثلاثمئة من كتاب “الفتوحات المكّيَّة”، بعنوان “في معرفة منزل القمر من الهلال من البدر من الحضرة المحمديَّة”: إن القمر “من الوجه الذي يلي الشمس بدر كما هو في حال كونه عندنا بدراً، هو من الوجه الذي لا يظهر فيه الشمس محق[77]. ولكن لا يتحقَّق السالك بتمام بدريَّته بالوجود الحقِّ، إلاَّ بعد التحقُّق بالعدم المحال، فيعلم أنه كامل في ذاته لا في نفسه. في أرض نفسه له المنازل وهو في سفر دائم بينها، ينقص ويزيد. ولكن من حيث حقيقته، فهو تام. وذلك، يشرح ابن عربي قائلاً، بسبب “تعويج القوس الفلكيِّ”، فإنه “على قدر ما يظهر فيه من النور ينقص من الوجه الآخر، وعلى قدر ما استتر من أحد الوجهين، يظهر بالنور من الوجه الآخر”. وخلاصة هذا الظهور والاستتار المتتابع في منازل القمر، يقول: إن القمر في الحقيقة “لا يزال بدراً دائماً ومحقاً دائماً”[78]. وينظم في هذا المعنى، فيقول:

 

عند المحقّق في المحاق كماله * في ذاته، فكماله ما زالا[79] .

 

إن السلب هو طريق الإثبات، لا ينفصل المفهومان  بعضهما عن بعض،  ولا بقاء بالحق إلاَّ بعد فناء الخلق عن نفسه. ولقد أقبل علماء الصوفيَّة على تناول مفاهيم الفناء والبقاء تفصيلاً ودرساً؛ فلا نجد كتاباً في مذهب التصوُّف وأدبه إلاَّ ويتحدَّث عن مفاهيم الفناء والبقاء. وقد اعتنوا بوضع معايير صحَّة التحقُّق في مقامي الفناء والبقاء. فخلاصة  سفر الصوفيِّ إلى الحضرة الإلهيَّة  تتلخَّص بفناء السالك عن نفسه ليرجع في البقاء بربِّه وبشرعه وأمره.  فتمثّل شهادة “محمد رسول الله” نتيجة هذا الرجوع والبقاء بعد الفناء، للمحمديِّ خصوصاً، إذ إنَّ تمام شهادة أن “لا إله إلا الله”، يقول ابن عربي، أعطيت للأنبياء من قبل، ولكن كمالها شهادة أن “محمداً رسول الله“، كانت له من دون الأنبياء، كما الفاتحة، كانت له خالصة، اختصَّ بها هو وأمَّته من بعده. فتمام الفناء وكمال الرجوع والبقاء في عهد الإسلام، يعني بالضرورة التقاء ميثاق فطرة “بلى”،  بدين الإسلام وشريعته الخاتمة بكمال الشهادة.  يعود السالك المتحقِّق إلى الوجود عارفاً مُقرَّاً بربوبيَّة الخالق، وبعبوديَّته، مسلماً لله، يشهد بتمام وكمال التوحيد “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”،  فيلتقي مقام الشهادة بمقام الحمد يمثلان مقام الرجوع إلى عالم الحسِّ والتكليف. أي يرجع السالك المحمديُّ بعد فنائه لناسوته مكلَّفاً، مستخلفاً، نائباً وإماماً يعمل بشرع الله الخاتم، مؤيَّداً بعلوم التوحيد، ولكنه، يمشي  في الأسواق ويأكل الطعام.

يمثِّل الفناء عند ابن عربي المقام الأعلى في وصول السالك، فالرجوع يمثل المقام الأكمل في بقاء السالك. ويتجلَّى في كمال تحقُّقه في مقام عبوديَّته أمام ربوبيَّة الله، ويتمثَّل في شهادة أن محمداً عبده ورسوله. يقول ابن عربي من حضرة العلو للاسم الإلهيِّ العليِّ: “إنَّ علوَّ الإنسان عبوديَّته لأن فيها عينه وعين سيده”[80]. فقد علم الإنسان ذاته من ذاته؛ وإن تحقُّقه أن الوجود الحق لله وحده لا شريك له، لا يزيده إلاَّ تحقُّقاً بعبوديَّته وبتمسُّكه بشرع التكليف الذي فيه سرُّ وصله وثبوته بما تحقَّق. فمعرفة أسرار علوم العبادات التكليفيَّة الشرعيَّة، ومستنداتها الإلهيَّة، لا يكون إلاَّ للعارفين المتمكّنين في هذا البقاء، الذين حازو أعلى الدرجات، درجة العبوديَّة. وإن شطحات بعض العارفين مثل الحلاَّج وغيره من أهل التصوُّف، عند ابن عربي، لها شروطها وعلومها ليس هذا مكانه. وإن يشتمُّ فيها رائحة ربوبيَّة أو اتحاد، فإنَّ الدراسة العرفانيَّة المعمَّقة لهذه الشطحات تبيّن أنَّها في صلب وجوهر التوحيد، لا تخرج عنه. ولا يجوز تأويل تأكيد الشيخ الأكبر على ضرورة التحقُّق بمقام العبوديَّة، من باب الأدب، وحسب. فالأمر عنده، يتعلَّق بتحقُّق العبد علميّاً، أن وجوده من حيث هو خلق لا يخرج عن الوجود الحق. وهذا هو معنى مفهوم “وحدة الوجود” عند الشيخ الأكبر، وإن لم يستخدمه من حيث الاصطلاح، إلاَّ أنه يفيد معنى التحقُّق “بالوجود الحق”[81] لا يكون إلاَّ بالله ولله تعالى. ويتمثَّل ابن عربي في كل مناسبة، بقوله تعالى * وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ*[82]،  فالمعنى يفيد نفي رمي الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ من نفسه، ليثبت رميه في رمي الله سبحانه وتعالى. فيبقى العبد عبداً والربُّ ربَّاً. “وكل حرية”، يقول: “تغنيك عن الاسترقاق الإلهيِّ، لا يعول عليه”[83]. ويفيض بنا القول في هذا السياق، وكأن ظل الشخص أصبح يعي أنه ظلٌّ لمن هو الفاعل الحقيقي. وأن الصورة في المرآة، تحققت بأنها صورة، لا حول لها ولا قوة إلا بمن هي له صورة. وأنَّ الرداء أدرك أنه رداء على المرتدي، وحسب.

 

الفتوَّة: خوض الملاحم، واجتياز أرض المهلكة: “لا فتى إلاَّ علي”:

يلقى السالك في كل مقام وفي كل حال من المخاطر وفتن الاختبار والابتلاء الكثير؛ إذ لا بد من فتن معدن السالك في هذا الطريق، كما يفتن الذهب، لفرز الحقيقيِّ من الزائف. وإن أهم ما تتميَّز به الفتنة، كما يحذِّر ابن عربي، أنَّها قد تبدو ولها وجه حق، فهي قد تظهر بصورة ماء عذب، وهي في الحقيقة، نار لا تذر. ومن أهمِّ مخاطر وعقبات الطريق  التي يواجهها السالك، ومطلوب منه أن يبقى سالم القلب والعقل أمامها، هي  مهلكة نيران ملتهبة ، تتمثَّل في مفهوم “الفتنة” التي عرفها العالم الإسلاميُّ،  ولا تكون السلامة منها، عنده، إلا بمعرفتها من بعيد، وبعدم الخوض فيها. وبالفعل، لم يخض بها ابن عربي، ولكنه أشار إليها من بعيد، فقال:

 

فاعلم بأنَّك لا تدري الإله إذا * ما لم يكن فيك يرموك وصفين[84]

 

واضحة هي الإشارة إلى معركة اليرموك التي دارت في السنة الثالثة عشر للهجرة بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، والروم (الأمبرطورية البيزنطية)، في بلاد الشام على ضفاف نهر اليرموك. وكانت المعركة الفاصلة والحاسمة في تاريخ الفتوحات الإسلاميَّة، بل كما يعتقد بعض المتخصِّصين، في تاريخ العالم، لأنها حسمت ما كان من قيام الدولة الإسلاميَّة في بلاد الشام، ومن ثم امتدادها شرقاً وغرباً وتوغُّلها في الأناضول وفارس وما وراء النهر من جهة، ومصر وشمال أفريقيا من جهة أخرى. أما صفّين، فهي قرية في العراق على نهر الفرات، شهدت موقعة صفين (37هــ) بين الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب ـــ كرم الله وجهه ــــ ، ومعاوية بن أبي سفيان، الخليفة الأول من بني أمية، وهي أيضاً تعتبر معركة حاسمة في تاريخ الحكم الإسلامي، انتقل على إثرها الحكم من اعتماد مذهب الشورى إلى الوراثة في بني أمية. فهي مثال الابتلاء الإلهيِّ للمسلمين. وكأن ابن عربي، يشير إلى واقعة اليرموك من حيث ما تمثّله من الجهاد ضدَّ من هو في الاعتبار “هرقل النفس”، يفتح الفتى بلاد الله (أقاليم المملكة الإنسانية)، يدعو أهلها إلى الإسلام. أما موقعة صفين، فإنها كانت مثال الفتنة الداخليَّة، بين المسلمين، وهي الأشد والأخطر. ويفيض بنا القول في سياق مذهب ابن عربي العرفانيِّ، إلى أن السالك الفتى مدعوٌّ للتوقُّف والتأمُّل مليّاً مستلهماً في واقعة  اليرموك من حيث هي من فتوحات وجهاد في سبيل الله، ولكنه مدعوٌّ للمرور سريعاً على موقعة صفّين، من حيث هي قضاء الله في خلقه، يكون من باب الابتلاء والفتنة، وجب على السالك ألاَّ يخوض في تفاصيلها، حتى تكتب له السلامة.

يتبنى ابن عربي موقف القاضي أبو بكر بن العربي (ت.543هــ) في كتابه “العواصم من القواصم” في عدم الخوض في تفاصيل ماحدث في هذه المسألة التاريخيَّة الأليمة في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة بين علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ، وهو الذي، يقول ابن عربي، قيل فيه “لا فتىً إلاَّ علي، لأنَّه الوصيُّ والوليُّ”[85]، والخليفة أميَّة بن أبي سفيان، وهو، يقول ابن عربي: “كاتب رسول الله  ـــ صلَّى الله عليه  وسلَّم ـــ وصهره، خال المؤمنين”[86]. وإن لا يجعل ابن عربي كلا الخليفتين على مدرجة واحدة، فعلي، بعد الأنبياء يقول: “أقرب الناس إلى رسول الله “[87]، إلاَّ أن الشيخ الأكبر  يغلق باب هذه الفتنة بقوة وحزم، قائلاً: “فالظنُّ بهم جميل رضي الله عن جميعهم ولا سبيل إلى تجريحهم، وإن تكلَّم بعضهم في بعض فلهم ذلك وليس لنا الخوض فيما شجر بينهم، فإنهم أهل علم واجتهاد وحديثو عهد بنبوة، وهم مأجورون في كلِّ ما صدر منهم عن اجتهاد، سواء أخطئوا أم أصابوا”[88].

إن تتمثَّل قوة الفتوَّة عند ابن عربي بالشجاعة في ورود مستنقع محاق العدم والموت، والثبات فيه، في جهادها في سبيل الحق، فهي هنا، في هذا الاختبار الصعب، تكمن في اجتناب “مستنقع” الفتنة، والإحجام عن الخوض فيه، عن علم لا عن جهل. وقد تناولنا في الباب الرابع من  كتابنا “ورقات أكبريَّة” مذهب الشيخ في مسألة ترتيب الخلفاء الراشدين حول الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ  من خلال مواقعهم في المشهد  الغيبيِّ الذي حدَّثنا عنه في خطبة فتوحاته، يعبِّر عن ترتيب يمتثل لترتيب كتيبة (خميس) الجيش المحمدي؛ حيث القلب محمد ــ صلى الله عليه وسلم، ثم ميمنة، يمثلها أبو بكر “الصدّيق”، وميسرة، عمر “الفاروق”، وساقة،عثمان “ذو النورين”. وأمَّا علي كرم الله وجهه، فقد كان من جهة الأمام ناظراً إلى رسول الله. يقول ابن عربي: “وعلي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يترجم عن الختم بلسانه”[89]. وكان الختم، ويعني خاتم الولاية العامَّة (الفتى الروح)  قد جثى بين يدي رسول الله.  في هذا السياق تتَّضح مكانة عليٍّ ابن أبي طالب، من حيث كونه “أقرب الناس لرسول الله”، فهو بمثابة اللسان “المتكلم” ترجمان علم النبوَّة والفتوَّة، يكون الأقرب إلى القلب المحمديِّ؛ هو رمز لسان القلب وسيفه (ذو الفقار). في هذا السياق نقرأ معنى الإشارات النبويَّة التي جاءت في حديث”لا فتى إلاَّ علي”، “وأنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”[90] وقد اعتمدهما ابن عربي، ونفهم لم ضِمْن هذا المشهد الغيبيِّ، ألحق بذكره علي، جملة “صلى الله عليه وسلم”، التي ارتبطت بذكر الرسول  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ دون الخلفاء الثلاثة. ولا يفوتنا أن اعتبار هذا القرب في مذهب الشيخ، يخصُّ مكانته من الحقيقة المحمديَّة من حيث هو رمز “لسان القلب”، ولا يخصُّ عليّاً، من حيث كونه ابن عم الرسول، من الأقربين. ولا من حيث كونه زوج فاطمة الزهراءــ عليهما السلام ـــ. فالحقيقة المحمديَّة تمثِّل مفهوم الإنسان الكامل، يتعرَّف السالك على مكانته منها بالنظر إلى مكانة الرُّسل والأنبياء والخلفاء الراشدين من القلب المحمديِّ، منهم من تكون مكانته في محلِّ الحياة، أو محلِّ النظر، أو محلِّ السمع، أو محلِّ الكلام. ويتبع هذا العلم عند ابن عربي، علوم ترتيب وظهور أحكام ونسب أمهات الحضرات الإلهيَّة.

هكذا تتضح خصوصيَّة فتوة علي، لسان ترجمان علوم النبوَّة وسيف الفتوَّة، فهي لا تناقض ترتيب خلافته بعد رسول الله، يكون الرابع. وابن عربي لا يعتمد تقديم علي على أبي بكر ــ رضي الله عنهماــ  للخلافة؛ حتى وإن كان علي في الاعتبار نائب رسول الله، (المتكلم باسمه) في تلاوة القرآن. ويجمل الشيخ الفرق بين وظيفة من يكون خليفته، ومن يكون نائبه، بالعودة إلى ما كان من تكليف  الرسول أبا بكر  بالحج  في الناس، يؤمُّهم  ويقرأ سورة البراءة على أهل مكة، بعد عودته من غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. يقول الشيخ إن رسول الله استدرك قائلاً: “لا يبلغ عني القرآن إلاَّ رجل من أهل بيتي، فدعا بعلي فأمره فلحق أبا بكر، فلما وصل إلى مكة حج أبو بكر بالناس (أولاً) وبلّغ علي إلى الناس سورة براءة وتلاها عليهم نيابة عن رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ”. ويخلص ابن عربي للقول: “هذا ممَّا يدلُّك على صحَّة خلافة أبي بكر الصديق ومنزلة علي ـــ  رضي الله عنهماـــ”[91]. فلا تعتمد حكمة الترتيب الزماني للخلفاء الراشدين، عنده، مبدأ القرب، ولا القربى، ولا الأهلية ولا الأحقية،  ولكن متعلق هذه الحكمة، كما يرى، هو علم التقدُّم والتأخُّر بظهور أحكام الحقائق، ويرتبط بعلم ما يسمّيه “علم الآجال”، وهو العلم الذي يرتبط بعلم الخواتيم وبزمان موت الخلفاء.

يتقدَّم في مذهب ابن عربي للخلافة من يتقدَّم أجله، يقول: “إن التقدُّم، إنما وقع بالآجال عندنا وفي نظرنا الظاهر. أو، بأمر آخر في علم الله لم نقف عليه. وحفظ الله المرتبة عليهم رضي الله عن جميعهم”. من هذا الباب، ينبه الشيخ، قائلاً: “كان تقدُّم أبو بكر للخلافة، وكان تقدُّم عمر بن الخطاب وعثمان وعلي والحسن؛ فما تقدَّم من تقدَّم لكونه أحقَّ بها من هؤلاء الباقين. ولا تأخَّر من تأخَّر منهم عنها، لعدم الأهليَّة وما علم الناس ذلك، إلاَّ بعد أن بيَّن الله ذلك بآجالهم وموتهم واحداً بعد آخر في خلافته”[92].

إن جوهر هذه المسألة يتبع  حكمة ترتيب ظهور الأشياء في العالم، ويتبع حضرات الأسماء الإلهيَّة من حضرات التقديم والتأخير، والظهور والبطون، والأوليَّة والآخريَّة، وهي من المسائل العلميَّة الإلهيَّة الصعبة؛ متعلَّقها سرُّ ترتيب ظهور النسب والأحكام الإلهيَّة في الكون، لا الحقائق كما هي عند الله.  يقول ابن عربي في مسألة ترتيب أمهات الأسماء الإلهيَّة التي يتوقَّف عليها وجود العالم، وهي: “الحي العالم المريد القادر”[93]، أن تقدُّم حضرة الحيِّ هي شرط قيام الوجود المقيَّد، لذلك لا بدَّ للاسم الحيِّ أن يتقدَّم الأسماء، وذلك كما يقول ابن عربي: “لكون الحياة شرطاً في جميع وجود النسب المنسوبة إلى الله؛ وهذه النسبة أوجبت له سبحانه أن يكون له اسمه الحيُّ؛ فجميع الأسماء الإلهيَّة موقوفة عليه ومشروطة به حتى الاسم الله. فالاسم الله هو المهيمن على جميع الأسماء التي من جملتها الحيُّ ونسبة الاسم الحيِّ لها المهيمنيَّة على جميع النسب الأسمائيَّة حتى نسبة الألوهة”[94].  كذلك مرتبة  الحضرة العلميَّة النورانيَّة وإن تتقدم في الباطن، من حيث إن الوجود وكل ما دخل به وترتيب ظهوره يتبع ما هو في علم الله في الأصل؛ فإنَّ الاسم العالم يتأخَّر عن الاسم الحيِّ للسبب ذاته. وكذلك الاسم المتكلم[95] وإن يكن ترجمان الاسم  الله إلى باقي الأسماء والممكنات، إلاَّ أن ترتيبه يأتي بعد الاسم الحيِّ في رباعيَّة أئمَّة الأسماء الإلهيّة “من غير نظر إلى العالم”، حيث نجد “الحيَّ والمتكلّم السميع البصير”[96].

يحكي ابن عربي في الباب السادس والستين من كتابه “الفتوحات المكية”، في حوار “قصصي” رائع،  حكاية  ما دار بين الممكنات في حال عدمها مع الأسماء الإلهيَّة، تطلب منها إظهار أعيانها، وما كان من توجُّه الأسماء من اسم إلى آخر حتى وصلت الاسم الله، الذي خرج بأمر الذات المقدَّسة، إلى الأسماء والممكنات. يقول: ” فخرج الاسم الله ومعه الاسم المتكلم يترجم عنه للممكنات والأسماء”[97].

في هذا السياق العلميِّ العرفانيِّ الدقيق لمسألة الترتيب الإلهيِّ في ظهور نسب الحقائق وأحكامها في الكون، يتبع تفصيل الحقائق لا مراتبها، نقرأ تأكيده على عدم وجوب أي استحقاق دنيويٍّ أو سياسيٍّ لأهل البيت، يقول: إن “نسب الله التقوى، فمن اتَّقاه فقد صحَّح نسبه وهو عبد الله حقاً، وإيَّاك والنسب الطيني، فإنه غير معتبر”. وفي سياق قوله هذا، يستشهد ابن عربي ببيت من الشعر ينسبه إلى علي بن أبي طالب، جاء فيه:

 

ما الفضل إلاَّ لأهل العلم أنهمُ * على الهدى لمن استهدى أدلاَّءُ[98]

 

لا شكَّ في أنَّ مذهب ابن عربي في مسألة ترتيب الخلفاء الراشدين، وما يترتَّب عليه من مفهوم الإماميَّة، واضحٌ لا يحتمل التأويل؛ وقد نوَّه إليها ميشيل شودكيفتش في محاضراته وفي مؤلَّفاته[99].  فابن عربي يؤكِّد أنَّ أهمَّ استحقاق لأهل بيت النبيِّ هو المحبة؛ هي الأمر الأوحد الذي طلبه الرسول ـــ صلَّى الله عليه وسلَّم ـــ من الله لأهل بيته. ويعتبر أنَّ رسول الله طلب لأهله المقام الأسمى، فإنَّ مقام المحبة وقد تضمَّن مقامي العلم والرحمة في أعلى رأس هرم المقامات. وللحديث في مقامات المحبَّة وأحوالها وخصوصيَّة علاقتها بعلوم الأسماء الإلهيَّة، ونسبها، وأحكام ظهورها في العالم، عند الشيخ الأكبر، جولات ليس هذا مكانها.

خلاصة القول في طريق الفتوَّة، أنَّه طريق مخاطر وفتن؛ من السالكين من يعود أدراجه، فلا حمل له على المشقَّة. ومنهم من لا يعود أبداً. ومنهم من يعود وقد ترك رشده على عتبات الطريق، حال المجذوب. ومنهم من يختلط عليه الأمر فيعود مدَّعياً: “أنا ربُّكم الأعلى”، حال الفرعون. أمَّا من كتب له الله السلامة والرجوع، فترافقه الفتوَّة، وهي حقيقته وفطرته وكعبة قلبه، يحامي عنها ويفديها بروحه. يظهر له فتاها وابنها الروحانيُّ بأمر الله، وقد تمَّ ذلك لابن عربي كما ذكرنا، عند الحرم المكّيّ، بينما كان يطوف ويقبّل الحجر الأسود، ليكون  فتاه وسيّده، خديمه وحفيظه في آن واحد، حتى تتمَّ له السلامة ويعود من فناء الرحلة إلى رجوع البقاء، عاشقاً، متحقّقاً بعلوم النبوَّة الإلهيَّة، فتوَّةً ، أي متحقّقاً، شاهداً، عالماً بربوبيَّة الخالق وسيادة الروح، وعبوديَّة نفسه. هذا هو المعنى الحقيقيُّ عند ابن عربي، للحديث الذي يأتي ذكره في كلِّ مناسبة: “من عرف نفسه عرف ربَّه”، أي من عرف نفسه بالعبوديَّة عرف ربه بالربوبيَّة. وهذا ما اختلط على الفرعون. فشهود الربوبيَّة يعتبر من أخطر المزلاَّت والعقبات التي تواجه الفتى، خصوصاً أن ثعابين النفس الشهوانيَّة للسلطة حاضرة، وبقوَّة، لا تقابل إلاَّ بالقوَّة الإلهيَّة “لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله”، التي يقول ابن عربي، إنَّها قوَّة من الكنوز التي تحت العرش الإلهيِّ، على الفتى أن يتحلَّى بها ليقطع بسيفها حدَّ هذه المسألة ويشهد عبوديَّته أمام الله، فيشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله. فالسعيد من تحقَّق بالفتوَّة، عند شيخنا، هو كما يقول، من حفظ الله عليه عبوديَّته، “وحال الله بينه وبين ربوبيَّته”. من هذا الباب يعكس الشيخ المثل المعروف “سيّد القوم خادمهم”، ليجعله خادم القوم سيّدهم، والمعنى واحد، والتقديم والتأخير لإيحاءات في تركيز المعنى على مفهوم الخدمة.

 

نسب الفتوَّة الإلهيّ، محتده النبويّ، وصبغته الصوفيَّة:

يشير ابن عربي إلى ما يفصّله تجلّي فرقان الحكمة الإلهيَّة، وما تتضمَّنه الحكم النبويَّة من معاني مصاعب وعقبات علوم الطريق، في الأمثلة والقصص القرآنيَّة، من آدم ـــ عليه السلام ـــ إلى محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ.  يخوضها الفتى عن دراية وعلم بها، بل وبتصميم، مثل تصميم نبيِّ الله موسى ــــ عليه السلام ـــ في طلبه مجمع البحرين للقاء الخضر، ما جاء على لسانه في القرآن الكريم: *وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً *[100]. وكان برفقة فتاه يخدمه ويحمل قوُته. والفتى ابراهيم ــ عليه السلام ـــ، الذي ألقى بنفسه في النار بعدما كسر أصنام نفسه. فهذه الصعاب تنطوي على حكمة، تنجلي لمن يطلبها، ويركب صعابها. يقول ابن عربي في حكمة السجن، وهي إشارة لإلى الفتى  يوسف ـــ عليه السلام ــــ، وكان من فتوَّته أن فضَّل السجن على الفتنة:

 

مت واعلمن *   أن في السجن بلوغ الأمل[101].

 

وقد تقدَّم بالفتوَّة المختصَّة بالنبوَّة، رسل ثلاثة عند ابن عربي: سيدنا ابراهيم الخليل ــ عليه السلام ــــ، الشيخ الفتى  صاحب القِرى، وأول من كسر صنم نفسه، قطب الفتوَّة الذي تدور رحاها عليه. وسيدنا عيسى المسيح ـــ عليه السلام ـــ الفتى الروحانيُّ فتى الوحي الإلهيِّ، ورفيق الدرب. وسيدنا موسى ـــ عليه السلام ــ كليم الله وصاحب الخِضر. وهو يجمل خطوات الطريق إلى الحقِّ في إشارة موسويَّة، فيقول: “سفينتك مركبك فاخرقه بالمجاهدة، وغلامك هواك فاقتله بسيف المخالفة، وجدارك عقلك…فأقمه تستر به كنز المعارف الإلهية عقلاً وشرعاً حتى يبلغ الكتاب أجله، فإذا بلغ عقلك وشرعك أشدهما وتوخيا ما يكون به المنفعة في حقهما […]فإنَّ العقل والإيمان نور على نور”[102].

يعود أصل الفتوَّة عند الشيخ الأكبر كرماً إلهيّاً يصل غايته في تجلّي مفهوم الإيثار. وهي، كما يقول: “نعت إلهيٌّ من طريق المعنى، وليس له سبحانه من لفظها اسم إلهيّ”. وهو يشرح هذا الأصل الإلهيَّ للفتوَّة، ويقول، إن الله سبحانه وتعالى وهو “الغنيّ عن العالمين”،  أوجد هذا العالم للعالم إيثاراً له على انفراده بالوجود، وهذا هو عين الفتوَّة[…ٍ] . وصورة الفتوَّة هنا، هي أنه خلقهم لينعمهم بالوجود، ويخرجهم من شرِّ العدم، ويمكّنهم من التخلُّق بالأسماء الإلهيَّة”[103]. وإنَّ هذا التخلُّق هو المبدأ الأساسيُّ للتصوُّف والفتوَّة. ويمتدُّ هذا الأصل الإلهيُّ للفتوَّة، عند ابن عربي، من نفَس الرحمن إلى عالم الروح المُطهّر، فتمثِّل الفتوَّة طبيعة الروح وفطرة الإنسان في حضرة الميثاق. في هذه الحضرة البرزخيَّة في عالم الذرِّ، قبل مجيء الخلق إلى الدنيا أشهدهم الله عبوديَّتهم وشهدوا له بالربوبيَّة، وأخذ عليهم العهد بالحفاظ عليها (عهد الذر). والإشارة هنا، كما سبق ذكره، إلى الآية الكريمة * أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى[104]، فالروح عالم بنفسه وبربه، حافظ للعهد، أمين على الأمانة، خادم للقوم وسيدهم. بذالك، يلتقي مفهوم الفتوَّة بمفهوم الولاية والنبوَّة وعهد الفطرة وميثاق بيعتها. وإن الأنبياء وأولياء الله هم في الاعتبار، فتيان الحقِّ والصدق يؤدّون الأمانات، ويبلغون الرسائل الإلهيَّة، ولا يخافون ملامة الخلق ولا عداوتهم ولا يتقاعسون.  فيتحدَّث ابن عربي عن “سرِّ الفتوَّة المختصَّة بالنبوَّة”[105].

يكتمل تجلّي الكرم الإلهيِّ  والفتوَّة عند ابن عربي، في خلق الرسول  ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ، “خير فتى”، والذي قالت فيه السيدة عائشة أم المؤمنين ـــ رضي الله عنها ــــ عندما سُئلت عن خلقه:”كان خلقه القرآن”. وهي إشارة إلى “الخلق العظيم” الذي جاء ذكره في قوله تعالى في سورة القلم * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ *. ويذكّرنا ابن عربي بأنَّ من هذه السورة علم الرسول الكريم علوم  الأوَّلين والآخرين.[106] ويقول موثقاً خصوصيَّة علاقة الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بالخلق القرآني العظيم، وبالقرآن نفسه: “من أراد أن يرى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ممن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، فكأن القرآن انتشأ صورة جسديَّة يقال لها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب”[107]. فتوثَّقت الفتوَّة بكنه مكارمها عند شيخنا، بالنبوَّة والولاية، وبكنوز علومها ومخاطر طريقها، بارتباط الخلق العظيم بالنون وبما يُجمله من العلوم الإلهيَّة قرآناً، وبالقلم وبما يسطر من العلوم التفصيليَّة فرقاناً[108]. يشير ابن عربي إلى هذين النمطين فيقول:

 

                لا يعبدون سوى الرَّحمن ربـَّهمُ   *    في صورة النون لا بل صورة القلم[109].

 

“فما كان مجازاً صار حقيقة”

تأخذ حقيقة الرسول ـصلى الله عليه وسلم،  من حيث إنه أوتي “جوامع الكلِم”، ومن حيث قوله  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ “جئت لأتمِّم مكارم الأخلاق” ، معنى جمعيَّة حقائق الأنبياء، التي تفرَّقت في الأنبياء (الكلم) ـ عليهم السلام ـ في الزمان الماضي. وقد جاء إلحاق الفتوَّة بالنبوَّة، من قبل في التراث والأدبيَّات الإسلاميَّة عامَّة، فقد تناقلت كتب الأدب والتصوُّف إجابة “أحدهم” حين سُئل ما الفتوَّة؟ قال: “اعتذار آدم، وصلاح نوح، ووفاء ابراهيم، وإخلاص موسى وصبر أيوب ودموع داوود وكرم محمد ـــ عليه السلام ـــ”[110] والكرم، لا يفوتنا، هو  في الاعتبار الخلق الجامع للأخلاق الإلهيَّة النبويَّة، فقيل “مكارم الأخلاق”.  كان الرسل، نوابه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قبل مجيئه، كما هو في الاعتبار عند أهل التصوُّف والعرفان. يمثّل كل منهم وجهاً من الحقيقة المحمديَّة،  فيمثِّل سيدنا يوسف ــ عليه السلام ـــ ، مثلاً، الوجه اليوسفيَّ من الحقيقة المحمديَّة، وموسى ـــ عليه السلام ــــ الوجه الموسويَّ، وكذلك باقي الرسل  ــــ عليهم السلام ــــ. كما ويُعتبر كل منهم “الباب” لأمَّته، يدخلون منه إلى الحضرة الإلهيَّة. كان ذلك في مذهب ابن عربي، حتى اكتمل الزمان “واستدار على هيئته”، فدخل الكون في “دولة الميزان”،  وجاء زمان ظهور الرسول ــــ صلَّى الله عليه وسلَّم ــ بشخصه وبنزول القرآن الكريم، يقول الشيخ: “ظهر جسم محمد  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، وظهرت شريعته على التعيُّن والتصريح لا بالكناية، واتصل الحكم بالآخرة”[111]. فما كان مجازاً صار حقيقة، ومن كان غائباً صار حاضراً، وواقعاً، حسّاً ومعنىً. كلُّ رسول في زمانه كان يمثِّل حكمة إلهيَّة، ثم آلت جمعية هذه الحكم وعلومها لمن كان أصل نور الخلق والنبوَّة بحكم كمال استدارة الزمان على هيئته، فجاء شخص الرسول  ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في الزمان والمكان وقد أوتي جوامع الكلم ، يقول ابن عربي: “له في كل جزء من أجزاء الزمانٍ، حُكم، اجتمع فيه بظهوره ــــ صلى الله عليه وسلم”[112]. فادُّخرت الفاتحة له من دون الرسل، ونالت أمَّته ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ ، كما يقول شيخنا، علوماً لم ينلها أحد من الأمم من قبل، وتضمَّن شرعه الشرائع التي سبقته. كان الأصل الممدُّ لهذه الشرائع،  من حيث هو دين الإسلام بدءاً وفطرة، وصار بعد اكتمال دائرة الزمان، دين الشرع الخاتم والجامع، لحقائق كلم الأنبياء. وصار كتابه، القرآن الكريم،  الخاتم الجامع  لهذه السلسلة النبويَّة التي تمثِّل عهد التنزيل والوحي الإلهيّ. فهذه الحكم النبويَّة وإن تفرَّقت في الأنبياء والزمان، إلا أن حقيقتها، عند ابن عربي، هي حقيقة واحد، هي “الحقيقة المحمدية” المجتمعة في شخص الرسول الكريم، يكون مثالها بين أسماء الله الحسنى، الاسم الله الذي يشمل جمعيَّة الأسماء، فيكون الرسول الكريم “خير فتى”، عبد الله بين “فتيان” أنبياء ورسل هم عبادلة الأسماء الحسنى [113].

مجمل القول في فتوَّة الأنبياء وفتوة النبيِّ الخاتم في مذهب ابن عربي، إنها اجتمعت في الخلق العظيم، وتجسَّدت بشخص  ـــ الرسول صلى الله عليه وسلم ـــ قرآناً، بعدما تفرَّقت  في الأنبياء والرّسل فرقاناً.  يضبط الشيخ هذا التجلّي القرآنيَّ الفرقانيَّ لحِكم المكارم والعرفان في الرسل في كتابه “فصوص الحكم”، الذي يتكوَّن من سبع وعشرين فصاً نبويّاً. كل فص يعبر عن حكمة علميَّة نبويَّة، قد لا يجانبنا الصواب إذا قلنا،  إنها  في  إطار إلحاق الفتوَّة بالنبوَّة عند  ابن عربي، تكون من باب حِكم “الفتوَّة المختصَّة بالنبوَّة”. ففي كل حكمة نبويَّة، يستشفُّ ابن عربي، بذور فتوَّة نبويَّة،  تحمل تجلّيات وكشوف أسرار وعلوماً إلهيَّة تؤخذ بقوَّة مؤيَّدة. والأنبياء عنده، جميعهم، كما أشرنا، عصبة واحدة، عصبة “فتيان صدق” يصطفون بنياناً مرصوصاً وبيتاً عتيقاً، حقيقةً واحدة، حرماً إلهيّاً. يمثّل كلٌّ منهم أنموذجاً لحكمة إلهيَّة، ممثَّلاً بحجر من أحجار البيت، فصاً من فصوص خاتم النبوَّة، فتمثِّل الكعبة الشريفة هذه الحقيقة النبويَّة الكريمة. وكل حجر يعبِّر عن رسول أو نبيٍّ وعن حكمته الإلهيَّة. يقول ابن عربي، إنَّ كل ذراع تحجير منها هو “مقدار لأمر إلهي يعرفه أهل الكشف”، ويقابل هذه المقادير منازل القلب تقطعها كواكب الإيمان السيارة والتي منها يكون ظهور الحوادث في العالم العنصري، كما يقول “سواء حرفاً حرفاً أو معنىً معنىً”[114]. وإنها ما اكتمل بناؤها حتى جاء من يختمها يحفظها ويؤمنها. ويطابق تركيب الكعبة “كعبة السر” التي كما يقول الشيخ: “يسعى لها كل من يمشي على قدم”[115]، تركيب  الفاتحة أم الكتاب و”فاتحة الهدى”[116]. فمن يطوف بالكعبة، أو من يقرأ الفاتحة، كأنه طاف بحقائق الأنبياء جميعاً، واستحضر ذكرهم.

 

الفتوَّة وفتوحات غرائب العلوم ومبهماتها، وعلوم الآخرة:

يتقدَّم مفهوم الإيثار، وهو كما رأينا، الأصل الإلهيُّ للكرم وغايته، ليكون شعار ومعْلم راية الفتوَّة في طريق العرفان الصوفيِّ، خصوصاً لمن يطلب تعمُّقاً في لطائف العلوم النبويَّة والإلهيَّة، وفي ما هو من  مبهمات غرائبها وأسرارها. هنا يصبح الإيثار وبرهانه شرط مطلوب ممن يدَّعي الفتوَّة في هذا المضمار. وإن مضمون أمر الإيثار وجوهر لبه هنا، أن مكارم الأخلاق تُجلي مرآة القلب حتى تصفو، وتظهر بها الحكمة الإلهيَّة ومعارفها الروحانيَّة والعرفانيَّة،  فإن لم يكن المريد  مؤيَّداً بروح الفتوَّة، وإيثار التنزيل الإلهيِّ على بنات أفكاره، فإنه سيستقبل هذه المعارف والحكم  بفكره ونظره،  ويكون التعمل والفهم له من قواه؛ فيكون فهمه بالنتيجة، محدوداً بحكم عقله ومنطقه الإنساني. ولكنه، إذا تحلَّى بالإيثار، وآثر التنزيل والتعريف الإلهيِّ على فكره ومنطقه، فإنَّ قلبه يصبح بصفاء مرآة قلب النبيِّ أو الوليِّ الذي يؤيّده، يرى ويسمع ما يسمع نبيَّه، يقول ابن عربي: “فاجهد أن تنظر إلى الحقِّ المتجلّي في مرآة محمد ـــ صلّى الله عليه وسلّم ــ لينطبع في مرآتك، فترى الحق في صورة محمدية برؤية محمدية، ولا تراه في صورتك”[117]. فتُفتح أمام السالك المتحلّي بالإيثار والفتوَّة، المعارف والحكم الإلهيَّة بحكمها هي، لا بحكم فكره، وتكون بحكم صفاء وكمال مرآة نبيّه، لا بحكم مرآته،  فهذه العلوم كما يقول ابن عربي:

 

علوم أتت نصَّاً جليّاً تقدَّست * عن الظنِّ والتخمين والحدس والحرز[118].

 

يأخذ معنى الإيثار وهو غاية الكرم، في هذا السياق، نصيب الأسد من جموع المكارم . ويكون الفتى، من يؤثر أمر الله ووحيه، على حكم عقله وفكره. كما أنَّه يؤثر النظر في مرآة قلب نبيّه على مرآة نفسه. فيقول شيخنا:

“إن الفتى من يراعي حق خالقه * ثم حق رسول الله إيثاراً[119].

 

ويكون ذلك أتمَّ، لأنَّ  العلوم الإلهيَّة ستظهر له  بكمالها متوحِّدة مجتمعة بطبيعتها، دنيا وآخرة. ولِما يكون لهذه العلوم في قلب الفتى من رهبة لهول وقعها، كان لزوم التأهُّب والسلوك من ضروريَّات طريقها. وإذ يتحقَّق السالك ببرهان الإيثار، عندها يؤيّده الله  بالأمر الإلهيِّ، وبالروح من عنده  “فتاه الروحاني”، ليعينه، ويخدمه، ويحفظه، ويعيده بالسلامة إلى أهله، متحقِّقاً  بعلوم الكشوف والفتوحات والشهود، مستأهلاً لقب الفتوَّة. فهذا التحقُّق “فتوَّةً”  بالعلوم، هو بمثابة الكنز الذي تفنى النفوس في طلبه. يقول نجم الدين كبرى، كما ذكرنا سابقاً  في أمر فتية أهل الكهف:”سماهم باسم الفتوة لأنهم آمنوا بالتحقيق لا بالتقليد”. فتأخذ الفتوة في التصوُّف بعد التحقق بالأسرار والعلوم الإلهيَّة. ويكون للفتيان بفطرة الروح من العلوم أخفاها وأدقّها. ومنها علوم السمسمة التي لا يعلمها إلاَّ الخاصَّة من العلماء الفتيان. يقول ابن عربي:

 

لهم من خفايا العلم كل شعيرة  *  وما هو موسوم لديهم بسمسمة[120]

 

يتضح في سياق ما تقدم توثق علاقة الفتوة، بالتحقق بما هو من العلوم المبهمة في مذهب ابن عربي . ويشبه من يذهب في طلبها، صورة الفتى العربي “حامي الظعينة” يقطع الصحراء متعرضاً لغرابيب العرب، ووحوش الصحراء، راكباً أهوال الطريق، ليعود بها، بسلام موضحاً لمن يريد أن يسلك على خطاه، خفايا الطريق ومخاطره .  فيعتبر ابن عربي أن  إيضاح مبهمات العلوم لا يكون إلا للفتيان الشجعان، فالفتى، يقول، هو من يوضح المبهم. وقد أوضح ابن عربي الشيخ الأكبر، والفتى الحاتمي  الكثير من مبهمات العلوم صراحة أو إشارة ورمزاً، عن أمر إلهي. ومن هذه المبهمات على سبيل المثال لا الحصر سر كلب الكهف، أشرنا إليه في مقدمة هذه الورقة ، فيقول موضحاً عن سر  الشخص الكريم يظهر بمظهر “الكلب الظبي”، يعرفه من هو في الاعتبار “فتى عربيّاً”، أي من توضَّح وتعرَّب عنده مبهم أمر هذا الشخص، وعرف بأن ظهوره بمظهر الكلب الظبي ليس من باب المسخ، فهو، كما يقول، من “الأناسي سويا”. ونفهم أن المعنى المقصود من إشارات ابن عربي هنا، أن الأمر من باب التجسد الروحاني، يقول:

 

                           إني رأيت بظنّي  *  من كان كلباً ظبيَّا

                         وكان شخصاً كريماً  * من الإناسي سويَّا

                          ولم أجىء بالذي قل * ت فيه شيئاً فريَّا

                         “ولا تقل فيه مسخ   *  تكن فتى عربيَّا[121].

 

يأتي التحقُّق بالعلوم الإلهيَّة وبمكارم الأخلاق وبالفتوَّة الموصلة إليها عند ابن عربي، وكما هو في التراث الإسلاميِّ عموماَ، والصوفي خصوصاً، من باب السعادة الدنيويَّة  والأخرويَّة. فهي أهمُّ ما يحوزه الإنسان في دنياه لآخرته، بل إنه بها، يتميَّز عند الله، يقول ابن عربي:

 

بـها ميـَّز الرَّحـمن بيـن عبـاده  *  غداة غد في موقـف البعث والنشـرِ

  كـما ميَّـز الرَّحـمن بيـن عبـاده  *  إذا دفنوا في الأرض من ضغطة القبرِ

فـضـم لـتعذيـب وضـم تعشـق  *  فلا بد منه فاعلـموا ذاك من شعري[122]

 

فمقام الإنسان في الآخرة هو استمراريَّة ما اكتسبه وعمل له في الدنيا، ولا يسكن في الدار الآخرة إلاَّ الدار التي بناها في الدنيا، ولا يجني إلاَّ ما غرسه في أرضها [123]. وإلاَّ فإنَّه في الآخرة وعندما يرى “خير الله”، يقول شيخنا: “يصبح نادماً بما فرط المسكين في زمن البذر”[124]، بل ويصبح في “نكد”. وإن القلب المغبون هو الذي يسهو عن “سر حكمته في كلِّ كون”. وينصح ابن عربي السالك بالعمل على اكتساب العلم الإلهيِّ  قبل فوات الأوان، قائلاً :

 

فاعرف إلهك من قبل الممات فإن *  تمت فإنك عل التقليد مسجون.[125]

 

هذه العلوم والمعارف ضروريَّة عند كلِّ عاقل. والعاقل في مفهوم ابن عربي، هو الذي يعقل(يمسك) عقله المفكّر ليعقل ما يلقى إليه، ما يمليه عليه  قلبه من الحكمة الإلهيَّة المؤيَّدة بالوحي والتنزيل الإلهيِّ، يقول:

لا يقبل الإلقاء إلاَّ عاقلٌ * فإذا تخلى عنه ما هو عاقلُ.[126]

 

كما أنَّ هذه العلوم الإلهيَّة ، يعتبرها ابن عربي بمثابة أسرار الشافية للعلل والأمراض الدنيويَّة والروحانيَّة. فإنَّ تدخل على السالك العلَّة ويصبح سقيماً، فإنها الشافية. والفتى هو الذي يعتمدها ويعمل بها ليشفي نفسه من العلل التي تطرأ عليه في سفره. فحال العمل والعلم عنده، مثل حال الروح مع الجسد لا ينفصلان دنيا وآخرة، فكما أن الجسد ذو روح ، فإن الروح “ذو جسد”،  ولا يكون إلاَّ مدبّراً لهيكل، يقول:

إذا تجلَّى لكم في عين واحدة * لن تدركوه لأن الروح ذو جسد. [127]

 

ولمَّا كان البعث عند ابن عربي في القيامتين الصغرى والكبرى، معنويّاً  وحسيّاً وحدة واحدة، كان التحقُّق بعلوم الآخرة، يتطلَّب الشفاء من العلل، والعمل في الدنيا. فعمل الإنسان وإن ينقطع في الآخرة حيث لا تكليف، إلاَّ أن نتائج أحكامه تظهر هناك، يقول الشيخ:

 

                 واعمل عليه تصب دنيا وآخرة * وإنما الفوز في العقبى مع العمل[128] .

 

يتَّضح في إطار مفهوم وحدة الوجود، أو كما يسمّيه ابن عربي “الوجود الواحد” أو “الوجود الحق”، أن يوم الدين عنده، “هو يوم الدنيا والآخرة”[129] بلا شك. ينبه الشيخ في بابه الرابع والثلاثين وخمسمئة من كتاب “الفتوحات المكيَّة”، والمخصَّص “في معرفة حال قطب كان منزله * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ*، إلى أن من يداوم على هذا الذكر، يفتح الله له معاني هذه السورة على “أكمل الوجوه”، “وينكشف له أمر الآخرة عياناً”.[130] فإنه بمجيء الإسلام يقول ابن عربي : “اتصل الحكم بالآخرة”.[131]  وإن هذه العلوم البرزخيَّة عزيزة من فوق طور العقل، لا يصمد لها إلاَّ من تحقَّق بالفتوَّة. ولذلك  بالإضافة إلى الكرم والإيثار والعلم والحكمة، كان لا بدَّ للفتوَّة من قوة، بها يأخذ الفتى علمه ويثبت حيث المزلاَّت وحيث المواقف المهيبة. فهو في صدد معاينة مواقف وأحوال وأهوال الآخرة مثل “ضغطة القبر” في دنياه وفي حياته، في حال اليقظة. لذا، كان لزاماً أن يؤكد شيخنا، في مجال االتحقق  بهذه العلوم الشريفة أن “من لا قوة له لا فتوة له”، كما ذكرنا،  وقد يكون كرم ولا فتوة.  فلا بد من استكمال ثلاثية الكرم، والعلم والقوة، لاستحقاق لقب الفتوَّة واستكمال الرحلة إلى برزخ  الوجود والعدم. وهو  ذات برزخ “نعم لا”، الذي أشار إليه ابن عربي، وكان” فتىً” في حديثه لحكيم قرطبة ابن رشد وكان شيخاً، وقد فهم قاضي قرطبة إشارة ابن عربي وهاله أمرها وأخذ بالحوقلة، لما تيقن من كلام ابن عربي، أن عبور هذا البرزخ وما يكون فيه من أرواح  تطير من موادها، وأعناق من أجسادها، وما يكون من رجوعها إلى أجسادها، وبعثها،  شهود حقٍّ، في يقظة الدنيا.[132]

 

الفتى الروح ابن أمه: “عيسى القلوب”، محييها وحاديها:

تتلخَّص صفات الفتى الأساسيَّة، كما رأينا، بشجاعة وبكرم يصل حدَّ الإيثار بالنفس، تجتمع كلُّ مكارم الأخلاق تحت لوائه. يقول ابن عربي”ومنحرهم نفسي ومشربهم دمي”[133] . وبسيف همَّة “مسلول” على الأعداء مؤيَّد بالقوَّة الإلهيَّة يحمي الحمى والحوزة. وبعلم إلهيٍّ يجمع علوم الموازين الإلهيَّة ومواطنها، بها يكون عطاء الفتوَّة.  والفتوَّة، يقول ابن عربي : “من غير وزن لا يعوَّل عليه”[134].  هذه الصفات الأساسيَّة تلتقي ومفهوم الروح عنده، كما بيَّناه في ما تقدَّم. فللروح قوة إلهيَّة من حيث هو ريح (قوة) كلمة من نفس الرحمن، كالسيف الصارم،  منه العزيمة وبه  يكون جهاد النفس وقواها السبعيَّة. وإن الله، كما ينبّه ابن عربي، ما كلف العبد الضعيف إلاَّ بوجود هذه القوه فيه. خلق الله الروح كاملاً بالغاً عاقلاً، وعارفاً مؤمناً بتوحيد الله، عالماً بربّه وبنفسه، والدليل على ذلك، يقول الشيخ ، إقراره بربوبيَّته في جوابه “بلى” حين أشهده الله على نفسه وعلى عبوديَّته، ولو أنه “لم يكن عاقلاً”، يستدرك شيخنا، قائلاً: “لما خاطبه الله، فالله لا يخاطب إلاَّ من يعقل عنه خطابه”[135]. فتمثِّل الفتوَّة بما تشتمل عليه من معاني المكارم والقوة والشجاعة، والحكمة والعلم، الطبيعة الأم للفتى الروح، فهو أبن أمه، يقول ابن عربي: “فالإنسان ابن أمه بلا شك، فالروح ابن طبيعة بدنه وهي أمه التي أرضعته ونشأ في بطنها”[136]. فهذا الروح “ابن أمه الطبيعة” من نفس الرحمن، وإن الأنفاس متعلَّقها المحلُّ الذي تمر منه، وتنشأ به، وإن صحتها المكارم ومرضها سفاسف الأخلاق[137].  ويؤكد الشيخ، أن هذه الصفات التي تمثل الفتوة تمثل الأم (النفس الكليَّة)، وابنها الفتى (الروح)،  يتَّسم مثلها بالقوة و الكرم والشجاعة والإقدام، وإلا فالنفس الإنسانيَّة (الجزئيَّة)، فقد جبلها الله على الجزع والضعف في أصل نشأتها، لها الجبن والخوف.

يتَّسع موضوع الروح والنفس في مذهب ابن عربي،  يشمل الأرواح الجزئيَّة والكليَّة نتركه لمناسبة أخرى إن شاء الله،  ونأخذ باختصار هنا ما يخصُّ شخص الفتى  الروح، ابن أمه الفتوَّة، السيد والخديم الذي لقيه الشيخ الأكبر بالقرب من الحجر الأسود، وهو المطلوب في طريق التصوُّف كما يؤكِّده. يتداخل مفهوم السيادة ومفهوم الخدمة في سياق مفهوم الفتوَّة والكمال الإنسانيِّ، ويعكس ابن عربي، كما ذكرنا المثل العربيَّ “سيد القوم خادمهم” واضعاً الخدمة في صدارة الموقف، فيقول:  “خادم القوم سيدهم”[138]. مؤكِّداً أن معنى الخدمة هو مفتاح معنى السيادة. فالروح بما يمثله من خدمة وسيادة للسالك، هو في الاعتبار، فتى نشأته الإنسانيَّة، مليكها وخادمها (التاج والنعل)، وابن فطرتها، بقوَّته وعلمه وكرم خلقه يُحيي القلوب. ويقول من باب الإشارة إلى ما كان لنبيِّ الله عيسى بن مريم من إحياء بالنفخ، قائلاً، إن الروح الإلهيَّ هو نفس الرحمن “لذلك كنى (الله) عنه بالنفخ لمناسبة  النفس، فقال، ونفخت فيه من روحي، وكذا جعل عيسى ينفخ في صورة طينيَّة كهيئة الطير”.[139]

قلنا في بداية بحثنا، إن ابن عربي لمَّح ونوَّه لشخص الفتى الروحانيِّ الذي فات الناس أمره، ولم يذكره بالاسم في مكانه. وقد أثار هذا الفتى فضول قرّائه، من يكون؟ هل هو كناية ورمز للقرآن الكريم، وقد وصفة الشيخ بالمتكلِّم الصامت؟ وجاءت في التراث النبويِّ الإشارة إلى  القرآن يأتي المؤمن في هيئة فتى حسَن الطلعة. وقال بعض المفسِّرين، هو روح، وقد يكون جبريل ” المخصوص بالإنباء”. وقد يخطر على بال أحدهم أنه من وحي خيال ابن عربي نفسه. ولكن الشيخ يقطع طريق هذه التكهُّنات والظنون، فيقول “وليس من الأملاك بل هو إنسيٌّ”[140]مؤكِّداً الإشارة إلى شخص بعينه. ولقد بيَّنَّا في دراستنا المعمَّقة في الفتوَّة عند ابن عربي، أن هويَّة هذا الفتى الروح بن أمه، تعود لنبيِّ الله عيسى بن مريم  ـــ عليه السلام ــ، كما جاء في الآية الكريمة: *إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ *[141].  بين يديهٍ، كان أول رجوع ابن عربي إلى الله، كما يصرِّح بذلك هو نفسه (لمراجعة الدلائل نعيد القارئ إلى دراستنا في الفتوَّة)[142]. وإذ يتعمد الشيخ الأكبر ألاَّ يصرِّح بهويّة الفتى الروح علانيَّة، ويتحدَّث عنه  بلغة الرمز والإشارة  في الباب الأول، فذلك كما نراه، أسوة بطبيعة الروح، وتيمُّناً به،  فهو الفتى  الذي لا يتحدَّث إلاَّ رمزاً وإشارة، وقد فطر، كما يقول ابن عربي، “أن لا يكلم أحداً إلاَّ رمزاً”[143]. كما أننا قد نرى في الإشارة إليه وبالغموض الذي تعمَّد أن يحيطه به ابن عربي، أيضاً، استثارة لفتوَّة القارئ الذي ينوي أن يركب مشاق الفتوحات ومخاطرها، فيدعوه للذهاب في أثر الفتى يجده في أبواب لاحقة من كتاب “الفتوحات المكيَّة”. كما يجده في باب سفر القلب من كتابه “الإسراء”، وفي السماء الثانية من الكتاب نفسه، حيث روحانية المسيح، وحيث يصفه ابن عربي بالفتى كاتب الإلهام، “رائع الجمال ساطع البهاء”، طلب منه أن يكتب له “ظهير الأمان”[144] في سفره.

يتوجَّب على طالب درب الفتوَّة، إذاً،  التأهُّب والاستعداد ، بدءاً بإحياء عهد فطرته، “فطرة بلى” ، حتى يتجلَّى له فتى نفسه، يمين الله في أرض جسمه، وحادي عيسها، ليجدِّد عهده ويلتزم به.  فصح القول بإحياء الفتوَّة، فهي كامنة في قلب الإنسان (كعبة مكته)، “أم القرى”. وإن الصورة التي يوحيها ابن عربي، أن الفتوَّة  عندما تحيي القلب، فإنَّ فتاها، الروح (كلمة الله)، يسيح في باقي أرض الجسم، من المملكة الإنسانيَّة[145]، يجدِّد البيعة لجوارح البلدان ومدنها وأقطارها، ويستوفي زكاة علومها منها. ويتَّضح دور البيعة[146] في تثبيب مريد وسالك طريق الله رغم المصاعب، إذ إن الطريق كما ذكرنا، خطر وشاق،  فكان الفتى المسيح “عيسى القلوب” كما يسمِّيه ابن عربي، هو الذي يحييها ويحيي جوارح بدنها من قبورها بالعلم؛ إذ إنَّ حياة الروح ذاتيَّة، تُحيي بذاتها كلَّ ميت. يقول شيخنا:

 

عجباً كيف تترك القلب ميتاً   *  وحيـاة القلـوبِ في ألفاظـك

                            أنت عيسى القلوب تنشرها من  *  جدث الجهل وهي من حفاظك[147]

 

يكمن الفرق بين من هو حي بذاته، ومن هو حي بغيره، عند ابن عربي، في اعتبار الحيِّ بذاته يحيي كلَّ ما يلامسه أو يطأه أو كلَّ من يراه، يقول في الفصِّ الخامس عشر المخصوص بالمسيح عيسى ــ عليه السلام ــ “فص حكمة نبويَّة في كلمة عيسويَّة”: “إعلم أنَّ من خصائص الأرواح أنها لا تطأ شيئاً إلاَّ حيي ذلك الشيء وسرت الحياة فيه”[148]. ويقول مؤكِّداً من حضرة الاسم  الحيِّ من “حضرة الحياة”: إن “الحي بذاته يحيا به كلُّ من يراه وما يغيب عنه شيء فكلُّ شيء به حي”[149]. وإن الطريق للفتوحات وكشوف الحقائق، والصوفيَّة هم في الاعتبار “أهل حقائق” كما يؤكِّده ابن عربي في كلِّ مناسبة، يتطلَّب صحبة والتزام من كانت حياته ذاتيَّة، ولا يكون إحياء علوم الفتوحات والشهود إلاَّ به. ينبِّه ابن عربي إلى وجوب رفقة من هو حي بذاته، فيقول:”ولكن بينك وبين هذه الحال مفاوز مهلكة وبيداء معطشة وطرق دارسة وآثار طامسة يحار فيها الخريت الذي انكشفت له الحقائق. فلا يقطعها إلاَّ من يُحيي ويميت، لا من يحيا ويموت”.[150] ويقول في هذا الروح:

 

أفـادني منـه أسـرارٌ مـخبَّـأة *   معصومةُ الحال من علم الخفيَّاتِ

                فعندما حصلت في القلب عشت بها  *  وصرت حيّاً ولكن بين أمـواتِ[151]

 

يشبِّه ابن عربي، الفتى “الروحانيَّ”، “عيسى القلوب” “بالقمر المنير” “وبقمر الصدق”، الذي يلبس هيكل جسمه كما يلبس القمر دجى الليل،  فيقول: “أتانا رسول القوم مرتد الدجى”[152] ، يستدلُّ به فتيان الليل في سراهم. ويعتبر الشيخ في هذه الصورة المجازيَّة، أن الله وهو الكريم، جعل تجلّي هذا الفتى القمر، رأفةً ورحمةً بفتيانه القاصدينه، أضيافه “أضياف الله”[153] في ليلهم البهيم، ينير لهم الطريق، يقول:

 

والذي يُشهده نور القمر*  فهو المرحوم

                                  والذي غيب عنه واستسر*  فهو المحروم.[154]

 

هو الفتى، الروح ، نور حياته الذاتيُّ جعله بغية السائرين يستنيرون طريقهم به، وبه تنكشف لهم الحقائق، فوجب عليهم، كما يقول ابن عربي، أن يتحوَّلوا إلى الله سبحانه وتعالى، يحمدونه ويدعونه،  حتى يجود عليهم  بلقائه، ليكون دليل رحلتهم، حاميهم، وطبيبهم، لما يتعرَّضون له من الآفات في سفرهم. وينظم الشيخ بهذا المعنى،  فيقول:

 

للحقِّ فينا تصاريف وأشياءُ   *     ولا دواء إذا ما استحكم الـداءُ

              الداءُ داءٌ عضالٌ ليس يذهبهُ   *     إلاَّ عُبيد له في الطبِّ  أنبــاءُ

              عـن الإله كعيسى في نبوَّتهِ    *     ومن أتته من الرحمن أنبــاءُ[155]

 

إن يكن الفتى، روح الله وكلمته عيسى ــ عليه السلام ـــ في الاعتبار قمراً، فذلك لما في منازل القمر من إبدار ومحاق عبرة للسالكين ومثَلٌ، أراد الله سبحانه به لهم، كما يقول ابن عربي: “العبور إلى ما نصب لهم من معرفة الإنسان الكامل ومعرفة الله لوجودهم على الصورة”[156]. يشبه الفتى القمر يطلب كمال شهر وجوده، فيكون له التغيُّر في المنازل زيادة ونقصاناً، بينما هو في ذاته تامّ. وإنَّ تمام المعرفة للسالك هو معرفته بآيات الله في نفسه “العالم الصغير”، وفي الآفاق “العالم الكبير”. وأن كلَّ شيء هو في الحقيقة، مثلٌ يستند إلى حقيقة إلهيَّة، وهذه الأمثال، ينبّه ابن عربي، هي لله، وهو الذي يضربها للناس. ولمَّا كان الانسان لا يقبل علم وجوده إلاَّ بالمثل، كان النور من حيث كونه يمسح الوجود علوّاً وسفلاً، أحسن مثلاً ضربه الله للإنسان حتى يفهم وجود أرضه وسمائه ، يقول الشيخ:

 

لا يقبل الإنسان علم وجودهِ * إلاَّ به فهو العليُّ السافل[157]

 

وإذ يقول ابن عربي في هذا السياق مجازاً: “وفاز القمر بالفتوَّة”، فإنَّه يلاقي فوز الفتوَّة بنور الروح والكلمة  يكون كالسيف الصارم في كشوف الحقائق. فهو “القول الفصل وكلمة الصدق، ” بمثابة “سيف الله في أرضه”. وهو يصل فتوَّة المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، بنور سيف الشريعة المحمديَّة في آخر الزمان يقيم به العدل، يقول: “وضرب له (للمسيح) بسهم في الدورة المحمديَّة، وأن سهمه يصيب قرطاسها وعدله  يقيم قسطاسها”[158]  فيشير إلى نزول روحه في دمشق ، يكون كما يقول:

 

                         هناك سيفٌ للشريعة صارمٌ * بدعوة مهديٍّ وسنَّة مصطفى

                         فيقتل دجَّالاً يدحض باطلاً  *  ويهلك أعداء وينجو من اهتدى.[159]

 

رحلة الفتى قمر الروح “عيسى القلوب” من مقام “التمام” إلى مقام “كمال” الحمد.  

الملاميَّة، “أصحاب النومة العسلية” في أعلى هرم الفتوَّة:

وإن تمايزت في طريق الحق عند شيوخ التصوف والعرفان، ولا سيما عند ابن عربي، معاني العدم والمحو والمحق والسلب والفناء والغربة ومفارقة الأوطان، من جهة، ومعاني الوجود والإثبات والإيجاب ومحق المحق والبقاء والرجوع، من جهة أخرى، إلاَّ أن هذا التمايز يكون من حيث المعنى الخاصِّ بكلِّ مفهوم. تجتمع هذه المفاهيم تحت مفاهيم الحياة والموت والبعث، ولا يشكِّل الموت نهاية الحياة بل هو في الأصل الحدث المرجوُّ والذي ينتظره العارف بالله لما فيه من لقاء وشهود الله. فيتغنَّى بالموت، النخبة من شيوخ الصوفيَّة ممَّن يسميهم ابن عربي “بالأكابر”، “وبأعظم الرجال” أو “بالصنف العالي من رجال الله”، مشيراً إلى طبقة الملاميَّة الذين هم في اعتباره، حازوا أعلى درجات مقام الفتوة، ومنهم أبو السعود الذي كان يردد معجباً  بقول أبي تمام (تم ذكره):

 

وأثبت في مستنقع الموت رجله  *   وقال لها من دون أخمصك الحشر.

 

في هذا السياق، يؤكِّد الشيخ  قائلاً: “هكذا هو الرجل وإلاَّ فلا يدّعي أنه رجل”[160].  ويعجب بمواقف العرب لا يهابون الموت،  بل، وفي مواطن يستعذبونه، فيستذكر شيخنا قول الشاعر من بني ضبة:

 

          نحن بني ضبه إذا جد الوهل   *   الموت عندنا أحلى من العسل

                            نحن بنو الموت إذا الموت نزل  *  لا عـار بالـموت إذا حـل .

 

وينبِّه ابن عربي  إلى مقولة الشاعر إنه “يلتذُّ بالموت تلذُّذ  آكل العسل”، يعتبرها من دواعي النظر والاستبصار، يقول: محفِّزاً القارئ السالك: “هذه الإشارة فيها غنية لمن نظر واستبصر”[161].  فنستبصر في قمَّة الفتوَّة عنده يتجلَّى فيها  صنف الملاميَّة “أصحاب النومة العسليَّة”،  ممن حازوا وجازوا أسرار الحياة والموت، ويذكر الشيخ بما كان أبو السعود يقوله: “ما هي إلاَّ الصلوات الخمس وانتظار الموت”، ويستدرك منبّهاً ومعلّقاً على كلام أبي السعود، فيقول: “وتحت هذا الكلام علم كبير”[162] في إشارة إلى علم سر القضاء والقدر. يكون حال من حازه أنه “استراح”  “ومات قبل أن يموت”، فقامت عنده القيامة الصغرى وتم بعثه وعودته في مقام الثبوت في عين الحق، وهوما يسميه ابن عربي مقام “محق المحق”  مقامّاً محمديّاً.

تتلخَّص مرتبة الملاميَّة في أعلى درجات مقام الفتوَّة عند شيخنا الحاتمي، بكونها  نحراً لنفس وصلوات، و سعياً بين صفا ومروة، ورجمَ شيطانٍ عند عقبات، ومواقفَ، وازدلافاً، وشراء “حمد بحمد” يبقى مدى الدهر، مهراً لحسناء، غضة حوراء، كاعب بكر يصفها ابن عربي “بالكعبة الحسناء”[163] حيث يتحقَّق بما يمليه عليه “العلم القلمي الأعلى”[164]. عندها يكون التحقُّق بالحقيقة المحمديَّة، وتكون رؤية الله بمرآة محمد  “رؤية كماليَّة”. وإن كمال الشهر، والشهر رمز الإنسان الكامل عنده، لا يكون إلاَّ بسفر القمر، رمز الروح، بمنازله حتى يتمَّ بدره، ويجتمع  فتاؤه قوَّة وكرماً؛ فيتطلَّع  إلى محاقه يسير إليه ليتحقَّق في مقام الإيثار. في هذا السياق نقرأ مقولة ابن عربي: “وفاز القمر بالفتوة” . إذ لا يخوض المحاق إلاَّ من تسلَّح بسيف الإيثار والفتوة والكرم علماً وتحقُّقاً، لا جهلاً. فيشهد وحدة وجوده ويعلم أنَّ السيف والكرم والعلم طبيعة فتوَّته وفطرته. يحمد الله ويسلِّم لأمره مترقّياً في مقامات الحمد حتى يجتازها إلى المقام اليثربي “مقام لا مقام”، حيث جمعيَّة المقامات كلِّها، فيعرف أن حقيقة حمده هي حقيقته، وكعبة قلبه، وهي كتابه وقرآنه، وأنه كما يقول ابن عربي، لم يخرج في سفره عن نفسه. يعود الفتى متحقِّقاً في مقام الملاميَّة  محمديَّاً يمشي في الأسواق ويأكل القديد، متحقِّقاً في مقام النفس اللوَّامة مؤيَّداً بكتاب الله.

في هذا السياق يقول ابن عربي “وبقي الوحي فتوة”[165]. فنفهم لم ربط الفتوَّة بالنبوَّة، وجعلها نائبة لها بعد أن أغلق باب النبوَّة التشريعيَّة بشريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ــ بظهور شخصه في الزمان والمكان. فنفهم في هذا السياق، إشارته “وبقي الوحي الفتوَّة”، من حيث هو وحي نبوَّة وولاية، لا وحي تشريع. فرحلة الفتوَّة هي رحلة “التمام” إلى “الكمال”، يعتبرها من الآية الكريمة  *الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا*[166].

ولو تدبَّرنا ترتيب الحكم النبويَّة في كتاب ابن عربي “فصوص الحكم” الذي يوافق تركيبه الشهر القمري وعدد كلمات الفاتحة[167]، نجد أنَّ  ترتيب الحكمة النبويَّة العيسويَّة هو الحكمة الخامسة عشرة،  يوافق النهاية العظمى لليلة بدر التمام. وتأتي الحكمة المحمديَّة في الترتيب السابع والعشرين يوافق بداية فترة المحاق، وهي أيضاً في الاعتبار ليلة القدر من شهر رمضان. ولو تدبَّرنا أيضاً ما بين فتى الفتوحات المكيَّة “الفتى الفائت”  المسيح عيسى بن مريم ـــ عليه السلام ـــ، “وخير فتىً” الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، فتى “فصوص الحكم” الذي رآه في مبشرة، يناوله كتاب الفصوص[168]، لوجدنا  الرقم خمسمئة وستين ، يطابق  عدد أبواب الفتوحات التي هي في الاعتبار، للدارس المتخصص الطريق للفصوص. كما يمثل الرقم  560 بالإضافة لكونه سنة مولد ابن عربي نفسه ، فإنه في بعض الروايات يمثِّل عدد السنين ما بين أنبياء الله عيسى والرسول ـــ عليهما الصلاة والسلام  ـــ[169]. فما فاز القمر بالفتوَّة إلاَّ ليبقى الوحي فتوَّة. تحقق  الشيخ الحاتمي بالفتوة  وبالمقام المحمدي، وعاد مؤيَّداً بقوَّة القلم الإلهيِّ، يقول: “وإذا بالعلم القلمي الأعلى قد نزل بذاتي من منازله العلى راكباً على جواده، قائماً على ثلاث قوائم. فنكس رأسه إلى ذاتي، فانتشرت الأنوار والظلمات ونفث في روعي جميع الكائنات، ففتق أرضي وسمائي وأطلعني على جميع أسمائي”[170] . فإن  كان باب النبوَّة التشريعيَّة قد أغلق،  بشريعة الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ــ الخاتم، إلاَّ أن الله أبقى للخلق، كما يقول ابن عربي : “التنزُّل الروحاني بالعلم ليكونوا على بصيرة في دعائهم إلى الله”[171].

 

خلاصة :

تناولنا في هذه الورقة مفهوم الفتوَّة عند ابن عربي، سعياً وطوافاً  بين المجاز والحقيقة، والوحي والشرع، والإنباء والاعتبار. يلتقي مفهوم الفتوَّة، بما يحويه من مفاهيم مكارم الأخلاق، والقوَّة والفتاء، بمفاهيم النبوَّة والحكمة والعلم في مذهب الشيخ الأكبر، تعبر عن فطرة الإنسان وإيمانه. فهي صفة  الروح. يشير ابن عربي إلى “الفتى الروح” باعتباره، كما يقول: “القلب الحوّل الذي في كلِّ صورة يتحوَّل”، ذو”النسب الإلهيِّ الشريف والمنصب الكيانيِّ المنيف”، “يستدلُّ به على كرمه وفتوَّته”[172]. يتحقَّق السالك طالب العلم الإلهيِّ بفطرته مجدَّداً عهده مع الله، قبل أن يجوب الكون باحثاً عن الحكمة الإلهيَّة، معتبراً بأخبار الأمم والأنبياء. تمثّل قصَّة الفتوَّة عند ابن عربي، قصة رحلة الفتى الروح، يشبهه  بـ”قمر الصدق”، من التمام إلى الكمال، ومن قدس النفس إلى الحرم المكّيِّ، طلباً  للحكمة النبويَّة وللعلم الإلهيّْ.

تتميَّز قصة الفتوَّة بالذكورة والقوَّة والفروسيَّة، فإن محورها، وغايتها عند الشيخ الأكبر، وقد عرف أيضاً  بالحاتميِّ، هو مهر”الأنثى”، صاحبة “كنوز المعارف الإلهيَّة” والحكم النبويَّة،”الكعبة المشرَّفة”. يقدِّم الفتى طالب طريق علوم هذه الفتوح والكشوف، مهراً، براهين الفتوَّة من استعداد وتأسيس، مفاده التخلق بمكارم الأخلاق الإلهيَّة والقوَّة والحكمة؛ إذ لا يشارف كنوز الله في حماه، إلاَّ من هو كفؤاً لها. يدخل الفتى إلى حضرة الكعبة، يسمّيها ابن عربي “بالكعبة الحسناء” حيث يتحقَّق بما يمليه عليه “العلم القلمي الأعلى” من حقائق العلوم في مقام الحمد الجامع. في هذا السياق، نقرأ في عنوان كتاب الشيخ،  الفتوحات المكيَّة، الإشارة إلى فتح الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ـــ مكة ، وكان في السنة الثامنه للهجرة، توالت بعده الفتوحات الإسلاميّة وتلاحقت في مغارب الأرض ومشارقها. تأسّياً بالسيرة النبويَّة،  يطلب الفتى الحضرة المكيَّة ليفتح الله عليه علوم مشارق ومغارب قواه الروحانيَّة والحسّيَّة، معتبراً مشاقَّ الطريق، مهراً يقدّمه لهذه “الأنثى” العتيقة. وسنتناول خبر “الأنثى” في مذهب ابن عربي في كتاب قادم إن شاء الله؛ فقد أشار الشيخ إلى خبر “حديث الأنثى” من الحضرة المكيَّة، في مشهد مهيب، في مكاشفة قلبيَّة  تمثّل جوهر خطبة كتاب “الفتوحات المكيَّة”. وحرص على بيان تفصيل علوم هذا الحديث في باقي أبواب الكتاب، وفي مؤلَّفاته الأخرى.

 

 

الهوامش:

[1]– الفتوحات المكيَّة، في أربعة مجلَّدات، سنرمز إليها ب ف، ف.1، ص274 . وإذ نعتمد هذه النسخة من الفتوحات في أربعة مجلَّدات لا تفوتنا مراجعة النسخة التي حقَّقها عبد العزيز المنصوب في ثلاثة عشر مجلَّداً.

[2]– ف.1، ص. 114 .

[3]– ف.1، ص.47 .

[4]– ف.1، ص. 48 .

[5]– ف.2، ص. 606 .

[6]– ديوان ابن عربي، دار الكتب العلميَّة، بيروت  2002، ص. 18 .

[7]– ديوان ، ص. 282،  مطلع القصيدة “قل للذي اعتبر الوجود مثالاً”.

[8]– ديوان ، ص. 266

[9]– رسالة  الإتحاد الكوني في حضرة الإشهاد العيني، تم نشرها مرَّات عديدة ونجدها هنا ضمن مجموعة رسائل لابن عربي تحت عنوان الرسالة الوجوديَّة، بيروت، دار الكتب العلميَّة، 2004، ص. 243.

[10]– ديوان، ص. 41، وردت هذه القصيدة التي مطلعها “فأنا السر المسوى”، في رسالة الاتحاد الكوني في حضرة الإشهاد العيني. ، ص. 253 . من الواضح من مضمون القصيدة بداية، أن ابن عربي يشير بها إلى نفسه، كما يبينه Denis gril في مقدمة ترجمته للرسالة تحت عنوان

Ibn Arabi Le livre de l’Arbre et des Quatre Oiseaux, Paris,1984 rééd1988

ولكن ابن عربي يتوجَّه في آخر الرسالة بالحديث إلى شخص يفترض أنه حاضر في محيط ابن عربي، من مريديه وأصحابه، فيقول له : “فهذا يا صخر بن سنان قد أوضحت لك مقامات أمهات الأكوان…. فابحث فيها بحث العاقل الطالب نجاة نفسه “، فتبقى في نفوسنا بقيَّة، إذ إن ابن عربي  ينبه إلى أن الشخصيَّات التي يتكلَّم عنها في مؤلَّفاته من رجال ونساءٍ، كان قد لقيهم في الحقيقة.  ولا مانع أن يرمز ابن عربي إلى نفسه باسم صخر بن سنان، أو أن يوجه كلامه إلى شخص حاضر معه اسمه صخر بن سنان، و قد يكون هو الذي سمَّاه بصخر بن سنان تيمُّناً بما يمثله الاسم من معاني الفتوَّة والقوَّة والثبات. ويبقى شخص  صخر بن سنان غير محسوم أمره في هذه الرسالة، ولكن من المؤكَّد أنه يجسد مثال الفتوَّة في شجاعته وثباته أمام حد السنان عند الطعان.

[11]– لدراسة وافية لسيرة الشاعر تراجع مقدِّمة محقِّق ديوانه سجيع جميل الجبيلي، ديوان أمية بن أبي الصلت، بيروت، دار صادر، 1998

[12]– مطلع القصيدة “أاذكر حاجتي أم قد كفاني* حياؤك إن شيمتك الحياء، ديوان، ص. 18.

[13]– الأعراف: 172.

[14]– ف. 3، ص. 46.

[15]– ف.1، ص. 114.

[16]– ف.1، ص. 48 .

[17]– ف. 4، ص. 330 .

[18]– تعود معاني الاسوداد والسيادة في اللغة العربيَّة  إلى الجذر “سود”،  لسان العرب، وإن تناولت كتب الأدب موضوع اسوداد الحجر الأسود بعد أن كان أبيضَ علامة الخطايا، فإنه يحمل أيضاً معنى علامة السيادة، ولهذا الموضوع في عرفان ابن عربي خصوصيَّة، من حيث اعتباره في خروج آدم وهبوطه من الجنة كما يقول:”هبوط تشريف وتكريم” لا عقوبة لمعصية، يراجع الباب 313 من الفتوحات، كما يراجع الحديث الثاني والثلاثون في اسوداد الحجر الاسود من الباب 73في الحج وأسراره.  ويراجع ف. 4، ص. 349 .

[19]– صحيح مسلم، 1270، وقد ورد في كتب الحديث بصيغ أخرى.

[20]– ف. 1، ص.48 .

[21]– ديوان، ص. 22 .

[22]– عبد الكريم خليفة (شفوياً) ، ويقول ابن منظور في لسان العرب:”الجاهليَّة زمن الفترة ولا إسلام … وفي الحديث إنك امرؤ فيك جاهليَّة، هي الحال التي كانت عليه العرب قبل الإسلام  من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين والمفاخر بالأنساب ..”.

[23]– ف. 1، ص. 185 .

[24]– الإشارة إلى شخص خالد بن سنان بن غيث العبسي، من حكماء الجاهليَّة، أشار إليه الرسول ــ صلَّى الله عليه وسلَّم ــ  بقوله: “نبي أضاعه قومه” ، أخذ ابن عربي بالإشارة النبويَّة واعتمدها من باب الحكمة النبويَّة البرزخيَّة .

[25]– لا يمكن فهم مقاصد ابن عربي العرفانيَّة في أشعاره، إلاَّ بالرجوع إلى أساليب ومناهج الشعر العربيِّ الجاهليِّ يظهر أثرها عنده. تتَّضح خصوصاً في ديوانه “ترجمان الأشواق”، حيث نجد  الحديث عن العيس، وريح الصبا، والوقوف على الأطلال، وندبها. وأسلوب التوجه بالحديث إلى الشخص بصيغة المثنى “قفا” و”خليلي”،  وكثيرة هي الأمثلة توضح تأثُّر ابن عربي بالشعر العربيِّ الجاهليِّ، وكثيراً ما يضمن مؤلَّفاته  أبياتاً لشعراء لا يذكر أسماءهم، مفترضاً إلمام القارئ بالشعر العربي ودواوين شعرائه.

[26]– ديوان، ص. 68 .

[27]– كلود عداس، ابن عربي ، سيرته وفكره(مترجم)، بيروت، المدار الإسلامي، 2014، محمد الحاج يوسف، شمس المغرب، سيرة الشيخ الأكبر ومذهبه، حلب، فصلت للدراسات والترجمة والنشر،  2006.

[28]– ليلى خليفة، “الفتوَّة عند الأمير عبد القادر الجزائري: فتوحات ومواقف”، الجزائر، 2010 نشر ضمن أعمال  الملتقى الدولي الخامس للمركز الوطني للبحوث، تحت عنوان صولة الروح،  تنسيق وتقديم زعيم خنشلاوي.

[29]– يقول صاحب اللسان، الفتاء في اللُّغة هو الشباب، والفعل منه فتى يفتو فتاءً، فيقال فتيَّ السن، وفتيّاً. وأما الفتوَّة وهي من الجذر نفسه: فهي بمعنى السخاء والكرم والشجاعة والنجدة، والفعل تفتىً وتفاتى. ويقال فتى بيّن الفتوَّة. فالفتى هو من يجمع معاني الكرم والشجاعة، والقوة والحيويَّة التي تلازم معنى الفتاء بمعنى الشباب، حتى ولو لم يكن فتي السن، فقد يكون شباب ولا فتوَّة، وقد يكون شيخاً وصاحب فتوة.

[30]– انتشرت كتب الأدب بشكل واسع عبر قرون من الحضارة الإسلاميَّة العربيَّة نذكر على سبيل المثال لا الحصر” العقد  الفريد” لابن عبد ربه(328هـ)،  و”أمالي” القالي(356هـ) ونهاية الأرب” للنويري (733هـ) وغيرهم . تناولت هذه الكتب موضوعات مختلفة من مكارم الأخلاق والشعر والأدب والسيرة النبويَّة وحكم الأنبياء والتاريخ العام، على اعتبار أن هذه العلوم هي بمثابة متطلب الثقافة العامَّة، يجب أن يتحلَّى بها  طالب العلم، بل كل فرد يستطيع القراءة . وعلى غرار هذا المبدأ التربوي، ظهرت كتب تخصَّصت في آداب التصوُّف تشتمل على السيرة النبويَّة وكثير مما جاء في هذه اكتب بالإضافة إلى ذكر أحوال الأولياء وأقوالهم.

[31]– ف.4، ص. 357.

[32]– تناولنا موضوع الفتوَّة في العصر الجاهليِّ وفي صدر الإسلام  في  الباب  الثاني من كتابنا IbnArabi L’initiation à la Futuwwa, Beirout, 2001 بشكل تمهيدي لبيان وإيضاح أهميَّة  الخلفيّة التاريخيَّة لمفهوم الفتوَّة في تراث الأدب العربي عند الشيخ الأكبر.

[33]– حكم  الخليفة العباسي الناصر لدين الله خلال  خمسة عقود، وقد أخذ على عاتقه النهوض بدار الخلافة الإسلاميَّة في وقت كانت تشهد فيه ضعف وتدخُّلات خارجيَّة وداخليَّة. جدد خلال فترة خلافته مؤسَّسات الدولة، ونهض بها، واعتمد لهذه النهضة إحياء نظام الفتوَّة. نال  الخليفة الناصر اهتمام الباحثين، كان أولهم  مصطفى جواد (أطروحة الدكتوراه 1932) ، ولا يزال الاهتمام بالخليفة العباسي يثير اهتمام المتخصِّصين، باعتبار ما اعتمده من دعائم النهضة، يعتبر علامة فارقة في تاريخ الخلفاء والحكَّام. ومن أهم  الباحثين كانت الباحثة الألمانيَّة انجليكا هارتمان،  في كتابها الذي خصَّصته لسيرته ومساره في الحكم (1975).

An-Nasir li-Din Allah. Politik, Religion, Kultur in der späten Abbasidenzeit. (= Studien zur Sprache, Geschichte und Kultur des islamischen Orients. N.F. Band 8). Berlin/ New York 1975.

 

[34]– قدَّمه نظيف محرم خواجة، نشرته مطبعة كليَّة الآداب، جامعة استنابول 1973، وأعاد نشره  عاصم ابراهيم كيالي لدى دار الكتب العلميَّة، بيروت، 2005 .

[35]– ف. 1، ص. 173 .

[36]– ف. 3، ص. 243 .

[37]– ف. 3، ص. 246.

[38]– التأويلات النجميَّة في التفسير الإشاريِّ الصوفيِّ، بيروت، 2009، ج. 4، ص. 120. وكثيرة هي الأمثلة في تفسير فتية أهل الكهف في كتب التصوُّف، على سبيل المثال تراجع الرسالة القشيريَّة، بيروت 1990، ص.227، ولطائف المنن لابن عطاء الله، القاهرة، 1987، ص. 237.

[39]– ف. 4، ص. 357.

[40]– ف. 4، ص.357.

[41]– ف. 4، ص. 386.

[42]– ديوان، ص. 168.

[43]– منهم من الباحثين المتأخّرين على سبيل المثال لا الحصر، من فرنسا: علي ميشيل شودكيفتش، ومن الجزائر عبد الباقي مفتاح، ومن لبنان سعاد الحكيم، ومن أميركا وليام شيتيك، ومن تركيا محمود كلص. وغيرهم من إيران واليابان وأفريقيا. فمدرسة ابن عربي اليوم تتضمَّن متخصِّصين على صعيد عالمي.

[44]– ف. 1، ص. 31.

[45]– ديوان، ص58.

[46]– كانت الدراسة موضوع رسالتنا  لنيل درجة  الدكتوراه، تحت إشراف الأستاذ علي ميشيل شودكيفتش، نشرت بالفرنسيَّة تحت عنوان Ibn Arabi L’initiation à la Futuwwa ، دار البراق، بيروت، 2001.

[47]– ف. 3، ص. 246 .

[48]– ف. 1، ص. 170 .

[49]– آل عمران: 19 .

[50]– وقد تناولنا هذا الموضوع في دراستنا “الشريعة عند ابن عربي، غيب ظاهر وأسرار إلهيَّة ورحانيَّة كونيَّة حسّيَّة” نشرت في “ما وراء النص” تنسيق وتقديم زعيم خنشلاوي، وزارة الثقافة، الجزائر، 2008.

[51]– سورة الذاريات: الآية 56 .

[52]– تنزل الأملاك من عالم الأرواح إلى عالم الأفلاك، دار الكتب العلميَّة، بيروت، 2000، ص. 21 .

[53]– إشارة إلى نبي الله موسى عليه السلام حين فرَّ هارباً من “جهل” ملأ فرعون ، انظر ف. 4، ص ص. 357-358.

[54]– القلم : 1-4.

[55]– ف.4، ص. 140.

[56]– قد لا يجانبنا الصواب إن وصفناه بالتقني، وفقاً لمعايير العلم الحديث.

[57]– النجم : 29، 30، ف. 3، ص. 242 .

[58]– ف. 4، ص. 222.

[59]– ف. 3 ، ص. 244.

[60]– ف. 4، ص. 309.

[61]– ورد في الحديث “إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاَّ العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلاَّ أهل الغرة بالله” وإن كان ضعيف السند فهو صحيح المعنى عند علماء الصوفيَّة، ذكره أبوحامد الغزالي في كتابه “مشكاة الأنوار”، وأبو طالب المكي في “قوت القلوب” والسلمي وغيرهم واعتمده ابن عربي.

[62]– وإن يستخدم ابن عربي في أماكن أخرى مصطلح العلم المكنون يكون للعلماء، فإنه بالتحديد يقصد ما هو “كهيئة المكنون” ويؤكد ذلك، قوله في هذا السياق:”فجعله كهيئة المكنون وما جعله مكنوناً، إذ  لو كان مكنوناً لانفرد به تعالى”.  ف.3، ص. 244

[63]– ف. 3 ، ص. 244 .

[64]– الباب الستون من كتاب الفتوحات، ف . 1، ص. 322 .

[65]– ف.1، ص. 244 .

[66]– أحمد بن أبي بكر أبو السعود، عرف بابن الشبل الحريمي، توفي582هـ، ذكره ابن الذهبي (ت748هـ)في كتابه  “المختصر المحتاج إليه من تأريخ الحافظ  ابن الدبيثي”، ويعتبره ابن عربي من “الصنف العالي من الرجال”، الذين حازوا أعلى درجات الفتوَّة والملاميَّة. ف.1، ص. 188، ف.2، ص. 370

[67]–  صاحب ديوان الحماسة، كان ينتسب إلى قبيلة طي التي ينتمي إليها ابن عربي نفسه ، الذي عرف أيضاً بالحاتمي الطائي.

[68]– القصيده مطلعها:”كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر”. وفي بعض النسخ جاء بيت الشعر ” وقال لها من تحت أخمصك الحشر”، ويعتمد ابن عربي “من دون أخمصك”، ف.2، ص. 371

[69]– ديوان ، ص.296

[70]– ديوان.

[71]– ديوان، ص. 360 .

[72]– ف.1، ص.274 .

[73]– ف.1، ص.276 .

[74]– ف.1، ص.275 .

[75]– ف.1، ص.276 .

[76]– ف.1، ص. 276.

[77]– ف. 3، ص. 110.

[78]– ف. 3، ص. 110.

[79]– ديوان، ص. 297.

[80]– ف.4، ص. 244.

[81]– شرح  عبد الغني النابلس مسألة وحدة الوجود بأسلوب واضح ومبسط في كتابه “الوجود الحق والخطاب الصدق” ، حققه بكري علاء الدين، نشره المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربيَّة، دمشق، 1995 .

[82]– الأنفال: 17 .

[83]– رسالة لا يعول عليه، في رسائل ابن عربي، دار الكتب العلميَّة، بيروت 2007 ، ص.196.

[84]– ديوان، ص. 33

[85]– ف. 4، ص. 357

[86]– أخته أم المؤمنين، أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تزوجها الرسول ــ صلَّى الله عليه وسلَّم ــ في السنة السابعة للهجرة. وباعتبارها رضي الله عنها ــ “أم المؤمنين” ، عُرف معاوية “بخال المؤمنين”.

[87]– ف. 1، ص. 119.

[88]– ف. 1، ص. 518 .

[89]– ف. 1، ص. 2.

[90]– أخذ متخصّصون بعلم الحديث بهذين الحديثين على اعتبار ثقة سندهما، وجعلهما آخرون من الأحاديث الموضوعة، إلاَّ أنهما اعتبرا من باب المستحسن في التراث، وقد اعتمدهما ابن عربي، فأشار إلى حديث “لا فتى” في الفتوحات ف.4، 357 . كما أنه أشار إلى حديث “أنا مدينة العلم” في كتابه الإسراء إلى المقام الأسرى، أو كتاب المعراج، تحقيق سعاد الحكيم، بيروت، دندرة للطباعة والنشر،1988ص.112.

[91]– ف. 4، ص.78، في الباب 463 من الفتوحات، تحت عنوان “في معرفة الاثنى عشر قطباً الذي يدور عليهم عالم زمانهم”.

[92]– ف. 4، ص. 298.

[93]– ف. 1، ص. 469.

[94]– ف. 3، ص. 322.

[95] – يذكر ابن عربي الأسم المتكلّم والقائل في نصوصه ولكنه لم يوردهما في في الباب  585 المخصَّص لقائمة حضرات الأسماء الإلهيَّة.

[96]– ف. 1، ص. 100.

[97]– ف. 1، ص. 323.

[98]– ف. 4، ص. 400.

[99]– Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints , Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn Arabi, Paris, Gallimard, 1986, réd. 2012, p. 18,146, 240 n. 27.

[100]– سورة الكهف: الآية 60.

[101]– ديوان، ص. 29.

[102]– ف. 4 ، ص. 403.

[103]– ف. 2 ، ص.232.

[104]– الأعراف :172.

[105]– ف. 4، ص. 335.

[106]– ف. 4، ص. 178.

[107]ف. 4، ص. 61.

[108]– ف. 4، ص. 178 .

[109]– ديوان، ص.168.

[110]– نجد الرواية بتصرَّف في كتب الأدب عامة، وفي كتب آداب التصوُّف، وقد وردت في رسالة الملامتيَّة، لأبي عبد الرحمن السلمي، في الملامتيَّة والصوفيَّة وأهل الفتوَّة، أبو العلاء عفيفي، منشورات الجمل، بيروت، بغداد، 2015،  ص 98.

[111]– ف.1، ص. 146.

[112]– ف.1، ص.146.

[113]– إن فهم واستيعاب الحقيقة المحمديَّة، يعد من أهم مفاتيح فهم مذهب ابن عربي. وإننا لا نستنكف عن التذكير بمفهوم الحقيقة المحمديَّة، في كلِّ مناسبة. يفصل ابن عربي شرح هذا المفهوم في مؤلفاته، ولا سيما في الباب الثاني عشر من الفتوحات المكيَّة بعنوان “في معرفة دورة فلك سيدنا محمد ـــ صلى اللع عليه وسلم ـــ وهي دورة السيادة وأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله تعالى” ف.1، ص. ص. 143ــ 146، وأيضا ً في الجواب على السؤال الأول من الباب الثالث والسبعين من الفتوحات، ف.2، ص.40، والسؤال الرابع والخمسين ومئة ف.2، ص.134.

[114]– ف. 1، ص. 666.

[115]– ديوان، ص. 10.

[116]– ديوان، ص. 280.

[117]– ف.  4 ص 433 .

[118]– ديوان، ص.314 .

[119]– ديوان، ص. 135 .

[120]– ف. 1، ص. 241 .

[121]– ديوان، ص. 284 . وقد تناولنا مسألة تأويل مفاهيم “العربيَّة” “الأعجميَّة” عند ابن عربي، في ورقتنا الأولى من كتابنا ورقات أكبريَّة .

[122]– ديوان، ص. 314.

[123]– ينظم ابن عربي بهذا المعنى، فيقول: “دخلت جنة عدن كي أرى أثراٌ * فقيل ليس جناهم غير ما غرسوا”. ديوان، ص. 358.

[124]– ديوان، ص. 314.

[125]– ديوان، ص. 33.

[126]– ديوان ، ص, 231.

[127]– ديوان ، ص. 293.

[128]– ديوان، ص.413.

[129]– ف.1،  ص. 513 .

[130]– ف.4، ص. 178 .

[131]– ف.1، ص. 146 .

[132]– تناولنا مسألة لقاء ابن رشد وابن عربي، وما دار بينهما من حديث بالرمز والإشارة، في الورقة الخاتمة لكتابنا ورقات أكبريَّة، تحت عنوان “الفتوح الإلهي في مجمع بحري نعم ولا، اجتهاد العقل وجهاد النفس، علوم الدنيا وعرفان الآخرة في مذهب بن عربي”.

[133]– ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، دار الكتب العلميَّة، بيروت 2000، ص. 18 .

[134]– رسالة لا يعول عليه، ص. 198 .

[135]– ف.2، ص. 690 .

[136]– ف.1، ص. 276 .

[137]– ف.1، ص.ص. 274ــ275 .

[138]– ولا يمكن اعتبار ذلك هفوة من الشيخ، فأولاً، لا يتأتى ذلك من متمكّن من اللغة والحضارة العربيَّة مثله. وثانياً، إنه يردِّده في أكثر من مكان مما يدلُّ على سابق تصميم بإبراز المثل معكوساً، وإن المعنى الذي يريد إيصاله بفعله هذا، واضح.

[139]– ف.1، ص. 275 .

[140]– ف. 1، ص. 47 .

[141]– سورة النساء: الآية171 .

[142]– Ibn Arabi L’initiation à la Futuww، ص ص. 226-230 .

[143]– ف. 1، ص. 48 .

[144]– الإسراء إلى المقام الأسرى ص. ص. 57ــ 81.

[145]– أفرد ابن عربي لهذه المملكة الإنسانيَّة، كتاباً سمَّاه: التدبيرات الإلهيَّة في إصلاح المملكة الإنسانيَّة، نشرته مؤسَّسات عديدة.

[146]– وقد شرحنا معاني البيعة وعهد فطرة “بلى”، عند ابن عربي في الورقة الثانية من كتابنا ورقات أكبريَّة، تحت عنوان : دلالات معاني “البيعة” “والعهد” في إطار مفاهيم نظريَّات الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، والعصمة والابتلاء.

[147]– ديوان، ص. 47.

[148]– فصوص الحكم، تحقيق أبرار أحمد شاهي وعبد العزيز المنصوب، شركة القدس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016 ص. 144

[149]– ف. 4، ص. 291 .

[150]– ف. 3، ص. 246 .

[151]– ديوان، ص. 361 .

[152]– ديوان، ص. 68 .

[153]– الصوفيَّة، هم في الاعتبار عند ابن عربي، كما يقول: ” أضياف الله”، يسافرون إليه وينزلون في حماه، فيحق لهم ما يحق للضيف عند العرب من القرى، رمز العلوم  والأحوال والمعارف الإلهيَّة.

[154]– ديوان، ص. 116 .

[155]– ديوان، ص. 361 .

[156]– ف.3، ص. 111 .

[157]– ديوان، ص. 230 .

[158]– الإسراء إلى المقام الأسرى، ص. 82. تشرح سعاد الحكيم معنى القرطاس هنا الغرض.

[159]– ديوان، ص. 65 .

 [160]- ف.2، ص. 371 .

[161]– ف4، ص ص.290- 291 .

[162]– ف.1، ص.188 .

[163]– قصيدة ابن عربي في خطبة الفتوحات، مطلعها: لما انتهى للكعبة الحسناء * جسمي وحصل رتبة الأمناء. ف.1، ص.6 .

[164]– ف. 1، ص. 51.

[165]– ف.4، ص. 395

[166]– سورة المائدة: الآية 3

[167]– وقد بينا هذا التناسب في  ورقتنا ” خطاب القونوي بين التأثر بخطاب ابن عربي والتمايز عنه، الفكوك والفصوص أنموذجاً، ألقي بمناسبة المؤتمر العالمي لصدر الدين القونوين، ونشر ضمن أعمال المؤتمر في قونيا، 2008 منشورات MEBKAM تنسيق Dilaver Gurer وترجم هذا البحث إلى اللُّغة الإنكليزيَّة ونشر في مجلة   Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society,V49  2011

[168]– يقول ابن عربي في  مقدّمة كتابه فصوص الحكم، إنه رأى رسول الله ـــ صلَّى الله عليه وسلَّم ـــ، في مبشرة وبيده كتاب الفصوص، وطلب منه أن يأخذه ويخرج به إلى الناس. فامتثل ابن عربي لأوامر سيده قائلاً “السمع والطاعة” وأخرجه للناس.

[169]– جاءت هذه الروايات “نقلاً عن قتادة” في معظم كتب التفسير في سياق تفسير الآية الكريمة *على فترة من الرسل*المائدة: 19، يراجع مثلاً تفسير ابن كثير، والطبري.

[170]– ف.1، ص. 51

[171]– ف.2، ص. 569

[172]– ف.4، ص.328 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى