مَشرب الكمال
مَشرب الكمال
رشيد موعشي
يقول الشيخ العارف صدر الدين القونوي في كتابه (النفحات الإلهية) الذي وضع فيه جُلّ وارداته القدسية ومُكاشفاته الربانية،مُظهراً ما مَنّ الله تعالى به عليه تَبعاً لسعة استعداده وقبوله للفيض الإلهي:
اعلم أنه قد كان سبق لي بعد معرفة شاملة إحاطية وأذواق كاملة شهودية كلّية من مشرب الكمال،بعد تعدّي أحكام مرتبتي الجلال والجمال،مشهد شريف إلهي عالي المنار،شاسع المنزل والمزار، واسع الأرجاء والأقطار،متعالي الأحكام والآثار،منزّه عن حصر قيود المقامات والأحوال والأسماء والصفات والمراتب والأطوار.
أطلعني الحق فيه على حقيقة العلم ومراتبه التفصيليّة وآثاره وأحكامه،الخفيّة والجليّة،واللدُنيّة السّنية واللدنيّة العليّة. وكشف لي عن درجات أربابه،وأشرف منازل حَملته وأصحابه،وانحصار مراتبه الأصليّة في الحضرات الخمس الإلهية الكلّية..
فلما كان سحَر الليلة التي صبيحتها يوم الثلاثاء سابع عشر شوال من سنة (665) وقعت منازلة رحيمية،لا رحمانية،وجذبة لطيفة ربانية، أقامني سبحانه فيها بين يديه وفرّغني دفعة دون تدريج للإقبال بوجه القلب عليه،وأطلعني على حضرة علمه الذاتي الكلّي الذي منه انبسط كل علم، وتعيّن بموجبه في جميع مراتب الوجود كل وصف وحال وحُكم. وأراني سبب انضيافه ونسبته إليه سبحانه من حيث التخصيص الوصفي والتقديس الشرفي،ونسبته إلى سواه وسبب تقييده وجزئيّته،وموجب انبساط حكمه عند آخرين وإحاطته وكلّيته. وعرّفني بسرّ استرساله على المعلومات بتجديد التعلقات الناشئة بينه وبين المعلومات، ونسبة كل ذلك من وجه كلّي إلى بعض من يوصف بالعلم، وسبب تجدّده من الوجوه الجزئيّة عند آخرين بطريق الاستفادة السببية الزمانية والشرطيّة الذاتية والعرضيّة، وموجب كثرة الأسباب فيه وقلّتها والوسائط، وكذلك الشروط والروابط، وكيفية ارتفاع المجموع في حق بعض الموصوفين به ــ أعني العلم ــ وسبب الرفع ومقتضاه، وصحّة انضيافه إلى الحق من هذه الحيثيّات كلّها مع بقاء التنزيه الحقيقي بحاله، ومن أيّ وجه لا تصحّ هذه الإضافة الشاملة إلى الحق ولا تصدُق عليه وتصدُق وتصحّ في حق الغير وتتحقّق..
وأراني سبحانه أيضاً صور الحضرات الخمس في ذاتي، وكشف لي دفعة عن أمّهات حقائقي وصفاتي، فرأيت تعيّن الثبوت السابق على الوجود حصّتي من عين علمه الذاتي واستعدادي الكلّي الذي به قبلت الوجود المضاف عند الجمهور إليّ..
ثمّ إنّي رأيت كل من لم يحصُل له وقفة،بل جلسة، في حال الوسط ــ أعني وسط الدائرة الوجودية والمرتبية، مقام المُحاذاة التامة بحضرة الحقّ ــ ليس له علم صحيح. بل نسبة علم الخارج عن نقطة هذه المقابلة إلى العلم الثابت على النقطة،في الصحة وعدم الصحة،هو بمقدار قلّة انحرافه عن حال الوسط وكثرته، فقريب وأقرب وبعيد وأبعد. وصاحب الثبات على النقطة ومالك أمرها هو ميزان الله الأتمّ الأعمّ الأشمل الأكمل، ليس في العلم فحسب، بل وفي الحسن والقُبح والقُرب من الحق والبُعد منه والموافقة والمخالفة والسخط والرضاء والضرر والمنفعة والشقاوة والسعادة وباقي الأحوال والصفات الكلية والجزئية والكونية والإلهية.. ] اهـ.