فلسفة الملَكات الروحيَّة:
فلسفة الملَكات الروحيَّة:
القدِّيس والوليُّ من منظور العلوم الاجتماعيَّة
جعفر نجم نصر
أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة المستنصريَّة / العراق.
تشير الملكات الروحيَّة إلى القابليَّات والمهارات فوق الطبيعيَّة، أو خارج دائرة المحسوس، والتي يمتلكها أصحاب التجارب الدينيَّة الخاصَّة، وتدلِّل على خروجهم من هذه التجارب واختبارهم، في كثير من الأحيان، الحقائق التي يستطيعون بموجبها التأثير في المحيطين الاجتماعيِّ والطبيعيِّ بنحو مباشر.
هذه الملكات الروحيَّة دفعت المتخصِّصيين في حقول معرفيَّة عدَّة، كلًّا بحسب أدواته وأقيسته المنهجيَّة، إلى الوقوف على كُنهها وحقيقتها. وكان للعلوم الاجتماعيَّة قلم السبق في سبيل دراستها ضمن سياقاتها الاجتماعيَّة والثقافيَّة / الحياتيَّة.
وإذا كان القدّيس في المسيحيَّة قد اختصَّ بما اصطُلِح عليه بملكة (الكاريزما)، فإنَّ الوليَّ في التصوُّف الإسلاميِّ قد اختصَّ بما اصطُلِح عليه بملكة (الكرامة)، ومن ثمَّ فالوقوف على تلك الملكات سيكون بمثابة المرتكز الرئيس لهذا المقال.
من الواضح أنَّ هناك شبه إجماعٍ على أنَّ أوَّل استخدام لمفردة Charisma”” جاء على لسان القدّيس بولس (أحد الدُّعاة الرئيسيين للمسيحيَّة بعد السيّد المسيح) من خلال رسالته إلى أهل كورنثيوس؛ إذ ذهبت أنسيكلوبيديا الدين إلى القول: أنَّه تحدَّث عن الهبات الروحيَّة “”spirtual gifts أو الكاريزما “Charisma” وعن تجلّيات مختلفة منها لروح الله: الأقوال الحكيمة، المعرفة الخاصَّة، المعالجات، المعجزات “Miracles”، الأرواح المتميّزة، الإيمان. وتُرجع وجود الكاريزماتيَّة إلى ذات الروح المقدَّسة التي قامت بتوزيعها على كلِّ إنسان بحسب ما تراه مناسبًا؛ هذا ولقد أكَّد وبشكل دائم على أنَّ الحبَّ أعظم هبة للإنسان([1]).
لقد أشار بولس إلى أنَّ الهبات الروحيَّة أو الكاريزما في مقطع من رسالته يسمَّى: أنشودة المحبَّة (song of love): لو كنتُ أتكلَّم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبَّة، فقد صرت نحاسًا يطنُّ أو صنجًا يرنُّ، وإن كانت لي موهبة النبوَّة “gift of Prophecy” وأعلم جميع الأسرار وكلَّ علم، وإن كان لي كلُّ الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبَّة فلست شيئًا، وإن قدَّمت أموالي كلَّها للإطعام، وإن سلَّمتُ جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبَّة فلا أنتفع شيئًا([2]).
وفي مقطع آخر من رسالته، نجده يحثُّ المؤمنين الجدد على السعي نحو الحصول على المواهب الروحيَّة لاسيَّما موهبة التنبُّؤ (الاتصال بعالم الغيب ومحاولة اكتشافه)، لأنَّ ذلك برأيه سوف يعزِّز- ويقوّي مؤسَّسة الجماعة (الكنيسة)، إذ نجده يقول: اسعوا وراء المحبَّة، وتشوَّقوا إلى المواهب الروحيَّة، بل بالأحرى موهبة التنبُّؤ. ذلك لأنَّ الذي يتكلَّم بلغة مجهولة يخاطب لا الناس بل الله. إذ لا أحد يفهمه، ولكنه بالروح يتكلَّم بألغاز، أما الذي يتنبَّأ، فهو يخاطب الناس بكلام البنيان والتشجيع والتعزية. فالذي يتكلَّم بلغة مجهولة يبني نفسه؛ وأمّا الذي يتنبَّأ، فيبني الكنيسة (church)([3]).
تأسيسًا على ما سبق، يجدر القول أنَّ معاني ودلالات مفردات المواهب الروحيَّة أو موهبة التنبُّؤ، أو ما سواها من مفردات، أشار إليها بولس حول (عطايا الربّ)، قد وجدت مجالها الُّلغويَّ في الكلمة اليونانيَّة “kharismata” والتي ينظر إليها بعض الباحثين بوصفها الأصل الُّلغويَّ لمفردة “charisma” الَّلاتينيَّة والتي تعني “الموهبة”، حيث استخدمها المسيحيُّون الأوائل للدلالة على المواهب التي يختصُّ بها الله أفرادًا معيَّنين، ثمَّ انتقلت إلى الفلاسفة الَّلاهوتيّين المسيحيّين([4])؛ والبعض الآخر يقول: إنَّ هذا المصطلح “charisma” يشير عند الإغريق إلى النعمة الإلهيَّة، أو إلى خاصيَّة خارقة تتميَّز بها شخصيَّة فرد معيَّن، تجعل صاحبها كأنَّه يمتلك قدرات ومواهب، تفوق ما هو إنسانيٌّ، وما هو طبيعيٌّ؛ ولهذا، فإنَّ المصطلح برأيهم يُستخدَم في نطاق الأدب ليشير إلى الهبة الإلهيَّة “gift of grace”([5]).
بين الكاريزما والكرامة:
من جانبنا، نعتقد أنَّ هنالك مقابلة – ومقاربة بين الكاريزما التي هي من صفات وقابليَّات القدّيسين في الفكر المسيحيِّ عمومًا، والكرامة التي هي من صفات وقابليَّات الصوفيّين في الفكر الإسلاميِّ الصوفيِّ خصوصًا؛ والكرامة، بلغة العرب وبالأصل الدقيق، من مصدر (كرم) (بفتح الكاف وضمِّ الرَّاء)، ولكنّها في الاستعمال اسم معناه يشبه الإكرام والتكريم بين إنسانٍ هو كريم بالنسبة إلى أيِّ شخص. في هذا السياق، يقول ابن منظور: كرم يعني الكريم، وهي من صفات الله وأسمائه، والكريم اسم جامع لكلِّ ما يُحمد، والكرم بنظره نقيض الُّلؤم يكون في الرجل بنفسه، والاسم منه: الكرامة. بدوره، قال الَّلحياني: إفعل ذلك وكرامة لك، ويقال نعم وحبًّا وكرامة… والكرامة: اسم يوضع للإكرام، كما وضعت الطَّاعة موضع الإطاعة، والغارة موضع الإغارة([6]).
أمَّا أبو القاسم القشيريُّ فرأى: أنَّ ظهور الكرامات على الأولياء جائز، والدليل على جوازه أنَّه أمر موهوم حدوثه في العقل لا يؤدّي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجب وصفه سبحانه القدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدورًّا له سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصوله([7]). ولا بدَّ برأيه من أنَّ تكون هذه الكرامة فعلًا ناقضًا للعادة في أيام التكليف ظاهرًا على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله([8]).
هكذا أصبح لمن لديه حظوة أو مكانة عند الله تعالى أن تكون له كرامة؛ وكأنما هي صيغة مبالغة لتصف الكرم الإلهيَّ الذي اختُصَّ بفرد معيَّن، وذلك لاعتبارات عقائديَّة وطقوسيَّة أدَّاها على أكمل وجه وبحسب مرجعيَّته الصوفية.
فلقد أشار الشيخ محي الدين بن عربي إلى أنَّ الكرامة يمنحها الله لمن يشاء ممَّن يمارسون الفضيلة، جزاءً وقتيًّا عنها، ولكن الله سبحانه، وفي كثير من الأحيان، يمنحها أيضًا لمن لا يمارس الفضيلة إلَّا على نحو ناقص، وفي مثل هذه الأحوال فإنَّ الكرامة بدلًا من أن تكون جزاءً وفضلاً يمنح للنفس، تتحوَّل إلى محنة وابتلاء يبتلي الله بها العبد ليعرف صدقه في احتقار شؤون هذه الدنيا، ورسوخ تواضعه، والاستقامة الخلقيَّة، وأداء أوامر الله([9]).
عمومًا، اتَّفق القول في الفكر الصوفيِّ على توافق التصوُّف والكرامة، إذ لا تصوُّف من غير القول بالكرامة، لأنَّ الأمر عبارة عن تحوُّل من عالم يتحكَّم فيه العقل ومقولاته، والأسباب وما يلزم عنها، إلى عالم لا يعرف التقييد،….، فحصول الكرامة يُعدُّ نتيجة لمعرفة الصوفيِّ الله والقرب منه والوصول إليه والتفرُّد به حتى تنكشف عنه الحُجُب، وهو في مرتبة العرفان، فيشهد من علم الله ما لم يشهده غيره، وعندئذٍ تتحقَّق الكرامة عنده([10]).
ولقد ميَّز ابن عربي بين نوعين أساسيَّين للكرامات: الظاهرة والباطنة، فالكرامات الظاهرة أو المادّيَّة هي التي تُشاهَد أو تتأيَّد من حيث كونها ظواهر فيزيائيَّة أو موضوعيَّة، تظهر خارج الشخص، ويمكن إدراكها بالحواسِّ الظاهرة للمشاهد، ومثالها كرامات: المشي على الماء، والمشي في الهواء، وتحويل المادَّة، وإبراز قوى جسمانيَّة هائلة، إلخ. أمَّا الكرامات الباطنة أو الروحيَّة فهي تلك التي تتحقَّق في نفس الصوفيِّ أو غيره، وتبعًا لذلك فإنَّ حقيقتها لا يمكن أن تُعرَف وتتأيَّد إلَّا في الحالة التي يظهرها صاحبها ويذيعها؛ ومن هذا النوع الكشف عن أسرار العالم المادّيِّ والنفسيِّ والإلهيِّ، ممَّا يتلقَّاه بعض الصوفيَّة بتوفيق من الله في أحوال الوجد والجذبة. وإلى هذا النوع الثاني من الكرامات الروحيَّة الطابع، يرد ابن عربي بعض المواهب الخارقة التي يسمّيها الَّلاهوتيّون النصارى باسم (صانعات الُّلطف) “Facientes gratiam”([11]).
عودًا على بدء، وتعزيزًا لما تقدَّم، يرى المستشرق الإسبانيُّ المعروف آسين بلاثيوس أنَّ كلمة (كرامة) العربيَّة ذات علاقة وثيقة جدًا من الناحية المعنويَّة بالكلمة اليونانيَّة الَّلاتينيَّة (charisma)، التي أدخلها القدّيس بولس (الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس)، للدلالة على المواهب والأفضال الاستثنائيَّة وفوق المعتادة التي يشرف بها الله النفوس المختارة، والكلمة العربيَّة (كرامة) حسب رأيه من ناحية الاشتقاق مرادفة لكلمة موهبة، عطيَّة – فضل يمنح (تكريمًا) للشخص([12]).
من هنا، فإنَّ الحاصل على هذه الموهبة (الكريزما- الكرامة) يكون هو القدِّيس “saint” عند المسيحيين، والوليَّ “wali” عند المسلمين (المتصوِّفة خصوصًا)؛ ومن الواضح أنَّه عندما تسري روايات أو قصص تلك الكرامات والكاريزميَّات بين أفراد المجتمع، تتحوَّل إلى عالم من (البطولة)، إذ يغدو صاحبها بطلًا شعبيًّا تتضخَّم صورته وتُحاك حوله القصص والنوادر، حتى يبلغ الأمر ذروته في البحث عنه والاستعانة به للاتصال بالعالم الغيبيِّ لأجل احتياجات يغلب عليها الطابع المادّيّ.
في هذا المجال، وعلى صعيد عالم الكرامات التي تتوازى مع عالم الكاريزميَّات، يبرز الرأي الناقد لعلي زيعور الذي يوازي بين الكرامة والأسطورة ذاهبًا إلى القول: لم ينفكّ الارتباط قائمًا وشديدًا بين الأسطورة والكرامة؛ نشأ الاثنان في مناخ مجتمعيٍّ فكريٍّ واحد، وتبادلا التأثير والتفاعل؛ لكن الكرامة….، اختصَّت بكونها أساطير طائفة معيَّنة، وبمحدوديَّة المرامي التي تودُّ بثَّها. وهي في سيرورتها نحو غايتها، قد أخذت الأسطورة التي وافقتها، بل وابتلعت حتى التخمة عشرات الأساطير والمعتقدات الوثنيَّة، فأتت تصوُّرات تخيُّليَّة عن بطل يشابه الإله من حيث قدرته الخارقة، ويتحكَّم في منطق القوانين، ويسيِّر الزمان والمكان وفق إرادته المطلقة. ولا تكلُّ الإرادة المطلقة هذه، ولا تعرف عائقًا، ولا يوقفها حاجز لكونها تتواحد مع المطلق، وتندمج في إرادة الله([13]).
ولكن، رغم الرَّغبة التي تستحوذ على (القدِّيس والوليِّ) في التوحُّد والاندماج والتماهي في إرادة الله، والتي يصفها زيعور نفسه بأنَّها إحدى مولِّدات أو منشآت الأسطورة المتديِّنة، أو أسطورة رجال كابدوا طلبًا للتحقُّق بواسطة الدين أو فهم خاصٍّ للدين- تعبيرًا عن تاريخ تجربة روحيَّة مملوءة بالصراع بين المعطيات البدنيَّة والواقعيَّة من جهة والقيم العليا من جانب آخر، وهو صراع (برأيه) من أجل تمثُّل الذات الخالدة ودعمها في الذات الفرديَّة([14])؛ فإنَّ الأعمَّ الأغلب منهم ظلَّ مُصرًّا على ضرورة وجود أمرين أساسيَّين لا يمكن تجاوزهما، ألا وهما:
أوَّلًا: التأكيد الدائم على أهميَّة المقدَّس الرئيس (الواسطة)، أي النبيَّ، وعدم التجاوز على مكانته الروحيَّة العليا.
ثانيًا: الاقتناع الدائم بأنَّ الفرد يحوِّل نفسه إلى قدِّيس أو وليٍّ عبر رياضة روحيَّة وسلوكيَّة عباديَّة ذات خصائص ومعالم متَّفق عليها ضمن الجماعة الدينيَّة (المتصوِّفة أو الرُّهبان).
وتأكيدًا على هاتين المسألتين وأهميَّتهما، نجد أنَّ المتصوِّفة المسلمين خصوصًا يؤكِّدون ضرورة التفرقة بين الكرامات والمعجزات حتى تتَّضح خصوصيَّة كلٍّ من (النبيِّ والوليِّ)، فابن عربي مثلًا يرى: أنَّ الفرق بين الكرامة والمعجزة يكمن في أنَّ الكرامة تصدر عن قوَّة همَّة العبد وعلى علم منه، على حين أنَّ المعجزة لا نصيب لهمَّة النبيِّ فيها، فهو (النبيُّ) العبد المحض الكامل العبوديَّة، ولا يتدخَّل النبيُّ مطلقًا في منشأ المعجزة ولا علم له بها([15]). مقابل ذلك، فإنَّ صاحب الكرامة إنَّما مُنِح إيَّاها بعد مجاهَدة ورياضة روحيَّة وسير في الطريق الصوفيِّ، وهو عالِمٌ بها متوقِّعٌ لها (إذا صحَّ التعبير)، يستدعيها بأيِّ زمانٍ ومكانٍ لإمضاء مشيئة ما أو إثبات برهانٍ ما، خلافًا للمعجزة التي هي برأي ابن عربي منحة إلهيَّة للنبيِّ وليس هو مُنشئًا لها، ولا علم لديه بها، ولعلَّها هي دائمًا مقرونة بإظهار حقِّ النبوَّة. وهذا المعنى يؤكِّد عليه الجرجانيُّ في تعريفاته، فيقول: إنَّ المعجزة أمر خارق للعادة داعية إلى الخير والسعادة مقرونة بدعوى النبوَّة، يُقصد بها إظهار حقِّ من ادَّعى أنَّه رسول من الله([16]).
على السياق نفسه، أكَّد فيبر أنَّ المعجزة هي بمثابة أدوات تدعم كاريزما النبوَّة، فلقد أوضح ذلك بقوله: إنَّ شرعيَّة السلطة الملهمة (الكاريزميَّة) تعتمد من الناحية العمليَّة على بعض البراهين الدامغة أو المقبولة، وعلى بعض الأعمال السحريَّة (حسب رأيه) أو الخارقة للعادة([17])؛ ولقد كان دائمًا يؤكِّد على الدمج بين الكاريزما والمعجزة بالنسبة إلى النبيِّ، ولعلَّه محقٌّ في ذلك، إذ إنَّ دعوى إنسان ما أنَّه مرسل من السماء، وأنَّه مؤيَّد من قوَّة فوق طبيعيَّة، يستدعي إظهار مصداقيَّته بامتلاك تلك الكاريزما، وهذا لا يتمُّ بالطبع إلَّا عبر المعجزات التي يقوم بها الأنبياء أمام الجماهير لكسب الأتباع ودحض آراء المكذِّبين.
في ختام توضيح مسألة الصِّلة بين (الكاريزما والكرامة)، نخلص إلى القول بأنَّ كلتيهما استمدَّتا كينونتهما من قوى فوق طبيعيَّة، وأنَّهما مارستا دوريهما على أرض المجتمع من خلال تجسُّدهما في شخصيَّات إنسانيَّة حاولت عبر ملَكاتها تلك (التي تؤمن بها على اعتبار وجودها في أتباعها، أو أقنعتهم بوجودها أو تجسُّدها بهم)، أن تسهم ليس في صناعة وصياغة وعي دينيٍّ مُفارِق أو مُحايِث عمَّا متعارَف عليه فحسب، بل حاولت أيضًا أن تقود الجماعة المتديِّنة الخاصَّة بها أو المنبثقة منها كيما تحاول في النهاية إحداث تغيير اجتماعيٍّ- يصطدم في كثير من الأحيان مع التوجُّهات السياسيَّة والدينيَّة القائمة في المجتمع. هذا في منحى المقاربة الأولى لهما، أمَّا في المقاربة الأخرى فنجدهما قد دخلا في نطاق (السكونيَّة)، إذ ظلَّت الكرامة وعالمها أو مجالها التي انبثقت منه، (ألا وهو التصوُّف الإسلاميُّ)، محكومةً في إطار “الإسلام الأيديولوجيِّ” المصنوع من قبل (الفقهاء والسلاطين) والذين تقاسموا السلطتين ضمن صفقة علمانيَّة مستترة أزاحت المتصوِّف من المجال الاجتماعيِّ- السياسيِّ وجعلته يعيش في مجال خاصٍّ به.
من الجدير بالقول أنَّ مصطلح “الكاريزما” مرَّ بمرحلة تحوُّل- ونقلة أهَّلته لأن يخرج من قبضة الَّلاهوتيّين المسيحيّين- وعالم الدَّير والرَّهبنة، ليدخل عالم المعرفة والدراسات الأكاديميَّة، وبالتالي لم يعد حكرًا على (المقدَّس والمتقدّسين)، بل أصبح مصطلحًا سياسيًّا كـ(نوع من أنواع السلطات الفيبريَّة) مثلًا، ومصطلحًا اجتماعيًّا يطلق في بعض الأحيان على المغنّين والرياضيّين وممثِّلي السينما… الخ؛ وهذا التحوُّل والديناميَّة هي ما سنحاول الوقوف عليها في الفصول القادمة.
البَرَكة في الاصطلاح والمعنى:
من المفيد القول أنَّ الكاريزما والكرامة كانتا بمثابة مصطلحين يُراد بهما التعبير عن السلوك أو الفعل الخارق للعادة، أو ما ألِفه الناس في حياتهم اليوميَّة، لكونهما إشارة إلى قوَّة روحيَّة – غيبيَّة مؤثِّرة؛ وعليه، نجد أنَّ الكاريزما على صعيد أو صلة أخرى تقترب من معاني مفردة (البَرَكة)، التي يرد ذكرها في القرآن الكريم والمرويَّات والأدبيَّات الإسلاميَّة، والتي تشير في معانيها إلى الكثرة والسِّعة في الأشياء المادّيَّة والمعنويَّة، فضلًا عن كونها تشير إلى الديمومة والاستقرار في أدائها لعملها بالنسبة إلى أيِّ شيء تحيطه عناية ورعاية؛ إذ إنَّ البركة في الُّلغة تعني: النماء والزيادة، ويقال تبرَّكت به أي تيمَّنت به، وروى ابن عباس عن معناها فقال: البركة: الكثرة من كلِّ خير، وتبارك بالشيء: تفاءل به([18]).
إلى هذا، البَرَكة عبارة عن نوع من القوى السحريَّة الخفيَّة التي التجأ إليها البدائيّون، فهي المانا عند أهل ماليزيا، وهي أوريندا “orenda” أو واكان “wakan” أو مانتيا “manita” عند هنود أميركا الشمالية، وهي التي يُقال لها في شمال أفريقيا بين الحاميين والبربر (البَرَكة) التي هي برأيهم القوَّة التي تمكِّن الإنسان من توافر السيطرة،… ولا يمكن تفسيرها، ولا يمكن إثباتها بأسانيد، ولكنَّها تؤثِّر في أعمال كلِّ يوم بالنسبة إلى الفرد، ومن ثمَّ ارتبطت ببعض الاعتقادات التي اعطتها جانبًا في القداسة وصارت لها طقوس يجب أن تصحبها([19])، فلهذا نجد أنَّه إذا ما تضاعفت ماشية الرجل، أو زاد محصول مزرعته، فليس هذا لأنَّه دؤوب على العمل، ولا لأنَّه يعتني بأرضه، فكلُّ فرد يعرف أنَّ (اليام) (البطاطا) ينبت بعد أن تغيب البذور ببطن الأرض، ولكن المحصول لا يتوافر بكثرة مذهلة إلَّا إذا توافرت (مانا)([20]).
في هذا المجال، يعتمد فيبر على الطروحات الأنثروبولوجيَّة ذات المصادر الإثنوغرافيَّة ليعطينا صورة تحليليَّة تحمل في معانيها استدماجًا لقضيَّة (البَرَكة) مع الكاريزما، والتي يجدها تظهر بأشكال متعدِّدة، فنجده يقول: إنَّ الرجل البدائيَّ يدرك كلَّ المؤثِّرات الخارجيَّة التي تشكِّل حياته الخاصَّة، بوصفها أفعالَ قوَّة خاصَّة متلازمة في الأشياء والرجال، وأنَّها تحيى وتموت، كما وتعطيهم القوَّة لفعل ما هو طيب، وأيضًا ما هو مؤذٍ، وكلُّ الأدوات المفهوماتيَّة للقبائل متضمِّنة الطبيعة والحيوانات الخرافيَّة في خيالاتهم وقصصهم، إنما هي منبثقة من هذه الافتراضات، كما أنَّ مفاهيم المانا “mana” والأوراندا “orenda” وما شابهها ممَّا يمنحنا إيَّاه المعنى الإثنوغرافيُّ، تشير إلى قوى معيَّنة تتمتَّع بخاصّيَّة فوق طبيعيَّة، ناشئة من حقيقة أنَّها ليست مختصَّة بأيِّ شخص، وإنَّما هي مرتبطة ببعض الحامين لها المحدَّدين من الأشخاص أو الأشياء، والصِّفات السحريَّة والبطوليَّة لا تعني شيئًا وإنَّما هي تخصُّ حالات مهمَّة لقوى محدَّدة عاديَّة تخلق معتقدات كاريزميَّة، والتي هي ثابتة، وتباعًا تصنَّف مرة أخرى من خلال مجرى الحياة اليوميَّة([21]).
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ تلك البَرَكة التي جاءت جرَّاء أجواء كاريزماتيَّة ارتبطت بإنسان معيَّن، أو حيوان معيَّن، أو بحادث جماعيٍّ، أو بمظاهر الطبيعة، قادت في نهاية الأمر إلى اعتبار تلك البقعة (على سبيل المثال لا الحصر) من دون سواها، مبارَكة لا ينبغي تدنيسها، وهذا يقودنا إلى قضيَّة التماهي مع الأجواء الخارقة للطبيعة والذي ولَّد تلك المشاعر الكبرى للتقديس، ومن ثمَّ اعتبار كلِّ ما يمتُّ إلى تلك البقعة مقدَّسًا. وذلك التماهي ما كان له الحدوث إلَّا بوجود تعاليم (من نوع معيَّن) مسبقة تؤكِّد هذا التماهي، أو بوجود أساطير أو خرافات متوارَثة تدعو إلى التماهي مع الأجواء الكاريزماتيَّة، التي نجحت جرَّاء عمليَّة الانبهار والدهشة بذلك الجوِّ الإعجازيِّ، أو ربما تكون كلُّ هذه الأسباب مجتمعة. ولقد تولَّد عن ذلك التماهي في لحظاته الأولى، اعتبار زمانه ومكانه مقدَّسين – مباركين، وبالتالي تأسيس معتقدات تترتَّب عليها في ما بعد طقوس دينيَّة تنسجم وأشكال الأحداث الكاريزماتيَّة التي جرت آنذاك، أي أنَّ تلك الطقوس تعمد إلى إعادة توليد وبعث الحدث إلى الحياة مرَّة أخرى، وهذا لأجل استشعار تلك الطاقة الكارزماتيَّة التي انتشرت في تلك البقعة آنذاك، والمحافظة على ديمومة ذلك الاستشعار الذي لا يتمُّ إلَّا عبر هذه الطقوس الدينَّية المستمرَّة، فضلًا عن المحافظة على قدسيَّة ذلك الحدث وبَرَكاته من أيِّ تدنيس ينجم جرَّاء توالد الأجيال والثقافات وأنواع الاحتكاكات الحضاريَّة.
تكمن أهميَّة المحافظة على (البَرَكة) من التدنيس في مسائل متعدِّدة، على رأسها المسائل الاقتصاديَّة، وفي هذا يقول وستر مارك “wester Marck” بعد أن يعرِّف البَرَكة، كما يستخدمها أهل المغرب، بأنَّها: “قوَّة غامضة تعمل العجائب والتي تعتبر نعمة من الله”([22]). فإذا ما توافرت من دون أن تتلوَّث أو أن تدنَّس، توافر المحصول حتى زاد وفاض، وكثُر النسل، وأخصبت النساء، وعمَّ البلاد الرَّخاء، وإذا قلَّت حدث الجدب، وعمَّت المجاعة، وتساقطت الثمار عن الشجر قبل أن تنضج([23]). ولقد اقترنت هذه البركة لدى مارك مع الوليِّ الصوفيِّ الذي يقابل لديه القدِّيس saint. فبركة الوليِّ برأيه، كعدوى مقدَّسة صالحة للانتقال إلى أيِّ غرض أو إلى أيِّ مكان.. ويمكن أن تتوافر في بئر، أو نبع ماء، أو أشجار، أو صخور، أو كهوف، ومن ثمَّ فإنَّها تعدُّ محرَّمة على الأفراد لا يستخدمونها حتى لا يقلِّلوا قدسيَّتها، ولا يستخدمونها إلَّا بتوجيه صاحب الَبرَكة، ولهذا يترك الجزء الباقي من المحصول المبارك في الحقل لا يلمسه أحد حتى تنتقل البَرَكة إلى المحصول الذي يولد من جديد من (عروس الحقل) في الموسم القادم([24]).
في الإطار عينه، يفسِّر ويستر مارك مدَيات البَرَكة في قضيَّة النسب، أي في كلِّ من يدَّعي انتسابه إلى نبيٍّ أو وليٍّ معيَّن يستمدُّ منه البَرَكة عبر التوارث الدمويِّ. ولهذا، يجد أنَّ من يمتلك درجة غير عاديَّة يطلق عليه قدِّيسًا أو سيّدًا، وخلفه ومن ينتسب إليه يُدعَون أشرافًا. فلقد أشار إلى أنَّ عدد الأشراف في المغرب كان كبيرًا جدًّا، وهم يتكاثرون في المدن الصغيرة وبين عرب الجبال في الشمال من مراكش، ولكن الأشراف برأيه يوجدون كذلك بين القبائل الناطقة بالُّلغة البربريَّة، وقد يكون هؤلاء منحدرين من مهاجرين ينتمون إلى عوائل نبيلة دينيَّة من بين الفاتحين العرب، واستقرٌّوا هنالك.. وقد ينحدرون من عوائل بربريَّة أصيلة، والذين كان ادِّعاؤهم أنَّهم الأشراف من ذوي الصلة القرابيَّة بالنبيِّ من نسج الخيال([25]).
على أيِّ حال، إنَّ مسألة الطعن بالأنساب ليست قضيَّتنا هنا، ولكن يُستفاد من تلك المدَيات التي استوعبتها البَرَكة والتي كيَّفت نفسها سوسيولوجيًّا في عقول العامَّة للانتقال إلى الأنساب لتعمل عليها، وكأنَّها هنا عمليَّة إعادة توارث للنبيِّ وللوليِّ بصيغة التوارث (بَرَكة أو قدسيَّة الجسد). ولعلَّ المسألة تعتمد على إسقاط الإنجاز الفرديِّ ليُستعاض بالدماء الكاريزميَّة عنها لأجل توفير أسباب العيش الاقتصاديِّ والمنزلة الاجتماعيَّة في الوقت نفسه، وتحتجُّ على كلِّ الأنساب الأخرى بنسبها الكاريزميِّ، وتسقط عليها تلك المظلَّة الدينيَّة المتوارَثة، فتغدو “الدماء النسبيَّة” قياسًا بأصحاب الدماء الكاريزميَّة مهمَّشة سوسيولوجيًّا، ويغدو المجتمع في قبضة الوريث الكاريزميِّ من دون سواه.
لقد بحث الكثير من الأنثروبولوجيّين في قضيَّة الأولياء ونسبهم الدينيِّ ودورهم الاجتماعي في شمال أفريقيا، أمثال (ديل إيكلمان وكليفور غيرتز) وغيرهما الكثير؛ ولا يخرج عن هذا السياق أرنست غيلنر الذي تحدَّث عن دورهم هذا وبتفصيل دقيق في كتابه المثير للجدل (مجتمع مسلم). إذ يرى أنَّ أهمَّ مؤسَّسة دينيَّة مميّزة للإسلام الريفيِّ القبَليِّ هي وجود وليٍّ أو رجل صالح حيٍّ، غالبًا ما يسمَّى في الُّلغات الأوروبيَّة (بحسب رأيه) درويشًا أو وليًّا. ثمَّ يذهب إلى القول: ولكن علينا أن نحترس هنا لأنَّ الخلفيَّة الأوروبيَّة قد تكون مضلّلة، ففي المسيحيَّة القداسة عبارة عن كلِّ أداء فرديٍّ فعَّال وفاضل. والقداسة، كالعبقريَّة، أمر يمكن التنبُّؤ به في مظهره الخارجيّ. ومفهوم الكاريزما الذي أصبح واسع الانتشار في علم الاجتماع وبه، يصدر هذه الفكرة: القدّيس/ الوليّ شخص يملك الكاريزما، وهي بالضَّبط نوع من الهالة والسلطة ليس لها قواعد وتظهر بشكل غير متوقَّع([26]).
يتابع غيلنر قوله: “بطبيعة الحال، توجد حالات كاريزما غير نمطيَّة في الإسلام. لكن الوليَّ العاديَّ يأخذ شكلًا نمطيًّا روتينيًّا ومن ثمَّ يتبدَّد وهجه: وتبرير كاريزميَّته (وليس تلاشيها) هو وراثيَّتها وتفسيرها على أساس النسب ولاسيما الانتساب إلى النبيّ. وهكذا، فإنَّ من مزايا الوليِّ أنَّ له نسبًا مقدَّسًا. وتعدُّ القداسة من دون مثل هذا النسب نادرة نسبيًّا، وعندما تنجح في فرض نفسها، تميل إلى إبداع نسبها بشكل استرجاعيٍّ، وبالتالي تقلِّد النمطيَّة وتطمح إليها. وكما هو الحال في مجتمعات أخرى، فإنَّ النسب المخترع هو امتداح الموهبة المؤدّية إلى الامتياز”([27]).
بشكل عامّ، نجد أنَّ هنالك نوعًا من الالتقاء بين الكاريزما وصفاتها والبَرَكة وتجلّياتها، فكلتاهما تنطلقان من مرجعيَّة فوق طبيعيَّة وفوق بشريَّة، تقفز عن الواقع الاجتماعيِّ بدعواها لتعيد تأسيسه على بناءات سوسيولوجيَّة تعبر الواقع بتصوُّراتها وغاياتها، أي تكون صاحبة تعبيرات فكريَّة – عقائديَّة – شعوريَّة في الوقت نفسه، وتعود لترسم على الواقع طقوسها الدينيَّة أو توظيفاتها السياسيَّة أو الاثنتين معًا، فالكاريزما والبَرَكة تتركان بصماتهما الواضحة ضمن مدَيات إنسانيَّة واسعة.
إلى هذا، اختلف الباحثون حول أول من استخدم مصطلح “charisma” استخدامًا أكاديميًّا، فقال بعضهم إنَّه أرنست ترولتش* “Ernst Troeltseh”([28]) وقال آخرون إنَّه “Max Weber”([29])، لكن عند الرجوع إلى الأدبيَّات الإنكليزيَّة، نجد أنَّ الترجيح قائم بين أرنست ترولتش ورودولف سوم “Rudolf Sohm” لكونهما كتبا عن التنظيم الاجتماعيِّ للكنيسة المسيحيَّة المبكرة**، والحديث عن هذه الكنيسة يستدعي الحديث، ولو بشكل عامٍّ، عن موضوع “هبات القدّيسيين” أي عن ملَكاتهم الخارقة للطبيعة.
من جانبنا، نميل إلى الاعتقاد بأنَّ رودولف سوم كان مرجعًا رئيسيًّا لماكس فيبر في استخدام وتطوير مصطلح “charisma”، ومرجع هذا الاعتقاد يستند إلى رأيين مهمَّين:
-الرأي الأول: يعود إلى رينهارد بيندكس “Reinhard Bandix” الذي أشار في متون تعليقاته على أعمال فيبر، إلى أنَّه اعتمد بشكل متكرِّر على تحليل القيادة الكاريزميَّة وتنظيمات الكنيسة المسيحيَّة المبكرة “لرودولف سوم”، والذي كان تحليله صورة تاريخيَّة محدَّدة ومقارنة للقيادة الدينيَّة؛ وبهذا فقد أمَّن (حسب رأيه) القاعدة التي صيغت عليها الصفة الاصطلاحيَّة للكاريزما([30]).
-الرأي الثاني: بعد أن يعرِّف قاموس العلوم الاجتماعيَّة مصطلح “charisma” بأنَّه استخدم في الَّلاهوت ليعني موهبة أو منحة سماويَّة “diving grace”، يعرِّج على القول بأنَّه مصطلح دخل علم الاجتماع عندما استخدمه فيبر في كتاباته مستعيرًا إيَّاه من “Rudolfh sohm”([31]).
هكذا يتَّضح لنا أنَّ ماكس فيبر لم يكن مبتكرًا للتوظيف أو الاستخدام الأكاديميِّ لمصطلح الكاريزما، بل هو استعاره وقدَّمه بحلَّة سوسيولوجيَّة تحليليَّة جديدة ذات آفاق استخدامٍ متنوِّعة إلى جانب المقولات التي تمَّت معالجتها في ضوء سوسيولوجيا الدين من قبيل مقولات “الألوهيَّة”، و”المحرَّمات Taboo”، و”الأخلاق الدينيَّة Religious Ethics”، إلى عدِّه مصطلحًا ديناميكيًّا ضمن سياقات “النموذج المثاليِّ” كنوع من أنواع السلطات، بجانب السلطة التقليديَّة والسلطة العقلانيَّة أو القانونيَّة.
ما تنبغي الإشارة إليه، أنَّ فيبر لم يقف عند حدود اقتباس المصطلح فحسب، بل إنَّ المسألة أبعد من ذلك بكثير، فمن المعلوم أنَّ مفكِّرًا مثله كان يستند إلى نظريَّات ورؤى تحليليَّة لعدد من الباحثين، عند معالجته أو تحليلاته لظاهرة ما أو مسألة ما، ولهذا نعتقد أنَّه طوَّر أطروحات فكريَّة لبعض المفكِّرين خصوصًا في ما يتعلَّق بمسألة الكاريزما، استندت إلى جذور فكريَّة أعمق. من هنا، نرى أنَّه تأثَّر بطروحات كلٍّ من الفيلسوف الإنكليزيِّ توماس كارلايل “Thomas Carlyle”، والفيلسوف الألمانيِّ هيغل “Hegel”؛ فلقد طرح كارلايل في كتابه الذائع الصيت “الأبطال وعبادة البطولة Heroes and Hero- Worship” نظريَّته حول الرجل العظيم، والتي تلتقي في كثير من جوانبها مع السلطة الكاريزميَّة، تلك النظريَّة التي تخصُّ الإنسان صاحب المواهب والقدرات الخارقة، ساحر الجماهير وقائدها؛ وحول مرجعيَّات هذه النظريَّة يعتقد الأستاذ الكعبي أنَّ هذا الكاتب (كارلايل) قد نفر متقزّزًا من التحلُّل والتفسُّخ الَّلذين رافقا الثورة الصناعيَّة، وكان يائسًا من قابليَّة الإنسان الاعتياديِّ لأن يحكم بحكمة وتعقُّل، ولهذا بالغ في فضائل المستبدِّ الفاضل “Renevolent despot” الذي يتمثَّل في شخصيَّة البطل، والذي نظر إليه كمنقذ وقائد للقوى الاجتماعيَّة الواسعة([32]).
يبقى القول أنَّ التشابُه، أو حتى التماثُل، ظاهرٌ في كثير من الجوانب بين مفهوم (البطل) أو (الرجل العظيم) لدى كارلايل وهيغل، ومفهوم الكاريزما لدى فيبر، فكلاهما يمتلكان القدرات الفائقة أو المتجاوزة لما هو بشريٌّ- وطبيعيٌّ، بل إنَّ كليهما أي (البطل وصاحب الكاريزما) يسهمان، بحسب نظرهما، في صنع التاريخ وقيادة المجتمع، وذلك نظرًا لما يمتلكان من تلك القدرات والقابليَّات التي لم تُنتَج أو تُجترح ضمن السياقات المؤسَّساتيَّة، أيًّا تكن تلك السياقات.
المصادر والهوامش:
(1) The Encyclopedia of religion, Mirace Aeliade, editor in chief, Volume 3, Macmillan Pupils, copyright, 1987, p.218.
([2]) الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس، إصحاح (13).
([3]) الكتاب المقدَّس، المصدر السابق نفسه، إصحاح (14).
([4]) ينظر: د. إبراهيم مدكور، معجم العلوم الاجتماعيَّة، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، 1975، ص480، وبرتران بادي، بياربيرنبوم، سوسيولوجيا الدولة، ت: جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، د. ت، ص17.
([5]) د. عبد الهادي الجوهري، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، 1979، ص54.
([6]) جمال الدين أبو الفضل ابن منظور، لسان العرب، المجلَّد الثالث، دار لسان العرب، بيروت، د. ت، ص247- 248.
([7]) أبو القاسم القشيري، الرِّسالة القشيريَّة في علم التصوُّف، دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، د. ت، ص273.
([8]) المصدر السابق نفسه، ص274.
([9]) أسين بلاثيوس، ابن عربي حياته ومذهبه، ت: (عبد الرحمن بدوي)، مكتبة الأنجلو المصريَّة، 1965، ص205.
([10]) د. نظلة أحمد الجبوري، خصائص التجربة الصوفيَّة في الإسلام/ دراسة ونقد، بغداد، بيت الحكمة، 2001، ص389- 390.
([11]) أسين بلاثيوس، المصدر السابق نفسه، ص194.
([12]) المصدر السابق نفسه، ص193.
([13]) د. علي زيعور، الكرامة الصوفيَّة والأسطورة والحلم/ القطاع الَّلاواعي في الذات العربيَّة، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1984، ص61.
([14]) المصدر السابق نفسه، ص62.
([15]) د. سعاد الحكيم، المعجم الصوفيّ، الناشر: دندرة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1981، ص964.
([16]) أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، طبع دار الشؤون الثقافيَّة، بغداد، ط1، 1976، ص121.
([17]) براين تيرنر، علم الاجتماع والإسلام/ دراسة نقديَّة لفكر ماكس فيبر، ت: د. أبو بكر باقادر، دار القلم، بيروت، ط1، 1987، ص44- 45.
([18]) ابن منظور، المصدر السابق نفسه، المجلَّد الأول، ص2000- 2001.
([19])محمد عبد الفتاح إبراهيم، الثقافات الأفريقيَّة، مكتبة الأنجلو المصريَّة، 1965، ص119.
([20]) المصدر السابق نفسه، ص118- 119.
([21]) Max Weber, Economy and Society, University of California press Ltd, London, 1978, p.1133.
([22]) Edard Alexander Wester Marck, Ritual and Belief in Morocco, New York, 1968, Vol.1, p.35.
([26]) أرنست غيلنر، مجتمع مسلم، ت: أبو بكر باقادر، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2004، ص88.
([27]) المصدر السابق نفسه، ص89.
* وهو عالمُ اجتماعٍ ألمانيٌّ (1865- 1923)، اشتهر بكتابه ذائع الصيت:
“The Social Teachings of Christian Churches”
([28]) د. عبد الهادي الجوهري، المصدر السابق نفسه، ص54.
([29]) د. إبراهيم مدكور، المصدر السابق نفسه، ص480.
** للاستزادة حول تفاصيل أكثر عن بعض هذه الكتابات، ينظر مراجعات: د. محمد أحمد محمد بيومي، علم الاجتماع الديني، دار المعرفة الجامعيَّة، الإسكندريَّة، ط2، 1985، ص113- 114.
([30]) Reinhard Bendix, Max Weber an intellectual Portrail, London, 1962, pp. 325-326.
([31]) Julius Could, William Lkolb, A dictionary of the Social Sciences, copyright by the united nations Educational, 1964, p.84.
([32]) د. حاتم الكعبي، السلوك الجمعي، طبع جامعة بغداد، د. ت، ص84.