الدراسات والبحوث

المنهج العرفاني في البحث عن الحقيقة

د. فادي ناصر

المنهج العرفاني في البحث عن الحقيقة

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلاميَّة في جامعة المعارف – لبنان.

 

عند العارف لا وجود لغير الله في عالم الوجود، وكل ما سواه انما هو آية ومظهر له. ومظاهره سواء الافاقية منها أو الأنفسية ليست سوى آيات دالة على وجوده المقدس. ولذا قال عز اسمه في كتابه الكريم:

﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق([i])، فمشاهدة الآيات الإلهية يفضي إلى نتيجة واحدة هي: إن هذه الآيات ليست سوى الحق المتجلي فيها كلٌ بحسبها، وهي المرايا التي تُري جمال الذات المقدسة للحق جل وعلا. ومن هنا صار بالإمكان رؤية الحق ومعرفته من خلال آياته ومظاهره، اما ذاته فهي غير قابلة للإدراك والمشاهدة اصلا.

من هنا صار همّ العارف الوصول الى هذه الرؤية والمعرفة التي قال عنها رسول الله(ص):”اللهم أرني الأشياء كما هي([ii]).اي كما هي عليه من المظهرية والآياتية له. فهمّ العارف وحرصه الدائم هو رؤية الحق والوصول اليه، بمعنى الوصول الى اسمائه وصفاته والفناء فيه في نهاية المطاف بعد حصول التقوى الكاملة والتوجه التام نحو الحق وحده، ليكون مصداقا لقوله تعالى ﴿يا ايها الإنسان ‘نك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه([iii])، ولكن العارف حريص على ان يكون لقاؤه بالحق من خلال تجلي الحق له بأسمائه الجمالية التي تعني النعيم والسعادة، دون الأسماء الجلالية التي تعني العذاب والنقمة.

ويحول دون تحقق هذا الهدف موانع تمنع من بلوغ هذه الغاية الشريفة يختصرها العرفاء بكلمة هي: “حب النفس” و”الأنا” . فالانانية وحب النفس يمثلان العائق الاكبر امام رؤية تجليات الحق والفناء فيه لأنها بإختصار تثبت مبدئ الغير الذي يقابل الحق وتجعل للانسان قبلة ووجهة اخرى غير الحق، مع ان العارف الحقيقي وجهته دائما الحق الذي لا يرى ولا يشاهد غيره حيث لسان حاله قوله تعالى:

﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ومسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له بذلك أمرت وأنا من المسلمين([iv]).

أما المحبّ لنفسه فإنه ليس فقط يرى نفسه ويتعلق بها بل ينسب اليها التأثير والكمال أيضا. وهذا الحب هو منشأ حب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة كما في الحديث عن الإمام الصادق(ع) انه قال:”حب الدنيا رأس كل خطيئة([v]).

وكما يقول الامام الخميني (قده) :

“إن ما هو مذموم وأساس جميع الوان الشقاء والعذاب والمهالك ورأس جميع ألوان الخطايا والذنوب إنما هو حب الدنيا الناشئ من حب النفس”([vi]). فالذنوب والمعاصي اذا مردها الى حب الدنيا والتعلق بها، وحب الدنيا منشؤه حب النفس كما ذكرنا.

ويبين الإمام الخمنيي(قده) المراد الحقيقي من لقاء الله فيقول:

“إعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء الله صراحة أو كناية وإشارة، كثيرة…ولا بد أن تعرف بأنه ليس مقصودُ من أجاز فتح الطريق على لقاء الله ومشاهدة جمال الحق وجلاله، جواز اكتناه التعرف -على الحقيقة والذات- ذاته المقدس، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاهدة العينية الروحانية، على ذاته المحيط بكل شيء على الإطلاق، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي  -الفلسفة- وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان، من الأمور البرهانية، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء، وأرباب القلوب والمعارف.

بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو: أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة، وانصراف القلب نهائياً عن جميع العوالم، ورفض التوجه نحو النشأتين -المُلك والملكوت- ووطأ الأنانية والإنيّة، والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته، والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه، وتحمّل جهد وترويض القلب، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته، وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات من جهة أخرى، والفناء في الأسماء والصفات، والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته. وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات.

ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضاً، وينال التجليات الذاتية الغيبية، ويرى نفسه متدلياً ومتعلقاً بالذات المقدس، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات، ظلاًّ للحق المتعالي.

وكما قامت البراهين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه وتعالى والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد والتعلقات، بل البرهان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام، فكذلك لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي يبلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتازها ووطئ بأقدامه على رؤوسها، وبين الحق المتعالي. كما في الحديث الشريف المنقول عن (الكافي) و(التوحيد): “إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمش بها([vii]).

من هنا يجمع العرفاء على مبدأ اساسي يمكن من خلاله ان ينطلق السالك في رحلته نحو الحق والذي من دونه لا سفر اصلا ولا سلوك، وهو مبدأ تهذيب النفس وتصفيتها، حتى تتمكن من خرق الحجب الظلمانية والنورانية لتصل بعدها الى لقاء الحق والى معدن العظمة كما في المناجاة الشعبانية:

إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً([viii]).

فتهذيب النفس وتزكيتها من الأهواء والأخلاق الرذيلة وتنزيهها عن الذنوب الكبيرة والصغيرة، هو الأصل الذي يبني عليه العرفاء منهجهم العملي في السلوك الى الله. ويعرفه القاساني في شرح منازل السائرين انه:”التخليص من دنس الطبائع ولوث العلائق”([ix]).

ويعرفه الإمام الخميني انه:”عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها تأتمر بأمر الخالق، وتطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده”([x]). ولقد قرن الحق تعالى في كتابه الكريم الفوز والفلاح بتهذيب النفس وتزكيتها حيث قال: ﴿ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها([xi]). فالعارف الحقيقي في هذه الدنيا في حالة سلوك وسفر نحو الحق للفوز بلقائه، وزاد هذا السفر كما يقول العلامة الطهراني في رسالة لب اللباب:

“هو المجاهدة والرياضة النفسانية، ولأن قطع علائق المادة صعب جدا، (فإنه) يتم التخلص من وشائج عالم الكثرة بالتدريج حتى يتم السفر من عالم الطبع”([xii]).

اما البرنامج العملي لتهذيب النفس عند العارف فهو فيكمن في مخالفة أهواء النفس والعمل على خلاف ما تطلبه وتريده، لأن النفس بطبيعتها امارة بالسوء، ميّالة الى اللهو والجري وراء زينة الحياة الدنيا، مما يصرفها عن الوجهة الحقيقية التي خلقت لاجلها. يقول ابن تركة  في تمهيد القواعد:”لا شك أن معالجة الأمراض النفسانية، وتخليص النفس من الأخلاق الردية المهلكة، وتجريدها عن العادات الخبيثة المظلمة لا يمكن بدون أتصافها بملكات مرضية وعادات حسنة تقابل الأخلاق الذميمة والصفات الخبيثة، فإن دفع أحد الضدين لا يمكن إلا بالضد الآخر”([xiii]).

ويقول الامام الخميني (قده) في كيفية معالجة المفاسد الاخلاقية:”وأفضل علاج لدفع المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كل واحدة من الملكات القبيحة التى تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس الى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة”([xiv]).

ومخالفة النفس لا تتم بشكل عشوائي وبحسب رغبة النفس، والا فان السالك سيعود ليقع في نفس المشكلة التى هرب منها. بل ان مخالفة النفس لا بد ان تخضع لبرنامج واضح عنوانه التقوى والطاعة لله. فالطريق السليم لمخالفة النفس هو من خلال اتباع الشريعة التي وضعها خالق هذا الإنسان العارف بشؤون وأحاوله. فالسالك عندما يلتزم باحكام الله فسوف يكون في حالة طاعة وعبودية للرب ومخالفة للنفس وأهوائها، اما اذا كان مطيعا لنفسه ومخالفا لربه فسيكون مصداقا لقوله تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم([xv]).

يقول الإمام الخميني ايضا في هذا المجال:

“الإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفّق بحاله، إذا تنبّه أن وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين:

الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة.

والآخر: هو الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أي شيء، ومقدمة على كل هدف، وممهدة للتطور إلى ما هو أحسن.

إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث أن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات”([xvi]).

ولكن هذه التقوى ليست على مرتبة واحدة بل تختلف احكامها بإختلاف مقامات السالكين كما يقول (قده) ايضا:

“لا بُدَّ أن نعرف أن التقوى، وإن لم تكن من مدراج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام… فتقوى العامة إذاً تكون من المحرمات، وتقوى الخاصة تكون من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا، والمخلصين من حب الذات، والمنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، والفانين من كثرة الأسماء، والواصلين من التوجه إلى الفناء، والمتمكنن من التلوينات ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾”([xvii]).

 

أما الآيات والروايات التي تتحدث عن أهمية الطاعة والتقوى لله وتأثيرها على سلوك الفرد ومصيره كثيرة نكتفي بذكر بعضها.

من الآيات قوله تعالى:

﴿واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم([xviii]).

﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا([xix]).

﴿ومن يتق الله يكفّر عنه سيئاته ويعظّم له أجرا([xx]).

﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة([xxi]).

﴿واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب([xxii]).

﴿إنْ أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون([xxiii]).

 

أما الروايات :

فعن أمير المؤمنين علي(ع) قال:

انه لا يدرك ما عند الله الا بطاعته([xxiv]).

وعن الإمام الباقر(ع) قال:

يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه…

إلى أن قال: فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله ولا بين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته.

يا جابر والله ما نتقرب الى الله تعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع([xxv]).

وقال (ع) في حديث اخر:

لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله([xxvi]).

وعن الإمام الكاظم(ع) قال:

يا هشام، نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة([xxvii]).

وفي الحديث القدسي المشهور:

عبدي اطعني تكن مثلي تقول للشيئ كن فيكون([xxviii]).

 

[i] – سورة فصلت: الآية 53.

[ii] – مصباح الأنس: ص220.

[iii] – سورة الانشقاق: الآية 6.

[iv] – سورة الأنعام: الآية 79.

[v] – بحار الأنوار:ج70ح62، ص90.

[vi] – الإمام الخميني: وصايا عرفانية، إعداد السيد عباس نورالدين، مركز بقية الله الأعظم، بيروت، الطبعة الأولى،1998م، ص 22.

[vii] – الأربعون حديثًا: ص504.

[viii] – أمير المؤمنين علي ابن ابي طالبئ(ع): المناجاة الشعبانية.

[ix] – عبد الرزاق القاساني: شرح منازل السائرين، دار المجتبى، بيروت،1995م، ص 95.

[x] – الأربعون حديثًا: ص32.

[xi] – سورة الشمس: الآيات 7-10.

[xii] – العلامة السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني: رسالة لب اللباب في سير وسلوك أولي الألباب، ترجمة السيد عباس نورالدين، دار المحجة البيضاء، بيروت،1417ق، ص 19.

[xiii] – تمهيد القواعد: ص388.

[xiv] – الاربعون حديث: ص 53.

[xv] – سورة الجاثية: الآية 23.

[xvi] – الاربعون حديثا: ص 254.

[xvii] – المصدر السابق: ص 252.

[xviii] – سورة البقرة: الآية 282.

[xix] – سورة الطلاق: الآية 2.

[xx] – سورة الطلاق: الآية 5.

[xxi] – سورة المائدة: الآية 35.

[xxii] – سورة البقرة: الآية 196.

[xxiii] – سورة الأنفال: الآية 34.

[xxiv] – بحار الأنوار:ج67،ح3،ص96.

[xxv] – المصدر السابق:ج67،ح4،ص97.

[xxvi] – محمد بن يعقوب الكليني:الكافي،دار الكتب الإسلامية،طهران ،1365 ه ش، ج2،باب الطاعة والتقوى،1،ص73.

[xxvii] – بحار الأنوار:ج1،ح29،ص138.

[xxviii] – المصدر السابق: ج90،ص 376.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى