منظومة الصبر والجهاد عند الصوفيَّة
شادي أحمد
– تمهيد :
أ– مفهوم الصبر في اللسان العربي:
إذا تأملنا مفهوم الصبر فى لغة العرب ، وجدنا مداره على معنيين :
المعنى الأول : يشير إلى التجلد والاحتمال ، يقال صَبَرَ صَبْرَا : تجلد ولم يجزع ؛ ويقال صبر على الأمر : احتمله ولم يجزع ؛ والصبر على المكروه : احتماله دون جزع إذن فالصبر هو : التجلد وحسن الاحتمال فى هدوء واطمئنان ؛ والصبر بهذا المعنى يكون نقيض الجَزَع ، الذى هو عدم الصبر على ما نزل من مكروه
المعنى الثانى: يشير إلى الحَبْس والكَفِّ ؛ فأصل الصبر فى اللغة ، الحَبْسُ والكَفُّ، قال الجوهرى : الصبر : حبس النفس عن الجزع ، فكل من حبس شيئا فقد صَبَرَه ، ومنه قيل : فلان صُبِرَ إذا أُمسِكَ وحُبِسَ للقتل ؛ وصَبَرَ نفسه : حبسها وضبطها ، وفى التنزيل العزيز يقول الله تعالى : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ) أى احْبِسْ نفسَكَ معهم ، وسُمِّىَ شهر الصوم بشهر الصبر ؛ لما فيه من حبس النفس عن الشهوات وكذلك لو حبس رجل نفسه على شىء يريده ، قال : صبرت نفسى ، وفى هذا المعنى قال عنترة بن شداد العبسى يذكر حربا كان فيها :
فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُـرةً ترسو إذا نفسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
أى أنه حبس نفسا عارفة أى صابرة ، يقال نفس عارفة وعروف أى صبور ، وهى نفس حر يأنف ، لا نفس عبد لا أنفة له ، وقوله : ترسو أى تثبت وتسكن ، ولا تَطَلَّعُ إلى الخلق كنفس الجبان إذا خافت واضطربت
وللصبر درجات تتفاضل بالنظر إلى شدته كيفا وقدرا ؛ وعلى هذا الأساس يأتى الصبر على مراتب خمس : صابر ، ومُصْطَبِر ، ومُتَصبِّر ، وصَبْور ، وصبَّار فالصابر أعمها ، والمُصْطَبِر : المكتسب للصبر المُبتلى به ، وفى التنزيل العزيز (فاعبده واصطبر لعبادته ) و ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) والمتَصبِّر : متكلف الصبر الذى حمل نفسه عليه وتكلفه ، ومنه قول الفاروق ، رضى الله تعالى عنه : ” أفضل الصبر التَّصَبُّر ” أى تكلفة والصَّبُور : المعتاد الصبر القادر عليه ، العظيم الصبر الذى صَبْره أشد من صبر غيره ؛ وشدة الصبر فى حق الصبور تتوجه إلى الوصف والكيف ، والصبور من أبنية المبالغة ، وهو اسم من أسماء الله تعالى وتقدس ، وفى الحديث : عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى قال : { إنى أنا الصَّبُور } ومعناه : أنه الذى لا يعاجل العُصاة بالانتقام مع القدرة عليه ، وفى الحديث : { لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعه من الله عز وجل } أى لا أحد أشد حلما من الله عز وجل على فاعل ذلك وترك المعاقبة عليه ، وبهذا يقترب معنى الصبور من معنى الحليم ، إلا أن ثَمَّة فرق يبقى بينهما ، وهو أن المذنب لا يأمن العقوبة فى صفة الصبور ، كما يأمنها فى صفة الحليم ، ويفارق صبره تعالى صبر المخلوق من وجوه : منها أنه عن قدرة تامة ، ومنها أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن ولا نقص والصبَّار : من أوزان المبالغة أيضا ، وهو الشديد الصبر ، وشدة الصبر فى حق الصبَّار ، تكون فى القدر والكم ، وفى التنزيل العزيز : ( إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور ).
أما المصابرة : فهى مغالبة الخصم فى ميدان الصبر ، يقال : صَابَرَه مُصابَرَة وصِبَارا: غالبه فى الصبر ، فالمصابرة هى حالة المصابر فى الصبر مع خصمه ، ومن ثَمَّ فهى مفاعلة يستدعى وقوعها وجود اثنين على الأقل ، وفى التنزيل العزيز : ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) يأتى الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ؛ فالصبر دون المصابرة ، والمصابرة دون المرابطة
ب – مفهوم الصبر فى الاصطلاح الصوفي:
يكتسب مفهوم الصبر فى الخطاب الصوفى ، بالإضافة إلى دلالته اللغوية ، دلالات جديدة ذات أبعاد معرفية وأخلاقية ، تولَّدَت ونشأت عبر تجارب صوفية حَيَّة ذخرت بمعانٍ روحية غاية فى الثَّراء
فمن الدلالات ذات الأبعاد الأخلاقية لمفهوم الصبر فى التعبير الصوفى ، نسوق جملة من أقوال شيوخ التصوف فيما يلى :
– قال ابن عطاء رضى الله تعالى عنه : الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب
– وقال عمرو بن عثمان رضى الله تعالى عنه : الصبر هو الثبات مع الله سبحانه وتعالى وتلقى بلائه بالرحب والدعة
– وقال ذو النون المصرى رضى الله تعالى عنه : الصبر التباعد عن المخالفات ، والسكون عند تجرع غصص البلية ، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
– وقال رويم رضى الله تعالى عنه : الصبر ترك الشكوى
– وقال عبد الله بن الحداد رضى الله تعالى عنه : علامة الصبر ترك الشكوى
– وقال الخواص رضى الله تعالى عنه : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسُّنَّة
– وسئل أبو عمرو بن نجيد رضى الله تعالى عنه عن التصوف ، فقال : الصبر تحت الأمر والنهى.
– وقال المحاسبى رضى الله تعالى عنه : الصبر المقام على ما يرضى الله تبارك وتعالى بترك الجزع ، وحبس النفس فى مواضع العبودية مع نفى الجزع
– وقال الجنيد رضى الله تعالى عنه : الصبر حمل المؤن لله تعالى ، حتى تنقضى أوقات المكروه.
– وقال القناد رضى الله تعالى عنه : الصبر ملازمة الواجب فى الإعراض عن المنهى عنه ، والمواظبة على المأموربه.
– وقال صاحب العوارف رضى الله تعالى عنه : الصبر عرك النفس ،وبالعرك تلين
المتأمل فى التعريفات السابقة ، يلاحظ اجتماع الدلالة اللغوية المعهودة لمفهوم الصبر ، الممثلة فى معانى : الحبس والكف والتجلد والتحمل وترك الجزع ، بجانب الدلالة الأخلاقية المضافة للمفهوم من جانب الصوفية ، والتى تشير إلى معانى : حسن الأدب بين يدى الله عز وجل ، والامتثال والتأدب مع مجريات قضائه ، وتزكية النفس ، والتمسك بأحكام الشريعة الغراء.
فإذا ما انتقلنا إلى الدلالات ذات البعد المعرفى لمفهوم الصبر فى النسق الصوفى ، أمكن رصد جملة من رؤى شيوخ التصوف ، فيما يتصل بهذا السياق ، أضفت على اللفظ مستويات من الفهم تتجاوز دلالته اللغوية ، إلى دلالات معرفية ذوقية ، مستقاه عبر فهم دقيق وواع لمعانى الصبر الواردة فى القرآن الكريم والسنة المطهرة ؛ نجد ذلك جليا وواضحا فى التناول الصوفى لبيان الفروق الدقيقة بين مراتب الصبر ، حيث يتم التمييز – معرفيا – بين الصبر والتصبر ، والصابر والمتصبر ، فالصبر كما يرى أبو محمد الجريرى رضى الله تعالى عنه ، أن لا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما ، أما التصبر : فهو السكون مع البلاء ، مع وجدان أثقال المحنة على صعيد آخر يرى القناد رضى الله تعالى عنه ، أن الصابر من يصبر فى الله ولله ، ولا يجزع ، ولا يتمكن منه الجزع ، ويتوقع منه الشكوى فى حين يرى أبو الحسن بن سالم رضى الله تعالى عنه ، أن المتصبر من صبر فى الله تعالى ، فمرة يصبر على المكاره ، ومرة يجزع ؛ ذلك لأن المتصبر يجد كثيرا من الألام لعدم اكتمال معرفته فإذا ما اتسعت معرفة السالك وارتقى فى سُلَّم الصبر ، أصبح صبَّارا ، وهو كما يُعرِّفه أبو الحسن بن سالم رضى الله تعالى عنه ، ذاك الذى صبره فى الله ولله وبالله ، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجود والحقيقة ، لا من جهة الرسم والخلقة أما أبو عثمان رضى الله تعالى عنه فيرى أن الصبَّار هو الذى عَوَّدَ نفسه الهجوم على المكاره.
وتأتى المصابرة عندهم ، بمعنى الصبر على الصبر ، أى استغراق الصبر فى الصبر ، فيعجز الصبر عن الصبر ، وفى هذا المعنى كان الشبلى رضى الله تعالى عنه يتمثل هذا البيت :
صَابَرَ الصبرَ فاستغاثَ به الص برُ فصاح المحبُ بالصبرِ صبرا
ونظرة فاحصة على الرؤى والتعريفات السابقة ، تدلنا على وجود علاقة طردية تقوم بين الاتساع المعرفى ودرجة الصبر ، وأخرى عكسية نشأت بين سعة المعرفة ونقيض الصبر ( الجزع ) وهذا يعنى أنه كلما اتسعت معرفة الصوفى بالله تعالى ارتقت درجة صبره ، وتضاءل حظ الجزع عنده
2 – التصوف مدرسة الصبر :
أولًا : التأصيل الصوفى لمقام الصبر :
1 – الصبر عند الصوفية ( الأصل والمصدر) :
أ – مقام الصبر الصوفى وأصوله فى القرآن الكريم.
ب – مقام الصبر الصوفى وأصوله فى السنة المطهرة.
يستند الصبر باعتباره عملا من أعمال القلوب ، ومقاما من أهم مقامات الدين ، ومنزلا من منازل السلوك الصوفى ، إلى شواهد عدة من السنة المطهرة ، كانت له بمثابة المنبع الفياض الذى منه يستمد أصوله ومصادره وقد عَبَّر عن هذه العلاقة الوثيقة ، الشيخ أبو نصر الطوسى رضى الله تعالى عنه ، فقال : وللصوفية تخصيص من طبقات أهل العلم ، باستعمال أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مروية ما نسختها آية ، وما رفع حكمها خبر ولا أثر ، تدعو إلى مكارم الأخلاق وتبحث عن معالى الأحوال وفضائل الأعمال ، وتُنبىء عن مقامات عالية فى الدين ، وذلك مثل : حقائق التوبة وصفاتها ، ومقامات الراضين ودرجات الصابرين
وتتأكد وثاقة الارتباط بين مقام الصبر والسنة المطهرة فى الخطاب الصوفى ، فى قول إبراهيم الخواص رضى الله تعالى عنه : ” الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة ”
ومما تجدر الإشارة إليه فى هذا الصدد ، أن ثَمَّة ارتباط وثيق ، نشأ بين علم التصوف والسنة المطهرة ، يتجلى ذلك فى قول الإمام الجنيد رضى الله تعالى عنه : “علمنا هذا – أى علم التصوف – مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” وفى رواية أخرى يقول : “مذهبنا هذا – التصوف – مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” ولما كان لمقام الصبر ، كبير أهمية فى علم التصوف ، باعتباره من أهم مقامات السلوك ، وباعتباره ضرورة حياة (دينية ودنيوية) وحتمية نجاة (فى الآخرة) للفرد والمجتمع ، ظفر بخصوص عناية فى سياق ما ورد من أحاديث السنة المطهرة وفيما يلى محاولة متواضعة لكشف اللثام عن مقام الصبر الصوفى وأصوله فى السنة المطهرة
1- الصبر وتوصيفه فى السنة المطهرة :
أخرج الإمام مسلم فى صحيحه ، عن أبى مالك الحارث بن عاصم الأشعرى رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : {الطُّهورُ شطرُ الإيمان ، والحمد لله تملأُ الميزانَ ، وسبحانَ الله والحمدُ لله تملآنِ – أو : تملأُ – ما بينَ السماءِ والأرضِ ، والصلاةُ نور ، والصدقةُ برهان ، والصبرُ ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك كلُ الناسِ يغدو ؛ فبائع نفسَهُ ، فمُعْتِقُها ، أو موبِقُها).
المتأمل فى الدلالة اللغوية لمفهوم “الضياء” كتوصيف بليغ للصبر ، ورد فى متن الحديث الشريف ، يتبين له إلى أى مدى جاء الأداء فى البيان النبوى الشريف ، متسما بالدقة المتناهية ، بالإضافة إلى التناسق الكامل مع البيان القرآنى المجيد ؛ ذلك لأن “الضياء” فى اللسان العربى ، هو ما أضاء لك ، وفى شعر العباس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عنه ، فى مدح النبى صلى الله عليه وآله وسلم :
وأنتَ لما وُلِدَتَ أشْرَقتْ الأ رضُ وضاءتْ بنورك الأفقُ
أى استنارت وصارت مضيئة
ورغم أن “الضياء” يأتى مترادفا مع “النور” عند أئمة اللغة ، إلا أن ثَمَّة فروقا حاسمة تقوم بينهما ؛ فالضياء أقوى وأشد وأسطع من النور ، قال الفنارى فى حواشى التلويح : الضياء ذاتى ، لكونه من ذات الشىء المضىء ، كالشمس والنار ، فى حين أن النور عَرَضِىِّ ؛ لكونه مكتسبا ومستفادا من غيره كالقمر وقال الزمخشرى : الضياء أشد وأقوى من النور ؛ لذا شَبَّه الله تعالى هُداه بالنور دون الضياء ، وتبعه فى ذلك الطيبىِّ ، واستدل بقول الله تعالى : (هو الذى جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا)
وذهب ابن عطية إلى أن الله تعالى فى الآية الكريمة شبَّه هُداه ولطفه ، الذى نصبه لقوم يهتدون وآخرين يضلون ، بالنور الذى هو أبدا موجود فى الليل وأثناء الظلام ، إذ لو شَبَّه هُداه بالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، تماما مثل الشمس التى لا تبقى معها ظلمة
على هذا الأساس ، يتيسر لنا فهم الحكمة ، فى وصف سيدنا النبى صلى الله عليه وآله وسلم للصبر بأنه ضياء ؛ إذ أن الضياء لما كان من شأنه أنه النور الشديد المسلط الذى يحصل فيه نوع حرارة وإحراق ، كضياء الشمس ، بخلاف القمر الذى نوره إشراق بغير إحراق ، جاء مناسبا وملائما كوصف للصبر ؛ الذى من شأنه أنه شاق على النفوس ، قاهر وقامع لشهواتها ومرادها ، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه ، فيتولد جَرَّاء ذلك استنارة وتنوير فى قلب الصابر ، مصحوبة بحرارة المعاناة ؛ وبالتالى صار نور الصبر محرقا مضيئا وكأنه ضياء الشمس فى شدة حرارته ، ولا يزال صاحب هذا الضياء بصبره مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب
ولعل هذا يكشف للأفهام ، حكمة وإحكام البيان القرآنى المجيد فى وصف التوراة بالضياء ، ووصف القرآن الكريم بالنور ؛ فقد وصف الله تعالى شريعة سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم بأنها ضياء ، قال تعالى : (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكرًا للمتقين) ورغم أن الحق تعالى قد ذكر أن فى التوراة نورًا ، كما قال تعالى : (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ) إلا أن الغالب على شريعتهم “الضياء” لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال ، مصداقا لقوله عز وجل : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا) لهذا جاء وصف الله تعالى للتوراة بأنها ضياء ، مناسبا لما بين الضياء والتوراة من الشدة ؛ لوجود التكاليف العظام على بنى إسرائيل
فى حين جاء وصف الله تعالى لشريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها نورٌ لما فيها من الحنيفية السمحة والرحمة والتيسير ، قال تعالى : (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف : 157
ومن يتدبر قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم : {والصلاة نورٌ ، والصدقة برهانٌ ، والصبر ضياءٌ} يجده جاء مرتبا على أجمل ما يكون من الترتيب والإعجاز البلاغى ؛ فالصلاة ، والصدقة ، والصبر ، اقترنوا بثلاثة أنواع من درجات النور : النور ، والبرهان ، والضياء ، ودرجات النور تعنى درجات ما تحسه العين من الأنوار ؛ فأولها النور وهو الذى يعطى الإضاءة بلا إشعاع محسوس ، ويليها البرهان وهو أشعة بلا حرارة ، أعظم درجة من النور ، وأقل درجة من الضياء ، وأخيرا يأتى الضياء ، وهو النور الشديد المسلط ويكون مصحوبا بالحرارة وتأسيسا على الترتيب التصاعدى الثلاثى لدرجات النور ، جاء الترتيب المتصاعد من الصلاة إلى الصدقة إلى الصبر ؛ لاشتراك فى الحال ، وتناسب فى الدرجة ، فالصلاة نور ، والنور مستفاد ومكتسب من الغير ؛ لذا يوصف القمر بأنه نور ، يقول الله تعالى : (وجعل القمر فيهن نورًا) فالمصلى بين يدى الله عز وجل ، يكون فى راحة مكتسبة وسكينة مستفادة ، فأما الراحة فبدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : { أرحنا بها يا بلال} ، وأيضا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم {وجعلت قرة عينى فى الصلاة} وأما الطمأنينة ؛ فلأن أكبر ما فى الصلاة الذكر ، الذى به تطمئن القلوب (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) أما الصدقة فقد جعلت برهانا ؛ لأن البرهان هو النور الذى يكون معه أشعة تنعكس فى العين ؛ لكون الصدقة فيها إخراج المال ، وهو محبوب للنفس ، لذا فهى تحتاج إلى شىء من المعاناة أما الصبر فهو ضياء ؛ لأنه لابد منه للصلاة وللصدقة ولكل الطاعات ، بل كان أوسع من الصلاة والصدقة ؛ لأن كل واحدة من الواجبات والمحذورات تحتاج إلى الصبر ، الذى ينطوى على كبير معاناة ، ومن ثَمَّ كانت معاناة الصبر محرقة كشدة حرارة الضياء.
وعن الظرف الذى يُفتَرض أن يكون محلا لأثر الضياء الناتج عن الصبر ، تباينت آراء العلماء ، فمنهم من يرى أن الضياء يُصاحب الصابر فى ظلمة القبر ؛ لأن المؤمن إذا صبر على الطاعات والبلايا فى سعة الدنيا وعن المعاصى فيها ، جازاه الله تعالى بالتفريج والتنوير فى ضيق القبر وظلمته ومن العلماء من رأى أن الضياء يكون فى قلب الصابر ؛ لأن الصبر على المكاره فى دين الله تعالى تذلل ، ومن تذلل فى الله سهل عليه الطاعات ومشاق العبادات ، وتجنب المحظورات ، ومن كان هذا شعاره ، لا شك يتولد فى قلبه الضياء ولا مانع من اجتماع الظرفين للصابر ؛ لوثاقة العلاقة بينهما
على صعيد آخر ، وفى سياق متصل بما ورد فى السنة المطهرة من توصيف للصبر ، أخرج الإمام البخارى فى صحيحه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه : أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِذَ ما عنده ثم قال : {ما يكون عندى من خير فلن أدَّخِره عنكم ومن يستعفف يُعِفَّه الله ومن يستغن يُغْنه الله ومن يتصبَّر يصبِّره الله وما أُعطى أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسعُ من الصبر).
وقد وردت للحديث الشريف روايات عدة بألفاظ أخرى ، فثمة روايات تشير إلى الصبر وتصفه بالعطاء والخيرية والسعة من ذلك رواية مسلم من طريق قتيبة بن سعيد بلفظ {ومن يصبر يصبِّره الله وما أعطى أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر} ورواية مالك والنسائى بلفظ {ومن يصبر يصبِّره الله وما أعطى أحد عطاءً هو خير وأوسع من الصبر} ورواية أبى داود بلفظ : {وما أعطى الله أحدا من عطاء أوسع من الصبر} ورواية الترمذى بلفظ : {وما أعطى أحد شيئا هو خير وأوسع من الصبر} وروايات أخرى تصف الصبر بالرزق والخيرية والسعة ، منها رواية أحمد بلفظى : {ما أجد لكم رزقا أوسع من الصبر} و{وما رزق العبد رزقا أوسع له من الصبر} ورواية الحاكم بلفظ : {ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر ).
إن قراءة متأنية لمتن الحديث الشريف ، تكشف لنا عن دقة وعمق فى التوصيف النبوى الشريف للصبر ، حيث وُصِفَ بأنه “خير العطاء” و “أوسع الرزق” فقوله صلى الله عليه وآله وسلم : { وما أعطى أحد هو خير وأوسع من الصبر} العطاء : ما يُعْطَى ، والجمع أعطية ، والخير : اسم تفضيل (على غير قياس) وهو الحسن لذاته ، ولما يحققه من لذة أو نفع أو سعادة ، ومعنى (هو خير) أى أفضل ، وقد ورد فى رواية بالنصب (خيرًا) أى صفتة ، وفى رواية بالرفع (خيرٌ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير هو خير وإنما جعل الصبر “خير العطاء” لعدة أمور :
الأول : إن الصبر أفضل ما يُعْطَاه المرء ؛ لكون الجزاء عليه غير مقدور ولا محدود مصداقا لقول الله تعالى فى محكم التنزيل ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ).
الثانى : إن مقام الصبر أعلى مقامات الدين ؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات ؛ ولذا قُدِّمَ على الصلاة فى قول الله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) البقرة : 45
الثالث : إن الصبر أمر يدوم به الغنى بما يُعْطَى ، وإن كان هذا العطاء قليلا ؛ لأن الصبر كعطاء معنوى لا يفنى ، ومع عدم الصبر ، لا يدوم للمرء الغنى بما يُعْطَى من العطاء الحسى ، وإن كَثُرَ هذا العطاء لأنه يفنى.
الرابع : لأن الصبر حبس النفس عن فعل ما تحبه ، وإلزامها بفعل ما تكره فى العاجل ، مما لو فعله أو تركه لتأذى به فى الآجل
وثمَّة تأكيد لوصف الصبر بالخيرية نلمسه فى موطن آخر من السنة المطهرة ، فيما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه ، فى الزهد والرقائق ، عن صهيب رضى الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).
وهنا يلتقى البيان النبوى الشريف ، مع البيان القرآنى المجيد فى الاتفاق على خيرية الصبر ، فنجد أن المؤمن الذى يقهر نفسه ويغلبها على الصبر ، يحظى بالخير ، ومن ثّمَّ يكون آخذًا بأدب الرب عز وجل فى قوله تعالى : ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) النحل : 126
وانطلاقا من أهمية الصبر وقيمته فى السنة المطهرة ، نجد الفاروق عمر رضى الله تعالى عنه فيما أخرجه الإمام البخارى ، يصرح قائلا : “وجدنا خير عيشنا بالصبر” أى فى الصبر ؛ لأن الباء هنا بمعنى “فى” وبلفظ آخر ، فيما أخرجه الإمام أحمد فى كتاب الزهد ، بسند صحيح عن مجاهد ، قال عمر رضى الله تعالى عنه : “وجدنا خير عيشنا الصبر”.
فإذا ما تدبرنا قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم : {ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر} تبين لنا ، أن الرزق هو كل ما يُنْتَفَع به حسًا ومعنى ، والرزق المشار إليه رزق الدين والإيمان ، وأن معنى أوسع أى أكثر عطاء ، وإنما جُعِلَ الصبر “أوسع الرزق” للأسباب الأتية :
الأول : لأن الصبر فى حقيقة الأمر رزق من الله تعالى ؛ فإذا رزق الله عز وجل العبد الصبر ، كان له أوسع من كل نعمة واسعة ؛ لأنه يسهل بالصبر جمع الخيرات ، وترك المنكرات ، وتحمل المكروهات المقدورات
الثاني : لأن الصبر إكليل للإيمان ، فأوفر المؤمنين حظا من الصبر ، أوفرهم حظا من القرب من الرب تعالى ، حيث يكون الصبر فى مواضع الشدائد ومواطن المكاره ، الذى يعظم على النفوس ثقلها ، ويشتد عندها جزعها ؛ فمن صبر عن محارم الله عز وجل ، وصبر على العمل بطاعة الله تعالى ، وصبر على محنه وبلائه ، فهو من خالص عباد الله تعالى وصفوته
الثالث : إن الصبر صار أوسع الرزق ؛ لأن بالصبر تتسع المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد
والآن ، بعد أن وقفنا على توصيف دقيق للصبر ، فى البيان النبوى الشريف ، نشرع فى إلقاء الضوء على الكيفية ، التى من خلالها استمد صوفية الإسلام ، أصولهم فى مقام الصبر من السنة المطهرة فحينما تدبر الصوفية أهل التحقيق ، بنظرة تحليلية فاحصة مدققة ، مفهوم الصبر الوارد فى السنة المطهرة ، لاحظوا أنه لا يخرج عن دائرتين : دائرة أحكام الله تعالى الدينية ، والتى تتمثل فى الصبر على أوامره ، والصبر عن نواهيه ، ودائرة أحكام الله تعالى الكونية ، التى تتمثل فى الصبر على ابتلائه ومن ثمَّ وجدوا أن الصبر فى السنة المطهرة – فى الغالب الأعم – يأتى على ثلاثة أقسام : الأول : وهو أفضلها ، الصبر عن المعصية فلا ترتكب ، والثانى : صبر على الطاعة حتى تُؤَدى ، والثالث : صبر على البلية فلا يُشْتَكى الله تعالى فيها وعلى هذا الأساس تأكد لهم أن الصبر إن عُدِّىَ ب “عن” تعلق بالمعاصى ، تقول : صبرت عن المعاصى وإن عُدِّىَ ب “على” تعلق بالطاعات والبلاء ، تقول : صبرت على الطاعة ، وصبرت على البلاء ولما تحقق صوفية الإسلام أن المرء لابد له من واحدة من هذه الحالات الثلاث ، صار الصبر عندهم لازما للعبد أبدا ، لا خروج له عنه ؛ باعتبار أن جميع ما يلقى العبد فى هذه الحياة ، لا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد ، كالطاعات والمعاصى ، أو لا يرتبط باختياره ، كالمصائب والنوائب
وانطلاقا من توصيف الصبر الوارد فى السنة المطهرة ، نجد حجة الإسلام الإمام الغزالى رضى الله تعالى عنه ، وهو من أكابر أئمة التصوف السنى ، يصيغ لنا تصورا دقيقا لمعنى الصبر ، فيرى أن المؤمن تتجاذبه قوتان ، قوة الإيمان ، وقوة الشهوة ، ومن ثَمَّ يكون الصبر عبارة عن ثبات قوة الإيمان ، التى هى باعث الدين ، فى مقابلة قوة الشهوة ، التى هى باعث الهوى.
ومن حيث النظر إلى حكم الصبر ، يقرر الإمام الغزالى رضى الله تعالى عنه ، أن الصبر باعتبار حكمه ينقسم إلى : فرض ونفل ومكروه ومحرم فالصبر عن المحظورات فرض ، وعلى المكاره نفل والصبر على الأذى المحظور محظور ؛ كمن تقطع يده ، أو يد ولده ، وهو يصبر عليه ساكنا والصبر المكروه ، هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة فى الشرع ؛ وبالتالى يكون الشرع دائما عند الصوفية ، هو محك الصبر
والصبر باعتباره احتمالا للمكروه ، يختلف اسمه فى الخطاب الصوفى ، باختلاف المكروه الذى غلب عليه ؛ فإن كان فى مصيبة ، اقتصر على اسم الصبر ، وتضاده حالة تُسمى الجزع والهلع ، وإن كان فى حرب ومقاتلة ، سُمى شجاعة ، ويضاده الجبن ، وإن كان فى كظم الغيظ والغضب سمى حلما ، ويضاده التذمرالخ.
_______________________
*نقلًا عن موقع “الصوفي”.