الدراسات والبحوث

الانقسام العلمانيُّ ـ الدينيّ

 الانقسام العلمانيُّ ـ الدينيّ

معاثر التراث الكانطيّ

 

ريتشارد ج. برنشتاين Richard J. Bernstein [*]

 

[1]*ـ فيلسوف اسكتلندي يدرس في المعهد الجديد للبحوث الاجتماعيَّة.

 

 

في سياق أطروحاته حول العصر العلمانيِّ، يُميّز الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بين ثلاثة معانٍ مختلفة للعلمانيَّة، لكنَّها متَّصلة في ما بينها.

يركز المعنى الأول على الفضاءات الشعبيَّة التي زُعم إفراغها من الله ظاهريًّا.

يبيِّن المعنى الثاني أنَّ العلمانيَّة تشكّلت بعد تراجع الاعتقادات والممارسات الدينيَّة، وانصراف الناس عن الله، والتوقُّف عن الذهاب إلى الكنيسة”.

يُعدُّ المعنى الثالث الهمّ الرئيس لتايلور، حيث يركِّز على ضرورة الانتباه إلى «شروط الاعتقاد».

تسعى هذه المقالة إلى تأصيل أطروحات هذا الفيلسوف، وتتركّز على إشكاليَّة الانقسام العلمانيِّ الدينيِّ في التراث الكانطيِّ.

 

مقدِّمة:

يكتب تشارلز تايلور في كتابه “في عصر علماني”  IN A SECULAR AGE ما يلي:  «يتشكَّل التحوُّل إلى العلمانيَّة بهذا المعنى، من مجموعة أشياء، منها الانتقال من المجتمع الذي لم يكن الإيمان بالله فيه مرفوضًا، ولم يكن إشكاليًّا، إلى المجتمع الذي يُفهم فيه أنَّ الإيمان مجرَّد خيار بين خيارات أخرى، ولكن ليس أسهلها اعتناقًا». إذًا، ما يعنيه بـ «العصر العلمانيِّ» هو العصر الذي أصبح فيه كلُّ من الاعتقاد الدينيِّ والإلحاد خيارات حقيقيَّة وقابلة للتطبيق[1].

السؤال الذي يثيره تايلور هو: كيف انتقلنا من ظرف عاش فيه الناس بسذاجة ضمن إيمان تفسيريٍّ بالله في العالم المسيحيِّ، إلى آخر نتنقل فيه جميعنا بين موقفين، ويظهر فيه تفسير كلُّ واحد في حدِّ ذاته؛ وهو بالإضافة إلى ذلك، بات فيه الإلحاد لكثيرين الخيار الافتراضيِّ الأهمّ؟

هذا هو التحول الذي أريد توصيفه، وقد أشرحه أيضاً (بشكل محدود جدًّا). فالصيغة المختصرة للسؤال الذي أراد الإجابة عنه هي: كيف انتقلنا من الزمن الذي، على الأقل في الغرب، لم يشكِّك فيه أحد جديًّا، بوجود إله متعالٍ، إلى عصر علمانيٍّ بات فيه الإيمان والإلحاد بشكل خاصٍّ “خيارات حقيقية” بالنسبة إلى ملايين البشر؟

يزوِّدنا تمييز تايلور بين معاني العلمانيَّة المتعدِّدة بأرضيَّة مساعدة لإثارة السؤال الآتي: كيف أسهمت الفلسفة بإيجاد عصر علمانيّ؟[2] وما الدور الذي لعبته في إيجاد عصر علمانيٍّ يكون فيه كلُّ من الإيمان والإلحاد خيارين قابلين للتطبيق؟

لست بصدد الحديث عن الفلسفة عمومًا، بل عوضًا عن ذلك سأركِّز على مفكِّر واحد هو إيمانويل كانط. أظنُّ أنَّ النتائج – سواء منها المقصودة أم غير المقصودة – لفلسفته النقدية كان لها أعظم تأثير فلسفيٍّ في جعل الإلحاد بديلًا شرعيًّا من الإيمان بإله متعالٍ. في الأساس، قد تبدو مقالتي متناقضة لأنَّ كانط كان ثابت الإيمان، فهو مسيحيٌّ أتى من خلفيَّة شديدة التديُّن. كان يؤمن بأنَّ المسيحيَّة هي الدين العقلانيُّ الكلّيُّ الصحيح. وكما يلاحظ تايلور: «تستمرُّ فلسفته في بثِّ هذا الشعور بالحاجة الملحَّة لله والخير، حتى حين يصوغ إيمانه التقويَّ في قالب إنسانيٍّ المركز.” مع ذلك أريد أن أبيّن أنَّ كانط لم يزوِّدنا بالسبب المنطقيِّ للإيمان الدينيِّ فحسب، بل فعل أكثر من أيِّ فيلسوف حديث آخر  من أجل دعم الشرعيَّة وإضفائها على الذين يشكِّكون جديًّا بالإيمان الدينيِّ بإله متعالٍ.

فلنتذكر إعلان كانط الشهير في نقد العقل المحض أنَّه كان «مضطرًّا لرفض المعرفة، من أجل إفساح المجال للإيمان». ما الذي عناه بهذا الزعم اللَّافت للنظر؟ إن نقد العقل المحض هو بالتأكيد أحد أصعب الأعمال الفلسفيَّة وأكثرها تعقيدًا وجدبًا، وبالتالي يسهل إغفال مأساته الوجوديَّة. كانت لديه نظرة عميقة إلى الميول الدينيَّة، تحديدًا الرَّغبة المسيحيَّة في فهم ومعرفة وجود القدير المتعال. إذ منذ بزوغ فجر المسيحيَّة، توالت المحاولات لتبيان أنَّنا نستطيع أن نعرف شيئًا عن خالقنا وحتى أن نقدِّم البراهين على وجوده. فبدءًا بأنسلم ومرورًا بديكارت ولايبنتز، ناضل الَّلاهوتيون والفلاسفة المسيحيّون لحلِّ هذه المشكلة. لكن ما شرع كانط في تبيانه – بشكل حاسم – هو استحالة الحصول على هذه المعرفة (الكلمة الأساسيَّة هنا هي «المعرفة»)، والهدف من ثورته الكوبرنيقيَّة هو التأسيس للقول بمحدوديَّة معرفتنا، وأنَّنا لا يمكن أن نعرف أيَّ شيء حول ما يتجاوز حدود التجربة الممكنة. فهو لم يسعَ لتقويض البراهين التقليديَّة على وجود الله فحسب، بل سعى أيضًا ليبرهن على استحالة هذا البرهان العقليِّ النظريِّ. ومع ذلك أراد أيضًا أن يبرهن على شيء آخر. فحتى حين يتمُّ الاعتراف بحدود المعرفة، نظلُّ نتشوَّق ونسعى لمعرفة الله. ويمكننا أن نقول – رغم أنَّ هذه ليست لغة كانط – إنَّ مأزقنا الإنسانيّ هو أن هناك شيئًا عميقًا يختصُّ فينا، شيئًا جوهريًّا للعقل ذاته يغوينا بالتفكير بأنَّنا نستطيع بلوغ معرفة ما يتجاوز حدود المعرفة البشريَّة. وهذه الغواية، «هذه الخديعة الديالكتيكيَّة،» هي التي تحتاج أن تُقاوَم مرَّة بعد أخرى.

بعد كانط، ورغم وجود بعض المقاومة، زعم بعض المفكرين أن العقل البشري يكفي للبرهان على وجود الإله المتعالي[3].  لكن كانط، كما أشرت، لم يكن ملحداً. كان لاذعاً في نقده للملحدين كما لو كان من الدوغمائييين. إذ حين يزعم الملحد أنه يعرف أن الله غير موجود، فهو يرتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الدوغمائي، وهو: ادعاء معرفة ما لا يمكن معرفته. بهذا المعنى، يكون الإيمان الديني حقاً «وراء» العقل البشري – أو على الأقل وراء ما يسميه كانط العقل النظري أو العقل التأملي. وعلينا أن نثير سؤالاً مختلفاً:  إذا كان ثمة شيء ما أساس الإيمان بإله متعال؟

قبل أن أناقش كيف يتعامل كانط مع هذه المسألة، أريد أن أؤكد أن تراثه ذو حدين. فهذا التراث يؤمّن المؤاساة للذين يؤمنون بأن إيمانهم الديني لا يتعارض مع العقل. فبالفعل، لا يمكن للكانطي الحقيقي أن يعتقد أن ما يمكن أن يتعلمه من العلم، بما في ذلك البيولوجيا التطورية، يمكن أن يشكل أي خطر على إيمانه. كما العلم الطبيعي لا يقدر أن يثبت أو ينفي وجود الله. هذه واحدة من النتائج والواضحة والمتينة لنقد العقل المحض. وهكذا، كان لكانط تأثير هائل في الفكر البروتستانتي ما بعد – الكانطي في المساعدة على توطيد سلامة الإيمان.  وخاصة الإيمان بالإله المسيحي الذي لا يتعارض مع ما يمكن أن نعرفه ونتعلمه من العلم.

لكن يمكن للعلماني غير المؤمن (بالمعنى التايلوري الثالث) أن يحصل على الدعم من كانط. فهو ليس مضطراً للادعاء بأنه يعرف بأن الله غير موجود. إنه لا يحتاج إلا للتأكيد على أنه عميق الشك بهذا الإيمان الديني. لماذا؟ لأن كانط برهن على أننا لا نملك ولا يمكن أن نملك أسباباً نظرية للتأكيد على أن هذا الإله موجود. إذاً المؤمن وغير المؤمن كلاهما يمكن أن يلجأ إلى كانط لتسويغ موقفيهما.

ثمة طرق إضافية كان لكانط فيها تأثير هائل في تشكيل العصر العلماني. يدّعي أغلب المؤمنين الدينيين العاديين (مسيحيون وغير مسيحيين) أن الأخلاق ذاتها متأصلة في دينهم. فالنصوص المقدسة، سواء الكتاب العبري، أو العهد الجديد، أو القرآن، مفعمة بالوصايا حول ما نصحنا الله بفعله وعدم فعله. وعليه يعتبر الإله المحب المصدر والأساس النهائي لواجباتنا وإلزاماتنا الأخلاقية. وعلى المستوى الوجودي، كان هذا مصاغاً بشكل مسرحي: “لو لم يكن الله موجوداً، فإذاً كل شيء مسموح.» وبشكل أقل مسرحية، يعتقد العديد من المؤمنين العاديين بأن الله هو ملاذهم وسندهم، وأن الإنسان من دون إيمان يجد نفسه عالقاً في شرك النسبية الأخلاقية.

على الرغم من إيمان كانط المسيحي، فإن فلسفته الأخلاقية، لا تساعد الملحدين فحسب، بل أيضاً تقوّض أسس أعمق الاعتقادات التي يؤمن بها كثير من المؤمنين بالدين. بالتأكيد لم يكن كانط نسبياً أخلاقياً أو شكوكياً، بل كان يحاول البرهنة على مبادئ أخلاقية كلية. الإلزام الأخلاقي يتطلب أن نتصرف بطريقة تحترم كرامة كل إنسان. لكن ما الأساس الذي تقوم عليه هذه الأخلاق؟ ما هو مسوّغ الإلزام المقولي الكلي؟ الأساس والتسويغ، يمكن أن يوجدا في ملكة العقل العملي. من هذا المنطلق يبرهن كانط على أننا بوصفنا كائنات عاقلة عملية نعطي القوانين الأخلاقية لأنفسنا، فإننا نشرّع لأنفسنا، ونربط أنفسنا بالقوانين الأخلاقية الكلية. وبالتالي فإن أي محاولة لتبرير المبادئ الأخلاقية من خلال اللجوء إلى أي إله متعال هي نوع من أخلاقيات التبعية لسلطة تنتهك استقلاليتنا وحريتنا. حين يبدأ كانط «دينه ضمن حدود العقل المجرّد،» تراه يصرّح مشدداً:

بقدر ما ترتكز الأخلاق على مفهوم الإنسان بوصفه كائناً حراً، وبسبب هذه الحرية، يربط نفسه من خلال عقله بالقوانين غير المشروطة، فلا حاجة لفكرة موجود آخر فوقه لكي يدرك واجبه، ولا ليلاحظ،  حافزاً غير القانون نفسه. على الأقل إنه خطأ الإنسان الخاص إذا كانت هذه الحاجة موجودة فيه، لكن في هذه الحال أيضاً لا يمكن أن تُرفع الحاجة عن طريق أي شيء آخر: لأن كل ما لا يصدر من ذاته ومن حريته لا يوفر علاجاً للنقص في أخلاقه. – من هنا فإن الأخلاق من جهتها ليست بحاجة للدين أبداً (سواء موضوعياً، فيما يخص الإرادة، أو ذاتياً، فيما يخص القدرة) لكنها، خلافا لذلك، لديها اكتفاء ذاتي بفضل العقل العملي المحض (كانط 1978).

هذه كلمات مهمة تلامس جوهر ما يؤكده عدد من المؤمنين الدينيين الحديثين، وهو: أن المعتقدات الدينية والإيمان بالله هي الأساس لأخلاقهم – شعورهم بالصح والخطأ، وبما هو خير وشر. بصراحة، إن كانط يقول لنا إننا لسنا بحاجة إلى الدين (الإيمان بإله متعالٍ) من أجل التأسيس الأخلاقي أو للسلوك الأخلاقي. لكنه يتحفنا بادعاء أقوى، إذا لجأنا إلى الله من أجل تسويغ واجباتنا الأخلاقية فإننا ننتهك المسلّمات الأخلاقية وهي: استقلالنا وحريتنا في التشريع الذاتي. لكننا نحن، ونحن فقط (بوصفنا كائنات عملية عاقلة) من نربط أنفسنا بالقوانين غير المشروطة. لذلك يدين كانط الذين يشعرون بالحاجة للجوء إلى الله من أجل تسويغ واجباتهم الأخلاقية وكذلك الذين يعتقدون أن معتقداتهم الدينية ضرورية لتوفير “الباعث” من أجل اتباع القانون الأخلاقي. وهكذا إذا تتبعنا تفكير كانط حول الأسس العقلية العملية للأخلاق، يمكننا أن نعرف لماذا كان له هذا التأثير القوي في إيجاد عصر علماني. وكانط يقوض أسس ما كان، وما زال، في صميم ما يشدد عليه العديد من المؤمنين وهو: أن هناك علاقة جوهرية بين أديانهم ومعتقداتهم الأخلاقية، وأن الله هو المصدر والأساس لمعتقداتهم الأخلاقية. من هنا يمكننا أن نفهم لماذا يشبّه اثنان من أكثر المنظرين تأثيراً في القرن العشرين أنفسهم بكانط، فقد طوّر هذان المفكران نظريات في العدالة من دون أن يتوسلا سلطة إله متعالٍ: جون راولز  Rawls  John و يورغن هابرماس Jurgen Haberma. فكلاهما يسعى للبرهنة على أننا نستطيع تطوير نظريات علمانية حول العدالة والأخلاق من دون أي لجوء إلى رؤى كونية دينية. لذلك يمكننا ويجب علينا أن “نضع بين قوسين” هذه الرؤى الكونية الشاملة في تطوير نظرية أخلاق وعدالة. حتى المفكرون والفلاسفة الذين يعارضون جذرياً مزاعم كانط حول العقل العملي والقانون الأخلاقي أقروا بفصله الحاد بين الأخلاق والإيمان الديني. كما أن النفعيين يقبلون الفصل الجذري بين الأخلاق والاعتقاد الديني، أو يعدّون فيلسوفاً مثل رتشارد رورتي Rorty  Richard، الذي يكتب أحياناً كأن كل ما هو خطأ في الفلسفة الحديثة يمكن نسبته إلى كانط. يزعم رورتي أن الهوس الفلسفي المعاصر بالحقيقة، والموضوعية، والواقع هو أثر «للدين السلطوي،” وأثر للميل الديني للبشر لإذلال أنفسهم أمام سلطة غير إنسانية. والسمفونية العظيمة لرورتي  هي: لا يوجد ما يمكننا الاعتماد عليه غير أنفسنا وغير البشر الآخرين. لكن على الرغم من معاداة الإنسان الواضحه الكانطية، فإنه يستطيع أن يروي قصة متماسكة تأخذنا من إصرار كانط المفرط  في التقوى على أننا يجب أن نعتمد على حريتنا في أن نشرّع ذاتياً من خلال نقد نيتشه المسيحية إلى الإنسانوية العلمانية المعادية لكانط عند رورتي. المسألة الأساسية التي أريد التأكيد عليها هي: على الرغم من دفاع كانط عن الإيمان المسيحي،أسست  فلسفته النقدية للتراث العلماني الذي يفصل الأخلاق عن الدين.

يتحدث تايلور عن إنسانية «حصرية» أو «مكتفية بذاتها». وعندما تنشأ الإنسانية الحصرية في الحداثة، يكون مجيء العصر العلماني. وهذا ما كتبه:

أريد أن أعلن أن مجيء العلمانية الحديثة بالمعنى الذي حددته يتزامن مع نشوء المجتمع الذي، للمرة الأولى في التاريخ، صارت فيه الإنسانية المكتفية بذاتها كلياً خياراً متاحاً بشكل واسع. أعني بهذا الإنسانية التي لا تقبل أي أهداف نهائية وراء الازدهار الإنساني. وهذا لم يصح على أي مجتمع سابق.

إن تصنيف «الإنسانية المكتفية بذاتها كلياً» لا يناسب كانط، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها إيمان كانط المسيحي المفترض. لكن التمييزات التي يجريها كانط بين الأخلاق والدين والطريقة التي يثبت فيها أسس الأخلاق توفر دافعاً قوياً لتطوير «الإنسانية الحصرية». وهذا ما يعترف به تايلور عندما يقول: “على الرغم من ثبات مكانة الله والخلود في مشروعه، فإنه [كانط] شخصية مركزية أيضاً في تطوير الإنسانية الحصرية، لأنه يعرب بقوة عن قدرة مصادر الأخلاق الداخلية.”

تايلور مهتم بالدرجة الأولى بمصادر «الإنسانية الحصرية» وتطويرها ودورها في إيجاد العصر العلماني. فهو لا يولي الانتباه الكافي لما يمكن أن يسمى «الإنسانية غير الحصرية»، أي الإنسانية التي تشك في اللجوء إلى إله متعالٍ لكنها تواجه الإلحاد المناضل، والإنسانية التي لا تشعر بالحاجة إلى رفض الإيمان الديني بوصفه خياراً لبعض الناس، بل تتوقع من المؤمنين الدينيين أن يعترفوا بالاستقلال العلماني لتلك الفضاءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة التي يجب ألا يكون للدين أي دور فعلي فيها. فالإلحاد النضالي (عملياً أو نظرياً) كان محصوراً بأقلية قليلة جداً. وأغلب الملحدين هم لا أدريون بمعنى أنهم لا يشعرون بالحاجة لإنكار ما يسميه تايلور «الخيار الديني»، لكنهم لا يشعرون بأنهم مكرهون لتبنّيه من أجل تحقيق مشاريعهم في الازدهار. وهنا أيضاً يمكن للمرء أن يعتمد على كانط لتسويغ هذا الموقف اللا أدري. فغير المؤمن العلماني، مثل كانط، يمكن أن يواجه كل أشكال التعصّب الديني الدوغمائي أو الإلحاد النضالي المتغطرس. ويمكنه أن يعترف بأهمية التجارب الدينية وتنوعها، كما يفعل وليام جيمس، ومع ذلك يدافع عن حق الملحدين وشرعيتهم، كما فعل جيمس. إن الإنسانية غير الحصرية أكثر شيوعاً من أي شيء يشبه الإنسانية الحصرية أو الإلحاد النضالي. بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نرى تراث كانط بنفس الطريقة التي يميز فيها تايلور العصر العلماني. في هذا الكتاب يصف العصر العلماني بأنه العصر الذي يكون فيه الإيمان والإلحاد «خيارات». لكن لغة «الخيارات» هذه تعني أننا قادرون على الاختيار بين أن نكون (أو لا نكون) مؤمنين دينيين. وهذا يعني أن الإيمان الديني بالاصطلاح الكانطي، يرتكز في الأساس على حرية الاختيار الإنساني. فإذا كنا قادرين على اختيار الخيار الديني، فنحن قادرون أيضاً على اختيار خيار غير ديني.

أشرت إلى أن كانط يرفض في الأساس إمكان إعطاء دليل نظري عقلي على وجود الله. على الرغم من أنه كان مؤمناً. وكما أشار هارتمن، لم يسعَ كانط بشكل خاص، “لحصر العقل النظري المبتلى بأسئلة لا يمكن الإجابة عنها، لكن لتوسعة استعمال العقل العملي إلى ما بعد التشريع الأخلاقي للأخلاق المحصورة بالواجبات لاحتمال أن يشمل المسلّمات العقلية مثل الله والخلود.” إذاً كيف يؤسس إيمانه بالله؟ هذه واحدة من أكثر المسائل جدلاً في تعليم كانط، لأنه يبدو أن هناك ادعاءات متضاربة في فلسفته. في الأساس، يفهم كانط الله (وكذلك الخلود والحرية) على أنها مسلّمات ضرورية من مسلّمات العقل العملي. على الرغم من الفقرة التي ذكرتها سابقاً حول أن الأخلاق ليست بحاجة للدين. فإن كانط يعتقد بوجود «برهان أخلاقي” على وجود الله. وهكذا روّج كانط لفكرة «الإيمان العقلي» – تعبير يطرق مسامع الكثيرين كلفظتين متناقضتين. مع ذلك يرى كانط أن الكائن الأعلى هو موضوع الإيمان العقلي – الكائن الذي يُحتمل أن يكون الحاكم الأخلاقي للعالم. حتى كانط يؤكد أن رفض الإيمان بالله سيطيح بالمبادئ الأخلاقية من الأساس. لذلك نجده يتحدث عن الخير الأعلى، الذي يجمع بين الأخلاق واستحقاق السعادة. لكن هذا الخير الأعلى لا يكون ممكناً من دون التسليم بوجود الله. وقد لخص لويس وايت بك    Becks White     Lewis  في شرحه نقد العقل العملي أهم نقاط كانط:

الخير الأعلى onumis summum  لا يكون ممكناً إلا إذا كانت النفس خالدة وكان الله موجوداً – الأول لأن السعادة في هذا العالم واستحقاق السعادة ليسا نظيرين، والثاني لأنهما لا يمكن أن يدخلا في التناغم من دون أي علة فاعلة فوق طبيعية. والخير الأعلى موضوع ضروري للإرادة، لذلك لا بد من التسليم به مع شروطه. لكن على الرغم من ذلك يقول كانط إن الرغبة في السعادة، حتى  السعادة المنسجمة مع الفضيلة، ليست هي دافع الأخلاق، كما أنه يقول إنه من دون الخير الأعلى وشروطه تكون هذه «الأفكار المجيدة حول الأخلاق موضوعات إعجاب ومصادقة، لكنها ليست موارد غايات وأفعال.» نحن نفترض وجود الله « من أجل أن تعطى النتيجة من خلال هذه العلة الفاعلة” للقوانين الأخلاقية:

لكن كانط انقلب على رأيه. ففي كتابه الأخير، يرى أن الله والقانون الأخلاقي متماهيان. ويخبرنا بأن «الله ليس كائناً خارج ذاتي، بل هو مجرّد فكرة فيّ، الله هو العقل العملي الذي يشرع لنفسه أخلاقياً. وبالتالي لا يوجد غير إله واحد في داخلي، وحولي، وفوقي» (مقتبس في كتاب بك 1949). فالأمر كما لو أن كانط يريد أن يحصل على كعكته ويأكلها أيضاً. يقول لا يوجد شيء «أعلى» من الأخلاق – نحن لا نحتاج الله من أجل تبرير الأخلاق أو حتى نتصرّف بمقتضى الأخلاق. ومع ذلك يريد أن يقول أيضاً إن العقل العملي يتطلّب التسليم بوجود الله  من أجل إضفاء المعنى على الأخلاق ومصالحة الأخلاق مع استحقاق السعادة. بالإضافة إلى ما ورد في تعليق  بك:

حتى لو لم يكن الله موجوداً، وكنت مؤمناً بوجود الله، تبقى النتائج العملية لطاعة القانون الأخلاقي هي ذاتها. وبالتالي، فليس من الضروري أن نعرف أن المسلّمة صحيحة، كي تؤدي وظيفتها العملية. وكانط يعترف دائماً بأول هذين الإنكارين. لكن على الرغم من أنه لا يستنتج المعرفة من حقيقتهما في براهينه الأخلاقية، فالظاهر أنه يظن أنه يستنتج حقيقتهما… لكن هذا البرهان الكانطي، إذا كان صحيحاً، فكل ما ينتج منه بشكل صحيح هو ضرورة جعل بعض المسلمات أفعالاً، وليس صحة المسلّمات التي يثيرها (بك 1960).

من الغرابة أن يكون هذا الجانب من فلسفة كانط النقدية مصدر مناقشات حادة بين كانط والباحثين، وأن يكون موضوع سخرية ونقد حاد. إذ يبدو “برهانه الأخلاقي” الذي استدل منه  على وجود الله واحداً من أضعف ما أنتجته فلسفته النقدية كلها.

فالله بالنسبة لكانط، هو نومينا. ووفقاً لبرهانه، ذلك الكائن المتعالي الذي سبق وسميناه الله ما هو إلا خيال، نشأ من خلال وهم طبيعي. نعم، يبيّن كانط أننا لا يمكن أن نعرف شيئاً عن الله مطلقاً، وأن أي برهنة مستقبلية على وجوده غير ممكنة. دعنا نكتب كلمات دانتي Dante “اترك الأمل وراءك” على هذا المقطع من نقد العقل المحض… هل اعتقدت بأننا يمكن أن نذهب إلى البيت الآن؟ ليس في حياتك! بقي مقطع آخر لا بد من إتمامه. بعد المأساة تأتي الملهاة. حتى الآن، كان كانط فيلسوفاً لا يلين، يهاجم السموات، يمتشق سيفه ويلبس الدرع، ويسبح مليك العالم ملطخاً في دمه، لم يعد هناك رحمة، ولا نعمة، ولا ثواب في العالم الآخر على الزهد في هذا العالم، فخلود النفس يلفظ أنفاسه الأخيرة – فالنفس تحشرج وتئن – مصباح قديم، ينظر إليه مُشاهد مرهَق، حاملاً مظلته تحت إبطه، وعرق بارد ودموع تسيل على وجهه. هنا يبدأ إمانويل كانط بالرثاء ويبيّن أنه ليس مجرد فيلسوف عظيم، بل هو إنسان صالح، يفكر ملياً، ويقول بشيء من اللطف، وشيء من السخرية: “المصباح القديم يحتاج إلى إله، وإلا فلن يكون الإنسان الفقير سعيداً – لكن البشر يجب أن يكونوا سعداء في العالم – العقل العملي يقول ذلك – حسناً، إذاً – يمكن للعقل العملي أن يضمن وجود الله أيضاً.» في مسار هذا البرهان يميز كانط  بين العقل النظري والعقل العملي، ومع هذا، كمن يملك عصا سحرية، يحيي جثة الإيمان بالله التي قتلها العقل العملي.

هل تولّى كانط بعثها ليس بسبب المصباح القديم فقط، بل بسبب الشرطة؟ أو هل تصرف حقاً انطلاقاً من عقيدة؟ (مقتبس في Neiman 1993).

لقد اقتبست من  Heinen لا لأسخر من كانط، بل بالأحرى لأسلّط الضوء على ما سمّيته سابقاً خاصية الحدّين التي تتصف بها هذه الفلسفة النقدية. فكانط يفسح المجال للإيمان، لكن حين يصل الأمر إلى تفسير إيمانه، وخاصة الدفاع عن أسس الاعتقاد بإله متعالٍ، فإن برهان كانط العملي مشكوك فيه إذ إن الملحد لديه سبب وجيه ليبقى مشككاً. باختصار، لو تم تعريف المجتمع العلماني بأنه المجتمع الذي يكون فيه الإيمان بالله «خياراً بين خيارات أخرى، وليس دائماً أسهلها اعتناقاً.» إذاً يمكن الترحيب بكانط باعتباره فيلسوف عصرنا العلماني.»

حتى الآن، كنت أركز على أن كانط، وعلى الرغم من تأكيده الإيمان المسيحي ومشروعه النقدي في تقييد المعرفة إفساحاً في المجال للإيمان، كيف يوفر تسويغاً فلسفياً قوياً للعلماني غير المؤمن. لكن هذا ليس تمام القصة، إذ يمكننا أيضاً أن نرى أهمية كانط بالنسبة لما يسميه تايلور «العصر العلماني» وما يسميه هارتمن «المجتمع ما بعد العلماني». يمكن لنقد غير متفهم أن يقول إن كانط يريد استبدال سلطة لله التقليدية بسلطة العقل التنويرية الجديدة (سواء أكان العقل نظرياً أم عملياً). لكن التفسير الأكثر تعاطفاً يمكن أن يشدد على أن كانط يبحث عن مصالحة بين مزاعم العقل والإيمان الديني. كما تمّت الإشارة سابقاً، يدافع كانط عن الاستقلال وعن حدود العقل. فهذا العقل في مجاله الخاص الصحيح – سواء أكان العلم أم الأخلاق – مستقل ومكتفٍ بذاته. يعارض كانط كل أشكال الدوغمائية (الدينية أو العلمانية)، لكنه يترك المجال مفتوحاً للإيمان الديني الذي يذهب إلى «ما بعد العقل». فليس لدى المؤمن الديني ما يخشاه من التطور التام للعقل. ويمكننا أن نرى كيف يسهم الفهم الكانطي لكرامة كل إنسان أيضاً في معيار التسامح (المعيار الذي لم يلحظه كانط بشكل تام دائماً)، فمثلاً  يقول كانط في كتاب صراع الملكات  Faculties of the  Conflict The «إن وجود عدد من الأديان المتنوعة في دولة، مرغوب.” وهذا في الواقع مرغوب إلى درجة أنه إشارة جيدة، – إشارة، إلى السماح للناس بحرية الاعتقاد.» لكنه يضيف مباشرة:

هذه الحالة العامة في الدين، في ذاتها، ليست شيئاً جيداً إلا إذا كان للمبدأ الذي يشكل أساساً لها طبيعة تجلب معها توافقاً كلياً على المبادئ الأساسية للاعتقاد، كما يتطلب مفهوم الدين، ولكي نميّز هذا التوافق منن النزاع الناشئ من لا ضروراتها (كانط 1977).

وهكذا، أيّد كانط اقتراحاً قدّمه «يهودي شديد الذكاء» يقول إن اليهود «يتبنون علناً دين المسيح (قد يكون مع وسيلته: الكتاب المقدس).” هذه الخطة «لو تم تنفيذها تترك لليهود إيماناً مميزاً يجذب الانتباه إليهم بسرعة بوصفهم الشعب المثقف والمتحضر المستعد لكل حقوق المواطنة، والذي يمكن لإيمانه أن يكون مقبولاً من الحكومة أيضاً.»

حين يعالج كانط ما يسميه «معتقدات كنسية»، يمكننا أن نرى أيضاً كيف يجذب الاتجاهات المعارضة. فمن جهة تراه يحاول بانسجام استخراج الجوهر العقلي لهذه المعتقدات. لا شك أن العقل (النظري والعملي) يزودنا بمعايير ما هو مقبول أو غير مقبول في أي نسخة من الإيمان الكنسي. فهو يريد أن «يطهّر» الدين من كل الآثار غير العقلانية، وأن «يترجم» الادعاءات اللاهوتية إلى ادعاءات عقلية. وبالتالي فإن الفكرة البيبلية حول «مملكة الله» تترجم إلى «مملكة النهايات». لكن من جهة أخرى، يريد كانط أن يضيف دوراً إيجابياً للإيمان الديني. فأحياناً قد يبدو هذا تنازلاً مثلاً عندما يعلن أن الوحي يجعل الحقائق العقلية ممكنة الوصول، فهذه الحقائق العقلية «يمكن ويجب أن يكون البشر قد وصلوا إليها… بأنفسهم من خلال استعمال العقل فقط” (كانط 1998). وهو يعتقد أيضاً بالدور الإيجابي للجماعة الدينية التي تفهم ذاتها باعتبارها «شعب الله الخاضع للقوانين الأخلاقية».وهنا  يشير هابرماس إلى اقتراح كانط القائل أن”الدوافع” الدينية متممة للعقل:

هذه ليست مسألة «دين ضمن حدود العقل فقط» يستخرج كل شيء من التراث الديني الذي يقاوم البحث العقلي الدقيق المعرّف بصورة محدودة بطرق الإلزام الأخلاقي. في إعادة بناء المضمون العقلي لـ «تعاليم التاريخ والوحي» جُر كانط بشكل خاص إلىى الإسهام الذي قامت بها الجماعات الدينية المنظمة «لإقامة مملكة الله على الأرض». «المبدأ الديني المطبق” يطور المفهوم العقلي لـ «الجماعة العاقلة» من أجل رمز مملكة الله على الأرض ومن هنا يجبر العقل العملي على تجاوز التشريع الأخلاقي المحض في مملكة النهايات المعقولة.» (هابرماس 2009).

انتُقد كانط مراراً بسبب مقاربته الأخلاق المفرطة في صرامتها. فهو المدافع العظيم عن التنوير. جرأة على المعرفة!  sapere aude “فلتكن عندك الشجاعة لاستعمال عقلك.” لا يوجد أوضح من هذا في أي مكان حين يتعلق الأمر بالأخلاق. وهذا ما يجعل كانط بطلاً بالنسبة للعلمانيين الملحدين. لكن امتلاكك الشجاعة لاستعمال عقلك يتطلب مواجهة حدود العقل – والاعتراف بالميدان المناسب وشرعية الإيمان الديني. وهذا أيضاً هو السبب الذي جعل كانط بطل المؤمنين الذين يدّعون أن إيمانهم يغني حياتهم على المستوى الروحي، لكن الذين يؤمنون بأن الإيمان منسجم مع العقل.

في الوقت الذي ينتشر فيه التعصّب الديني الذي لا يتسامح مع العلمانية وكذلك تنامي الطبيعانية المختزلة «صعبة المراس» التي لا تتسامح مع أي نوع من الاعتقاد الديني، يضع كانط معياراً قياسياً لهذا التصادم بين المطلقات. ليس لدى المؤمن الديني ما يخافه من إعمال العقل، لذلك عليه أن يكف عن تقييد عمل العقل. والممارسة الصحيحة للعقل (النظري والعملي) لا تشكل تهديداً للدين، بل هي توضح المضمون الحقيقي للدين. ولدى كانط أيضاً رسالة لبطل العقل العلماني. كن متأملاً ذاتياً حول حدود العقل! لا تزعم أنك تعرف ما لا تعرفه وما لا يمكنك أن تعرفه. لا تمزج بين ما نتعلمه أصلاً من العلم وإعمال العقل وبين رؤية كونية شاملة غير مضمونة. ومن دون تنازل عن التزامك بالعقل، كن منفتحاً على ما يمكن أن تتعلمه أصلاً من التراث الديني والمؤمنين الدينيين. فالفلسفة بذاتها ليست كافية لتبريد عواطف المتطرّفين، لكنها تستطيع – كما يبين لنا كانط – تزويدنا بمعيار قياسي للنقاش المتحضر والمناظرات بين المؤمنين وغير المؤمنين. ما زال التراث الكانطي يضع معياراً للمؤمنين الدينيين وغير المؤمنين على حد سواء.

 

ـ المصدر: (Projectruse) العدد 4، المجلَّد 76، شتاء 2009. الرابط www.muse.jhu.edu/issue/28860.

ـ العنوان الأصلي: The Secular-Religious Divide: Kant’s Legacy.

ـ ترجمة: ط. ع.

– لأهداف تتعلَّق بالبحث سأستعمل تعبيرَي «الاعتقاد الدينيِّ» و”الإيمان الدينيّ” بطريقة تبادليَّة رغم أنَّ الإيمان الدينيَّ يشتمل على أكثر من مجرَّد مجموعة من المعتقدات.

[2]– تايلور لا يدّعي أنَّ كل المجتمعات الراهنة علمانيَّة. فهو مهتمٌّ بالدرجة الأولى «بحضارة محدَّدة، وهي حضارة الغرب الحديث، – أو في التجسد القديم، المملكة المسيحيَّة اَّللاتينيَّة.

 

[3]– أشدد على «المتعالي» لأن هناك فلاسفة مثل هيغل الذي يؤكد وجود الله أو الروح المطلق لكنه يرفض الانقسام الأنطولوجي الثابت بين ما هو محايث ومتعالٍ، بين ما هو متناهٍ وغير متناه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى