إمبراطورية مولانا نور الدين
إمبراطورية مولانا نور الدين
جمال عمر
مؤسس صالون وأكاديمية تفكير
“فحين انفصل الغزالي عن تنظيم الإخوان المسلمين في الخمسينات تم ما أطلق عليه الانتقال من مقولة “الإسلام دين ودولة” إلى ما أسميه “الإسلام دين وأمة”، أي هؤلاء الذين لا ينحصرون في تنظيم سياسي معارض، بل يمكن أن يعملوا من داخل مؤسسات الدولة من أجل صلاح أمة المسلمين. مولانا نور الدين أخذ هذا النهج.
-1-
جلس على دكة الخطابة في مسجد سيدنا الحسين، يرتدي طاقية زرقاء غامقة اللون، وعلى كتفيه شال من نفس قماش ولون الطاقية. عليه نقش جميل، يُضفي على بهاء لحيته وجلبابه الأبيضان بياضاً ناصعاً. كان يحضر احتفال الطرق الصوفية برأس السنة الهجرية الجديدة.
شكر مولانا نور الدين علي جمعة الأول سماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية الذي كان يجلس أمامه ببدلته وعباءته. بدأ به ربما لشرف نسبه ولنفوذه السياسي في البرلمان. وكان يجلس بجواره السيد نقيب الأشراف، ثم ثنّى بالسيد لواء الجيش ومحافظ العاصمة، الذي أطلق عليه لقب والي العاصمة فهو “والينا”، نائباً عن السيد رئيس الجمهورية في الحفل. ثم تبعه بشكر العلامة الأزهري – وكررها العلامة – وزير الأوقاف الجديد، الذي ولي الوزارة في الوزارة التي تم تشكيلها منذ أيام. انخفضت عين الوزير الجديد حياءً وخجلا، حينما أثنى عليه أستاذه، وأصبغ عليه هذا اللقب – العلامة، الأستاذ الدكتور – وصاح مولانا “كبروا…. كبروا… كبروا”، فردد الحاضرون التكبير الذي تعالى كل مرة كرره فيها الطلب بالتكبير. على يمين “والي العاصمة” جلس فضيلة مفتي الديار، وعلى يسار العلامة جلس رئيس جامعة الأزهر. وينهي مولانا كلمته وتهنئته بالدعاء والتكبير.
أسامة الأزهري
يجسد هذا المشهد مدى اتساع نفوذ فضيلة مولانا – الذي يرأس اللجنة الدينية بمجلس النواب – شيخ الطريقة الصديقية الشاذلية العلية الصوفية، إذ يتولى أحد تلامذته وزارة الأوقاف، وكان مستشاراً دينيا للسيد رئيس الجمهورية خلال السنوات الماضية. إن تلامذة مولانا العمل في دار الإفتاء التي تولاها لمدة عشر سنوات، حتى بعد خروجه منها منذ عقد كامل. وهو بذلك يجلس على رأس الدعوة الدينية للدولة المصرية، وبكونه عضوا بهيئة كبار علماء الأزهر الشريف، لا ينقصه – لتكتمل الحلقات – سوى العمامة الأكبر.
-2-
كانت الانطلاقة الثانية لمولانا بعد إزاحة حكم الإخوان المسلمين في مصر بالقوة عام 2013. فبعد أن حضر إفطار الجماعة في رمضان وقت نفوذهم، لم يجددوا له ولاية دار الإفتاء المصرية. لكنه ابن الدولة المصرية، فوقف موقف المساند لحركة الجيش ضد تنظيم الإخوان، وانتقد – في لقاءاته التليفزيونية العديدة في برنامجه على القنوات المصرية – من كان يسميه “العلامة” يوسف القرضاوي الذي كان يناصر تنظيم الإخوان من قطر، بل قال عنه “إنه كبر وأصابه الزهايمر”. تعرض مولانا ذات نفسه لمحاولة اغتيال، بجانب محاولات تشويه سمعة، وظهر على الساحة منذ عام 2013 تلامذته، أحدهم في تقديم الاستشارة لرئاسة الجمهورية، أو تلميذه الآخر حلو الحديث الحبيب، بجولاته وصولاته مع الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، أو مع جهوده الصوفية في مصر وفي أنحاء العالم، حتى قلب الشيشان، وفي اندونيسيا شرقا، وأوروبا غربا.
عبد الله الصديق الغماري
وخلال جهوده المستمرة منذ الثمانينات، كانت عين مولانا نور الدين مركزة على العمل الجماعي المؤسسي – ربما لخلفية دراسته للتجارة بجامعة عين شمس، وعمله كمحاسب في الخليج في السبعينات – فتجلى ذلك في مؤسسة دار الإفتاء، وفي استعادة الرواق الأزهري بعد ثورة 2011 – الذي بذل جهودا في تفعيله – وفي استرداد مشيخة الأزهر سلطتها على الجامع الأزهر من سلطة وزارة الأوقاف. لكن جرت في النهر مياه، فركز مولانا جهده في مسجده، مسجد فاضل في حي لسادس من أكتوبر، وأنشأ عام 2018 طريقته الصوفية باسم أستاذه عبد الله الصديق الغماري المغربي (1910 – 1993)، عام 2018، وهي الطريقة “الصديقية الشاذلية العلية” عام أصبحت الماكينة للعمل الجماعي له. ثم دخل مجلس النواب وتولى رئاسة اللجنة الدينية، ثم مشيخة الطرق الصوفية وهيئة كبار العلماء…. إلخ.
-3-
تابعت نشاط مولانا بعد عودته من العمل في السعودية في نهايات السبعينات، ثم اتجاهه لدراسة العلوم والمعارف الدينية، وانتسابه إلى جامعة الأزهر، وتخصصه بعد ذلك في أصول الفقه، وسعيه المستمر للربط بين الجانب المدني عنده في نشأته ولدى معارفه وبين تحديث طريقة عرض علوم التراث، ولاحظت – وإن كان الأمر يحتاج إلى تدقيق في الدرس – تأثير خطابات مثل خطاب زكي نجيب محمود على خطاب مولانا، وذلك في التفرقة بين المنهج والمسائل، فقد ركز مولانا – كشافعي المذهب في الفقه – على اتباع منهج الشافعي وعدم التقيد بمسائل الشافعي الجزئية.
اجتهد مولانا في التسعينات في أن ينشر علوم الدين بطريقة تناسب الأجيال الجديدة، وأن يتكلم خطابها سواء من خلال دروسه في مسجد الرفاعي، التي مزج خلالها بين روح عصرية تتحدث عن “المعرفية والمنهجية، والبراديم…..” وبين التصوف وعلوم الدين التقليدية بما فيها التمسك بالسنة على طريقة أستاذه الصديق ابن الغماري.
كان مولانا ضمن شباب في التعليم المدني أرادوا أن يتدينوا في نهايات السبعينات وبداية الثمانينات، لكن لم يريدوا أن ينضموا للتنظيمات الدينية “الإسلامية” المسيسة، فكان اتجاههم إلى التصوف، منهم مولانا، ودكتور محمد مهنا – ضابط شرطة الذي أصبح مستشارا لشيخ الأزهر – والمسؤول عن الرواق الأزهري حين ابتعاثه – والطبيب يسري جبر خريج كلية طب القصر العيني وهو شيخ متصوف كبير ينسب نفسه إلى الأزهر الآن.
د. محمد مهناد. يسري جبر
بالإضافة إلى هؤلاء كان للطلبة في كليات جامعة الأزهر العلمية العملية دور في عملية التجديد هذه، خريجي طب الأزهر وهندسة الأزهر…إلخ الذين يستكملون الدراسة في علوم الفقه والكلام، ويتخصصون فيها، ويصبحون أساتذة، بالإضافة إلى خريجو أقسام كليات اللغات والترجمة في جامعة الأزهر، الذين يتعلمون لغات، ويسافرون إلى الخارج فيعملون في أقسام دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعات أوروبا، ويصبحون أساتذة.
كونت هذه الروافد شريحة من أزهريين الذين لم يتخرجوا من الكليات التقليدية الثلاث: أصول الدين واللغة العربية والشريعة والقانون، أو أزهريين تخرجوا من التعليم الجامعي المدني، أخذوا يربطون بين المعارف الدينية التقليدية وبين العصر.
-4-
عودة إلى مولانا، هناك مرحلة مهمة في مشواره في تسعينات القرن الماضي، قبل الحديث عنها يمكن أن نردها إلى اسم كبير ملأ المشهد – كداعية يربط بين قضايا دينية وقضايا سياسية واقتصادية وحضارية في مواجهة الغرب، وذلك بخطاب دعوي لكن غير تقليدي وأوسع من الانتماء لتنظيم سياسي؛ خطاب من داخل مؤسسات الدولة هو خطاب الشيخ محمد الغزالي السقا – إذ يمكن أن نعد أن ظاهرة هذه المرحلة تخرج من عباءة الغزالي الواسعة، فحين انفصل الغزالي عن تنظيم الإخوان المسلمين في الخمسينات تم ما أطلق عليه الانتقال من مقولة “الإسلام دين ودولة” إلى ما أسميه “الإسلام دين وأمة”، أي هؤلاء الذين لا ينحصرون في تنظيم سياسي معارض، بل يمكن أن يعملوا من داخل مؤسسات الدولة من أجل صلاح أمة المسلمين. مولانا نور الدين أخذ هذا النهج.
وهذا التيار بعد الثورة الإيرانية أخذ دفعة بأموال الخليج ليتجسد في مؤسسات مثل المركز العالمي للفكر الإسلامي الذي تشكل في فيرجينيا وفتح فروعا في بلاد عربية وبلاد مسلمين، وكذلك مؤسسة مثل مؤسسة الفرقان التي أسسها وزير البترول ورجل الأعمال السعودي أحمد زكي يماني.
من هنا كانت جهود مولانا نور الدين علي جمعة في المركز العالمي للفكر الإسلامي في الزمالك بالقاهرة خلال التسعينات مرحلة مهمة من تشكيل وعيه، وقدرته التنظيمية حتى اختياره مفتياً للديار المصرية في بداية هذه الألفية. ولهذا حديث آخر.