الدراسات والبحوث

العلم و الأيديولوجيا

ادريس هاني

العلم و الأيديولوجيا

ادريس هاني

يستمر الخطأ نفسه في تقييم العلم وتقدير الأيديولوجيا. ما هذه المقابلة الخاطئة؟ لم الإصرار على هذه المقابلة، مع أنّ الأيديولوجيا لا فكاك عنها؟

هل أحدّثك قليلا، على أن حاجة العلم إلى أيديولوجيا تحرّره، هو دعوة علمية جريئة؟ هل تعلم أنّ الإنسان يمارس كل مستويات التدليج في لحظة مونولوغ خفي مع نفسه؟ هل تعلم أنّ أحلامنا في النوم واليقظة هي ذات طبيعة أيديولوجية؟ الحبّ أيديولوجيا كما الكراهية والحقد؟ هل تعلم أنّ الدين ما كان له أن يكون كذلك، حتى عانق رموز المكان والزمان وأصبح خطابا مبينا، يحرك المخيال الموصول بثقافة المتلقي، وبأنّ البيان والإقناع، تماما كالزيف والتضليل، كلاهما أيديولوجيان؟ فإذن:  لكم دينكم ولي ديني؟ لكم أيديولوجيتكم ولي أيديولوجيتي.

عودة مرة خرى إلى العلم وصلته بالأيديولوجيا، في مستوياتها ومداركها المختلفة، دحضا لأيديولوجيا مزيفة جبانة، كالعلموية التي سقطت في أسوأ الأيديولوجيات، كالوضعانية التي قدّمت تفسيرا للمادة والعلم، على أساس نسق حجاجي لا يفتأ توسّل بعناصر الأيديولوجيا.

التشريح أو بالأحرى التحليل لنمط التفكير العَالِمي داخل المختبر، لا ينفكّ عن أُطر خفية وواعية أيضا، في صيرورة الاكتشاف والإستلهام والاستنتاج والترجيح، يغدو فيها العالم الممارس تحت طائلة أحواله الشخصية وتجاربه الخاصة، شيء يصعب على من لم يعاقر العلم أن يفهمه.

الأيديولوجيا حاضرة ما حضر الدماغ البشري، بوصفه يوجد في ظروف اجتماعية وسياق ثقافي وتاريخي، وهذا الدماغ الذي يبدو بمثابة مركز استقبال الإشارات، يخضع لتطبيقات تتحدد بالشروط الموضوعية، وأنماط جدل الفرد وشروطه الاجتماعية والتاريخية، العقل يتحدد كمخرج لهذه الخبرة.

إذا كانت الأيديولوجيا وظيفتها الإقناع كما ذهب العروي، فهي نفسها تحتاج إلى إقناع، فخلف كل أيديولوجيا ظاهرة أيديولوجيا خفية.

التحكم بالعناصر الأيديولوجية، قد يساهم في تغيير وجهة الأطر المعرفية نفسها. ما يبدو تفكيرا أيديولوجيا، قد تكون له آثار على طريقة التفكير والممارسة العلمية نفسها. وأنا على يقين، أنّنا لو وضعنا تقنيات العلم أمام طفل من الهنود الحمر، وطلبنا منه الاحتفاظ قدر الإمكان بنمطه الثقافي، عن طريق إحداث مدارس تجريبية، يتم فيها تلقين العلوم دون تسريب مقتضياتها الأيديولوجية، أي تلقين العلم بمقتضيات ثقافية خاصة، ثم نشرع في ممارسة العلم بثقافة أخرى، لاكتشفنا أنّ ما كانت تحجبه تلك الأطر المعرفية، قد ينكشف عند التحرر من نماذجها، وربما قد يكون في النماذج البدائية والطبيعية ما يسهّل الطريق على العَالِم. وهذا، يؤكد أنّ العلم قد يكون كونيّا، لكن أيديولوجياته متعددة الخصوصية، وقابلة للتغيير والاستبدال.

لا يمكن إلغاء أيديولوجيا العصر، لأنّها أيضا تجربة إنسانية في شروط مختلفة، ولكن دور حوار الثّقافات مهمّ، ليس في تدليل أوضاع العيش المشترك بمستوياته الاجتماعية والسياسية، بل هو ضرورة يقتضيها مصير العلم نفسه. إنّ حوار الثقافات والحضارات، أقصد الحضارة الحديثة والحضارات القديمة، من شأنه أن يغني التجربة العلمية. فالإنسان القديم أو في الأنساق الثقافية المختلفة، قد يخاف مما يجرؤ عليه الإنسان المعاصر، كما أنه قد يجرؤ على ما يهابه الإنسان المعاصر. وجب توسيع الأفق من خلال سفر أنثربولوجي في الزمن، وهذا ما يعني الحاجة إلى أنثربولوجيا الجماعة العلمية، انثربولوجيا قوى وأنماط التفكير.

أرى في أنارشية فيرابند ما هو جدير بفهم هذه الحقيقة. أي حينما ربط بين الإبداع وهدم النموذج والفوضى. العلم مدين لهذه الفوضى، حتى لا نقول الثورات العلمية التي تأتي في وقتها حين يستنفذ الباراديم أغراضه.

داخل المختبر وفي مسار التجريب، نحاسب العالم على خطواته العلمية فقط. تطبيق النماذج تخدم النماذج، أما تطبيق الحدس فهو يخدم العلم. وحتى الآن، لا زلنا في وضعية عبادة المنهج لا تحقيق العلم. العلم يتطلب تحررا واستقلالا وجرأة على التخلي في لحظة جذب علمي على كل المعيقات، والإبقاء فقط على الحدس والتقنية.

إعادة قراءة ماركس ألتوسيريا، هو تعزيز مكانته كفيلسوف، غير وارد في محاولته إقصاء الفلسفة ولا حتى الأيديولوجيا تحقيقا للعلم العاري، بل تعزيز فهم مختلف لمادية المادة، والموقف الإنساني ضدّ الاستغلال الإنساني. هنا العلم ليس عاريا شأن الوضعانية نفسها، التي سيعتبرها ألتوسير مذهبا فلسفيا هي الأخرى، بل لا فكاك من السباحة في عناصر الأيديولوجية بمستوياتها المختلفة.

سيتوسل العَالِم بعناصر أيديولوجيا للدفاع عن نفسه ضد عناصر أيديولوجيا خاطئة، فالعلم والأيديولوجيا بينهما علائق ظاهرة وخفية على كلّ حال. لكن وبالعودة إلى ألتوسير، نرى أن محاولة ماركس في تعزيز هذه الرؤية الفلسفية المادية لم تكتمل. عدم الاكتمال ليست عبارة ألتوسير، لأنه تحدث عن أن ماركس لم يحقق الأرضية العلمية والعقلانية لهذا الأمر، ولكنها كانت محاولة. لكن لما أقول غير مكتملة، فبالإحالة إلى هابرماس حول الحداثة غير المكتملة، والتي يؤثث بعض وجوهها ماركس، تجدر الإشارة إلى ديريدا، الذي سيتوج حقبة انهيار المعسكر الشرقي، بمحاولة حول أطياف ماركس، تأكيدا على أنّ هذا الأخير استمر حاضرا في جيوب الفلسفة الحديثة.

إعادة قراءة ماركس ألتوسيريا، بحثا عن ماركسية علمية، مؤشّرها الأساسي إعادة الاعتبار لفعل البنية التي استبعدها الغلو التّاريخاني، ماركسية بنيوية، تعيد الاعتبار للأيديولوجي. العلمية من منظور ألتوسير ليست إقصاء للأيديولوجيا، ولا وضعانية متنكّرة عارية، وهذا ما لم تأخذه بعين الاعتبار القراءة التاريخانية العروي للماركسية.

من يتذرع بالعلم في منازعات أيديولوجية قد يقع في محذور غياب الوعي التام بالأيديولوجيا ووظيفتها، وبالعلم ومقتضياته. فالأيديولوجيا تسكن كل قول، كل خطاب، كل ممارسة، ما دام هناك ناطقية، وشروط اجتماعية وتاريخية تشكل بيئة للمارسة التموجد والقول.

معظم اختلالات العلم وعجزه، آتية من أمرين يُؤرّقان العلماء:

الأوّل: يتعلّق بدراسة العينات في وضعية ستاتيكية

الثاني: الغلو في القياس، حدّ الجمود في التقاط الظواهر المحتملة.

نجري تجارب على حيوانات، نقيس هذا على ذاك، نستبعد أثر الأوزان، أنماط السلوك، دور الدّماغ وحجمه، البيئة، تاريخ المناعة وتشكلها بين الأنواع…

نجري التجارب غالبا على حالات ثابتة ليست حيوية أو متحركة، ونستنبط على أساس استبعاد الاحتمال، الخوف من الاحتمال كما لو كان مهددا لاستقرار الباراديم وليس فقط الطبيعة، الحذر، التردد، المرونة..

كل هذا، بسبب تقليص دور وفعالية الحدس في الممارسة العلمية. نحدس الفرضية ثم ننطلق في أقيسة لا نهائية، ولا ننصت لهمس الحدس، وكأنّ وظيفته تنتهي في نشأة الفرضية، بينما الحدث ضرورة في كل مراحل التجربة حتى الاستنتاج. تبدو مشكلة استبعاد الحدس الذي ينذر بسبب نمط الممارسة العلمية نفسها، لأنّنا داخل المختبر ، عادة لا نكون منشغلين بالإكتشاف، بقدر هوسنا الخفي بالإقناع، الهوس في إنجاح مهمّة تنزيل النموذج، عبارة المنهج. إنّ العبر-مناهجية تعفينا من كلّ هذا، ولكنها تتطلب موقفا شجاعا من المعرفة.

نجاح الأبحاث العلمية في أي مختبر اليوم، يجب أن يحتضن ثقافات مختلفة، من خلال إشراك علماء من بيئات مختلفة، تعزيز قوة الحدس، تقليص الخوف من الاحتمال، التجرّي الدائم على المنهج، الاستعداد للفوضى. إنّ المختبر ليس مجالا للممارسة السكولاستيكية النظرية، بل هو تجريب مستدام يطال النظرية نفسها، القواعد نفسها التي تبدو قدرا في عبادة المنهج. تحرير العلم اليوم أشبه ما يكون بحركة تحرير العبيد.

يأتي الإقناع والمخاطبة بنتائج التجربة في مرحلة ثانية، وهذا أمر مختلف عن وضعية العلمية في مراحل ومقدمات الإكتشاف.  العلم ممارسة يتحكم بها الإنسان بكل ملكاته، وهو ليس في نهاياته، بل هو في صيرورة دائمة. العلم لا زال حتى اليوم متخلفا في جوانب عديدة، فلا زلت أرى ضعف خوارزميات الحاسوب، لها سرعة فائقة على حساب المضمون، ضعف أمام الاحتمال، قصور أمام الحدس. لا زلت أرى أنّ الكثير من عوائق العلم نابعة من الأيديولوجيا العلموية، التي هي شكل مخاتل من الأيديولوجيات، التي تختفي خلف العلم دون أن تكون خادمة له. والأغرب أن يكون العلموي أحيانا جاهلا بالعلوم، واصفا لها بغلو الشعراء، وغالبا ما يأتي ذلك في سياق تغالب الأيديولوجيات في مزرعة الإنسان، الذي يبدو في مجال الإصطكاك الأيديولوجي، كالخراتيت التي تتبع غريزتها التي تدور مدار قرنها الوحيد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى