تجلِّيات خلقيَّة من خلال نماذج صوفيَّة
د. عبد الوهاب الفيلالي
ذاع عند الصوفية أن التصوف خلق، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف، وقد تأكد ذلك عند من نُعت “سيد الطائفة”: أبو القاسم الجنيد، حين بين أن “التصوف أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم من رجل كريم مع قوم كرام”[1].
ارتبط المغاربة أيما ارتباط بأبي القاسم الجنيد بسلوكه طريق صوفية الأخلاق، فضلا عن ارتباطهم بعقيدة الأشعري ومذهب الإمام مالك في التشريع، وبذلك قلَّ عندهم الاستغراق في صوفية الحقائق لصالح انتشار صوفية الخلائق اقتناعا بما ذهب إليه الشيخ الجنيد من توفيق “بين مقتضيات الشريعة ومعاني التصوف”[2]، حتى حقِ لنا أن نقول مع علال الفاسي: “إن كلا من صوفية الحقائق وصوفية الأخلاق في المغرب لم يغالوا”[3]، مما يفيد سلطان المسار السني، والتزام المغاربة بطلب مكارم الأخلاق.
لا ريب أن المتتبع للمصنفات الصوفية المغربية يلمس الحقيقة تلك، ولو خيرنا في التمثيل بما يناسب لوجدنا مدينة فاس وأهلها نموذجاً أمثل، بدءاً ببانيها المولى إدريس الأزهر، ومرورا بأقطاب التصوف الأوائل في المغرب من آل ابن حرزهم، وأعلام أمثال أبي مدين الغوث، وآل الفاسي وابن سودة والقادريين والصقليين والكتانيين والوزانيين، وأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، وعبد الله بن معن، والمناليين الزباديين، ومحمد العربي الدرقاوي، وشيخه علي الجمل العمراني، وأحمد بن عجيبة، والشيخ أحمد التجاني، الذي أوضح الباحث أحمد الأزمي، سر ارتباطه بمدينة فاس قائلا: “فالمدينة الإدريسية حركت مشاعره لعدة اعتبارات في مقدمتها أهميتها العلمية وقداستها ورمزيتها التاريخية، وقوة شحنتها الروحية….”[4]، وكذلك محمد الحراق، وأبو حفص عمر الفاسي، ومحمد الطيب بن كيران، ومحمد بن قاسم جسوس، وحمدون بن الحاج وأهله من العلماء والصوفيين، وأحمد بن إدريس (ت 1253 هـ) شيخ الطريقة الإدريسية المنتشرة في الشرق، ومحمد بن الحبيب بن الصديق الدرقاوي الفاسي ولادة وتعلما وتعليما شيخ الطريقة ومنطلقها إلى الغرب في أكثر من موطن، وغير هؤلاء كثيرون يسهل على المهتم التواصل معهم من خلال كتب التراجم والطبقات والمناقب، فضلا عما خلفوه من تصانيف وإبداعات.
نعم، يحق لمدينة فاس أن تفخر بهؤلاء وغيرهم وبتعدي ذاتها إلى ذوات مدن وقرى المغرب وغيره شمالا وجنوبا وشرقا وغربا؛ ذاك أنها مستقَُّر القرويين ومعقل العلم وعاصمته، وموطن الحضارة ومنبعها، أتاها أبناء الصحراء ودرعة وسوس، وأهل الأندلس والجزائر وتونس وغيرهم، فأضحت مع مسار الزمن تكرس هويتها عاصمة من عواصم الثقافة الإسلامية باستمرار، ومنبعا من منابع سمو الأخلاق. ولنا أن نفخر بذلك، وأن ندعو المتلقي إلى تلمسه معنا من خلال عنصر من عناصر التصوف في بعده الخلقي التوجيهي استنادا إلى نماذج فاسية، والمقصود عنصر الدعوة إلى التصوف وتحبيبه للناس باعتباره ممارسة وسلوكا عمليا يحمل العديد من ملامح الهوية الخلقية الصوفية المنتشرة في فاس وكل المغرب، مركزين على الآتي:
- الدعوة إلى خلق التزام حدود الشرع: الكتاب والسنة.
- الدعوة إلى خلق الزهد في الدنيا وذمها.
- الدعوة إلى تربية النفس وترك شهواتها.
قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى التصوف ممارسةً وسلوكًا خلقيًّا تحكمها ثنائية متساوقة الطرفين: نهي أو هجر وتخلية، وأمر أو وجود وتحلية؛ يرمز الطرف الأول إلى النهي عن الأخلاق السافلة التي لا بد للمريد أن يتخلص منها، في حين يشير الطرف الثاني إلى أمره بالتزام الأخلاق الحميدة قولا وفعلا، وبذلك تكون هذه الثنائية وبعدها الدلالي أساس السلوك الصوفي عند أهل التصوف، وهذا ما أكده الشيخ ماء العينين، حين جعلها موضوع أول باب من أبواب منظومته “منتخب التصوف” فقال:
بادر لأمر وامتثل بوقتـــه واجتنب النهي بكل سمتـه
فالأمر ما استطعت منه فافعلا والنهي فاجتنبه حيثما جـلا
بقدر طاقتك فيهــمــا ولا تقصرن فعلا وتركا مسجلا
فالشرع كله بني عليـهــما أصلا وفرعا ونمي إليهـما
ولن ترى بابا من الأبــواب وغيرها يخرج عن ذا الباب
لذاك فامتثل لأمر وانتــهي عما نهي عنه وذا الباب نهي[5]
1 – الدعوة إلى التزام حدود الشرع: الكتاب والسنَّة
يقول الجنيد عن التصوف الإسلامي: “مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم ينفعه لا يقتدى به”[6]. لذلك تروم هذه الدعوة في سياق التربية الصوفية إلى تذكير المريدين المبتدئين والصوفية السالكين بضرورة احترامهم لحدود الشرع، أساس الأخلاق الصوفية كلها، في تجاربهم الصوفية، حفاظا على شرعية الطريق الصوفي وسنيته وحماية له من الابتداع والانتحال. وقد كان شيوخ التصوف ينطلقون في ذلك من ذواتهم مبرزين لمريديهم التزامهم بالتوجه السني، كما هو الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي، الذي وصفه محقق كتاب “مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن” بـ: “والد الطريقة الصوفية الشاذلية في فاس وإمامها”[7] وبين كيف “كان تصوفه من صنف التصوف السني السلفي… جامعا بين الشريعة والحقيقة، محمدي المشرب”[8]، وكذا هو شأن عالم فاس والمؤثر في علمائها في عصره وبعده الشيخ التاودي بن سودة الذي كان ناصري الطريقة، ذات التوجه السني الواضح، فأسهم من ثمة في نشر الأخلاق الكريمة وترسيخها علما وسلوكا وسط تلاميذه وعشيرته. ولنا أن نتلمس خصوصية خطاب الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة في نماذج من شعر شعراء فاس الصوفيين، حيث يهيمن الأمر مع الجزم، ويتم الإفصاح عن قيمة موضوع هذه في الدعوة بما يوازيها في اللغة، يقول أبو بكر بناني من منظومته “هدية المريد”[9]:
فسيرة أهل الحق في شرعة الهوى موافقة التشريع في الفعل والأمر.
ويقول محمد بن عبد الكبير الكتاني “الطويل”:
ودونك بحر الشرع فالزم سبيله ولا تعبأن بالمبطلين لشرعة[10]
ويقول محمد الحراق “الطويل”:
ومكن بكف الشرع أمرك كله فدونك إن لم تفعل الباب سدت
ومن يبتغ غير الإله بسيره إليه تراه راجعا أي رجعة[11]
ويقول من إحدى رسائله مخاطبا مريديه، ومبينا السبيل الأنجع والأصوب إلى الحق جل وعلا: “إن الحق سبحانه غيور أن يجعل الإيمان به في قلب من ليس بطهور، وتوجهوا إلى الله بصدق العناية ودوام الأدب معه بالحفظ والرعاية… وطريق القوم مبنية على مقاصد الشارع الظاهرة وسننه الباطنة، واجعلوا نصب أعين قلوبكم الجمع على الله والتعلق به في كافة الأحوال… والله تعالى يأخذ بيدنا ويدكم ويد المسلمين أجمعين والسلام”[12].
ويقول أحمد بن عجيبة: موضحا أن أمان الصوفي وسلامة طريقه في التمسك بالشريعة، إذ هي كمال الكمال ومنهاج أولياء الله وأقطاب التصوف الكبار: “الطويل”
تمسك بمنهاج الشريعة إنـها أمان من كل هول للظهر قاطع
فشد لها يد الضنين فمنتهـى كمال الكمال منك هو الشرائـع
فخير ولي الله من كان سره شهود وظاهر من الشرع كارع[13]
2 – الدعوة إلى ذم الدنيا والزهد فيها:
لقد تحدث الصوفية عن الدنيا كثيرا، شعرا ونثرا، ورسموا لها صورا متعددة ترجع كلها إلى معنى واحد هو كثرة تقلبها وسرعة فنائها؛ فهي ظلٌّ مصيرُه التقلص والانقباض، وسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا وصله لم يجده شيئا، وعجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، و”دار متى أضحكت في يوم أبكت في غد”[14]. والقصد من هذا الاهتمام الكبير بالدنيا هو تنبيه الإنسان إلى أخطارها ودعوته إلى الزهد في مغرياتها التي يمكن أن تزيغه عن طريق الله وتنسيه مآله في أخراه، وتحذيره من عاقبة التعلق بها مادام “حلوها مرا ومرها حلوا… و… كثرة الفرح بها… مقدمة كثرة الحزن”[15] كما أوضح اليوسي الذي استعاض عنها بكتاب الله ذخرا في الحياة والممات:
فمن يفرح بدنيا أو بجاه فإن سرور قلبي بالكتاب[16]
هكذا، وجدنا أهل الطريق يتسنمون الإلحاح في التوجيه في رسائلهم إلى مريديهم مثلما في قول الشيخ العربي الدرقاوي من إحدى رسائله: “وزهدهم في الدنيا وأمرهم أن يقنعوا منها بما تيسر”[17].
الدنيا، إذا، في عرف الصوفية هي كل ما من شأنه أن يقطع صلة العبد بربه من حب للمال وطلب للجاه ونشدان للرفعة وأشباه ذلك، والدعوة إلى نبذها، سواء في الشعر أو غيره، لم تصل إلى حد الإفراط وطلب هجرها كلية، بل التزم الصوفية الكبار والشيوخ الأقطاب في ذلك سنة الشرع، وآثروا الاعتدال فأوصوا بالتقليل من أهميتها والسعي فيها إلى كل خير ونبذ كل شر، والاكتفاء بالقليل بدل الانغماس في المحظور والمرفوض مصداقا لقوله تعالى: )وابتغ فيم ءاتاك الله الدار الاَخرة. ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الاَرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص: 77]، وفي هذا يقول محمد الحراق (الطويل):
فسر في أمان الله للحق مسرعا وكن معرضا عن ذي الأمور الشنيعة
كحرص على مال، وحب ولاية، وكثرة أصحاب، ونيل المزية[18]
فالمرفوض من الدنيا هو أمورها الشنيعة، كالحرص على المال وحب الولاية والسلطة وطلب المزايا الدنيوية والإكثار من الأصحاب، خاصة، أبناء الدنيا الذين تعتبر مجالستهم سما قاتلا للمريد كما قال عبد الوهاب الشعراني[19]. فمن كانت هذه صفاته وأخلاقه كان محبوبه الهوى لا الله سبحانه، ومن يرغب في الخلاص فجوهره محبة الله لا الدنيا ومغرياتها.
إذا كان الصوفية في دعوتهم إلى التخلص من الدنيا قد رسموها في شتى الصور المذلة، فإن منهم من سار إلى الغاية نفسها متوسلا بضرب الأمثلة وأخذ العبر من الأمم الخالية والعصور البائدة.
عموما، قدم الصوفية صورة الدنيا ملفوفة في ثوب التوجيه والنصح، بلغة تحكمها ثنائية الترغيب والترهيب لإثارة المتلقي وإقناعه بضرورة التخلي عنها من خلال كبح جماح نفسه وإجهاض شهواتها عساه يرقى إلى مقام أعلى.
3 – الدعوة إلى تربية النفس وترك شهواتها:
لقد دعا الله تعالى إلى تربية النفس فقال: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) [النازعات: 39-40]، حيث جعل سبحانه تربية النفس وزجرها عن الهوى شرطا لدخول الجنة، والمراد بالنفس عند الصوفية كل “ما كان معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله”[20]، والنفس كما أوضح الشيخ العربي الدرقاوي: “أصلها طيب غاية الطيب، لكن تخبثت بعد طيبها، ودنت بعد علوها، وذلت بعد عزها، وافتقرت بعد غناها، وجهلت بعد علمها، وضعفت بعد قوتها، وتكدرت بعد صفائها”[21]، والعودة إلى الجوهر؛ عالم الصفاء، لا يتم إلا بمحو “سائر ما انتعش بالقلوب من الأكدار”[22]. وقد تمادى الصوفية في رسم صورة النفس وتشخيصها فجعلوها محل الأوصاف الذميمة، مسكنها النصف الأسفل من جسم الإنسان، تتردد بين البطن والفرج في حركة دائمة ونظرها شاخص باتجاه العالم الأرضي، مقابل الروح التي تقطن النصف الأعلى من الجسم وحركتها بين الصدر والرأس ونظرها شاخص باتجاه الأعلى، كذا جاء في كتاب: “الإشارة الكافية في نتيجة معرفة شيخ التربية” لصاحبه محمد البوكيلي العلوي[23].
إن النفس بهذا المعنى تشكل إلى جانب الدنيا ثنائية مرفوضة في التصوف كما أوضح ذلك صوفية فاس في كتاباتهم، فإذا كانت الدنيا مرتعا خصبا للشهوات والأهواء وأن النفس تجد فيها ضالتها، فقد استلزمت الدعوة إلى نبذ الدنيا دعوة أخرى إلى تربية النفس وصقل مرآتها، مادامت معرفتها هي مفتاح معرفة الله تعالى[24]، كما بين أبو حامد الغزالي، والوصول إليه تعالى لا يتم إلا من باب موتها بمخالفتها وترك رأيها بالكلية[25]. كما قال الشيخ العربي الدرقاوي: والموت ذاك يتحقق بالصبر المفضي إلى المراد، إذ “من لا يصبر لا ينال المنية والبغية” كما أوضح محمد بن عبد الكبير الكتاني في إحدى رسائله[26]. ولذلك وجدنا أحمد البدوي زويتن، أحد صوفية فاس الكبار يبين لمريديه كيف أن النفس وشهواتها وَهْمٌ ينبغي التخلص منه لأجل بلوغ مقام التحقيق، يقول: “أما باب عين التحقيق والأسرار ورفع وهم الحجب والأستار في تخلق النفس حسا بأوصاف عبوديتها من الذلة والضعف والعجز والافتقار بين يدي سائر المخلوقات لله الواحد القهار، قلت:
فإن شئت أن نسقيك من خمر كاسنا فكن خاضعا وارم السلاح بسرعة”[27]
لقد أسهم لسان الشعر وغيره في تربية النفس، بل شكل موضوعها مدار الحديث وقطب دائرته في شعر النصح والتوجيه الخلقي عند أعلام فاس وغيرهم؛ فلا تخلو قصيدة أو منظومة أو مقطعة مما وقعنا عليه مخطوطا ومطبوعا في هذا المجال من الدعوة إلى معالجتها وكبح جماحها، إما بشكل عام يستفاد منه ضرورة مراقبتها، أو بشكل تفصيلي يعتمد سرد ما ينبغي أن يتحلى به المتلقي المقصود من أخلاق حميدة وآداب سامية تؤهله لدخول التصوف أو مواصلة السفر في طريقه، سواء في علاقته بنفسه أو بربه أو بغيره من المريدين أو بكافة الناس من حوله، ومن نماذج الدعوة العامة قول محمد بن عبد الكبير الكتاني في ثائيته (الطويل):
ودونك ذل النفس فابغه، إنه يرقي على الأفلاك فوق المجرة
وإياك والإعطاء للنفس حظها فذاك هو الإغواء أصل البلية
وإياك أن تعنى بنفسك وألقها على الزبل إن شئت المعالي بسرعة
ومزق ثياب العز في جنب وصلها فإن فناء النفس شرط لوصلة
حيث تجمع هذه الأبيات بين التحذير من الاعتناء بالنفس، إذ في ذلك أصل البلية، والحث على تركها وتمزيق ثوب شهواتها، وفي ذلك شرط تحقيق الوصول.
لقد شخص شعراء التصوف ومنهم أهل فاس مرض النفس ووصفوا علاجه بتفصيل حين أسكنوا قصائدهم ومنظوماتهم أخلاق التربية وآدابها وأساليب المجاهدة من زهد وذكر وصدق وورع وتواضع وخوف وصبر وحلم وعفاف وكرم وتقوى، مع التزام حدود الشرع والله على نعمه والسعي في طلب وصاله.
لعل من أهم قصائد التوجيه التي تتبعت الأخلاق الصوفية اللازمة لتقويم النفس، وبالتالي تحقيق كمالاتها ومعانقتها للحظة الوصال، واعتمدت بشكل واضح على أسلوب التحبيب والترغيب، قصيدة لمحمد بن عبد الكبير الكتاني يقول فيها (الطويل) :
ولازلت أرعى في الطلول بوارقا لتنتعش الأوصال مما دهانيا
وقد ظفرت روحي بمغنى جمالها جزافا، لقد أمدت وصل وصاليا
فأكثر أخي من طاعة الله جهرة قياما ببعض الحق والشوق هاديا
وأكثر من الأذكار من دون ميقات وإحضار قلب في العبادات ساريا
وطهر قلوبا من شكوك قواطع تنوء عن الإحصاء ففتش دواعيا
وحاسب على الأنفاس نفسك إن من تقاعس عنها فهو في الفضل عاريا
جوارحك احفظها وصنها عن المنا هي، تحفظ في الدارين إن كنت واعيا
وشمر ذيول الحزم ليلك شائقا وقم في ظلام الليل ترعى الأمانيا
وأسهر جفونا في الصلاة مواصلا معاني الصلا للقلب طبا مداويا
وأيقظ قلوبا فهي غاية منية مراقب رب الملك في كل حاليا
ولا تفترن عن ذكر ربك والصلا على مركز الأنوار عين حياتيا
وكف لسان الشر عن كل مؤمن ولا ينهم تلقى من الشر واقيا
صموت، حيي، ذاكر، متورع، محب، شكور، هائم في العواليا
صبور على ريب الزمان، مسلم لما تبديه فينا البلايا السماويا
عفو عن الزلات، مغض إذا بدت عورات إخوان، كريم مداويا
وواصل رحم الطين والدين لا تكن مقاطع أرحام ولا تك ساهيا
وأخلص عبادات لربك جاهدا حظوظك جهدا لا تكون مرائيا
وراقب إله العرش دأبا لتحفظن طوارق آداب ولا تك لاهيا
غيورا يرى في القلب غيره، فالزمن موارد إسعاد تكون مداويا[28]
فالشاعر يقدم نصيحته في هذه القصيدة استنادا إلى تجربته الذاتية التي لخصها في البيتين الأولين مستهدفا إضفاء الشرعية على نفسه باعتباره حاملا للنصيحة، ثم التأثير في الآخر الملتقى المقصود والمرغوب فيه حتى يصغي إليه ويستوعب دعوته، وكأنه يريد أن يقول: “لقد اجتهدت وجاهدت نفسي حتى وصلت، فلتفعل أنت مثلي، وليكن نبراسك ما سأقوله لك…: أكثر أخي من طاعة الله ومن الأذكار…، طهر قلبك، كف لسان الشر عن كل مؤمن، صل الرحم، حاسب نفسك…، احفظ جوارحك…، اسهر جفونك في الصلاة مع الخشوع…”. هذا فضلا عن اعتماده على ألفاظ ذات دلالة عاطفية مؤثرة ومثيرة مثل: أكثر أخي، الشوق هاد، مع الإكثار من أفعال الطلب الدالة على أهمية تلك الأخلاق وضرورتها في حياة المتصوف المؤمن بتجربته والمريد المبتدئ الراغب في دخول الطريق الصوفي، وقد وجد الشاعر في وزن الطويل المتميز بامتداد مقاطعه، مع قافية الياء المطلقة وما يسمحان به من شرح وتوضيح، عونا له على حمل هذا الكم من الأخلاق والآداب وإبلاغها إلى المتلقي المقصود.
إذا كان هذا البعض من النماذج الشعرية الفاسية يتمحور أساسا في تحديد الأخلاق اللازمة لتكوين الشخصية الصوفية وتحفيز المتلقي وترغيبه في الطريق، فإن هناك من الشعراء الأقطاب من خاضوا تجربة التوجيه الخلقي في مستوى أعلى يخص أخلاق ومجاهدات مقامات وأحوال الوصول، ومن أمثلة ذلك قول أحمد بن عجيبة على لسان الحضرة الإلهية (الطويل):
تأدب مع الأحباب في كل وجهة وشاهد جمالي إني الكل جامع
وفي حالة الإبعاد والقرب والصفا وفي الجفا شاهدني وقلبك خاضع
وفي حالة الرضى مع السخط إنني أنا مظهر الأشياء لنا الأمر راجع
وفي البسط آداب إذا لم تقم بها تزل بك الأقدام والقلب تابع
حياء، وهيبة، وتعظيم نعمة، ومسك لسان القول إنه راتع
وإن جنك ليل من القبض حالك فهيئ له صبرا فضوؤه تابع
سكون وتسليم بما قد جرى به فضاء محتم من الحق واقع[29]
حيث يدعو الشاعر بلسان الحضرة الإلهية، ومن خلال معرفته الصوفية إلى الخضوع لله وسلب الإرادة له والتزام محبته في أحوال البعد والقرب والجفاء والصفاء، وفي حال الرضا والسخط، واحترام آداب حال البسط من حياء وهيبة وتعظيم نعمة وكتم أسرار، والصبر على ما يصحب حال القبض من انكماش وضيق في القلب يوجب السكون والهدوء.
هكذا، يتبين أن الدعوة إلى التصوف ممارسةً وسلوكًا خلقيًّا جمعت عند أهل فاس وغيرهم بين التوجيه إلى العمل وتسطير خطواته وأخلاقه، وبين تحديد عاقبته والتبشير بنتيجته المثيرة، كل ذلك في إطار مشروع الحفاظ على نقاء التصوف وسلامته من الابتداع والانتحال، وأيضا جلب المتلقي المريد المبتدئ وإغرائه بدخول التجربة الصوفية. وقد اعتمد الشعراء في ذلك على شبكة معجمية تتكون من ثلاثة حقول هي:
الحقل الغاية: ويضم ألفاظا تثير المتلقي لما تزخر به من معاني الوصول والكمال والصفاء.
الحقل الوسيلة أو الحقل المساعد: ويضم الأخلاق الحميدة التي تعتبر شرط الوصول إلى معاني الحقل الغاية: الصلاح، والطاعة، والعبادة، والصبر، والخشوع، والتوبة، والتقوى، والإخلاص، والصدق، والعزم والحزم…
الحقل المعوق: أو حقل الأخلاق الذميمة، كالطيش، والنوم، والغفلة، والطمع، ولذة النفس، والذنوب، والغرور، وحب المال، والجاه، والعز، والرفعة…
لقد استطاع الشعراء أن يضعفوا هذا الحقل الثالث وما يضمه من أخلاق ذميمة حين ألحقوا به “لا الناهية” وأفعال التخلية، في حين أمدوا حقل الأخلاق الحميدة، وقووه بأفعال الأمر التي تفيد التحلية والتزكية، وبذلك تكون لغة خطاب التوجيه هذا ذات بعد خلقي بدورها، ويكون شعره خلقيا في لفظه ومعناه وشخصية أصحابه ونواياهم، وكذا عهدنا صوفية فاس وكل المغرب سلوكا وإنتاجا فكريا وإبداعيا.
الهوامش:
- أبو ناصر السراج الطوسي: اللمع في التصوف.
- علال الفاسي، التصوف الإسلامي في المغرب، إعداد: عبد الرحمن بن العربي الحريشي، مؤسسة علال الفاسي، الرباط 1998، ص: 11.
- نفسه، ص: 19.
- أحمد الأزمي، الطريقة التجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن، 19، ج.1/17، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، 1421/2000.
- مصطفى ماء العينين، منتخب التصوف، ص:3، مطبعة أحمد يمني، فاس، 1325 هـ.
- محمد عبد الله الشرقاوي، الصوفية والعقل، دار الجيل، بيروت. ط.1:1995، ص: 33.
- محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، دراسة وتحقيق: محمد حمزة بن علي الكتاني، منشورات رابطة أبي المحاسن الجد:3، ط.1، 1424هـ/2003، ص:7.
- نفسه، ص:7.
- تنظر في: فتح الله بناني: تحفة أهل الفتوحات والأذواق في اتخاذ السبحة وجعلها في الأعناق، مطبعة التقدم، مصر، 1324، ص: 28- 29.
- محمد بن عبد الكبير الكتاني: القصيدة الثانية، مطابع الأنباء بالرباط، 1406هـ.
- ديوان: الحراق صنعة محمد بن العربي الدلائي، نشر وتقديم: جعفر بن الحاج السلمي، منشورات جمعية تطاون أسمير، سلسلة تراث 3، ط.1. 1996، ص: 10.
- محمد بن العربي الدلائي، “النور اللامع البراق في ترجمة الشيخ محمد الحراق” مخ. خ. ع:3321د، ص:115- 116.
- ابن عجيبة، الفهرس، ص: 87، شريط خ.ع. بالرباط، 1053.
- أحمد بن عطية السلاوي، “سلسلة الأنوار في طريقة السادات الصوفية الأخيار”، ص: 206، مخ. خ. ع. بالرباط، د: 2227.
- الحسن بن مسعود اليوسي: المحاضرات، ج.1/210، تحقيق وشرح: محمد حجي، وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1402/1982.
- ديوان اليوسي، طبعة حجرية، الملزمة 2، ص: 4.
- رسائل في الأدب والسلوك، ط.1/2001، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش ط.1/2001.
- ديوان الحراق، ص:
- الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، ج 1/51، تحقيق: طه عبد الباقي سرور، والسيد محمد عيد الشافعي، المكتبة العلمية، بيروت، ط.1، 1992.
- عبد الكريم بن هوازن القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، ص: 44، دار الكتاب العربي، بيروت، 1957.
- رسائل في الأدب والسلوك، ص: 136- 137.
- نفسه، ص: 137.
- مخ. خ. ع. بالرباط، ص:327-328.
- أبو حامد الغزالي، كيمياء السعادة، ص:4، مطبعة السعادة، مصر، 1343هـ.
- مولاي العربي الدرقاوي، رسائله، ص: 91، دار الطباعة الحديثة، الدار البيضاء.
- تنظر رسالة سفينة المحبة، ضمن: “من رسائل الإمام محمد بن عبد الكبير الكتاني في الآداب والسلوك”، تحقيق: محمد حمزة الكتاني، دار الرازي، ص: 76.
- أحمد البدوي زويتن، “المناجاة الفردية الإلهية في تبيين معالم الطريقة المحمدية”، مخ. خ. ع: د1869، ص: 184، صفحاته، 628.
- عبد الحي الكتاني، المظاهر السامية في النسبة الشريفة الكتانية، ج. 1/176-177، مخ. خ. ع: ك.3249.
- ابن عجيبة، الفهرس، ص: 86-87.
________________________
*نقلًا عن موقع “الرابطة المحمدية للعلماء”- المملكة المغربية.