الدراسات والبحوث

تأمُّلات ميتافيزيقيّة لِرونيه ديكارت: فلسفةُ أُريدَ بها عِلم

محمد كزو

تأمُّلات ميتافيزيقيّة لِرونيه ديكارت: فلسفةُ أُريدَ بها عِلم

محمد كزو

كان همّ ديكارت منذ تخرّجه من مدرسة “لافليش”، تقديم فلسفة ومنهج جديدين؛ لأنّ ما قرأه من عِلم وأفكار فلسفيّة تعود للقرن الرّابع قبل الميلاد، لم يعد يستطيع تلبيّة حاجاته الفكريّة، فالمستند المسيحيّ، في عصره، هو السّكولائيّ الجدليّ في المنطق الأرسطيّ، وهو عبارة عن مقدّمتين ونتيجة، ثمّ قوانينه في الفكر: الذّاتيّة، عدم التّناقض، الثّالث المرفوع، ثمّ يمكن أن نُلحقَ بها قانون العِلِّيّة، الذي يمكن أن يُدرس به الواقع الأنطولوجي، فـ «القوانين الأوّليّة للفكر ثلاثة؛ وهي: 1-قانون الذّاتية، وهو أنّ كلّ شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كلّ شيء هو نفسه، 2-قانون التّناقض: وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو. 3-قانون الامتناع: وهو أنّ الشّيء إمّا أن يكون أو لا يكون، أو: الشّيء إمّا أن يكون كذا أو غيره، وبعبارة أخرى: الشّيء إمّا أن يُجاب عنه بنعم أو بلا»(1).

عمومًا؛ بعد تجلّي عُقم المنطق الأرسطيّ، وأنّه لا يستطيع مُجاراة الحقائق والاكتشافات الجديدة، أعطى ديكارت عِوضه حلًّا قائمًا على المنهج الرّياضيّ، وهي أربع خطوات غيّرت الفكر الإنسانيّ إلى أبعد مدى، تمثّلت في: 1-الشّكّ 2-التّحليل 3-التّركيب 4-التّحقّق.

في هذا السّياق، أتى كتابه “تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى”، وفيها يبرهن على وجود الله وخلود النّفس، الذي نشره باللّاتينيّة أوّلًا، لأنّه كان موجَّهًا للخاصّة من العلماء والفلاسفة، سنة 1641م، ثمّ طبعة بالفرنسيّة راجعها ديكارت نفسه للدّوق دولوين، ابن وزير لدى المَلِك لويس الثّالث عشر. وأمّا الفلسفة الأولى، المقصودة في الكتاب، فهي فلسفة أرسطو: عِلم الموجود بما هو موجود، أي العِلم بالخصائص الجوهريّة للوجود.

كان المشكل عند ديكارت، هو أن نتبيّن متى يُسوَّغُ لنا إثبات الوجود؟ أو لنقل إنّ الميتافيزيقا الدّيكارتيّة، إنّما تهتمّ بالذّات التي تَعرِف والتي تُقرّر الوجود، أكثر ممّا تهتمّ بالموضوع الذي يمكن أن يعرف أو يكون موجودًا.

فاستعمل ديكارت التّأمّلات السّتّة التي يحتوي عليها الكتاب، بمنطق الشّكّ القائم على الافتراض التّالي: لا يوجد تطابق بين الفكر والواقع، ويجب البحث بمنهج على يقين يكون فيه هذا التّطابق موجودًا: وهو “الكوجيطو” أي العودة إلى الذّات، وهذا هو المنطلق الحقيقيّ للمعرفة.

بدأ ديكارت كتابه “التّأمّلات”، بإهداء إلى العمداء والعلماء بكلّية أصول الدّين المقدّسة بباريس، ولكنّه في الحقيقة تجاوز الإهداء إلى شبه مقدّمة، ظهر فيها ديكارت تلميذًا مسيحيًّا مؤمنًا إلى أبعد الحدود، ولا عجب أنّ الإهداء له سبب وجيه هو محاكمة جاليليو؛ فنلاحظ فيه الخوف الشّديد لديكارت من هذه المؤسَّسة الكنسيّة الدّينيّة، التي تتبنّى المنطق الأرسطيّ، الذي سينتقده ديكارت بين ثنايا كتابه “الـتّأمّلات”.

إذ استهلّ ديكارت، مباشرة، في إهدائه الحديث عن الله، وعن خلود النّفس، وعن إيمانه طبعًا، إذ يقول: «لقد كان رأيي دائمًا أنّ مسألتي الله والنّفس، أهمّ المسائل التي من شأنها أن تبرهن بأدلّة الفلسفة، خيرًا ممّا تبرهن بأدلّة اللّاهوت: ذلك إنّه، وإن كان يكفينا نحن معشر المؤمنين، أن نعتقد بطريق الإيمان بأنّ هنالك إلهًا، وبأنّ النّفس الإنسانيّة لا تفنى بفناء الجسد، فيقيني أنّه لا يبدو في الإمكان، أن تقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربّما بفضيلة من الفضائل الأخلاقيّة، إن لم نثبت لهم أوّلًا هذين الأمرين بالعقل الطّبيعيّ»(2).

ثمّ استشهد بنصوص من الكتاب المقدّس، ضدّ الكافرين الذين يجحدون وجود الله، دليلًا منه على إيمانه الكبير، وعلى عِلمه وواسع اطّلاعه بالأمور الدّينيّة، فاسترسل بالحديث عن وجود الله، وعن النّفس الإنسانيّة التي لا تفنى بفناء الجسم، كما يعتقد الملحدون؛ وأنّه سيقدّم براهين وحجج تعتمد على الفكر والفلسفة، وخصوصًا البراهين الرّياضيّة، يقول في هذا الصّدد: «أيّها السّادة: مهما يكن في الحجج التي أسوقها من قوّة، فلست آمل، نظرًا لانتسابها إلى الفلسفة، أن يكون لها أثر كبير على الأذهان إذا لم تشملوها برعايتكم؛ ولمّا كان لجماعتكم من تقدير النّاس كلّهم حظّ عظيم، ولمّا كان لاسم “السّوربون” عن علوّ المنزلة، ما جعل النّاس لا يقابلون أحكام أيّ جماعة أخرى، بعد المجامع المقدّسة، بمثل الاحترام الذي يقابلون به أحكام جماعتكم»(3).

ليخلص في نهاية إهدائه، إلى أنّه مسبقًا سيلتزم بالموقف الذي سيصدر عن علماء اللّاهوت كيفما كان، سواء أكان بعدم نشر الكتاب، أو تصحيحه، أو إضافة شرح فيه، أو تغيير في بعض أفكاره، بحيث إنّه يسعى كما تسعى الكنيسة، إلى ألّا يوجد شخص واحد يتجرّأ على الشّكّ في وجود الله، وفي التّمييز الواقعيّ الحقيقيّ بين نفس الإنسان وبدنه.

كان إهداء ذكيًّا –كما وصفه المتخصّصون- بِحيلة انطوت على رجال الدّين، إذ كان ديكارت يهدف إلى هدم المنطق الأرسطيّ، ولا علاقة له بالإيمان، ولكن اضطرّ الدّخول من باب الإيمان، ليخرج سالمًا من باب العِلم، وهو ما كان.

بعد الإهداء، يكتب ديكارت تصديرًا إلى القارئ سمّاه “تصدير من المؤلِّف إلى القارئ”، عالج فيه هو الآخر مسألة الله والنّفس، وأنّه ذَكَرها في كتابه “مقال عن المنهج” بأُنس، يقول عن هذه الفكرة: «فقد خيّل إليّ دائمًا، أنّ لهما من عظم الشّأن، ما يسوّغ الحديث عنهما أكثر من مرّة، بما يقتضيه المقام، ولقد التزمت في شرحهما سبيلًا قلّ سالكوه»(4)، وفي السّياق ذاته، تحدّث عن الاعتراضات التي وُجّهت إليه، من طرف ثلّة من العلماء والفلاسفة، أمثال “توماس هوبز”، والتي لم تكن –حسب ديكارت- ذات أهمّيّة كبرى إلّا اثنين منها، تعلّقَ الأوّل “بالكوجيطو”، والثّاني بوجود الأكمل من النّفس المُفكِّرة أي التي تُفكِّر، فالفكرة –هنا- عند ديكارت ليست عمليّة من عمليّات الذّهن، بل هي الشّيء الذي تُمثِّله هذه العَمليّة من التّفكير؛ ويقصد الحديث عن الله الضّامن للحقيقة، بما أنّ الإنسان شيء غير كامل، فحتمًا يوجد من هو أكمل.

وهذا يخالف ما يستدلّ به الملحدون، من كون الله عبارة عن انفعالات إنسانيّة سهلة الإدراك، وللعقل من القوّة والحكمة ما يستطيع به الإحاطة بأفعال الله، في هذا الخصوص، يقول ديكارت: «من أجل هذا لن نجد عناء في نقض أقاويلهم، بشرط أن نذكر أنّ من الواجب علينا اعتبار أذهاننا أشياء متناهية ومحدودة، واعتبار الله موجودًا لا متناهيًا، ولا سبيل إلى الإحاطة به»(5).

ليختم ديكارت تصديره، بأنّه سيتحدّث من جديد، عن ثنائيّة وجود الله وخلود النّفس بتوضيح أكثر، واضعًا بالجانب أسس الفلسفة الأولى، وينصح بقراءة كتابه للذين يستطيعون تجريد أنفسهم من مخالطة الحواسّ، والابتعاد عن الأحكام المسبقة.

ويذهب ديكارت بعد الإهداء والتّصدير، إلى كتابة موجزٍ للتّأمّلات السّتّة(6)، ففي الأوّل، تناول الأسباب التي تجعل في استطاعتنا أن نشكّ، على العموم في الأشياء كلّها خاصّة المادّيّة منها؛ لأنّ الشّكّ يمهّد لنا التّخلّص من ضروب الأحكام السّابقة، وينفعنا في التّجرّد عن الحواس، وأخيرًا يجعلنا نتيقّن من عدم الشّكّ مستقبَلًا في الأشياء التي تأكّدنا من صحّتها.

وفي التّأمّل الثّاني، تحدّث عن النّفس والجسم، وأنّهما جواهر متباينة ومتميّزة بعضها عن بعض، بمعنى يمكن تصوّر الجسم منقسمًا، وهو فانٍ، في حين إنّ الذّهن أو النّفس الإنسانيّة، لا يمكن تصوّرها إلّا غير منقسمة، وهي خالدة.

وفي التّأمّل الثّالث، بيّن دليله المهمّ، في إثبات وجود الله، وهو فكرة الله التي فينا، فالله ذاته علّة لها، أي يجب الابتعاد ما أمكن عن استعمال الحواسّ، وعن الاتّصال بها.

وفي التّأمّل الرّابع، يوضّح على أنّ جميع الأشياء التي نتصوّرها تصوّرًا جليًّا هي صحيحة، بينما الأشياء الخاطئة أو الباطلة هي كذلك، من حيث طريقة الحُكم عليها لا في نتائجها؛ وهي مسألة يمكن معرفتها بمعونة النّور الطّبيعيّ وحدَه.

وفي التّأمّل الخامس، يشرح ديكارت الطّبيعة الجسميّة على وجه العموم، ثمّ العودة إلى إثبات وجود الله بدليل جديد، كما تطرّق إلى يقين البراهين الرّياضيّة، المتوقِّفة هي أيضًا على معرفتنا بالله تعالى.

وفي التّأمّل السّادس والأخير، ميّز بين فعل “الفهم” وبين فعل “المخيّلة”، واصفًا علامات هذا التّمييز، ببيان «أنّ نفس الإنسان متميّزة عن الجسم حقًّا، وأنّها مع ذلك ملتئمة معه التئامًا، ومتّحدة به اتّحادًا يجعلها وإيّاه شيئًا واحدًا»(7)، ولكن أدلّة الأشياء المادّيّة، لا ترقى إلى يقينيّة مرتبة الأدلّة التي نتوصّل بها إلى معرفة الله ومعرفة النّفس وبداهتها.

والآن سنتناول أفكار كلّ تأمّل على حدة بنوع من التّفصيل، وهي كالآتي:

التّأمّل الأوّل: في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشّكّ

ومنها الأشياء جميعها قدر الإمكان، ومن هذا الأساس، يقول ديكارت: «تبيّنت من أنّني منذ حداثة سنّي، قد تلقّيتُ طائفة من الآراء الباطلة، وكنت أحسبها صحيحة، وأنّ ما بَنَيْتُه منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزّعزعة والاضطراب، لا يمكن أن يكون إلّا شيئًا مشكوكًا فيه جدًّا، ولا يقين له أبدًا»(8).

لأجْل هذا، يجب أن نضع موضع الشّكّ، ولو لمرّة واحدة، معروضات الحواسّ والأوهام والأحلام، والأشياء العامّة، يقول ديكارت: «فحكمتُ حينئذ، بأنّه لا بدّ لي مرّة في حياتي، من الشّروع الجدّي في إطلاق نفسي من جميع الآراء التي تلقّيتها في اعتقادي من قبل، ولا بدّ من بدء بناء جديد من الأسس، إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئًا وطيدًا»(9)، فنجد ديكارت يسعى لمواجهة المبادئ المؤسِّسة للمعرفة القديمة، لأنّه بتقويض الأسس سينهار البناء عكس مواجهة الأفكار كلّ واحدة على حدة، فعلى حدّ تعبيره، في هذه الحالة سيكون عملًا لا آخِرَ له.

وأما المعروضات الخاصّة للحواسّ فأساسها البصر، ومنها الألوان والأشكال والحجوم وغيرها، وأمّا أوهام الأحلام فهي ليست الخيالات التي يتخيّلها بعضهم، وينسج على منوالها، مثل كونهم ملوكًا وأجسامهم من زجاج فهذا حمق وخبل، بل هي الأحلام التي تستقيم وطبيعة الإنسان البشريّة التي يعتريها النّوم. فكيف سيفرّق ديكارت بين حالة اليقظة؟ التي يوجد فيها قرب النّار مرتديًا ملابسه، يكتب على ورقة محرِّكًا رأسه، وبين حالة النّوم؟ التي يرى فيها الأشياء ذاتها، ولكنّه على سريره متجرّدٌ من ثيابه؛ الجواب، سيكون تلك الأشياء العامّة التي تكون نماذج لتلك الأفكار الخاصّة، فمِن أين سيراها في المنام؟ إن لم تكن لها صورة حقيقيّة في الواقع.

وعليه، فالعناصر العامّة التي كان يستطيع خيالنا أن يكوّن منها هذه الأشياء العامّة، التي تعني عند ديكارت الجسم والعينين والرّأس واليدين وما شابه ذلك، يمكن أن تكون خياليّة، والنّتيجة وجود أشياء أخرى أبسط وأشمل منها هي حقيقيّة وموجودة، منها الامتداد والشّكل والكمّ والمقدار والعدد والمكان والزّمان وما شابه؛ لنلاحظ هنا، تحوّل ديكارت من الفلسفيّ إلى العِلميّ –وهو ما سنلحظه في ثنايا الكتاب- ناسفًا المنطق الأرسطيّ ومقدّماته العقيمة.

وفي الصّدد نفسه، ينفي هذا الشّكّ عن البراهين الرّياضيّة، التي تشتمل على يقين لا سبيل إلى الشّكّ فيه، فمجموع زوايا مثلّث هي مائة وثمانون درجة، سواء أكنت نائمًا أم مستيقظًا، ومجموع ثلاثة واثنين هو دائمًا خمسة، والمربّع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدًا، يقول ديكارت مؤكِّدًا: «وليس في الإمكان، أنّ حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح والجلاء، يصحّ أن تكون موضع شبهة خطأ أو انعدام يقين»(10).

ثمّ، يجب النّظر إلى الأشياء جميعها، كونها مشكوك فيها وباطلة كذلك، بوجود شيطان ماكر يريد تضليلنا، ومع ذلك، رسخ في معتقد النّاس، منذ زمن طويل، أنّ إلهًا قادرًا على كلّ شيء سبحانه كريم رحيم، و«ممّا يتنزّه عنه الله، واسع الكرم والرّحمة، أن يكون قد خلقني عرضة لضلال مقيم، فيبدو كذلك، ممّا لا يليق بمقامه، أن يأذن بوقوعي في الضّلال أحيانًا، وليس في استطاعتي أن أشكّ، في أنّ هذا يقع بإذنه»(11).

قد يوجَد من ينكر وجود الله، ويعتمد على القضاء والقدر أو الصّدفة أو حتّى الأسباب والمسبّبات، ولكن ما دام الخطأ والنّقص موجودين، فلَن يصدرا عن إله كامل، وإلّا كان نقصي يزيد ويزيد إلى ما لا نهاية، مُعرِّضًا الإنسان إلى الضّلال الأبديّ.

لذا، يقترح ديكارت فكرة الشّيطان الماكر المستحوذ على الحقيقة، ويقابلها برحمة الله وكرمه، لا لشيء سوى أن يتبيّن –وبالأحرى أن يُبيّن للجاحدين- للأبد الفرق بين النّقص والكمال؛ وإنْ أخذ هذا الشّيطان السّماء والأرض والهواء والألوان والأشكال والأصوات والجسم الإنسانيّ وكلّ شيء، فلن يستطيع أن يأخذ النّفس من الواقع الموضوعيّ أبدًا، وهذا هو موضوع التّأمّل الثّاني.

التّأمّل الثّاني: في طبيعة النّفس الإنسانيّة وأنّ معرفتها أيسر من معرفة الجسم

مع افتراض ديكارت، أنّ كلّ شيء باطل في هذا الوجود، ومعرفتُه غير يقينيّة، فما هو الشّيء الصّحيح إذن؟ ما مصدر هذه الأفكار في ذهننا؟ هل هي من إله كريم أم من شيطان رجيم؟ يسوِّغ ديكارت الحقيقة اليقينيّة الأولى التي هي [أنا أفكّر]، انطلاقًا من أنّ الإنسان يمكنه التّفكير في هذه الأشياء الموجودة كلّها، وإن لم يكن له لا جسم ولا حواسّ، فالله الكريم ضامنها، والشّيطان الرّجيم «متى أضلّني، فليضلّني ما شاء، فما هو بمستطيع أبدًا أن يجعلني لا شيء، مادام يقع في حسباني أنّي شيء، فينبغي عليّ، وقد رويت الفكر ودقّقت النّظر في الأمور جميعها، أن أنتهي إلى نتيجة، وأخلص إلى أنّ هذه القضيّة “أنا كائن وأنا موجود”، قضيّة صحيحة بالضّرورة، كلّما نطقتُ بها، وكلّما تصوّرتها في ذهني»(12).

فالإنسان عبارة عن جسم، له شكل وله امتداد، وربّما حركة صادرة منه أو من جسم آخر، وليس كالتّعريف القديم الذي يحصر الإنسان في الحيوان النّاطق، ومن تمّ كان لزامًا تعريف معنى الحيوان ومعنى النّاطق؛ وهكذا في سلسلة لا تنتهي؛ فما النّفس؟ وما صفاتها؟ النّفس جوهر يقينيّ، ومن صفاتها قوّة التّغذّي والمشي، فإذا لم يكن جسم لم تكن هي كذلك، ومن صفاتها أيضًا الإحساس، فإن لم يكن جسم لن يكون كذلك، ومن صفاتها التّفكير الذي يستمرّ، وإن لم يكن هناك جسم، فـ «الفكر هو الصّفة التي تخصّني، وإنّه وحدَه لا ينفصل عنّي، أنا كائن، وأنا موجود: هذا أمر يقينيّ»(13)، ولكن إلى متى يستمرّ هذا الوجود؟ ومن يضمن استمراره إذا كنت غير قادر على ذلك؟ «فقد يحصل أنّي متى انقطعت عن التّفكير تمامًا انقطعت عن الوجود بتاتًا»(14).

ممّا يعني، أنّ معرفة النّفس هي معرفة التّفكير، ولا شيء غيره في البداية، فهذا شيء بديهيّ، فالخيال والوهم لا يستطيعان البرهنة على حقيقة وجود النّفس، لأنّ برهنتهما غير مبنيّة على أساس واضح، فربّما بعد أن يزول الخيال والوهم، يجد الإنسان نفسه في غموض أكثر من غموضه الأوّل؛ يقول ديكارت: «ولكن أيّ شيء أنا إذن؟ أنا شيء مفكّر، وما الشّيء المفكّر؟ إنّه شيء يشكّ، ويفهم، ويتصوّر، ويثبت، وينفي، ويريد، ويتخيّل، ويحسّ أيضًا. حقًّا إنّه ليس بالأمر اليسير، أن تكون هذه كلّها من خصائص طبيعتي، ولكن لِمَ لا تكون من خصائصها؟ ألستُ أنا ذلك الشّخص نفسه، الذي يشكّ الآن في كلّ شيء على التّقريب، وهو مع ذلك يفهم بعض الأشياء ويتصوّرها، ويؤكّد أنّها وحدَها صحيحة، وينكر سائر ما عداها، ويريد أن يعرف غيرها، ويأبى أن يخدع»(15)، فكلّ الأفعال تخصّ النّفس، سواء كان الجسم حاضرًا أو غائبًا، ومعرفة النّفس لها تفسير وحيد وأوحد، هو الأنا التي تُفكِّر.

بينما وضوح معارفنا وتميّزها، ليس مرجعهما إلى الحواسّ ولا إلى الخيال، بل إلى الذّهن الذي يمكن أن يعرف بوضوح ويميّز؛ وهو الشّيء الذي تناوله ديكارت، في مثاله الشّهير عن القطعة من الشّمع، وفي الحقيقة، هو مثال كذلك، يضرب المنطق الأرسطيّ في الصّميم، بنقد قوانينه الثّلاثة، حول الذّاتيّة وعدم التّناقض والثّالث المرفوع، يقول ديكارت: «ولنأخذ مثلًا هذه القطعة من شمع العسل: لقد أُخذت لتوّها من الخليّة، فلم تذهب عنها بعد حلاوة العسل الذي كان فيها، ومازالت بها بقيّة من أريج الزّهور التي قُطِفت منها، لونها وحجمها وشكلها أشياء ظاهرة للعيان، وهي جامدة وباردة، ويسهل عليك أن تتناولها باليد، وإذا نقرت عليها خرج منها صوت، وعلى الجملة نجد فيها جميع الأشياء التي تجعلنا نعرف الجسم معرفة متميّزة. ولكن ها هي ذي قد اقتربت من النّار، وأنا أتكلّم، فماذا أشاهد؟ يتلاشى بقيّة طعمها، وتذهب رائحتها، ويتغيّر لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها وتصبح من السّوائل، وتسخن حتّى يكاد يصعب لمسها، ومهما تنقر عليها فلن ينبعث منها صوت»(16)، فالشّمعة مازالت موجودة، ولكن في الحقيقة ليست ذاتها بل كمّيّة المادّة نفسها؛ وعليه تكون الحواسّ غير مُدْرِكة للحقائق دائمًا، لأنّ ما كان تحت حواسّ السّمع أو الشّمّ أو البصر أو الذّوق أو اللّمس، قد تغيّر كلّه جذريًّا، في حين مازالت قطعة الشّمع أمامنا؛ فالمادّة تأخذ أشكالًا عديدة يعرِفها الفكر، لا الحواسّ أو الخيال.

فنستنتج إذن، أنّ الحقائق التي تعرفها النّفس أكثر يقينًا، وأكثر تميّزًا من أيّ معرفة أخرى، ما يظهر في المثال الثّاني الذي ساقه ديكارت في السّياق ذاته، والأكثر روعة هو الآخر، لأنّه يتحدّث عن الإنسان فقط، الذي يمتلك العقل والتّفكير، ونَزَعه عن كلّ ما سواه في الكون كلّه، وإن كانت الحيوانات تشبه الإنسان في الحاجات الغريزيّة، يقول ديكارت عن المعرفة التي يملكها العقل، والعقل وحدَه: «إنّي أنظر من النّافذة، فأشاهد بالمصادفة رجالًا يسيرون في الشّارع، فلا يفوتني أن أقول عند رؤيتهم إنّي أرى رجالًا بعينهم، كما أقول إنّي أرى شمعة بعينها، مع أنّي لا أرى من النّافذة غير قبّعات ومعاطف، قد تكون غطاء لآلات صناعيّة تحرّكها لوالب، لكنّي أحكُم بأنّهم ناس»(17)، إذ تختلط هنا معرفة الحواسّ أو القوّة الواهمة، التي منها العين، بما كان الإنسان يعرف بذهنه، من قوّة الحُكم الإنسانيّ، والإنسانيّ فقط.

التّأمّل الثّالث: في الله وأنّه موجود

يبدأ ديكارت تأمّل وجود الله باقتراح جديد، هو أن يعطّل الإنسان حواسّه كلّها، وأن يعتبر في فكره جميع صور الأشياء الجسميّة باطلة على الأقلّ، إن كان محوها صعبًا؛ فيبقى الإنسان، على الرغم من هذه الهيئة الجديدة، يفكّر ويحسّ ويُثبت، يقول ديكارت: «ولمّا كان مقصودي الآن أن أوسّع مجال معرفتي (…) لأرى إذا كان ما يزال في استطاعتي، أن أكتشف في نفسي أشياء أخرى لم أتنبّه بعد إليها، أنا واثق أنّي شيء يفكّر، ولكن، ألا أعرف أيضًا ما هو المطلوب لكي أكون على يقين من شيء؟»(18).

بينما، معرفة الحواسّ خاطئة وقابلة للشّكّ، على الأقلّ قد يدرك منها الإنسان شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو وجود أشياء خارجة عنه –سواء أكانت الصّحيحة [الرّياضيّات] أم الخاطئة [الحواسّ]- هي التي أوصلته لهذا التّفكير، إنّه الله؛ يقول ديكارت: «ولكن يلزمني، لكي يتسنّى لي أن أدرأه درءًا تامًّا، أن أنظر في وجود إله، عندما تسنح الفرصة لذلك، فإذا وجدت أنّ هنالك إلهًا، فلا بدّ أيضًا من أن أنظر هل من الممكن أن يكون مضلًّا؟: فبدون معرفة هاتين الحقيقتين، لا أرى سبيلًا إلى اليقين من شيء أبدًا»(19).

وبما أنّ المعرفة عند ديكارت، تنقسم إلى معرفة فطريّة، وعلى أساسها تقوم عليها الأفكار في المعرفة الخارجيّة، فإنّ الأشياء الدّخيلة التي يتصوّرها الإنسان، لا وجود لها إلّا في الخيال، فهي أفكار مصطنعة عارضة، كحوريّة البحر أو غول أو غيرهما؛ ولمّا كانت المعرفة الفطريّة، أساسها النّور الفطريّ في كلّ جوف، فهي أفكار تمتلك في ذاتها وجودًا موضوعيًّا، أكثر ممّا تمتلك الأفكار المتناهية؛ يقول ديكارت: وهي «الفكرة التي بها أتصوّر إلهًا، له العزّة والمُلك، أزليًّا لا متناهيًّا، منزّهًا عن التّغيّر، عالِمًا بكلّ شيء، قادرًا على كلّ شيء، خالقًا لجميع الأشياء الخارجة عن ذاته»(20).

والنّتيجة، بهذا التّفكير الفطريّ، يظهر أنّ للعلّة الفاعلة قدر ما في معلولها على أضعف تقريب، وعليه فالعدم لا يمكن أن يُحدث شيئًا، وأيضًا الكامل لا يمكن أن يكون تابعًا، ولا واثقًا على ما هو أقلّ منه كمالًا؛ إنّها فكرة الله التي يقصدها ديكارت: «جوهرًا لا متناهيًا، أزليًّا، منزّهًا عن التّغيّر، قائمًا بذاته، محيطًا بكلّ شيء، قادرًا على كلّ شيء، قد خلقني أنا وجميع الأشياء الموجودة، إن صحّ أنّ هنالك أشياء موجودة (…) فلا بدّ أن نستخلص من كلّ ما قلته من قبل أنّ الله موجود، لأنّه، وإن كانت فكرة الجوهر موجودة في نفسي، من حيث أنّي جوهر، إلّا أنّ فكرة جوهر لا متناه ما كانت لِتوجد لديّ أنا الموجود المتناهيّ، إذا لم يكن قد أودعها في نفسي جوهر لا متناه حقًّا»(21)، فبهذا المعنى، تكون فكرة اللّامتناهي سابقة لدى ديكارت على فكرة المتناهي، أي إنّ إدراك الله سابق إدراك النّفس؛ وامتلاك فكرة عن الله يدلّ حتمًا على وجود إله، ما دام الإنسان نفسه موجودًا يملك هاته الفكرة.

نظير هذا، لو كان الإنسان مستقلًّا عن كلّ ما سواه، وكان هو خالِق وجوده، لم يكن لِيَشُكّ في شيء أو يتمنّى شيئًا، بل لم يكن لِيفتقر إلى أيّ كمال، ناهيك عن أنّ الإنسان، سيمنح نفسه الكمالات كلّها التي يمكن أن توجد، وبالتّالي سيكون حينئذ إلهًا أزليًّا، وهذا مستحيل بما أنّ الإنسان مُتغيِّر فانٍ.

ومن هنا، ينتقل ديكارت لدليل آخر على وجود الله، وهو استمرار الوجود الذي لا يمكن للإنسان أن يحفظه لنفسه، بمعنى آخر: الإنسان كان موجودًا في الزّمن القريب، وهو موجود كذلك في اللّحظة الحاضرة، فمن سيضمن له الوجود في اللّحظات المستقبليّة؟ وبالتّالي، فهو معتمِد على قوّة أخرى تفعل ذلك، إنّه الله.

على الصّعيد نفسه، ففكرة وجود الله في النّفس، هي فكرة فطريّة تولد مع كلّ إنسان، «والحقّ، أنّه لا ينبغي أن نعجب من أنّ الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة، لكي تكون علامة للصّانع مطبوعة على صنعته (…) بل أعرف أيضًا، في الوقت نفسه، أنّ الذي أعتمد عليه، يملِك في ذاته كلّ هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها، والتي أجد في نفسي أفكارًا عنها، وأنّه يملكها وبالفعل وإلى غير نهاية، ومن ثمّ أعرف أنّه هو الله»(22)، فلو كان هذا الشّعور الفطريّ ناقصًا أو جاء من مُخادع، فهو عيب ونقص، ولا يمكن بالضّرورة أن يصدر من إله كامل كمالًا مطلقًا، منزّه عن أوجه النّقص كلّها.

نستخلص ممّا سبق كلّه، أنّ الوضوح علامة على الحقّ، تُستشفّ من أنّ الله موجود وليس مُضَلِّلًا، وكلّ فكرة لابدّ لها من علّة، يكون لها من الوجود الفعليّ، بقدر ما يكون لتلك الفكرة من وجود ذهنيّ، وإذن ففكرة الكامل تأتي من وجود كامل؛ وحتّى إن اعتبرنا كائنًا ناقصًا، كالإنسان، يملِك في نفسه فكرة عن الكمال، لهو دليل آخر على وجود الله، بمعنى وجود موجود ناقص يملِك فكرة الكامل.

التّأمّل الرّابع: في الصّواب والخطأ

تطرّق ديكارت في هذا التّأمّل إلى الحواسّ، وعدّها مصدرًا من مصادر الخطأ، وعدم الاعتماد على الحواسّ في تحصيل معرفة، سيكون غالبها صحيحًا، وقليلة في الوقت نفسه. وتَرَتَّب عند البدء في عمليّة الشّكّ، أنّ الإنسان في هاته اللّحظة يُعبِّر عن نقصه، مُعترفًا بشكل ضمنيّ اعتماده على غيره الكامل؛ فمعرفة الله هي الخطوة الأولى لعِلم الطّبيعة، كما سيأتي من معرفة الصّواب والخطأ.

وحيثما الله صادق، لن يكون أبدًا سببًا في الخطأ، وبما أنّه وهَب الإنسان مَلَكة التّفكير والحُكم السّليم، فمتى استعملها الإنسان على وجه صحيح، وكما ينبغي، ستقوده إلى الصّواب حتمًا؛ في حين إذا اعتمد على نفسه فقط، فإنّه عرضة لأخطاء لا تحصى، يقول ديكارت: «فإذا أخطأتُ، لم أكن بحاجة إلى مَلَكة من عند الله لهذا الغرض خاصّة، وإنّما مرجع خطئي هذا إلى ما منحني الله من قوّة، على تمييز الصّواب من الخطأ، هي عندي قوّة متناهيّة محدودة»(23).

ولمّا كانت الإرادة أوسع نطاقًا من الفكر، بمعنى يستطيع الإنسان أن يفعل الشّيء أو لا يفعله، وأن يثبته أو ينفيه، فـ «ما أقع فيه من خطأ، ليس ناشئًا من قوّة الإرادة ذاتها التي أنعم الله بها عليّ (…) إنّه ينشأ من أنّ الإرادة أوسع من الفهم نطاقًا، فلا أبقيها حبيسة في حدوده، بل أبسطها أيضًا على الأشياء التي لا يُحيط بها فهمي، ولمّا كانت الإرادة من شأنها ألّا تبالي، فمن أيسر الأمور أن تضلّ، وتختار الزّلل بدلًا من الصّواب، والشّرّ عوضًا عن الخير، ممّا يوقعني في الخطأ والإثم»(24)، بالتّالي نسلّم بكون عقل الإنسان متناهيًا، ولا يحيط بكلّ شيء، وهكذا هي طبيعة الشّيء المخلوق؛ وكان حريّ بالإنسان أن يشكر الله تعالى، على أن وهبه حرّيّة الاختيار، لا أن يُفكِّر لماذا لم يخلقه بالكمالات كلّها؟

باختصار في هذا التّأمّل، فالله صادق وليس سببًا لخطأ الإنسان، وخطأ هذا الأخير هو النّقص الذي يوجد فيه؛ والخطأ –حسب ديكارت- عَوَز وله علّة إيجابيّة، وهي أنّ الله كامل، والإنسان ناقص بالضّرورة، ولو كانت له حرّيّة الاختيار؛ وأمّا عصمة الإنسان مع توفّره على معرفة محدودة، لا يستقيم وحرّيّة الاختيار التي يملكها، فهو يتعامل مع كلّ معرفة واضحة، باعتبارها معرفة لن تصدر من العدم أبدًا، فالله خالِقها.

التّأمّل الخامس: في ماهية الأشياء المادّيّة والعودة إلى الله ووجوده

ينتقل ديكارت، في هذا التّأمّل، إلى الحديث عن الذّات الإنسانيّة، من زاوية كونها تملِك فكرًا عن الأشياء التي تمتاز بالشّكل والامتداد، أي في الذّهن قبل أن يتحقّق خارج الذّات، وهي الرّياضيّات عنده، ويعطي أمثلة لهذه المعرفة التي لا يمكن أن تتغيّر، وهي حقائق ثابتة، ومنها المثلّث الذي له شكل محدّد، ولو لم يكن له وجود خارج الفكر، وله خواصّ منها، «أن تكون زواياه الثّلاث مساويّة لزاويتين قائمتين، وأن تكون الزّاوية الكبرى مقابِلة للضّلع الأكبر، وخواصّ أخرى كهذه، أتبيّنها فيه الآن (…) بقدر عظيم من الوضوح والبداهة، مع أنّ هذا الأمر لم يخطر ببالي بتاتًا، حين تخيّلت مثلّثًا لأوّل مرّة، ولهذا لا يمكن أن يقال: إنّ هذه الخواصّ من صُنعي واختراعي»(25)، فما يعرفه الإنسان بوضوح وتميّز فهو حقّ.

إنّ اليقين الصّادر عن هذه الحقائق الثّابتة، يستدعي أنّ الله موجود، لا في الماهية فقط، بل حتّى في الوجود، بمعنى لا يمكن أن نتصوّر إلهًا بدون وجود، كما لا يمكن أن نتصوّر جبلًا بدون واد، يقول ديكارت: «لكنّ القياس هنا مع الفارق (…) إذ إنّ كوني لا أستطيع أن أتصوّر جبلًا بغير واد، لا يقتضي وجود أيّ جبل، ولا أيّ واد في الخارج، وإنّما يقتضي أنّ الجبل والوادي (…) لا ينفصل الواحد منهما عن الآخَر، أما كوني لا أستطيع أن أتصوّر الله إلّا موجودًا، فيقتضي أنّ الوجود غير منفصل عنه، ومن ثمّ إنّه موجود حقًّا»(26)، فالله هو الكائن الكامل، وبما أنّ الوجود كمال، فإنّ الله موجود.

والنّتيجة، إنّ وجود الله هو الضّامن للحقيقة، فهو ليس بمخادع إطلاقًا سبحانه، فالأشياء جميعها معتمدة عليه خصوصًا ما كان ذا معرفة واضحة جدًّا، وحتّى ما كان باطلًا ثمّ عَرف الإنسان أنّه صحيح، وأيضًا ما اعتبره الإنسان صحيحًا فتبيّن له أنّه خاطئ، والجواب سهل وبسيط، هو أنّ الإنسان لم يكن يعلم بهذه الأمور، معرفة واضحة متميّزة من قبل؛ والشّيء نفسه يُقال عن النّوم: أي إنّ الأشياء التي يمكن أن يكون الإنسان مستيقنًا منها هي أحلام فقط، ولكنّ النّوم لا يبطل قوانين العقل، وإنّما يوقف عمل الحواسّ، فالذّاكرة ميزان يفرز الأشياء الصّحيحة من الخاطئة بين اليقظة والنّوم؛ فما كان صحيحًا عاشه الإنسان يتذكّره، وما كان أحلامًا يزول مع الوقت، وقد يزول بعد الاستيقاظ مباشرة، وقد لا يتذكّر الإنسان منه شيئًا أبدًا، يقول ديكارت مُستنتِجًا: «وإذن، فقد وضح لي كلّ الوضوح، أنّ يقين كلّ عِلم وحقيقته، إنّما يعتمدان على معرفتنا للإله الحقّ؛ بحيث يصحّ لي أن أقول: إنّي قبل أن أعرف الله، ما كان بوسعي أن أعرف شيئًا آخر معرفة كاملة، والآن وقد عرفته سبحانه، قد تيسّر لي السّبيل إلى اكتساب معرفة كاملة لأشياء كثيرة»(27).

يتلخّص إذن مذهب ديكارت الفلسفيّ، في الوجود اعتمادًا على معرفة الذّات، أي “الكوجيطو” ثمّ معرفة الله بالنّور الفطريّ، وأخيرًا معرفة العالَم الخارجيّ؛ وأسس هذا المذهب، أنّ كلّ صفة متضمّنة في معنى شيء تَصْدُق عليه، فالله موجود لأنّ الوجود متضمّن في فكرة الله، وكلّ يقين يقتضي يقين وجوده.

التّأمّل السّادس: في وجود الأشياء المادّيّة وفي التّمييز الحقيقيّ بين نفْس الإنسان وبدنه

يختم ديكارت تأمّلاته بالحديث عن الموضوع بدل الذّات، فوجود الأشياء المادّيّة هو الانتقال من معرفة الذّات المفكّرة، التي حسم بها ديكارت وجوده ووجود الله تعالى، إلى العالَم الخارجيّ أي العالَم الموضوعيّ.

فغاية ديكارت في هذا التّأمّل إذن، إثبات الذّات المُفكّرة، أي الأنا أوّلًا، ثمّ الباقي ثانيًّا بما فيه الجسد الفاني، الذي يسري عليه ما يسري على أجزاء الطّبيعة؛ لذلك يطرح ديكارت السّؤال التّالي: ولكن نحن عرفنا الله اعتمادًا على التّأمّلات السّابقة، فهل هو الذي خلق العالَم الخارجيّ؟ يكون الجواب إذن، إمّا بالإثبات وإمّا بالنّفي، أمّا الأوّل فيستدعي كون كلّ ما يفكّر فيه الإنسان مخلوقًا أو سيُخلَق، وأمّا إذا كان الثّاني، فهذا يدلّ على أنّ التّجربة هي الفيصل، فيما كان هذا الإله خالقًا أم لا، بحيث، «كثيرًا من التّجارب، قد قوّضتْ شيئًا فشيئًا كلّ ما كان لديّ من ثقة في الحواسّ؛ لأنّي لاحظتُ مرّات كثيرة، أنّ الأبراج التي كانت تلوح لي مستديرة عن بُعد، إنّما تلوح مربّعة عن قرب (…) وكذلك، فيما لا يحصى من المناسبات الأخرى، وجدت خطأ في الأحكام المبنيّة على الحواسّ الخارجيّة، بل في الأحكام المبنيّة على الحواسّ الدّاخليّة، إذ هل هناك ما هو أعمق وألصق بالنّفس من الألم؟ ومع ذلك، فقد تعلّمتُ فيما مضى من بعض الأشخاص، الذين كانت أذرعهم وسيقانهم مبتورة، أنّه كان يلوح لهم أحيانًا أنّهم يحسّون ألمًا في الجزء المبتور من أجسامهم»(28).

وللخروج من مأزق الحواسّ، يستنجد ديكارت بالنّفس التي تؤدّي إلى معرفة الله، ومعرفة الوجود أيضًا، وهي خاصّية الإنسان الوحيدة، القادرة على فهم الذّات ثمّ الطّبيعة؛ فالنّفس تُفكّر وغير ممتدّة، والجسم ممتدّ ولا يُفكّر، بالتّالي فَهُما متمايزان بوضوح. لا ينفي هذا، أنّ هناك أشياء تَعلّمها الإنسان من الطّبيعة كالجوع والعطش، وعلى الرّغم من كرم الله، يقع الإنسان في الخطأ، عندما يصدر حُكمًا على الطّبيعة خاصًّا بالمشاعر الدّاخليّة الفطريّة، و«مثال ذلك، إنّ الطّعم اللّذيذ الذي يَكُون لِقطعة من اللّحم، خُلِط بها شيء من السّمّ، قد يدعوني إلى تناول هذا السّمّ فأكون مخدوعًا، صحيح أنّ الطّبيعة هنا يمكن أن يُلتمس لها العذر، لأنّها إنّما تسوقني إلى اشتهاء اللّحم ذي الطّعم اللّذيذ، لا إلى اشتهاء السّمّ الذي هو مجهول لديها، بحيث أنّي لا أستطيع أن أستخلص من هذا شيئًا، سوى أنّ طبيعتي لا تعرف جميع الأشياء معرفة تامّة شاملة؛ ولا محلّ للعجب من هذا، إذ إنّ الإنسان لمّا كان ذا طبيعة متناهيّة، فلا يستطيع أن يظفر إلّا بمعرفة محدودة الكمال»(29).

وهكذا، ينتهي التّأمّل بعدما عَرَض ديكارت الأدلّة على وجود الأشياء المادّيّة، وعرض أيضًا طبيعتها، ثمّ ختم بأنّ الإنسان لا يمكنه اتّهام الطّبيعة، لكونها تجعلنا نخطئ في أمر الأشياء النّافعة أو الضّارّة، فالخطأ يعود في النّفس الإنسانيّة للذّات لا للطّبيعة.

خاتمة

كان ديكارت وما يزال، المُحرِّك الأول للحداثة بشكلها الفلسفي، الذي يُخفي كثيرًا من العلم داخل أفكاره، كيف لا ؟ وهو الذي حرّكتْ فكره أشياء كان يَلحظها لا تؤدّي المطلوب منها، سواء أكان العِلم النظري أم التطبيقي؛ فنادى إلى العِلم بلبوس فلسفي، أي أعطى مبادئ العِلم الجديد الذي يناقض العِلم الأرسطي القديم، بطريقة مستساغة عن طريق الإيمان الآمن، سيما إذا علِمنا أن فترة ديكارت الزمنية في القرن السابع عشر للميلاد، كانت مرحلة تتسم بالقداسة للأفكار الأرسطية، وكل من تجرأ عليها يجد نفسه مضطهدا بل ميتا، وجاليليو وقبله جيوردانو برونو لَخير دليل.

فعنوان الدارسة: “تأمّلات ميتافيزيقيّة لرونيه ديكارت: فلسفةُ أُريدَ بها عِلم”، جاءت على منوال القولة الشهيرة في بداية الانقسام الإسلامي، وهي: “حقّ أُريد به باطل”، وما للجملة من معانٍ.

—————————————————————————————

الهوامش:

(1) مبادئ الفلسفة، أ. س. رابوبرت، ترجمة أحمد أمين، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ط1/2014م، ص35.

(2) تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ط1/2009م، ص:44.

(3) نفسه، ص:45. وكلمة “السّوربون” الموجودة في هذا الاقتباس، هو اسم جامعة وسط مدينة باريس، تأسّست أواخر القرن الثّاني عشر ميلادي (1150م).

(4) نفسه، ص:47.

(5) نفسه، ص:50.

(6) هذه الفقرات التّالية عن موجز التّأمّلات، مأخوذة من كتابه: المرجع نفسه، ص: من 55 إلى 60، بتصرّف.

(7) تأمّلات ميتافيزيقيّة في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، مرجع سابق، ص:59-60.

(8) نفسه، ص:71.

(9) نفسه، ص:71.

(10) نفسه، ص:77.

(11) نفسه، ص:77-78.

(12) نفسه، ص:95.

(13) نفسه، ص:99.

(14) نفسه، ص:99.

(15) نفسه، ص:101-102.

(16) نفسه، ص:104-105.

(17) نفسه، ص:107-108.

(18) نفسه، ص:132.

(19) نفسه، ص:130.

(20) نفسه، ص:142.

(21) نفسه، ص:152-153.

(22) نفسه، ص:163-164.

(23) نفسه، ص:180.

(24) نفسه، ص:179.

(25) نفسه، ص:211.

(26) نفسه، ص:214.

(27) نفسه، ص:221-222.

(28) نفسه، ص:246-247.

(29) نفسه، ص:259.

_________________________________

*نقلأً عن موقع ” أفكار للدراسات والأبحاث”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى