الدراسات والبحوث

الثورة العرفانيَّة وسياسة الجهاد الأعظم

 

 الثورة العرفانيَّة وسياسة الجهاد الأعظم

(اختبارات الأمـيـر عبد الـقـادر الـجزائري نموذجًا)

د. محمود حيدر*

* مفكِّر وباحث في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان.

 

تمهيد:

مسعانا استجلاء مقام الجهاد الأعظم بوصفه تمثيلًا للعرفان السياسيِّ في الإحياء الحضاريِّ والتحرُّر الوطنيّْ. وقد وجدنا في السيرة التاريخيَّة للعارف بالله الأمير عبد القادري الجزائريِّ الحسنيِّ شاهدًا على الوصل الوطيد بين النَّظر والعمل في التجارب العرفانيَّة. فقد وقف الجزائريُّ على موارد التصوُّف الإسلاميِّ منذ بداياتها، وأحاط بأبرز شواهدها، من الحسن البصريِّ، إلى أبي يزيد البسطاميِّ ومحمد بن عبد الجبار النِّفَّريِّ، إلى أبي حامد الغزاليِّ وعبد الكريم الجيليِّ والعارف بالله الشيخ محمد الفاسيِّ، وصولًا إلى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الذي ألمح الأمير إلى مُريديَّته له في أكثر من مطرح ومناسبة. لكن العرفان العمليَّ كتجلٍ أعلى لتجربته الدينيَّة، سوف يدخله ضمن حيِّز مخصوص ظهر فيه التصوُّف السياسيُّ عنوانًا بيِّنًا لتلك التجربة.

 

  • منهج الأمير في العرفان السياسيّْ:

تآلَّفت مرجعيَّة الِّلقاء بين العرفان والسياسة عند الأمير عبد القادر ضمن أربعة أحياز معرفيَّة، هي: العلم الشرعيُّ، والعلم البرهانيُّ، وعلم العرفان، وعلم الحرب والجهاد. وتعود كذلك إلى فهمٍ للدِّين قوامه وحدة الشريعة والطريقة والحقيقة. والسيد الأمير مثل سواه من العرفاء الواصلين، رأى أن ما تظهره الشريعة من أحكام هو عين حقيقتها الباطنة. فلقد أنجز طور الجهاد الأصغر في سياق حرب التحرير التي قادها ضدَّ الاحتلال الفرنسيِّ، ونجح في تقديم نموذجه في الحكم بعد اتفاقيَّة الهدنة في العام 1834م.

وما من شكٍّ في أنَّ الأطوار الجهاديَّة التي قطعها الأمير في خلال اختباراته تؤلِّف وحدة تطبيقيَّة في المسار التاريخيِّ للتدبير السياسيِّ، ذلك أنَّ الجهاد الأعظم كطور أخير من سفر العارف، هو المعادل للسفر الرابع الذي أقام صدر الدين الشيرازيُّ بنيانه المعرفيّْ[1] الموصل إلى مقام الولاية. فالجهاد الأعظم بهذه المنزلة هو جهاد المتَّصلين والداخلين في سلسلة الحقيقة المحمديَّة السارية في التاريخ البشريّْ. وقد مرَّ معنا بيان صفاتهم وأعمالهم والأسفار التي يقطعونها للوصول إلى مقام الولاية. وهم الأنبياء والرُّسل والأوصياء والأئمَّة والأولياء. وأهل الجهاد الأعظم هم أهل الجمع بعد الفرقة، وأهل الوحدة بعد الكثرة. إلَّا أنه لا مناص لهم من الرجوع إلى الكثرة بالرحمانيَّة والاعتناء والإيثار والحب.. ولذا تراهم وقد ربط الحقُّ تعالى على قلوبهم باللُّطف والتسديد والتأييد، يؤدّون ما وجب عليهم من تكليفات في الواجب والنافل في سيريَّة الصعود والترقّي في السلوك والوصول. فهم ينجزون الجهاد الأصغر ويعيشون جهاد النفس المسمَّى بالجهاد الأكبر، ثمَّ يواصلون المجاهَدة بالنَّظر والعمل والتخلُّق قربًا إلى الله تعالى ليفيض عليهم بالولاية جزاء لهم بما عملوا وأحسنوا.

“الجهاد الأعظم” الذي ارتسمت علاماته مع الجهادين الأصغر والأكبر الَّلذين بدأهما الأمير عبد القادر في وقت مبكر من حياته، سوف ينمو ويتطوَّر في سياق حركة جوهريَّة بلغت منتهاها إلى الولاية. ولسوف يظهر لنا لو عاينَّا اختباراته الروحيَّة، كيف أنَّ السياسة عنده تنتسب إلى منهج الأنبياء والأولياء المكلَّفين بإنجاز رسالة الوحي.

تؤلِّف الأطوار الجهاديَّة الثلاثة عنده خلاصة الأركان التأسيسيَّة لتصوُّفه السياسيِّ. ولعلَّ من يفلح بالجهاد الأعظم هو العائد بنَسَبِه المعنويِّ إلى الأنبياء والأولياء كما ذكرنا، هو الذي تنظر إليه الميتافيزيقا باعتباره شخصاً متلقِّيًا للإلهام الإلهيِّ عن طريق العقل الفعَّال. وهو ما يشير إليه في غير مناسبة حين يتحدَّث عن صفات القطب الصوفيِّ ومزاياه [2]. وتبعًا لهذه الرؤية، فإنَّ الإنسان الذي يحلُّ فيه العقل الفعَّال إمَّا أن يكون فيلسوفًا حكيمًا، وإمَّا أن تجتمع لديه الحكمة المسدَّدة بالفيض الإلهيِّ. وهذا الإنسان الأخير هو الذي يقف على كلِّ فعل يمكن أن يبلغ به السعادة في أرجاء المدينة الإلهيَّة الفاضلة.

بانتسابه إلى ميدان التصوُّف العمليِّ، تعامل الأمير عبد القادر مع المصطلح الصوفيِّ وفقًا لمقاصد الشريعة وحقائقها، لا كما ورد في ظاهر لفظ مما تقدَّم من تقريرات لبعض فقهاء التصوُّف. فالزُّهد عنده عيش وفهم، وهو لا يعني عدم ذات اليد، وإنما هو حال يعبِّر عنه بما تقرَّر من الوقوف مع التعبُّد بالأسباب، وبالتالي من غير مراعاة للمسبِّبات التفاتًا إليها في الأسباب[3]. فالزهد بهذا الاعتبار وقوف عند مقتضى التعبُّد أمرًا ونهيًا، باعتبار الأوامر والنواهي أسبابًا شرعيَّة من دون النظر في ما يتسبَّب به من نيل الثواب أو حصول العقاب. لذا يغدو الزهد – بهذه المثابة من العيش والفهم – عبادة الله وإخلاص الطاعة له لذاته ومع خلقه، لا رغبة في جنَّته، ولا رهبة من عقابه، وحبًّا له من أجل أحقِّيَّته بالعبادة. وهذه العبادة لا تحكمها الرَّغبة وهي خالية من الحظوظ الدنيويَّة ومخلصة للتوحيد، لأنَّ المكلَّف هو من لبَّى الأمر والنهي في السبب، من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي الخارج عن حظوظه، فالزاهد على النحو قائم بحقوق ربِّه، واقفٌ موقف العبوديَّة بخلاف ما إذا التفت إلى المسبِّب وراعاه[4].

إذا كان المؤرِّخون ينصرفون في العادة إلى بحث كلِّ تجربة روحيَّة تبعًا للمراحل الزمنيَّة التي تحكم السيرة الذاتية لصاحب التجربة، فلا يعني هذا بالضرورة أن تجري أحواله ومقاماته مجرى الترتيبات المنهجيَّة الصارمة التي يقرِّرونها. فالاختبارات الذاتيَّة التي يعيشها السالك لها منطقها الداخليُّ الخاصُّ، إذ إنَّ كلَّ خطوة يخطوها نحو غايته تنطوي على جوهر الغاية نفسها. بل إنَّ تلك الغاية هي التي قد تجذبه إليها وتشمله بلطفها وعنايتها وتدبيرها. ولذلك قد تتكثَّف مراحل سفره نحو الحقِّ تعالى في لحظة واحدة لتختزل جميع المراحل التي على السالك أن ينجزها واحدة تلو الأخرى لكي يصل إلى مبتغاه. فلو كان  صادقًا في ما يسلك، ومصدِّقًا لما يسلك إليه، لحلَّت عليه الخواطر الرحمانيَّة فتلقَّاها على حسب استعداده لها بالصبر والمجاهدة والانتباه، فلا يغادره اليقين بأنَّ ما يأتيه من رزق معنويٍّ فهو من الحقِّ، وأنَّه تعالى قد منَّ به عليه لاستحقاقه له. ولما كان لسير السالك منطِقُه الخاص، المناسب لقابليَّته واستعداده، صحَّ أن لكلِّ سالك طريقه الخاص إلى الحقّْ. وللأمير عبد القادر في هذا الصدد كلام ورد في سياق تعليقه على ما جاء في كتاب “الحِكم العطائيَّة” للمتصوف الكبير ابن عطاء الله الإسكندري أنَّه: “لولا ميادين النفوس ما تحقَّق سير السائرين”. يقول: ولا يتوهَّم متوهِّم أنَّ السالك سائر إلى الله مسافة محسوسة، وأنَّ الوصول إلى الله وصول محسوس. فإنَّ هذا وهْمٌ باطلٌ وجهلٌ عاطلٌ، لأنَّ من هو أقرب للإنسان من حبل الوريد، كيف يتوهَّم السير والوصول إليه؟ لا مسافة بينك وبينه تقطعها رحلتك، فلا يصحُّ إطلاق السير إلى الله تعالى إلَّا بنوع من المجاز[5]. أمَّا ما يعبر عن السير الداخليِّ ويظهر بين حين وحين فتقول الصوفيَّة إنَّه يتمُّ للسالك بالخواطر. والخواطر أربعة حسب القطب العارف الشيخ أحمد النقشبندي، أوَّلها الربَّاني. وهو مصيب أبدًا، وبه تكون الفراسة للمؤمن الكامل والمكاشفة عند السالك الصادق.

والخاطر الربَّاني يردُ على القلب بأحوال ثلاثة:

فإذا ورد بالجلال يمحق ويُفني.

وإذا ورد بالجمال يثبُت ويُبقي.

وإذا ورد بالكمال يُصلح ويَهدي.

ثمَّ إنَّ الوارد الربَّاني الذي يختصُّ بالأولياء، ويبلغ منازل المقربين، ويُكَاشِفُ من اختصه الحقُّ بعلوم الأوَّلين والآخرين[6].

اختبارات الأمير عبد القادر كما تبيِّن سيرته الذاتيَّة وكتاباته في التصوُّف النظريِّ، جرت مجرى الوحدة بين الشريعة والعمل، حيث تداخلت عناصر السيرة في وعاء واحد، فكان رفيقًا لكتاب الله منذ الطفولة، فحفظه في القلب حتى بلغ الفؤاد، وكان رفيقًا للجهاد حتى صار له طريقة يستعين بها لقطع الأطوار الصوفيَّة الأربعة، وصولًا إلى مرتبة الوليِّ المؤتمَن على سرِّ الحقِّ في الخلق.

أمَّا الأطوار الأربعة، كما يذكرها مؤرِّخو سيرته، فهي على الوجه التالي[7]:

 الطور الأوَّل: التلقُّن والتعلُّم والمطالعة (1807 – 1830م):

تمتدُّ هذه المرحلة من ولادة الأمير في القيطنة عام 1807 م، إلى تاريخ نزول الفرنسيين أرض الجزائر عام 1830م. ويبدو أنَّ أهم فترة زمنيَّة في هذه المرحلة هي الفترة الممتدَّة بين عامي 1825 و1828م. وهي فترة الرحلة المشرقيَّة التي سافر فيها مع والده لأداء فريضة الحجِّ، فأتاحت له فرصة الاطِّلاع عن كثب على الطرق الصوفيَّة وخصوصًا النقشبنديَّة والقادريَّة.

        الطور الثاني: الفتوَّة والمُرابَطة (1830-1848م):

على ما هو مبيَّن في الحكاية التاريخيَّة، يرتبط بالصوفيَّة ولا سيَّما منها المغاربيَّة حركتان: حركة الفتوَّة وحركة المُرابَطة.

تعني الفتوَّة في الإسلام الصفح عن زلَّات الناس، والتماس المعاذير لهم، واستخدام الفتى قوَّته وشجاعته في نصرة الضعفاء من المظلومين والفقراء والأيتام والعاجزين، وأن يعتبر أن ليس له في الناس عدوٌّ، ولكن جهلاء وضالُّون يجب تعليمهم وهدايتهم..

أمَّا المرابطة فتعني الاجتماع في الثغور للدفاع عن تخوم الدولة الإسلاميَّة. وعلى هذا النحو جرت حروب الأمير عبد القادر ومرابطته في الثغور ضدَّ الفرنسيين ضمن المرحلة التاريخيَّة الثانية من مراحل حياته الصوفيَّة.

الطور الثالث: التأمُّل والتفكير (1848-1852م):

وهو الطور الذي وقع فيه أسيرًا في أمبواز، ودخل في خلوة أتاحت له – لأول مرَّة في حياته – التأمُّل والتفكير الروحانيَّ العميق. فكان يقضي أوقاته منشغلًا بالذِّكر والدعاء “وكانت ترِدُ عليه الواردات في الوقائع، مشيرة وآمرة بالصبر. لذا اشتغل في أثناء خلوته هذه بالدعاء والتضرُّع وكشف الرأس”.

الطور الرابع: النضج والتعبير ومقام الولاية (1853-1883):

بدأ الأمير عبد القادر حياته بالجهاد، وختَمَها في هذه المرحلة الصوفيَّة الرابعة والأخيرة بالجهاد الأعظم.

تُعتبَر هذه المرحلة أغنى مراحل تصوُّفه من ناحية النتاج الأدبيِّ والفكريِّ، ففي هذه المرحلة تم له الفتح العظيم، وكان ذلك في خلوته الصوفيَّة الشهيرة، إذ أقام في مكة والمدينة سنة ونصفًا (1863-1864م) مقبلًا على العبادة والخلوة، والتقى فيها بالشيخ العارف بالله محمد الفاسي رئيس الطريقة الشاذليَّة. فتتلمذ عليه، وأخذ عنه الطريقة، ولازم الرياضة والاجتهاد، وعكَفَ على الأذكار والأوراد، إلى أن ارتقى في معارج الأسرار الإلهيَّة. “وما تمَّ له الارتقاء إلَّا في غار حراء حيث انقطع فيه أيامًا عديدة، إلى أن جاءته البشرى ووقَعَ له الفتح النورانيُّ، وانفتحَ له باب الواردات. واستظهر من القرآن العظيم آيات، ومن الحديث النبويِّ، أحاديث صحيحة”[8].

وقد أشار الأمير إلى هذا الفتح الربَّاني في الموقف الأول من كتاب “المواقف” حين قال: “إنَّ الله تعالى قد عوَّدني أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشِّرني أو يحذِّرني أو يعلِّمني علمًا أو يفتيَني في أمر استفتيته فيه إلَّا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إليَّ ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردَّني إلي، فأرجع بالآية قرير العين (…) وقد تلقَّيت والمنَّة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذه الطريق”[9].

الانعطافة الكبرى في سيرة الأمير عبد القادر تمثَّلت في تعرُّضه لاختبار روحيٍّ عميق في أثناء حجِّه إلى بيت الله الحرام عام 1825 م. هذه الانعطافة المعنويَّة نميل إلى الاصطلاح على تسميتها بـ “الحادث الصوفيِّ”، أو ما يسمِّيه العرفاء بـ “الوارد الإلهيِّ” الذي هو قوَّة شوق أو اشتياق أو محبَّة يخلقها الله في قلب العبد، وقد تنشأ من قوَّة أو ضعف أو هيبة أو جلال، فتدفعه تلك القوَّة إلى النهوض نحو مولاه، فيخرج من عوائده وشهواته وهواه ويرحل إلى معرفة ربه ورضاه. ويسمَّى الوارد، أو الحادث الصوفيُّ، بالنفحة كما في قول النبيِّ: “إنَّ لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرَّضوا لنفحاته”[10].

والمتنبِّهون من السالكين يدركون من فورهم أن ما تعرَّضوا له من الحادث، إنما هو عطاء إلهيٌّ ينبغي حفظه والثبات عليه، وجعله نقطة ولادة جديدة في حياتهم. ومتى وردت النفحات الإلهيَّة على السالك وتلقَّاها على حسن الاستقبال، فإنَّها تهدم ما كان فيه من شوائب وأدران ومعاصٍ، وتكون النتيجة أن تردَّ عزَّه ذلًّاّ، وغناه فقرًا، وجاهه خمولًا، ورئاسته تواضعًا وحنوًّا، وكلامه صمتًا، ولذيذ طعامه خشِنًا، وشبعه جوعًا، وقراره في وطنه سياحة وسفرًا. هكذا شأن الوارد الإلهيِّ كما يصفه المحقِّقون – فهو يخرِّب العوائد ويهدمها. وهو كملكٍ جبَّار ذي جيش طغاة كلَّما دخل قرية أو مدينة أفسد بناءها وغيَّر عوائدها، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَة أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}[11].

“الحادث الصوفيُّ” أمر لا مناص منه لكلِّ مسافر إلى الحقِّ، فمن لم يسعفه حظُّ ذلك الحادث لن يقوى على السفر، ولن يفلح بالوصول إلى غايته القصوى.  ولو ظنَّ أنه بلغ ما بلغه الواصلون فلا يتعدَّى ما وصل إليه حدود الظنِّ. فإنَّما الحادث الصوفيُّ هو إشارة إلهيَّة بالسفر في معارج الحقيقة. ولأنَّ لكلٍّ سفره الخاصَّ فإنَّ الاستعدادات المعنويَّة تختلف بين مسافر وآخر، وسلوك كلِّ سالكٍ في مدراج الترقّي أمر يتناسب تناسبًا طرديًّا مع ذاته هو. إذ لا يرقى عارف بسلَّم غيره، من دون أن يعني ذلك إفادة هذا العارف أو ذاك ممن منَّ الله به عليهم من علوم الحكمة والمعارف الكشفيَّة. بعبارة أخرى، كلُّ إنسان هو في ذاته طريق إلى الله تعالى. من هنا قيل إنَّ الوصول إلى الخالق هو بعدد أنفاس الخلائق، ذلك أنَّ الطرق إليه تعالى إنما هي كمثل السالكين إليه، تتعدَّد وتختلف.. وهذا هو السبب في تعدُّد التجلّيات الإلهيَّة وتنوُّعها، ولكن رغم تعدُّد السبل واختلافها تبقى الحقيقة واحدة فريدة. ومع أنَّ طريق الحقِّ واحد – كما يقول ابن عربي-  فإنَّ وجوهه تختلف باختلاف أحوال سالكيه من اعتدال المزاج والخرافة.. فقد يكون مطلب الروحانيَّة شريفًا ولا يساعده المزاج”[12].

ليس علينا أن نطلب البرهان من الأمير على ما أوتي من القرآن، بل سيكون لنا أن نمضي معه وهو يفصح عما بلغه من حقائق الكلام الإلهيِّ. فلا برهان على الكشف خارج نفس المكشوف له. فإنما هو(الكشف) لمح داخلي يحل في الصدر يتلقَّاه السالك ويطمئنُّ إليه. ثم إذا وُفِّق بحفظه وصدقه ابتنى عليه هجرته إلى المصدر الأول. ولهذا مراحل وأطوار وأسفار وشرائط شتَّى. والأمير في إعرابه عن الفتح الربَّاني الذي جاءه في غار حِراء، يساوق مدَّعى الشيخ الأكبر ابن عربي لمَّا صرح في مستهلِّ كتابه المرجعيِّ “فصوص الحكم” بأنَّ تأليفه للكتاب تمَّ  في ليلة من ليالي دمشق حين رأى النبيَّ في الرؤيا وسلَّمه كتابًا وقال له: “هذا كتاب “فصوص الحكم” خذه واخرج إلى الناس ينتفعون به”[13].

الأمر نفسه نجده في ما ورد عن أكابر الصوفيَّة من العرفاء الواصلين حين أرادوا تظهير اختباراتهم الروحيَّة. فالإنسان الكامل الذي شهد الحقائق القرآنيَّة بفضل ما أنجزه من أسفار في تدبُّر الوحي، تتَّسع لديه قابليَّة التلقِّي، وتصفو نفسه إلى الحدِّ الذي يفاض عليها بمقدار سعيها وسِعَتها. ذاك أنَّ السالك في سيره التكامليِّ يبلغ مبلغًا تنزل فيه على قلبه حقيقة القرآن كنزولها على قلب النبيِّ، مع تمييز ضروريٍّ من ابن عربي يتصل اتصالًا دقيقًا بما بين الشريعة والحقيقة من فارق دقيق ولطيف، وهو تمييز تعكسه جدليَّة وصل وفصل بين مقام النبيِّ ومقام الوليِّ، حين يرى أنَّ فهم السامع للوحي من النبيِّ هو أدنى منزلة من فهم النبيِّ نفسه له.

يقول الشيخ الأكبر في “الفتوحات”: “أنظر في القرآن بما نزل على محمد ولا تنظر فيه بما أنزل على العرب، فتخيب عن إدراك معانيه.. فإذا تكلَّمت في القرآن بما هو به محمد متكلِّم، نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبيِّ، فإنَّ الخطاب على قدر السامع لا على قدر المتكلِّم، وليس سمع النبيِّ وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه… وهذه نكتة ما سمعتُها قبل هذا من أحد قبلي”[14].

والسفر المعنيُّ به في بحثنا، هو الهجرة الروحيَّة للسالك حيث يفارق ما كان عليه من أحوال صعودًا إلى أحوال ومقامات جديدة. يجري الأمر على صورة الدفع المتواتر، حالًا إثر حال، ومقامًا إثر مقام.. وثم إنه يمضي في مراتب المعنى، مسدَّدًا بأحكام الوحي، مؤيَّدًا بحقائقه الظاهرة والباطنة، قاطعًا أحقاب النفس بالتزكية عبر ترك المعاصي، وبالتحلية عبر لتحصيل مكارم الأخلاق، وبالتجلية من خلال المجاهدة بالعلم والمعرفة والحكمة حتى يستجيب لنداء الحق تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[15].

تفضي اختبارات الأمير عبد القادر العلميَّة والعمليَّة إلى سلوكه سبيل الولاية كمحطة أخيرة في مراتب الوصول إلى الحدِّ الأقصى من التكليف، وهو الظهور في ساحات الجهاد الأعظم. فعلى هذا السبيل سيتحقَّق له الجمع بين الحقائق الباطنيَّة وأحكام الشريعة في الجهاد لتحقيق دولة العدل الإلهيّْ. والمسألة الجوهريَّة في هذا أن السالك العارف لا يفلح في إدراك مقام الولاية ما لم يعمل بأركان الشرع ويتقيَّد بأحكامه، ذلك أنه مُلزَم بتمثّل الظاهر في نفسه لبلوغ الباطن. فالظاهر يحفظه من مخاطر الانزياح عن الصراط، والباطن يسدِّده بمجاهدة النفس وتصفيتها من شوائب البطلان. ومتى جمع السالك الشريعة إلى الحقيقة، أفلح في الصعود العرفانيِّ ومضى إلى الكمال الذي لا تتم له الولاية إلا به. أي أنه يصير إنسانًا كاملًا، وخليفة لله في الأرض، ثم ليتولَّى مهمَّته في تدبير شؤون الخلق عبر قيادتهم إلى الدولة الفاضلة. وسنرى كيف يؤصل الأمير عبد القادر مقام الاستخلاف الذي يبلغه العارف مبيِّنًا أن الإنسان الكامل هو مظهر جامع لجميع الحقائق الأسمائيَّة التي تطلب العالم: أعلاه وأسفله، جواهره وأعراضه. وهو مظهر أيضًا لجميع الحقائق الكونيَّة. فالمقولات العشر التي تجمع العالم كله، متفرقة في العالم، مجتمعة في الإنسان. فللإنسان – كما يقول – نسبتان: نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهيَّة، ونسبة يدخل بها إلى العالم، فهو القابل لجميع الموجودات قديمها وحديثها. وما سوى الإنسان لا يقبل ذلك. فالحق تعالى – له القِدَم وماله دخل في الحدوث. والعالم له الحدوث وماله دخل في القِدَم. والإنسان – كما يضيف الأمير – له القِدَم وله الحدوث، فهو منعوت بهما. فلهذا هو ربٌّ وعبدٌ، عبد من حيث أنه خليفة، وربٌ من حيث أنه خلق على الصورة الإلهيَّة، فهو يلحق بالإله التحاقًا معنويًّا، وعلى هذا يكون  العالم كله تفصيل ما اجتمع في الإنسان الكامل”[16] .

 

  • الإنسان الكامل بوصفه مدبِّرًا سياسيًّا:

حين يعرض الأمير عبد القادر إلى الهندسة المعرفيَّة لعمارة الإنسان الكامل على هذا النحو التأويليِّ، لم يكن عرضه مجرَّد إجراء بحثيٍّ في فضاء العرفان النظريِّ، ذاك أنَّ علمه الكسبيَّ يندرج ضمن منفسح اختباريٍّ يقترن فيه النظر بالعمل من دون تباين أو مفارقة. وتلك مزية نَدُرَ أن اتخذت منفسحًا لها في عالم التصوُّف الإسلاميّْ. فالمهمَّة التنظيريَّة التي أدَّاها الأمير هي بمثابة الاستظهار القوليِّ لتجربته الدينيَّة التي سَمَتْ إلى مراتبها القصوى في الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة. وهو الجمع الذي سيتجلَّى بحضور بيِّن عبر الانتقال من الجهاد الأصغر حيث مقاومة المحتلِّ، إلى الجهاد الأكبر في تأديب النفس وتجليتها وإنشاء عمارتها العرفانيَّة، وصولًا إلى الجهاد الأعظم وهو العمل في مقام الولاية. ففي هذا المقام سيتبوّأ الوليُّ المهمَّة العظمى في إحياء الدين وحفر مسار التقدّم الحضاريِّ لأوطان الأمَّة برمَّتها.

الإنسان الكامل الذي هاجر إليه الأمير عبد القادر كما هاجر إليه من قبله الشيخ الأكبر ابن عربي، هو الخليفة الذي تسلسل من آدم إلى النبيين والرسل والصديقين والأئمة والأولياء والعرفاء إلى آخر الزمان. وهذه السلسلة هي ظهورات الحقيقة المحمدية التي بلغت كمالها بالنبي الخاتم وكل ما نزل عنه، كما يقول ابن عربي[17].

في السياق إيَّاه يبيِّن الأمير صفات الكامل الواصل بما هو التجلِّي الإلهيُّ للحقيقة المحمديَّة، وأن هذا التجلّي هو سرَيان دائم ومستمر في الزمان البشريِّ حيث يسدِّد ويؤيِّد بالعناية الربانيَّة حتى يصل إلى مقام الولاية الذي منه وعلى نشأته يجري تدبير شؤون الخلق. فالعالم – كما يرى –  ليس مثلًا كاملًا إلا باعتبار دخول الإنسان في جملته. فإن العالم إنما كمُل بالإنسان الكامل وما كَمُل الإنسان بالعالم. والملائكة لم تزل تسجد لمن ظهر بالحقيقة الإنسانية على الكمال، كما سجدت لآدم. فالإنسان الكامل من حيث أنه آخر موجود، مستعد للظهور بجميع الأسماء الإلهيَّة على تقابلها وتخالفها كما ظهر الحقُّ بها. فإنه لمَّا توجَّه الحقُّ الى خلقه بيديه، حمل جميع الأسماء الإلهيَّة والحقائق الكونيَّة. والعقل الأول لمّا توجَّه الحق به الى خلقه، وخلقه بأمره، وهو “كُن”، حمّله علوم الكون الى يوم القيامة. فأخذها الإنسان الكامل وكان له المثل الأعلى[18] . قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[19].

على نشأة الولاية كما تقرِّرها المدرسة التي ينتسب إليها الأمير، ثمَّة عروة وثقى تصل الوحي بالنبوَّة والولاية. ولو مضينا في كتاب “المواقف” بجزئيه الأول والثاني وما أنجزه الأمير في رحلته العرفانيَّة لتبيَّن لنا مقدار عنايته بالولاية بما هي امتداد للوحي والنبوَّة الخاتمة في زمن الإنسان. ذاك أن معرفة الولاية وإدراك حقائقها هو شرط إدراك الوحي وفعله في التاريخ، وبالتالي تحقَّق علمها بالأئمَّة والأولياء باعتبارهم ورثة النبيِّ الخاتم ووجوده البرزخيِّ المتمثِّل بالحقيقة المحمديَّة أو الكلمة الجامعة[20].

وعلى هذا النحو تتَّصل مسألة النبوَّة في علاقتها بالولاية بدراسة حقيقة الإنسان وتحديد ماهيَّته من حيث هو “كلمة الله”، إذ إنه خُلق على صورته مصداقًا للحديث القائل: “خلق الله آدم على صورة الرحمن”، فكان مجلى الحقيقة الإلهيَّة “وبرزخًا جامعًا بين الطرفين”[21]، فاستوى الإنسان بمثابة “الكون الأصغر” الذي يتجسَّد فيه كل ما في “الكون الأكبر” أو “الكون الجامع”. والإنسان الكامل بما هو الحد الجامع لنبوَّة النبيِّ ولولاية الوليِّ يكون الصورة المثلى والدرجة الأرفع لهذا الإنسان، ويسمَّى بـ “القطب” أو “الغوث”، وهو عبارة عن “الواحد الذي هو موضع نظر الله في كل زمان، حيث أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه. وهذ الواحد يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سرَيان الروح في الجسد، وعلمه يتبع علم الحقِّ، وعلم الحقِّ يتبع الماهيَّات غير المجعولة. فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، ونبوَّة النبي محمد(ص) هي بمثابة القطبيَّة الكبرى، وهي مرتبة قطب الأقطاب الذي هو باطن نبوَّة محمد (ص)، فلا يكون ذلك إلَّا لورثته لاختصاصهم بالأكمليَّة، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلَّا على باطن خاتم النبوّة”[22].

مثل هذا التأويل لصفات الإنسان الكامل يتَّخذ مساحة وازنة في نصوص الأمير عبد القادر العرفانيَّة التي ازدهرت ونمت في الطور الرابع من رحلته الصوفيَّة. وهو الطور الذي تطوَّرت فيه رؤيته للإنسان الكامل إلى الدرجة التي تناسب الوصول إلى “ذروة المُلك” عبر الدخول في مقام الجهاد الأعظم تحقيقًا للولاية الإلهيَّة العادلة.

وهكذا يذهب الأمير إلى طبقات معرفيَّة أكثر غورًا في تظهير ماهيَّة الإنسان الكامل وصفاته، وما يتوقَّع منه في دائرة التكليف الإلهيِّ، فينعته بالعزيز الحكيم. ويقول إنَّ من كان نعته العزَّة والمنعة عزَّ أن يعرف أحد مقامه وأوصافه، ثم وصفه بالحكمة لأنه يعطي على ما ينبغي، ويمنع على الوجه الذي ينبغي، فهو المثل الأعلى للحقِّ، ظهر به – تعالى – للمدارك النورانيَّة. وهو كذلك مرآة الحقِّ تعالى ومرآة العالم، فمن رآه رأى الله – تعالى – ورأى العالم. ومن عرفه عرف الله وعرف العالم. وبهذا ورد “من عرف نفسه عرف ربَّه”. وأقول – والكلام للأمير-  من عرف نفسه من حيث الظاهر والباطن عرف ربه وعرف العالم، لأنَّ النفس جامعة لحقائق العالم وحقائق الحق تعالى: على ما ورد في القرآن الكريم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[23]. فآيات الآفاق هي كل كون خرج عن الإنسان في العالم الأعلى والأسفل، وآيات النفس هي ما دخل في الإنسان من الحقائق الكونيَّة المستندة إلى الحقائق الإلهيَّة”[24] .

أمَّا المقصود من قوله تعالى “حتى يتبيَّن لهم أنَّه الحق” فهم الصديقون الذين صدَّقوا الكلام الإلهيَّ وأخلصوا للنبيِّ وسلكوا صراط الحقيقة المحمديَّة. أولئك هم الذين يتولَّون بيان ظاهر الشريعة وحقيقتها عبر طرق ومسالك لا حصر لها، وفي ذلك يقين منهم بأنهم مظاهر اللطف الإلهيِّ في العالم، وأنهم ينطلقون من الحقِّ، ويسعون في أرجاء الخلق بالحقِّ، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل.

وعلى ما يوضح الأمير في “المواقف” فإنَّ الصدّيقين والأولياء الذين تحقَّقوا بالكمال في مقام الولاية والاستخلاف هم الذين أراهم الله آيات الآفاق والأنفس، وأن ما رأوه رأوه لا بحلول أو اتحاد، ولا بشيء ممّا تتخيَّله العقول السليمة، وإنما ذلك كظهور المعاني بالألفاظ، أو كظهور الظلِّ عن ذي الظلِّ، وأن التجلِّي موضوعٌ للرؤية. ولذا قال تعالى: “سنريهم” وقد فعل. وليس ذلك إلاَّ بتجلِّيه في الآفاق والأنفس. وليس تجلِّيه في الآفاق بمغاير لتجليه في الأنفس، وإنما ذلك بمثابة المفصَّل من المجمل. وما ظهر بالحقيقة الإنسانيَّة التي هي عبارة عن الصورة الرحمانيَّة على الكمال، سوى محمد(ص) فإنَّه ظهر بها على الوجه الأكمل، والأفضل والأشرف، إذ هي حقيقته.. وغيره من الأنبياء والكُمَّل من ورثتهم حصل لكلِّ نبيٍّ واحد منهم بحسب ما قُسِم له من القرب الإلهيّْ. وإن اشتركوا كلُّهم في الكمال النبويِّ والشرف والاصطفاء الاختصاصيِّ الرساليّْ[25].

في الموقف الثامن والأربعين بعد المائتين من كتاب “المواقف” نتوقَّف على ما ورد فيه من كشوفات بالإشارة والعبارة في هذا الصدد، يقول:

“لمَّا أنشأ الله الصورة الإنسانيَّة كانت بمثابة مدينة أنزل فيها الروح، وجعله بمثابة الخليفة، وعيَّن له موضعًا منها هو موضع أمره ومحلَّ خطابه ونفوذ أحكامه، ولقد سمَّاه تعالى القلب. فالروح يمدُّ المدينة الإنسانية والصورة الآدمية بالحياة والقدرة والسمع والبصر والكلام، ويمدُّ العقل بالعلم وكيفية تدبير المدينة. ومن ثمَّ ترى الذين لا عقول لهم يسمعون ويبصرون ويتكلَّمون ويقدرون… ومع ذلك فليس لهم تدبير ولا علم بمواقع الأمر والنهي، وذلك لخلوِّ مدينتهم عن العقل، فإنه إنما سمَّاه – تعالى –  عقلًا؛ لأنه يعقل عن الله أمره ونهيه وخطابه، وكلَّما يلقيه إليه، فعليه يتوجَّب الخطاب، إذ هو وزير المدينة الإنسانيَّة ومدبِّرها، فلو كانت المدينة خالية من الخليفة لكانت في حكم الجمادات. ولو كانت خالية من الوزير لكانت من جملة البهائم، وإن كان الروح فيها قائمًا عليها، إذ الروح ليس له تدبير المدينة الإنسانيَّة، فلا يفرِّق بين الحلال والحرام، ولا بين الطهارة والنجاسة، ولا بين الحسن والقبيح، وإنما هذا للعقل، فلا تقوم المدينة الإنسانيَّة إلَّا بالخليفة. ولا يستقيم أمرها إلَّا بالوزير. لقد أنزل – تعالى – العقل الوزير، من الروح الخليفة، منزلة القمر من الشمس، فليس للقمر نور في نفسه، فأشرقت الشمس بنورها على القمر؛ فاكتسب منها نورًا لضيائه، فكان هو الشمس في نفس الأمر من حيث النور، وافترقا من حيث الرتب، فإنَّ الشمس نورها ذاتيٌّ لها، والقمر نوره مكتسب”[26].

لنقرأ أيضًا ما ذهب إليه الأمير في هذا المضمار حيث يقول: “ولمَّا أنشأ الله تعالى بنية العقل أودع فيه التدبير، وجميع الأمور اللَّازمة للمدينة الإنسانيَّة، فصار محلًّا للعلوم الإلهيَّة ورأسًا في تدبير الأمور الكونيَّة، وإذا أراد العقل معرفة شيء في تدبير المدينة الإنسانيَّة وإصلاحها، توجَّه إلى مشاهدة الروح الخليفة. فعند مشاهدته يلوح له المراد، فيقوم له التجلِّي من الروح منزلة الخطاب، من غير حرف ولا صوت؛ إذ المراد حصول علم تدبير المدينة الإنسانيَّة، فهو كشف روحانيٌّ ومعنى ذوقيّْ”[27].

وفي إشارته إلى كون الوليِّ لا يتصرَّف إلَّا بإذنه وبإرادته ومشيئته تعالى، يعود الأمير إلى الكلام الإلهيِّ حفظًا للزومه من أيِّ زلل، وذلك في قوله تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[28]. لكن الوليَّ الآتي من الحقيقة المحمديَّة سوف يستمدُّ القدرة بمقدار سعته فيتصرَّف بعونه ويتسدَّد بعمله وفيوضاته، فلو فعل فإن الله هو الفاعل بنسبة ما أُدني من الفعل. كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[29].

على أنَّ الولاية التي قامت في عرفان الأمير عبد القادر على واحديَّة الاتصال بين التشريع والتكوين، سيكون من البديهيِّ أن تتأسَّس على العدل. إذ إن من لوازم تطبيقات الولاية في طور الجهاد الأعظم، أن يتَّصف الوليُّ بصفة الحقِّ الأول تعالى في العدل. يقول تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[30] وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}[31].

يذكر الأمير في معرض كلامه على جدليَّة الظلم والعدل أنَّ الظلم ورد بمعنى النقص، وورد أيضًا بمعنى وضع الأشياء في غير مواضعها التي تستحقُّها بالحكمة والعلم ومجاوزة الحد. وقال إنَّ كلا المعنيَيْن منفيٌّ عنه تعالى مستحيلٌ عليه. فإنَّه تعالى إنما يتصرَّف عطاءً ومنعًا، ضرًّا ونفعًا، بالعلم والحكمة والعدل، لأنَّه العليم الحكيم المقسط، بيده الميزان يخفض ويرفع، فلا يمنع من يستحقُّ الكلَّ بعض ما يستحق، ولا يعطي من يستحقُّ البعض أكثر مما يستحقُّ. فعطاؤه ومنعه وضرُّه، ونفعه تبع الاستحقاق والاستعداد[32].

المنظور الصوفيُّ للعدل هو عين منظوريَّته للتوحيد في سائر منازل الأسماء والصفات. ولذا فكلُّ ما يتَّصل بالحقِّ، وما يفيض به الحقُّ على الخلق، إنما هو داخل في عالم الإنسان الكامل على مبدأ الاستخلاف والتكليف.

والبحث حول العدل الإلهيِّ تارةً يكون من جهة أنَّ العدالة هي صفة كمال في الخالق، حيث إنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الجامع لجميع الصفات الكماليَّة والجماليَّة، وأخرى من جهة أنَّ العدل عبارة عن رعاية حقِّ الغير. وهذا المعنى يمكن أن يتحقَّق في العلاقة بين المخلوقات، ولا يتحقَّق في العلاقة بين الخالق والمخلوق، لأنَّ كلَّ ما لدى المخلوق فمن الخالق، وملكية المخلوق في طول ملكيَّة الخالق، فإنَّ ملكيّة الإنسان هي كملكيَّة الطفل بالنسبة إلى ملكيَّة أبيه، حيث يعتبر نفسه مالكاً لألعابه، ولا ينافي ذلك ملكيَّة الأب لها.

فالله هو مالك الملك على الإطلاق، وأيُّ تصرُّف منه في الكون إنَّما هو تصرُّف في ملكه، لذا لا يمكن أن نعثر على مصداقٍ للظلم في حقِّه تعالى، ومن هنا يقال إنَّ الله ليس بعادلٍ ولا ظالمٍ، لأنَّه لا يمكن افتراض غيره مالكاً لحقٍّ ما، حتى تكون رعايته عدلًا وعدمها ظلمًا.

وإذا كان العدل بمفهومه الاجتماعيِّ هو هدفًا للنبوَّة، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط..}[33]. فالعدل بمفهومه الفلسفيِّ أساسٌ للمعاد: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[34].

والواضح أنَّ الأمير عبد القادر كان يطلُّ بعمق على الجدل الكلاميِّ حول العدل واتِّجاهاته المتعدِّدة، وخصوصًا في المراحل التأسيسيَّة لعلم الكلام الإسلاميّْ.

ولمَّا كان الأقرب إلى نظر الحكماء الإلهيّين في فهم العدل فقد رأى الأمير إلى العدل بما هو بمعنى رعاية الاستحقاق في إفاضة الوجود والكمال. إذ إنَّ كلَّ موجود يملك استحقاقًا خاصًّا من جهة قابليَّته لاكتساب الفيض الإلهيّْ. فالعدل هو أن يأخذ كلُّ موجود ما هو ممكنٌ له من وجودٍ وكمالٍ، والظلم هو منعُ هذا الفيض وإمساكُه. وهذا المعنى هو الذي يتبنّاه الحكماء الإلهيّون. ولا يراد بالاستحقاق للفيض أنَّ هذا الموجود يملك حقًّا على الله، بل بمعنى أنَّ عدلَ الله هو عين الفضل والجود.

والدليل على ثبوت صفة العدل بهذا المعنى لله، هو أنَّ الذات الإلهيَّة خيرٌ وكمالٌ مطلق تعطي ولا تمسك، لكنَّها تعطي كلَّ موجودٍ بحسب قابليته. فالعدل الإلهيُّ – حسب هذه النظريَّة – أن أيَّ موجود يأخذ من الوجود ومن كمال الوجود المقدار الذي يستحقه وبإمكانه أن يستوفيه..

كان فيلسوف الأخلاق أبو علي مسكويه الرازي (932-1030هـ) يُعرِّف العدالة بأنها: “إعطاء ما يجب، لمن يجب، كما يجب، وهي “أي العدالة” فصيلة يُنصف بها الإنسان من نفسه ومن غيره. فالعدالة هي ما أمرت به الشريعة، وما أمر به الأنبياء كافة بإقامتها في المجتمعات الإنسانيَّة، ذلك أنها توجب وحدة المجتمع، وتبدِّد شبح الفرقة والمنازعة[35].

ولئن كانت العدالة مفهومًا أخلاقيًّا متعاليًا عند مسكويه فهي إلى جانب هذه المنزلة تشكِّل عند الأمير عبد القادر جوهر الشريعة. ومن هذا الجوهر تفيض سائر مُبتنيات العلوم والمعارف التي تقوم عليها الحقيقة الدينيَّة في مجال العبادات والمعاملات والتدبير السياسي لشؤون المجتمع والدولة والأمَّة.

ولعلَّنا نجد لدى الأمير ما نتلقَّاه من مسكويه[36] لجهة عنايته بالترابط بين العدالة والاجتماع السياسيِّ، وتعيينًا في مجال النظام المتعالي الذي تنبسط فيه دولة الخلاص عبر الوليِّ الخاتم الذي يُجري العدالة في حقِّ نفسه وفي حقِّ الغير على السويَّة، طبقًا لشرع الحقِّ الأول تعالى. فالحاكم الذي يصفه مسكويه بأنه “عدلٌ ناطق” لأنَّه خليفة صاحب الشريعة، يتجلَّى عند الأمير بكونه الحجَّة البالغة، ومخلص آخر الزمان، وبالتالي فهو العدل الفعال الذي يملأ الأرض تراحمًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا.

لقد مرَّت معنا تظهيرات إجماليَّة لأركان التصوُّف في مقام السياسة كما تبيِّنها اختبارات السيرة الذاتيَّة للأمير السيد عبد القادر الجزائري. ولئن كانت هذه الاختبارات قامت على الفعل الحيِّ في النظر والعمل، فإنَّ نموَّها ما كان ليكتمل لولا الرؤية التوحيديَّة التي اتَّخذت لنفسها منهج الجمع والموافقة والمطابقة بين أحياز الحقيقة الدينيَّة، وهي الوحي والعقل والعرفان. ولو كان لنا من بيان لمقتضيات هذا المنهج لوجدناه في الِّلقاء الحميم بين روحانيَّة الشريعة وروح العقل. فإذا كان العمل بحقيقة الشرع مقتضاه ترك ما تنهى عنه وأداء ما تأمر به، فإنَّ مقتضى العلم بها (بالشريعة) يعني إدراك ما جاءت به على نفس ما جاء في الكتاب والسنَّة. ولما كانت الحقيقة العقليَّة أو الممارسة العقلانيَّة تقوم على معرفة الأشياء على ما هي عليه بالأصالة، فإنَّ معرفة الشريعة يكون بإدراك مقاصدها كما جعلها الشارع الأول. ثم إنَّ مدرك المقاصد، العامل بها، يستطيع إذا غلب الحال على علمه صار الحكم للحال. فهو بذلك من المتحقِّقين لأنه جمع الشريعة إلى الحقيقة لتكون الضامن له فيها من كلِّ غلواء أو انزياح عن ثقافة الأمَّة الوسط.

 

الهوامش:

[1] – راجع الباب الرابع من هذه الدراسة، وخصوصاً الفصل المتعلِّق بالفلسفة السياسية عند الفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي، حيث بيَّنا الأسس القرآنية والميتافيزيقية لنظرية السفر الرابع التي جاءت كحصيلة تنظيريَّة للعرفان السياسي في منظومته المعروفة بـ “الحكمة المتعالية في الأسفار العقليَّة الأربعة”.

[2]– الجزائري، عبد القادر الحسني- بغية الطالب على ترتيب التجلَّي بكليَّة المراتب – تقديم وتصحيح: عاصم إبراهيم الكيالي – دار الكتب العلميَّة – ط1- بيروت – 2004 – ص 30.

[3]– المصدر نفسه – ج1 – ص 223.

[4]– المصدر نفسه – ج1- ص 220.

[5]– الجزائري، عبد القادر الحسني-  المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة – تحقيق: الشيخ عاصم إبراهيم الكيالي- الموقف 25- المجلَّد الأول – دار الكتب العلميَّة – بيروت – 2004- ص 76.

[6]– النقشبندي الخالدي، أحمد – الأولياء وأوصافهم – دار الإنتشار العربي- بيروت 1997 – ص 89.

[7] – العسلي، بسام- سيرة الأمير عبد القادر – دار النفائس- بيروت – 1986- من المقدِّمة- ص 9.

[8]– العسلي، بسام- المصدر نفسه – ص 11.

[9]–  المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة – المجلَّد الأول الموقف الأول –المصدر نفسه- ص 16.

[10] – رواه الطبراني في “الكبير” عن محمد بن مسلمة الأنصاري وأخرجه الحكيم في “النوادر”- كما رواه أبو داوود والبيهقي والضياء في المختارة.

[11] – سورة النمل – الآية 34.

[12]– إبن عربي، محيي الدين- رسائل ابن عربي- رسالة الأنوار – تحقيق: قاسم محمد عباس وحسين محمد عجيل- منشورات المجمع الثقافي- أبو ظبي- الإمارات العربيَّة المتحدة- 1995- ص2.

[13]– أنظر ابن عربي- “فصوص الحكم” تحقيق وتعليق: أبو العلا عفيفي- ط2 – دار الكتاب العربي- بيروت 1980- ص 47.

[14] – إبن عربي – “الفتوحات المكِّيَّة” –  الجزء الرابع – دار صادر – بيروت 1990- ص 427.

[15] – سورة العنكبوت – الآية 69.

[16] – راجع “المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة”- الموقف 248-المجلَّد الأول – مصدر سابق- ص451.

[17] – “الرسائل” – ط حيدر آباد – كتاب- منزل القطب- ص 6.

[18] – كتاب “المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة”- سبق ذكره – ص 453

[19] – سورة الروم – الآية 27.

[20] – محمد الكحلاوي – الحقيقة الدينيَّة من منظور الفلسفة الصوفيَّة – الحلاج وابن عربي نموذجًا – دار الطليعة – بيروت 2005-ص 111.

[21] – إبن عربي، عقلة المستوفز، ط ليدن 1336ه, ص 42

[22] – إبن عربي- الفتوحات المكِّية – م2 – ص 356-364

[23] – سورة فصلت – الآية 53.

[24] – كتاب “المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة” – ص 453.

[25] – الجزائري، عبد القادر- “المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة” المجلَّد الثاني- ص 248-454.

[26] – الجزائري، عبد القادر- بغية الطالب على ترتيب التجلِّي بكلِّيات المراتب – الجزء الثاني- مصدر سابق- ص 157.

[27] – بغية الطالب على ترتيب التجلِّي بكلِّيات المراتب – نفسه – ص 158

[28] – سورة الإسراء – الآية 20.

[29] – سورة الأنفال – الآية 17.

[30] – سورة الكهف – الآية 49.

[31] – سورة الكهف – الآية 33.

[32]– راجع “المواقف الروحيَّة والفيوضات السبوحيَّة” الموقف 206- مصدر سابق- ص 361.

[33] – سورة الحديد – الآية 25.

[34] – سورة الأنبياء – الآية 47.

[35] – مسكويه، أحمد بن يعقوب- تجارب الأمم وتعاقب الهمم- دار الكتب العلميَّة – بيروت – 2004- ص 56.

[36] – راجع: مسكويه، المصدر السابق- ص 23.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى