الدراسات والبحوث

دور أعلام التصوُّف الإسلاميِّ في الإصلاح ومقاومة المستعمر الأوروبيِّ الحديث في القارة الأفريقيَّة

د. رضوان محمد سعيد إيزولي

دور أعلام التصوُّف الإسلاميِّ في الإصلاح ومقاومة المستعمر الأوروبيِّ الحديث في القارة الأفريقيَّة

د. رضوان محمد سعيد إيزولي

تمهيد:

تسلِّط هذه الدراسة الضوء على دور أعلام التصوُّف الإسلاميِّ في إصلاح مجتمعاتهم، ومقاومة المستعمر الأوروبي الحديث في القارة الأفريقيَّة: “المغرب، الجزائر، الصومال، ليبيا، السودان، مصر إلخ… كما تركِّز على بيان الحقائق التاريخيَّة لهذا الدور- والتي تمَّ تجاهلها من قبل المؤرِّخين الذين أرَّخوا لفترة الاستعمار الأوروبيِّ الحديث- في المشاركة في الإصلاح والمقاومة، ودحر الاستعمار عن بلادهم.

 *أستاذ مساعد في جامعة البلقاء التطبيقيَّة-الأردن.

 

كما تبيِّن الدراسة معنى الجهاد في الإسلام من منطلق كونه ديناً قائماً على الرَّحمة والعدل وقبول الآخرين، مهما اختلفت دياناتهم وأجناسهم وأعراقهم. فالإسلام لم يقص غير المسلمين، ولم يدعُ لقتالهم أو منعهم من حقوقهم وممارسة شعائرهم، بل دعا إلى احترامهم وعدم إيذائهم. فهو دين سلام ومحبَّة، لا دين حرب وسفك للدماء، فلا يحارب المسلمون إلاَّ من اعتدى على حماهم وبادرهم بالحرب.

إلى ذلك، تتناول الدراسة مرابطة أهل التصوُّف الحقيقيِّ على ثغور الدولة الإسلاميَّة لردع كلِّ معتدٍ عليها، حيث كانوا أنموذجاً يحُتذى في الجهاد والمرابطة والنشاط، ونشر الإسلام ومحاربة البِدع والضلالات، وتنوير المجتمعات التي يعيشون فيها علميَّاً. ومن خلالها يبيِّن الباحث أنَّ الكثير من أعلام التصوُّف في القارَّة الأفريقيَّة كانوا على عكس ما وُصِفوا به من التخاذل والجبن، وتعطيل فريضة الجهاد، والتسليم للمستعمر، والتعاون معه ضدَّ المجاهدين، وقبولهم على أنهم قدر من الله يجب التسليم به.

في هذا السياق، تعرض الدراسة أصناف المتصوِّفة الثلاثة: الصوفيَّة السنيَّة، والصوفيَّة البدعيَّة، والصوفيَّة الفلسفية، وتميِّز بين الصوفيِّ الحقيقيِّ والمتصوِّف الدعيِّ، وتناقش آراء علماء التصوُّف في من هو الصوفيّْ.

كما تتناول مفهوم الجهاد وغايته وتوقيته في الإسلام، وتبيِّن موقف التصوُّف ودور أعلامه في مقاومة المستعمر الأوروبي للقارة الأفريقيَّة، وتتطرَّق إلى الحركات الصوفيَّة التي أثَّرث في إصلاح المجتمع، وقاومت الاستعمار الأوروبيَّ كالحركة السنوسيَّة، والطرق القادريَّة والشاذليَّة والرحمانيَّة والتجانيَّة والدرقاويَّة، وأعلام هذه الطرق الذين شهد لهم التاريخ وما زال كعمر المختار، وعبدالقادر الجزائري، ومحمد علي السنوسي، والجبرتي، وماء العينين، وعثمان فودي، وعبدالكريم الخطابي، والشيخ أبو الوفاء الشرقاوي…إلخ.

فضلاً عن ذلك، تناقش الدراسة ما قدَّمه هؤلاء الاعلام لمجتمعاتهم من إصلاح اجتماعيٍّ، ومشاركة في الأحداث السياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة، واهتمامهم بالتعليم فكان منهم الأدباء والشعراء والأمراء والمؤلِّفون الذين أثروا المكتبة الإسلامية فحوت مكتباتهم الكثير من المخطوطات النادرة.

وتعرض لأسباب تجاهل المؤرِّخين لدور أعلام التصوُّف الإسلاميِّ في تحرير الأرض والإنسان، وتحرير بلادهم وذلك من خلال سيرتهم ومؤلَّفاتهم وأدبهم وشعرهم، والوثائق التاريخيَّة والرسائل وأرشيف المستعمر.

 

كلمات مفتاحيَّة: تصوُّف، تحرُّر، جهاد، مقاومة، الاستعمار الأوروبيّْ.

 

Abstract: The role of the flags of Islamic mysticism in the reform and resistance to the modern European colonial power in Africa

 

This study aims at highlighting the role of Sufi scholars in contemporary  liberation movements in African continent, “Morocco, Algeria, Somalia, Libya, Sudan, etc. … The study concentrates on some Sufi scholars who played an important role in spreading knowledge, social reformation, and the concept of struggling against imperialism. The study found that most of those scholars are obscured for what they have done such as resisting British and French occupation. So, the study followed their biography by the assistance of honest historians and poets of their time.

The study also found that history must be taken from authentic resources not from orientalists who portrayed Sufi as an isolated people in dark corners who believe that imperialism is a fate of nation and a will of God, and we have to accept this fate.  But in fact this is not true at all. Sufism is so interested in both the big and the small Jihad (holy war). They have fought and struggled to achieve one of two goals, either victory or martyrdom for the sake of God

It also replied to her question and the study demonstrated the role of scientists in the jihad mysticism and social reform and demonstrated the role of scientists in the liberation movements

Keywords: Mysticism، Liberation، Jihad، Resistance ، European colonization

 

مقدِّمة:

ما كان التصوُّف الإسلاميُّ يوماً إلاَّ تجلِّياً يجسِّد التعاليم الإسلاميَّة، وعلى ما فيه من زهد فهو زهد الصحابة، المتَّبِعين للكتاب والسنَّة، وكلُّ من تنكَّب عن طريق الكتاب والسنَّة لا يعدُّ من الصوفيَّة. ولذا، حين نقرأ عن التصوُّف السلبيِّ المقوقَع في الزوايا والتكايا نظنُّ أنَّ التصوُّف عبارة عن ابتعاد عن الحياة، ولا علاقة له بما يدور حوله، وهمُّه هو الانحياز بنفسه وإبعادها عن كلِّ ما يتعلَّق بمجتمعه، ولكن الدراسات المنصِفة تثبت أنَّ التصوُّف الإسلاميَّ هو علم وعمل، ومجاهدة، وجهاد: مجاهدة النفس وتخليصها ممَّا يشوبها من علائق وسجايا دنيَّة، وتخليصها من التبعيَّة للهوى والشيطان حتى تتحلَّى بالأخلاق الرفيعة السَنيَّة؛ بعد خوض التجربة الصوفيَّة، فترخص نفسه في سبيل الله بعد هذه الرحلة من المجاهدة، ثمَّ يكون الجهاد بالسيف فيدخل المعركة مبتغياً إحدى الحُسنَيين النصر أو الشهادة. ولذا، نجدهم باعوا أنفسهم رخيصة إذا ما دعا داعي الجهاد واحتلَّت أرض المسلمين، امتثالاً لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ“(سورة التوبة:الآية 111)، وامتثالا لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:”الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ في سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا”.[i]

في ضوء ذلك، نعرض هنا دور التصوُّف في الإصلاح والتحرير، ومقارعة الاستعمار في القارة الأفريقيَّة حيث نجد الكثير ممَّن ينتسبون إلى الطرق الصوفيَّة كانوا مرابطين على الثغور لحماية دولة الإسلام، يتصدَّون للمستعمرين، باذلين الغالي والنفيس في سبيل تحرير بلادهم من الاستعمار الغاشم، كما نعرض ما قدَّمه التصوُّف من  نماذج العلماء المجاهدين والمصلحين الذين خلَّدهم التاريخ؛ لما بذلوه من جهد في مقاومة الاستعمار بجميع أشكاله وأساليبه. لا كما وصفه من طُمس على بصيرته بأنَّه ديدن المتخاذلين الجبناء المعطِّلين لفريضة الجهاد ذروة سنام الإسلام، متَّخذين من أدعياء التصوُّف نماذج يثبتون بها دعواهم، ومتناسين أولئك الأبطال والعلماء العاملين الذين تفانوا في سبيل استعادة بلادهم كعمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وماء العينين، وأحمد عرابي، والسنوسي، والجبرتي، والخطابي، وعثمان فودي وغيرهم.

لا ريب في أنَّ التصوُّف قدَّم نماذج متكاملة في الإصلاح والنهوض بالمجتمع والحفاظ على تماسكه، كما حارب البِدع والضلالات التي عانت منها المجتمعات الإسلاميَّة، وكان دوره بارزاً في نشر العلم في زواياه، كما قام المتصوِّفة بدور كبير في نشر الإسلام في القارة الأفريقيَّة وغيرها من القارَّات.

 

 

مفهوم الجهاد عند الصوفيَّة:

بدأ الإسلام بالجهاد وسينتهي إلى الجهاد، وجعل ما بينهما من حرب وسلم جهاداً؛ فالحرب جهاد أصغر؛ لأنَّه حالة عارضة، والسلم جهاد أكبر؛ لأنَّ جهاد النفس أدوَم؛ لأنَّه استعدادٌ لدنوِّ ساعةِ الحربِ ومقارعةِ العدوّْ”[ii]، فكلاهما واجبٌ على المكلَّف ولا فصل بينهما، فإذا انتهى المسلم من مواجهة العدوِّ الظاهر، فليسعَ لمواجهة العدوِّ الباطن لاعتقادهم بأنَّ” أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك”[iii] (رواه البيهقي).

والجهاد الذي فرضه الإسلام لم يكن بحال من الأحوال رغبة في إراقة الدماء وقتل الأبرياء بسبب اختلافٍ في الدين أو المذهب أو العِرق أو الجنس، أو بسببِ التعصُّب الأعمى؛ لأنَّ الإسلام يرفض كلَّ أشكال الإرهاب والعنف “الذي يُرادُ به الممارسات الخاطئة أيَّاً يكُن مصدرها وشكلها، والمتمثِّلة في التعدِّي على الحياة الإنسانيَّة بصورة باغية متجاوزة لأحكام الله، تروع الآمنين وتعتدي على المدنيين المسالمين، وتجهز على الجرحى، وتقتل الأسرى، وتستخدم الوسائل غير الأخلاقيَّة، من تهديمِ العمران واستباحة المدن “ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق” (سورة الأنعام: الآية 151).

ولقد أقرَّ الإسلام مقاومة الظلم، والاستعداد لملاقاة العدوِّ، ونبذ التطرف والعنف “وإنَّ وسائل مقاومة الظلم وإقرار العدل تكون مشروعة بوسائل مشروعة، وندعو الأمَّة للأخذ بأسباب المنعة والقوَّة لبناء الذات والمحافظة على الحقوق، ونعي أنَّ التطرُّف تسبَّبَ عبر التاريخ في تدمير بُنى شامخة في مدنيَّات كبرى، وأنَّ شجرة الحضارة تذوي عندما يتمكَّن الحقد وتنغلق الصدور.

ولا بدَّ من القول أنَّ التطرف بكلِّ أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم على الاعتدال والتسامح. ولا يمكن لإنسان أنار الله قلبه أن يكون مُغالياً متطرِّفاً”.[iv]

والجهاد الذي نقصده هو جهاد المحتلِّ الظالم والطامع في خيرات المسلمين، جهاد العدوِّ الذي استهدف عقيدة المسلمين وأعراضهم هذه هي المقاومة التي نقصدها في بحثنا هذا.

وعلى هذا، فقد فهم علماء التصوُّف دورهم جيِّداً، ومن يقاتلون، ومتى يقاتلون، وكيف يجاهدون، ولذا جمعوا بين الجهادين في مقاومة العدوَّيْنِ. وبناءً عليه، فإنَّنا نجدهم المجاهدين الذين هانت الدنيا عليهم، فباعوا أنفسهم لله فأقبلوا وما أدبروا، ولا تقاعسوا عن تلبية النداء، كما صرَّح أعداء التصوُّف.

وليست خافية الهجمة على التصوُّف والتي تركِّز على الجهاد الصوفيِّ، فقالوا فيه: إنَّه خمول وخنوع وخضوع للمحتلِّ، واتَّهموهم اتِّهامات باطلة ملأت صفحات الكتب والمواقع الإلكترونيَّة، ونصبوا العداء لعلمائه قديماً وحديثاً، فلم يسلم من ألسنة المتَّهِمين أحد، سواء في ذلك العدل والمجروح، فصبُّوا جام غضبهم على الدعاة والمجاهدين والمصلحين والكتَّاب والشعراء والمؤلِّفين – وكلُّهم ممن يُشْهَدُ لهم بالعدل والفضل- ووصل اتهامهم  للصوفيَّة بكلِّ أشكالهم وطوائفهم إلى حدِّ التكفير، وإخراجهم من المِلَّة. وقد جاء في رسالة عمان والتي لاقت إجماعاً من علماء المسلمين المعتبرين:”لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعريَّة، ومن يمارس التصوُّف الحقيقيَّ، وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفيِّ الصحيح”، فانبرى لهم المنصفون من العلماء الذين يميِّزون بين الغثِّ والسمين، وبيَّنوا الفرق بين الصوفيِّ والمتصوِّف، فكتبوا بإنصاف وحِيَدةٍ، فتصدَّوا لهم، وبيَّنوا حقيقة التصوُّف، ودور علمائه في الإصلاح ونشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وتحرير البلاد من الاستعمار.[v]

وممَّا قالوه فيهم: إنَّ تقاعس المتصوِّفة عن الجهاد، يرجع إلى فكرة التصوُّف نفسها، فهي لا ترى جهاداً ولا حرباً، إلاَّ جهادَ النفس وحربَها. وقالوا: بـ”أنَّ الصوفيَّة يرون عدم جدوى جهاد الكفار، وأنَّ كلَّ ما قدَّره الله يحبُّه، وكلَّ ما وقع فقد قدَّره الله، ولذا يجب عدم معارضة قضاء الله وقدره. كما قالوا إنَّهم استقبلوا المحتلَّ ونالوا منه الدعم المادِّيَّ، وإنَّ الدول العظمى تركِّز على الزوايا الصوفيَّة لأنها تقوم مقام المراكز الاستخباريَّة للدول المستعمِرة”[vi]. بل قالوا: إنَّ التصوُّف برمَّته مؤامرة على الإسلام “وليس له صلة بتعاليم الإسلام، ولا تعاليم الشريعة الحنيفيَّة السمحاء الغراء؛ لقتل روح الجهاد…ولتمكين الذلِّ والاستكانة والهوان وإفشاء الجهل والكسل والخمول”.[vii]

ولا شكَّ بأنَّ هناك بعض من ينتسبون إلى التصوُّف كانوا على هذه الشاكلة، وكانوا وبالاً على الإسلام والمسلمين، وهناك من اشتراه المحتلُّ الأجنبيُّ ليقف إلى صفِّه، ويقدِّم له الدعم اللوجستيَّ. ولكن، لا بدَّ من التمييز بين الصوفيِّ والمتصوِّف الدعيِّ.

فهناك فئات ادَّعت التصوُّف، وشوَّهت صورته قديماً وحديثاً، فألَّف علماء التصوُّف المعتبرون الكتب الكثيرة يميِّزون خلالها بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان، كالشعرانيِّ والأسمر، وابن البنا السرقسطيِّ، واليافعيّْ[viii]، وذلك لما شاهدوه من أدعياء التصوُّف. فهذا الشيخ زرُّوق- وهو العالم البارز في طريق القوم- قد ألَّف كتابيه: عُدَّة المريد الصادق، والنصيحة الكافية لمن خصَّه الله بالعافية؛ وبيَّن فيهما أحوال كثيرين من مدَّعي التصوُّف في عصره، وهي أحوال تنمُّ عن البُعد عن الدين، وترك الطريق القويم”[ix]. وها هو عبد السَّلام الأسمر (981هـ)- وهو شيخ مُعتبَر في التصوُّف – قد ألَّف كتباً في حال متصوِّفة عصره من ولوعٍ بخوارق العادات، ورقص على الدفوف أمام النساء، وهو يقول في وصيَّته لإخوانه المريدين محذِّراً: “وحقيقة اتِّباع الهوى، هو أن يشتغل المُريد بالأوراد والفضائل، ويترك ما أوجبه الله عليه، ولا يتعلَّم الواجبات، فمن كان هذا وصفه فلا تقبلوه بالكليَّة؛ لأنَّه لا يفلح أبداً”.[x]

من جهته، شكا ابن البنا السرقسطيُّ حال المتصوِّفة الجهَلة في ليبيا وغيرها في منظومته قائلاً:

وآلت الطريقة الصوفيَّة   إلى أناس جلُّهم بليَّة
لا يفقهون العلم والفرقانا   بل يحسنون الفسق والعصيانا
ويتقنون الضَرب للدفوف   ويجهلون الرَّسم للحروف
واتَّبعوا زخارف الدنيَّة   وخالفوا الشَّريعة السَّنيَّة
وأصبحت كلُّ الزَوايا عاطلة   عن العلوم والرِّجال الواصلة
فجلُّ من فيها من الرُّعاع   قد عُرفوا بشرِّ الابتداع
فأفسدوا طريقهم وضاعوا   ودينَهم بجهلهم قد باعوا.[xi]

 

 

أقسام المتصوِّفة:

حقيقة القول أنَّ المتصوِّفة يقسمون ثلاث طوائف: صوفيَّة سُنيَّة، وصوفيَّة بدعيَّة،        وصوفيَّة فلسفيَّة. وقد ذكر ذلك الطوسيُّ في كتابه “اللمع” وبسط القول في طوائف الصوفيَّة الحقَّة والمتَّبِعة للكتاب والسنَّة والطوائف المبتدِعة والفلسفيَّة، وما وقعوا فيه من أغلاط.[xii]
أوَّلاً: الغارقون في البدع والمخالفات هؤلاء هم مخلَّفات الأدعياء الذين يتنعَّمون بأتباع يفنون أنفسهم في خدمتهم، ويبذلون أموالهم في سبيلهم، ويعظِّمونهم ويقدِّسونهم، ولا يخالفون لهم أمراً، فكيف يتركون هذه النِعم ويرجعون إلى الطريق الصحيح؟! طريق: الزهد والتواضع والخضوع لله؛ إنَّ هذا صعب على أنفسهم كما كان الإسلام صعباً على زعماء مكَّة فكيف يخضعون ويأتمرون؟! .
ثانياً: الضعفاء الجاهلون الذي تصدَّروا للتصوُّف والمشيَخة، وهم لا يعرفون منه إلاَّ الرَّسم والقشور، وقد نُشِّئوا على هذا واستقرَّت أحوالهم، فلا يتكبَّدون صعوبة التصحيح والرجوع للعلم والعمل .
ثالثاً: الدُّخلاء والأدعياء الذين دخلوا التصوُّف للنيل منه، فدخولهم بقصد التحريف؛ كما دخل الكثير من المجوس واليهود في الإسلام في عصر الفتوحات بقصد النيل منه والدسِّ فيه، وهذا هو حال التصوُّف صراع دائم بين أهل التصحيح وأهل التبرير، وهناك من يتربَّص بكليهما وهم أعداء التصوُّف من المستشرقين وغيرهم.

لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الفرق بين الصوفيِّ والمتصوِّف يتجلَّى في تلك النماذج الصوفيَّة التي كانت ترابط على الثغور لحماية دار الإسلام، والتي سنشير إلى بعض منها في هذه الدراسة، تلك النماذج التي سطَّرت تاريخ المقاومة والتحرير بدمائها، وقدَّمت للإسلام جيلاً مقاوماً سلك طريق الهَدْي النبويِّ، وبذلت جهدها وحياتها في إصلاح المجتمع وتعليمه وتثقيفه. إنَّها نماذج نشرت الإسلام في الشرق والغرب بمعاملاتها وعلمها وأخلاقها، حتى وصل إلى شتَّى بقاع الأرض، من دون إراقة نقطة دم. إنَّها النماذج الربَّانيَّة لا الرهبانيَّة، ومثل هؤلاء لا مجال لنسيانهم وسلخهم من التاريخ المشرِّف. وعليه، فلا بدَّ لنا من أن نبيِّن دورهم في حركات الإصلاح والتحرُّر المعاصرة؛ لدحض ما اتُّهِموا به من تقاعس وخنوع وخضوع ورضى بالذلِّ والاستعمار. فهذه الجزائر تشهد بأنَّ شيوخ الطُّرق الصوفيَّة هم الذين أمروا جميع المواطنين الجزائريين بالتعبئة العامَّة والدفاع عن مدينة الجزائر العاصمة بعد تخلِّي الأتراك عن هذه المهمَّة.[xiii] وإنَّ”جميع الثورات والانتفاضات الشعبيَّة التي وقعت خلال ليل الاستعمار الطويل قد انطلقت من الزوايا، واعتمدت طريقة أو مجموعة من الطرق الصوفيَّة”.[xiv]

ونلفت هنا إلى أنَّ وتقارير الفرنسيين تعترف بدور الطُّرق الصوفيَّة. فقد جاء في أحدها أنَّ:” الدرقاويَّة كانوا معادين لنا كلَّ العداء؛ لأنَّ غايتهم كانت سياسيَّة، وبوجه خاصٍّ أرادوا أن يشيدوا من جديد صرح أمبراطوريَّة إسلاميَّة ويطردوننا. إنَّ هذه الطريقة منتشرة جدَّاً في الجنوب ومن الصعب جدَّاً مراقبتهم. لقد كانت ندوات الإخوان سرِّيَّة وكانت أغلبيَّة رؤسائهم معروفة”[xv]. ” إنَّ مشائخ الزوايا يختارون في تدريسهم للقراءة نصوصاً من القرآن معادية لنا، ممَّا يحطِّم فيهم وبسرعة الشعور الذي سعينا لتطويره فيهم من طرف مؤسَّساتنا وتعتبر التأثيرات الدينيَّة من ألدِّ أعدائنا والتي يجب أن نخشاها ونخطِّط لها سياستنا. ولقد كانت القبائل الأشدُّ عداء لنا هي تلك التي ينتشر فيها التعليم الإسلامي”.[xvi]

في هذا الإطار، يقول المؤرِّخ الفرنسيُّ مارسيل إيميري:” إنَّ معظم الثورات التي وقعت خلال القرن التاسع عشر في الجزائر كانت قد أُعِدَّت ونُظِّمت ونُفِّذت بوحي من الطرق الصوفيَّة، فالأمير عبد القادر كان رئيساً لواحدة منها، وهي الجمعيَّة القادريَّة، ومن بين الجمعيَّات المشهورة التي أدَّت دوراً أساسيَّاً في هذه الثورات: الرحمانيَّة والسنوسيَّة والدرقاويَّة والطيبيَّة”.

“والحقَّ أنَّ للطُّرق الصوفيَّة أهميَّة بالغة في الإسلام، وذلك أنَّها تمثِّل الجانب العمليَّ من التصوُّف، وهو جانب ارتبط بحياة المجتمعات الإسلاميَّة وجماهير النَّاس، ويسجِّل التَّاريخ لكثير من الطُّرق الصوفيَّة مواقف لا تنقصها الشجاعة إزاء مواجهة العدوِّ، وردِّ الظلم والدفاع عن مصالح الطبقات الفقيرة المستضعَفة، وذلك في عزَّة مدهشة قلَّ أن توجد في هذا العصر. ولا يخفى علينا دور الطريقة القادريَّة في مقاومة الاستعمار الفرنسيِّ في الجزائر، ودور السنوسيَّة في ليبيا غير خاف على أحد، ونجد الدور نفسه قامت به الطريقة الشاذليَّة في مصر تجاه المحتلِّ، وحفاظاً على مصالح العباد، في عصر الشاذلي نفسه، والطريقة الرحمانيَّة من ضمن هذه الطرق الصوفيَّة التي أدَّت دوراً هامَّاً في المجتمع الجزائريِّ والمجتمع التونسيّْ“. [xvii]

إنَّ النَّاظر بعين الإنصاف إلى التاريخ الموثَّق والمحقَّق والذي كُتِب بأيدي المنصفين، ليجدنَّ أغلب حركات التحرُّر المعاصرة قامت بقيادة علماء التصوُّف، بل قلَّما نجد حركة من حركات التحرير المعاصر لم يكن لعلماء التصوُّف فيها دور.[xviii]

ولكن، للأسف، فقد أغفل أولئك المؤرِّخون دور علماء المسلمين عموماً، ومن انتسب منهم إلى التصوُّف خصوصاً. وربما كان ذلك متعمَّداً؛ لما لبعث الروح الصوفيَّة من دور في إثارة ذعر أعداء الإسلام؛ بفعل ما لاقوه من الصوفيَّة في القرون السابقة، والمعاصرة. فالتصوُّف هو المارد الذي يخيفهم؛ لعلمهم وتجربتهم بشراسة مقاومتهم في حروبهم إبَّان الحروب الصليبيَّة. وقد نما حقدهم على الصوفيَّة، ولا أدلَّ على ذلك من موقف قائد الحملة الفرنسيَّة غوروا حين دخل دمشق محتلاًّ سنة1920م هرع إلى مقام السلطان صلاح الدين الأيوبيِّ وخاطبه بحقده واضعاً حذاءه على قبره، قائلاً: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.[xix]

لا شكَّ في أنَّ هذا ما دعاهم إلى تجاهلهم وتجاهل دورهم وإبعادهم عن بؤرة الضوء في السجلاَّت التاريخيَّة، فلا نجد ذكراً لهم في ما كتبوا اللَّهم إلاَّ هنا وهناك في طيَّات بعض التراجم أو المؤلَّفات التي أُلِفت بذكر مآثرهم من قبل المؤرِّخين المُنصِفين أو تلاميذهم المخلصين، والتي لم تصل إلى القرَّاء إلاَّ بعد مرور عقود من جهادهم، وتحرير الأرض من براثن الاستعمار، عدا مشاهير المجاهدين ممن دخلوا التاريخ عنوة كقادة الحركة السنوسيَّة: محمد علي السنوسي، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائري، فلم يلق أولئك المؤرِّخون أمامهم في ساحة القتال سواهم، ولم يستطيعوا إسكات أقلامهم فكتبوا تاريخهم على استحياء، وذلك لمواقفهم الناطقة والشاهدة على التاريخ، والظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار.

حريٌّ القول أنَّ الصحوة الإسلاميَّة تقضُّ مضاجع المستعمرين، ولذا نجدهم لا يألون جهداً للقضاء عليها، وإجهاضها، فيرسمون المخطَّطات، ويبنون الاستراتيجيَّات الطويلة الأجل، خوفاً من عودتها إلى جذورها الأصليَّة “الكتاب والسنَّة”، ولذا، جيَّشوا الجيوش لنزع الإسلام من أعماق المسلمين، وخَصُّوا بذلك التصوُّف لما له من دور فعَّال في المزاوجة بين الروح والجسد- فلم يؤثروا أحدَهما على الآخر- علماً وعملاً وسلوكاً؛ ممَّا يجعلهم يحسبون الحسابات الدقيقة للقضاء على روح الإسلام الذي يريدونه إسلاماً فارغاً من العقيدة والجهاد والتحرُّر من ربقة الاحتلال.

كما أنَّهم لم يتركوا وسيلة لنزع تعاليم القرآن وهدي السنَّة إلاَّ واستخدموها سلاحاً ضدَّ المسلمينوَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا” (سورة البقرة: الآية 217)، فيقتلون المسلمين باسم الإرهاب والعنف والتطرُّف، وبدعوى التحضُّر والتمدُّن والارتقاء بمستوى ما سمُّوه بدول العالم الثالث، يتربَّصون بهم الدوائر، فجميع حروبهم دينيَّة صليبيَّة وصهيونيَّة، وهكذا احتلُّوا بلاد المسلمين لسرقة خيراتهم، وانتهاك حرماتهم، لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة، ويوهمون العالم بأنَّهم أهل العدالة ورعاية حقوق الإنسان، ودعاة الرفق بالحيوان وحماية البيئة، فسمُّوا احتلالهم استعماراً، وعاثوا في الأرض فساداً، باسم الحريَّة والديمقراطيَّة.

 

انتشار الطُّرق الصوفيَّة في أفريقيا:

لقد شاع التصوُّف وانتشرت طرقه في أفريقيا، من المغرب العربي إلى الصومال فليبيا ومصر والسودان، وأصبح الطابع العام للقارَّة الإفريقيَّة طابعاً صوفيَّاً. وقامت طبيعة التصوُّف على الزُّهد في الدنيا، وتربية المريدين على تطبيق الكتاب والسنَّة، والتعلُّق بهما وتطبيق أحكامهما، فبنوا الزوايا والربط والتكايا الخاصَّة بهم، وكانت بمثابة دُور العلم، حيث يتعلَّم الصوفيُّ فيها أحكام دينه علماً وعملاً وتربية وسلوكاً، كما كان الصحابة يتعلَّمون زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.

وحين فاجأ الاستعمار الصوفيَّة انبروا له فتدرَّبوا على الفتوَّة وحمل السلاح، وجهَّزوا أنفسهم للدفاع عن ديار الإسلام، فظهر بينهم علماء أعلام، واشتهر منهم قادة عظام، زكَّوا أنفسهم فزكت، وتخلَّوا عن كلِّ خلق دنيٍّ، وتحلَّوا بكلِّ وصف سَنِيٍّ، فأصبحوا القدوة والمثل، وفي الثبات والشجاعة مضرباً للمثل، فقادوا المجاهدين إلى الجهادين الأكبر أولاً ثم الأصغر آخراً، وباتوا مرابطين على الثغور يدفعون كلَّ معتدٍ، صامدين صمود الصحابة الذين حرصوا على الموت لتهب لهم الحياة، أخرجوهم خاسئين بصلابة إيمانهم ويقينهم بأنَّ الله ناصرٌ دينَه، قاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وبغيتهم إحدى الحسنيين، إمَّا النصر أو الشهادة.

 

 أعلام الجهاد الصوفيِّ في القارَّة الأفريقيَّة:

ليس من السهولة بمكان الإحاطة بأعلام التصوُّف فكلُّ علم منهم يحتاج إلى بحث مستقلٍّ، وذلك يحتاج إلى مجلَّدات لا يسعها هذا البحث الذي نحن بصدده، فإحصاء علماء التصوُّف أمر لا يستطيعه باحث ولا باحثان بل يتطلَّب جهداً جماعيَّاً ليعيد صياغة التاريخ لإنصافهم؛ لأنَّ كثيراً من المؤرِّخين استبعدوهم.

وبعد الدراسة والنظر في كتب السِّيَر والتراجم، ظهر للباحث أنَّ جلَّ حركات التحرُّر الإسلاميَّة قامت على عاتق هؤلاء العلماء، وسنذكر في ما يلي بعضاً من أعلامهم وبيان دورهم:

  • محمد بن علي السنوسيّْ (ت:1859م): هو مؤسِّس الطريقة السنوسيَّة، وتلميذ أحمد بن إدريس الفاسيِّ (ت:1853م) شيخ الطريقة الخضيريَّة الشاذليَّة[xx]. “من عيون أعيان القرن الثالث عشر الهجريِّ عالماً عاملاً كبيراً مجتهداً، وأصله من الجزائر.

لم تسمح الحكومة الفرنسيَّة في المغرب بنشر الطريقة السنوسيَّة في الجزائر التي اعتبرتها خطراً عظيماً على الاستعمار، وتسمح لسائر الطرق مع المراقبة اللاَّزمة لها، ولكنَّها لا تقبل صرفاً ولا عدلاً من جهة السنوسيَّة التي تعلم قوَّتها ومن مقدرتها المليَّة ما تعلم. انتقل إلى ليبيا فقاد مقاومة الاحتلال في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وعمل على بناء قوَّة عربيَّة إسلاميَّة في صحراء ليبيا تقوم دعامتها على أساس الزوايا والرباطات[xxi]. و”هذه الطريقة التي كافحت الجهل والفوضى التي جاهدت الاستعمار الإيطاليَّ في ليبيا جهاداً شديداً، وقد قضي الشيخ الشريف أحمد السنوسي حفيد شيخ الطريقة السنوسيَّة حياته في كفاح الاستعمار الإيطاليِّ وأزعج موسيليني زعيم الحزب الفاشستيِّ ورئيس الدولة الإيطاليَّة”.[xxii]

2- شيخ المجاهدين عمر المختار: جعل من زاويته الكبرى في واحة الجغبوب مقرَّاً ومركزاً للعمليَّات العسكريَّة حتى استشهاده، وقد تحوَّلت جميع الزوايا لمقاومة المحتل الإيطاليِّ لليبيا في مطلع القرن العشرين”.[xxiii]

وعمر المختار هو أحد رجالات الطريقة السنوسيَّة، ومن كبار مقدَّميها، ومن أخلص التلاميذ لقائد الجهاد الأعلى الشيخ الشريف أحمد ابن السنوسي.[xxiv]

3- الشيخ محمد عبد الله حسن الجبرتي العقيلي ثائر من الصومال (1856-1920م): وهو أبرز خلفاء شيخ الطريقة الشاذليَّة، قاد بلاده من نصر إلى نصر أكثر من عشرين عاماً حارب فيها قوَّات الدول الكبرى في القرن التاسع عشر         (بريطانيا وإيطاليا والحبشة)[xxv]، وبعد توالي الانتصارات على بريطانيا وأنَّه لا مجال لهزيمته أغرت برشوته وعرضت عليه ملك الصومال، فرفض بشموخ العقيلين الهواشم، وآثر المعركة حتى النصر أو الاستشهاد، فاستشهد متأثرا  بجراحه بعد قصفهم.

  • الزعيم الروحيُّ ماء العينين (ت 1910م): تزعَّم حركة المقاومة في موريتانيا في وجه الفرنسيين، وتصدَّى لمطامعهم، وكان قد اتَّبع الطريقة الفاضلة التي أسَّسها والده (وهي فرع من القادريَّة).[xxvi]

وفي أفريقيا بوجه عام اتَّبع زعماء الجهاد تعاليم الطرق الصوفيَّة التي لا يستطيع أحد أن ينكر دورها في نشر الدِّين والثقافة الإسلاميَّة، وفي مقاومة كلِّ مظاهر السيطرة والوجود الأجنبيّْ. وهم جميعاً رفضوا الاستسلام. فقد فضَّلوا الاستشهاد في سبيل الله”[xxvii]. ومازالت شعوب غرب أفريقيا الإسلاميَّة تدين للمجاهدين من أصحاب الطرق الصوفيَّة.

6- الشيخ عثمان بن فودي (القادري) والحاج الشهيد عمر التكروتي[xxviii] الذي حمل معه الطريقة التجانيَّة إلى غرب أفريقيا.

7- البطل المراكشي الأمير عبد الكريم الخطابي(1881-1962م): من أبرز شخصيَّات المغرب البطوليَّة الذي كان على درجة كبيرة من الشجاعة والزُّهد معاً، وقد اعتكف سنوات عدَّة، أخذ نفسه بالرياضة الروحيَّة الخالصة حتى يصقل نفسه ويصفِّيها من شوائب الدنيا وأعراضها[xxix]. ثمَّ بدأ بعدها مرحلة طويلة من الكفاح ضدَّ الاحتلال وخلَّف عدداً كبيراً من المريدين حملوا بعده راية الكفاح حتى تمَّ قطف ثمار جهادهم. ولا ننسى الدور الفعَّال الذي قامت به الدرقاويَّة إبَّان الاستعمار الفرنسي للمغرب[xxx].

وفي الجزائر لاحظ الخبراء الفرنسيون أنَّ زعماء حركة الجهاد التي تولَّت محاربتهم انطلقت من الطُّرق الصوفيَّة وخصوصاً المرتكزة منها حول الزوايا التي كانت منذ قرون تعتني بالجهاد عند الخطر، وتعتني بالعلم والتصوُّف عند السلم. ومن أبرز تلك الطُّرق في القرن الماضي القادريَّة والرحمانيَّة[xxxi]. وقد أنجبت الأولى كلاًّ من:

8-  الأمير عبد القادر الجزائري (1807-1885م): شيخ المجاهدين في العصر الحديث فضلاً عن كونه من كبار صوفيَّة عصره، فقد كان راسخ القَدم في العلم الإلهيِّ”[xxxii] . وقد حارب الفرنسيين بلا هوادة مدَّة سبعة وعشرين عاماً.

9-  الشيخ علي الحداد: شيخ الطريقة الرحمانيَّة والذي ناصر ثورة المقرانيِّ عام 1871م حتى سيطرت على ثلثي الجزائر، واشترك فيها نحو150 ألفاً منهم 120ألفاً من الإخوان الرحمانيَّة”[xxxiii].

10- عبد الرحمن بن عبد القادر: قام بثورة عام 1871م بعدما دخل الجزائر سرَّاً لتخليصها من الاستعمار، مغتنماً الحرب الفرنسيَّة الألمانيَّة، وكان حافظاً للقرآن”[xxxiv].

11- العالم محمد أحمد المهدي (1843-1885): حارب الإنكليز في السودان، حفظ القرآن منذ صغره، وبهرته من دون أترابه في الدرس أنوار التصوُّف، فأقبل عليها[xxxv] . في عام 1881م أصدر فتواه بإعلان الجهاد ضدَّ الكفَّار والمستعمرين الإنكليز، وأخذ يعمل على بسط نفوذه في جميع أنحاء غرب السودان[xxxvi] . وقد تمكَّن الثوار بقيادته من محاصرة الخرطوم عام 1885م، وقتل حاكم السودان الإنكليزيِّ (غوردن)[xxxvii].

12- في مصر، ظهر الزعيم أحمد عرابي (1841-1911م): نشأ في بيئة صوفيَّة، وفي ذلك يذكر عن أبيه أنَّه كان شيخاً جليلاً عالماً ورعاً[xxxviii]. وكان لهذه النشأة أثر بعيد في تكوين خُلُقِهِ وشخصيَّتهِ. وقد جاء في بعض الكتابات: “أحمد عرابي الحسيني مسلم صوفيٌّ جاور في الأزهر عامين”[xxxix].

13- حسن العدوي ومحمد عليش: كانا في المجلس الأعلى لقيادة الثورة العُرابيَّة، وكان الأول من أشهر خطباء الثورة، والثاني أمهر كتَّابها.

14- المجاهد الشيخ محمود أبو عليان الشاذلي البصيلي: تلميذ الشيخين حسن العدوي ومحمد عليش، وقد ملأ الدنيا دعوة وجهاداً[xl] .

15- الشيخ محمد القاياني: من كبار الصوفيَّة الذين ساهموا في الثورة العُرابيَّة41. 16- أبو الوفاء الشرقاوي)1296هـ(: هو الإمام العارف بالله الصوفيُّ الزَّاهد والإمام والقطب الربانيُّ، من أعلام الأزهر والصوفيَّة في مصر، ومن أبرز علمائها وشيوخها. له مدرسة صوفيَّة عظمى بدأت نشأتها في الصعيد، ثمَّ ذاع صيتها في مختلف الأقطار. كان أعلام العلماء في عصره يتوافدون عليه لمكانته العلميَّة والأدبيَّة، كما كان والده علماً من أعلام التصوُّف الإسلاميِّ في عصره. علماً وعملاً وإرشاداً، وله فيه مؤلَّفات قيمة وقصائد ممتعة. وكان للتصوُّف في نفسه بحكم نشأته أثرٌ ظاهرٌ في أخلاقه وتربيته وسموِّه الروحيِّ وإرشاده. وقد جمع بين التربيتين وأحرز. وأقرَّ له بالفضل والسبق في العلوم والمعارف، وأدب النفس، وعلوِّ المدارك شيوخ الإسلام وجهابذة العلماء بالأزهر وغيره .

كان الشرقاوي مهموماً بقضايا أمَّته مشغولاً بواقعها، “ويظهر ذلك من مواقفه الوطنيَّة المعارضة للاستعمار الفرنسيِّ، وانشغاله في صدر شبابه بالأحداث الكبرى، في العالم كالحرب العالميَّة الأولى، وتأييده للحركات التحرُّريَّة في مصر. فقد استضاف الزعيم المصريُّ سعد زغلول حين زار الصعيد في رحلة جهاد كانت الحكومة لا تنظر إليها آنذاك بعين الرضا، بل كانت تدبِّر المكائد لإفشالها، فإذا به يتحدَّى رغبتها، ويقف بجانب ثورة 1919م معلناً عن تأييده الكامل لزغلول زعيم التحرُّر.

وقد ظهر اهتمام الشرقاويُّ بواقع مصر في قصيدة همزيَّة صريحة تقول:

 

أفمسلمونَ وأمَّة  أشلاءُ   لا ميَّتون ولا هُمُ أحياءُ
يهنون والإسلامُ أشرف منزلاً   ومحمد ممَّا لقوهُ براءُ
قد أثقلوا الإسلامَ عن وثَباتهِ   وهُمُ عليه معرَّةٌ وبلاءُ
في كلِّ دهرٍ سقطةٌ عُرِفت لهم   وبكلِّ قطرٍ منهمُ غوغاءُ
داستهُمُ أممٌ تجدُّ إلى العُلا   في الأرضِ لم يلحقْ بها إعياءُ
وهُمُ إذا قرع العصا ذو مطمعٍ   ضُرِبت عليهم ذلَّةٌ وشقاءُ
غاصبٌ أو كلَّما مسّتهمُ يدٌ   سقطوا كذلك يفعلُ الجبناءُ
فكأنَّهم لم يسْرِ في أعراقهمْ   مِن سابقيهم غَيرةٌ وإباءُ
لا يَظفِرنَّ بمجدِهم وحياتِهم   قومٌ ببذلِ نفوسهم بُخلاءُ
وبمصَر قومٌ يا لمصرَ وأرضِها   منهم وهم زعموا لها أبناءُ
لبسوا لها ثوبَ الصديقَ وربَّما   قد كان خيراً منهمُ الأعداءُ
عبثت أكفُّ الطامعين بها فلمْ   تعبأْ وترفعْ رأسها الرؤساءُ
أنهتهمُ عن برِّ مصرَ عقولُهم   فليهن مصرَ أولئك العقلاءُ
لا تُغنينَّ علومهم شيئاً وهم   بطريقِ حفظ كيانهم جهلاءُ
فالعلمُ حقَّاً علم ما يُبنى به   بين الأنام سيادةٌ وعلاءُ
أوُلاةَ مصرَ، وأنتمُ أبناؤها   لم يبقَ فيكم للبلاءِ رجاءُ
أغريتمُ الخطبَ الجسيم ونمتمُ   فلنومُ عافيةٍ لكم وهناءُ
أرأيتمُ أمماً تُباع وتُشترى   ها أنتمُ بيعٌ بكم وشراءُ
ثمَّ تبلغ سخرية الشرقاويِّ المدى حين يتوجَّه للنائمين قائلاً:
خونوا بلادَكُمُ ولا تُبقوا بها   رمقاً وهل باقٍ بمصرَ ذَمَاءُ
فبمثلِكم تُخزى الشعوبُ ومثلكم   تشقى به الأوطانُ والأرجاءُ

وله أيضاً قصائد نقد اجتماعيٍّ لاذع يحكي خلالها مرارة واقع مصر، وتهاون أهل البلاد في حقوقها عليهم، منها قوله:

قد أصبح الإسلام – يا مصرَ- أهله   معيشتُهم ضنكى وعيشُهم مرُّ
وما العيش أن تحيا على الهون آكلاً   كما تأكل الأنعام تغذَى وتجترُّ
ولكنَّما العيش الحياة على هدى   إذا حاطها بالسؤدَدِ المجدُ والفخرُ

هذا هو أبو الوفاء الشرقاوي الذي لم يكن إلاَّ جنديَّاً تحرُّريَّاً يقف إلى جوار إخوانه من الأحرار للذَّود عن مصر ومقارعاً الاستعمار البريطانيِّ[xli] ، ومصلحاً اجتماعيَّاً، يأبى الضيم والذلُّ لنفسه وبني الإسلام.

17- محمد عبد الله حسن الجبرتي[xlii]: حين نذكر الصومال لا بد لنا من ذكر هذا العالم الصوفي، المجاهد إذ كان مع جماعته التي اشتهرت  بالدراويش   (daraawiish) ، وهو من أبرز المناضلين الذين تحدُّوا الغزاة وأذاقوهم  دروساً سجَّلها التاريخ، وبذلوا النفس والنفيس، وهو عالم  من علماء الطُّرق الصوفيَّة الصوماليَّة وأثره ناطق في نشر الدين في ربوع المجتمع الصوماليِّ وتحدِّياته الخارجيَّة لمؤامرات المستعمرين. ورغم قلَّة الموارد آنذاك فقد بادر بالتصدِّي للمستعمر هو  وطلبة العلم وعلماء الطُّرق الصوفيَّة وبعض التجَّار، وكان من أبرز قادة حركة التحرير الصوماليَّة وهو من أبناء مشايخ الطُّرق الصوفيَّة الصوماليَّة.

ومن خطابات الجبرتي ورسائله المشهورة الموجَّهة إلى البرلمان الإنكليزيِّ، قوله:” لن تحصلوا منا إلاَّ على الحرب لا غير… نحن قوم لا نسمح للكفَّار أن يحتلُّوا بلادنا أو يحكموها، ولا نتكاتف على ذلك مع المستعمرين لا بعوض ولا بتهديد … ولا نذلُّ قوانين الشريعة وأحكامها، ولا نجعلها خاضعة لقوانين الكفرة وأحكامها الطاغوتيَّة، بل نعلن حربنا على الزُّعماء وعلى الذين يسمحون لهم بدخول بلادنا واستعمارها… ونوجه لومنا للعلماء والقضاة الذين يهينون شريعتنا الإسلاميَّة ويجعلونها تحت أقدام الكفرة الفجرة”.

وكذلك قوله:”  نحن قوم لا يخضعون لأعداء دينهم ووطنهم ولو كثرت جنودهم، وتتابعت هجماتهم، وتنوَّعت آلاتهم المهلكات، واشتدَّت وطأتهم علينا، وانضمَّت إلى صفوفهم أكثريَّة الوطنيَّة الصوماليَّة، وآخرون من المستخدمين الأجانب، لأنَّنا نريد بأموالنا وأنفسنا الجنَّة من الله تعالى، وأن نطهِّر بتضحيتنا في الجهاد وصدق إيماننا وإسلامنا.

وقد قال فيه روبرت هس( (R.l.hess أستاذ التاريخ المشارك في جامعة “شيكاغو”: “كان وطنيَّاً فريد الطراز في عصره، شاعراً عظيماً، وزعيماً لشعبه في إطار التطوُّر السياسيِّ والدينيِّ الذي عرفه الصوماليُّ في الأزمنة الحديثة. فأمام قوى كبرى ثلاث (بريطانيا، إيطاليا، الحبشة)، واجه محمد عبد الله بعدائها السافر، وبقدر ضئيل من الأسلحة الأوروبيَّة مع ضعف الاتِّصال بالمدن الساحليَّة ولفترة تزيد على عقدين من الزمان لم يتمكَّن فحسب من مضايقة البريطانيين…بل أحرز ضدَّهم وبانتظام انتصارات حربيَّة وسياسيَّة وأيضاً دبلوماسيَّة”.

إذن، فالصوفيَّة قديماً وحديثاً لم يتوانوا عن الإصلاح والدعوة إلى مقاومة الاستعمار.

– قديماً: كان الصوفيَّة ” وراء تأهيل المصريين لزعامة العالم الإسلاميِّ بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة، وبتأييدهم وحشود مريديهم ومحبِّيهم انتصر المسلمون على الصليبيين في حطِّين وفي دمياط وفي المنصورة، وانتصروا على التَّتار في عين جالوت. وتذكر الأبحاث التاريخيَّة أنَّ الشيخ أحمد الدرديريَّ شيخ الطريقة الخلوتيَّة والشيخ عبدالله الشرقاويِّ شيخ الطريقة الشاذليَّة، والشيخ السادات، والشيخ عمر مكرم، والشيخ أحمد بن السنباطيَّ، وكل هؤلاء، هم صوفيون تركوا تاريخاً مشرفَّاً ما زال المسلمون يفخرون به.

-حديثاً: السنوسيَّة هي الطريقة التي كافحت الجهل والفوضى، وجاهدت الاستعمار الإيطاليَّ في ليبيا جهاداً شديداً. وقد قضى الشيخ الشريف أحمد السنوسيُّ حفيد شيخ الطريقة السنوسيَّة حياته في الكفاح ضدَّه، وأزعج (الدويتش موسيليني) زعيم الحزب الفاشستيِّ ورئيس الدولة الإيطاليَّة، وجهاده هذا يعتبر من أيام البطولات الخالدة في تاريخنا المعاصر، ويكفي طريقته المجاهدة فخراً أن الشيخ عمر المختار هو أحد رجالاتها، ومن كبار مقدَّميها، ومن أخلص التلاميذ لقائد الجهاد الأعلى الشيخ الشريف أحمد ابن السنوسي”[xliii] .

وثمَّة الكثير من المجاهدين لا يتَّسع المجال لذكرهم، سجَّلوا بحروف من نور أمجاداً وبطولات لا بدَّ للأجيال من أن تعيها. ويعود الفضل الأول في تكوين هذه الفئات إلى المدرسة الروحيَّة الخالدة التي أنجبت القُوَّاد العظماء أمثال نور الدين، وصلاح الدين، والظاهر بيبرس، وعبد القادر الجزائري، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابيِّ، والذين كانوا جميعاً نماذج رائعة من التجرُّد والإخلاص. فهم ورثة النماذج من السلف الصالح من أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقَّاص وسواهم.

في ختام هذا البحث نخلص إلى معرفة دور علماء الصوفيَّة في حركات الإصلاح والتحرُّر المعاصرة، والتي كانوا فيها الطلائع والمبادرين كونهم يملكون طاقات علميَّة، فعملوا بما علموا، وجسَّدوا الإسلام حسَّاً ومعنى، مما جعل إقدامهم إقدام الأبطال، إقدام المشتاقين إلى لقاء ربِّهم طالبين الشهادة الخالية من الشوائب. فكما أنَّهم شاركوا في الدفاع عن الأمَّة ومجدها، كان لهم الدور الفعَّال في توجيه أبناء الأمَّة وتزكيتهم، فلم يرضوا بالذلِّ والعار ولو للحظة، وقدَّموا نماذج قلَّما نسمع عنها في التاريخ إلاَّ من كان على شاكلتهم. كما أنَّ علماءهم لم يركنوا إلى الراحة حتى بعد جلاء المستعمر عن ديار الإسلام، بل عادوا إلى العلم والتعليم، وتربية النفوس على الخير، وكم رأينا في هذا البحث من مشاركة علماء التصوُّف في تبنِّي الإصلاح الاجتماعيِّ والمشاركة المجتمعيَّة.

وبهذا نخلص إلى حقائق موثَّقة بأنَّهم كانوا فاعلين ومنفعلين مع مجتمعاتهم، لم ينعزلوا عنه إلاَّ فترة التزكية، وهي سنَّة الرسول عليه السلام، فكم كان يهجر أهله ليذكر الله في غار حراء، وكلُّ مسلم يحتاج إلى مثل هذه الخلوة ليعود منها مسلماً قويَّاً لا تأخذه الدنيا ببهرجها، يعود متخلِّياً عن أوصافه الذميمة، متحلِّياً بأخلاقه الحميدة، يعود قرآناً يمشي على الأرض، متمسكاً بدينه، مطبِّقاً لسنَّة نبيِّه.

ومن  الحقائق التي نخلص إليها أنَّ علماء الصوفيَّة تنبَّهوا لمقاصد أعداء الدين، في هدم الركن الروحيِّ للإسلام، والذي لا يتجسَّد إلاَّ به، ولا يتحقَّق مقصوده إلاَّ من خلاله. ونجد غيرهم ممَّن سلك غير طريقهم كيف تسرَّب المرض إلى نفوسهم حتى أخذوا يصدِّقون كلَّ ما يبثُّه الاستعمار من دعوات زائفة، كالحرِّيَّة، والديمقراطيَّة، والحرِّيَّات الدينيَّة، وحقوق الإنسان.

ولم يتوقَّف الأمر عند أعداء الإسلام، بل تعدَّاه إلى بعض المسلمين الذين  يشكِّكون بكلِّ ما قدَّمه علماء الصوفيَّة، ويشوِّهون التصوُّف برمَّته، بتصيُّدهم لأخطاء أدعياء التصوُّف، فما أنصفوا ولا نطقوا بالحقيقة، معتمدين على ما دراسات المستشرقين؛ الذين وصفوا التصوُّف بأنَّه قوقعة بالزوايا والتكايا، وخمول وانهزام واستسلام، وأنكروا كلَّ جهدهم ونضالهم، ولم يأخذوه من منابعه الأصليَّة وعلماء الصوفيَّة على أنَّه همَّة وبأس وصمود وصبر ورجولة، وهم رهبان الليل وفرسان النهار، جاهدوا أنفسهم، لترتقي إلى أعلى ما ترتقي إليه النفس الإنسانيَّة من قيم عليا، متَّبعين بذلك سنَّة محمد عليه السلام، ومقتدين بأصحابه.

ومن الحقائق التي نستخلصها أيضاً أنَّ علماء الصوفيَّة هم من دحروا الأعداء وسطَّروا أروع آيات النصر والجهاد بإيمان ويقين لا يبرحهم البتَّة حتى يحصلوا على إحدى الحسنيين، ولولاهم لبقيت ديار الإسلام خاضعة ترزح تحت نير الاحتلال الصليبيّْ.

لا ريب في أنَّ ما أثبتناه غيض من فيض علماء الصوفيَّة، فقد اكتفى الباحث بذكر نماذج من علمائنا المشهورين وبعض المغمورين، ولكن القائمة طويلة والعدد كبير لا يستوعبه هذا البحث وليس هذا مجاله.

والحقيقة الأخرى هي أنَّ المؤرِّخين لهذا العصر قد صادروا حقَّ هؤلاء الأعلام، وأخفوا ودورهم في مقاومة الاحتلال، وإصلاح المجتمع. ناهيك بغمزهم ولمزهم ووصفهم بالسلبيين والقدريَّة المتواكلين، وكأنَّهم لم يطَّلعوا على الحقائق التاريخيَّة، ولم ينسبوا للإسلام إلاَّ إرهاباً وتخريباً، فقلبوا الموازين، وحسَّنوا القبيح، وقبَّحوا الحسن. “فمدحوا الحركات المناوئة للإسلام والتي ألحقت به أبلغ الضرر في عصره الأول كحركة القرامطة والباطنيَّة والخرميَّة البابكيَّة…يردِّدون شعارات برَّاقة ظاهرها رحمة وباطنها فيه العذاب: “التحليل العلمي، “إعادة كتابة التاريخ”، الدراسة الموضوعيَّة المنهجيَّة”، فجعلوا باسم التحليل العلميِّ الشعوبيَّة الحاقدة منارات هدى في تاريخنا”[xliv].

وعليه، يجب إعادة النظر في تدوين تاريخنا، هذا التاريخ الذي كتبه أعداء الإسلام ودعاة التقدُّميَّة الممزوجة بروح الاستشراق الغربيِّ الصليبيِّ الحاقد[xlv].

ولا ننسى في هذا المجال ما كتبه مؤرِّخو الحركات الإسلاميَّة المخلصين لدينهم، فبذلوا الجهد الفرديَّ في بيان الحقيقة التاريخيَّة لإنصاف العلماء العاملين من رجال الثورة والمقاومة”[xlvi]. وهذا يتطلب تضافر الجهود في إعادة كتابة تاريخ علمائنا، وبيان دورهم في حركات التحرُّر المعاصرة في العالم الإسلاميّْ، ويتحقَّق ذلك بالرجوع إلى المؤرِّخين المنصِفين الذين بثُّوا التاريخ في ثنايا كتبهم وترجماتهم لأنَّها تُترجم عن واقع مشاهد مُعاش، ما كتبه التلاميذ عن مشايخهم، وما عشناه نحن المعاصرين من مقاومة ربما ما زلنا نشاهدها في عالمنا المعاصر. فقد تُحال كلُّ هذه الانتصارات إلى من كان مختبئاً في جحره، بفعل السلطة أو المال أو الحزبيَّة…

وأخيراً، أرجو أن أكون قد قدَّمت نماذج من علمائنا تعيدنا إلى مجدنا، وتذكِّرنا بتاريخنا ليكونوا القدوة لبناء جيل النصر والتمكين، فعسى أن يظهر جيل صلاح الدين الذي اقتدى هو ونور الدين بالعلماء العاملين وبمدرسة الإمام الغزالي علماً وعملاً.

نعم، إنَّهم نماذج صدقوا مع الله فصدَّقهم، ولا يكون النصر إلاَّ بما انتصروا به، والذي أرجوه ألاَّ تصبح هذه النماذج تراثاً نتغنَّى به، بل لتكن دافعاً للقدوة بعلمائنا، لعلَّ الله سبحانه وتعالى يبعث روح هذه الأمَّة من جديد، ويجلُّ بعضنا بعضاً بعيدين عن تكفير المسلمين والتطرُّف وقبول الآخر، وإيصال رسالة الإسلام كما أرادها الشارع سبحانه وتعالى، نجتمع ولا نختلف، نتحاور ولا نتشاجر “لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” (سورة النساء: الآيتان 114-115) صدق الله العظيم.

 

 1– البخاري، صحيح البخاري، الجهاد باب 5، حديث رقم (2794).

2– أحمد سلام، الصوفية والجهاد، أعمال ملتقى التصوُّف الإسلامي العالمي، طرابلس، الجماهيريَّة العظمى، جمعيَّة الدعوة الإسلاميَّة العالميَّة،1995م(ط1)، ص422.

[iii]– إسماعيل بن محمد العجلوني، (توفي1162ه/1748م)، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمَّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، أشرف على طبعه وتصحيحه  والتعليق عليه أحمد القلاش، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1197(ط7)، ج1، ص160.

[iv] – أنظر رسالة عمان“بيان مفصل أصدره صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني http://www.ammanmessage.com/index.php?lang=ar

5- أنظر محمد فهر شقفه،توفي(1431ه /2010م)” التصوف بين الحق والحقيقة“،1970(ط2). وعبد الرحمن الوكيل،(توفي 1390ه /1971م)، هذه هي الصوفية“، بيروت، دار الكتب العلمية،1979(ط3).

6- www.alagidah.com/vb/archive/index…/t-2164.html  فقد كانت زاوية (مستغانم) أعظم مراكز الاستخبارات الفرنسية بالنسبة للمغرب

[vii]– أنظر إحسان الهي ظهير (توفي 1407هـ/1987م) دراسات في التصوُّف، القاهرة، دار الإمام المجدد،2005(ط1) ، ص126. وانظر إحسان الهي ظهير، التصوُّف المنشأ والمصدر، باكستان، لاهور،1986(ط1)، وفي هذين الكتابين يشدد النكير على التصوف وينسفه نسفاً.

[viii]انظر محمد عبدالله بن أسعد اليافعي، نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية الملقب كتابه كفاية المعتقد ونكاية المنتقد(768ه/1366م)، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي،1961،(ط1) كتاب يسلط الضوء على الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.

[ix] أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي المغربي(توفي 846 هـ /1442م) قواعد التصوف، تعليق وضبط، الشيخ إبراهيم اليعقوبي، دمشق،مطبعة الملاح، 1968،(د.ط) ص1.

[x] محمد بن محمد بن مخلوف تنقيح روضة الأزهار، طرابلس، مكتبة الطلبة والطالبات، ص191.

[xi]– أحمد شهاب الدين الزوي، سلطان الأولياء الجيلاني ، طرابلس، منشورات زاوية سيدي نصر د- ت ص129.

[xii]– أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي (توفي387ه/997م )، اللُمع، تحقيق: د.عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، مصر، دار الكتب الحديثة، د ط ، 1960ص516-545.

[xiii] حمدان بن عثمان خوجة (توفي1255هـ/1840م)، المرآة ، تقديم وتحقيق وتعريب د. محمد العربي الزبيري ، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،ط2

[xiv]–  د. محمد العربي الزبيري،  تاريــخ الجزائـــر المعاصــر (1954-1962) ، ج2، منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999م ،ص180.

[xv] حمدان خوجة، المرآة، هذا التقرير أصدرته المفتشية العامة وحرر بالجزائر سنة 1864. 

[xvi]  – عبد المنعم قاسمي الحسني، دور الطرقية في مقاومة الاستعمار الفرنسي،  http://aljazeeratalk.net/forum/showthread.php?t=254355

[xvii]  http://www.hamsjazan.com/vb/showthread.php?t=65978

 [xviii] – للإطلاع على دور المدارس الصوفية في مقاومة المحتل والإصلاح أنظر الدكتور ماجد عرسان الكيلاني، هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، الإمارات العربية المتحدة، دبي، دار القلم، 2009 (ط2)، ص189-270

 [xix] – شمس الدين العجلاني، مقالة في ذكرى معركة ميسلون، موقع أدباء الشام http://www.odabasham.net/show.php?sid=36912

 [xx] – عبد الكريم غرايبة، دراسات في تاريخ أفريقية العربية، مطبعة جامعة دمشق 1960( ط1)، ص15.

 [xxi]– لوثورب ستودارد الامريكي lothrob studdard– حاضر العالم الإسلامي ، ترجمة عجاج نويهض ، بيروت،دار الفكر، 1973(ط4) المجلد الاول ج2، ص140-141.

 [xxii] لوثورب – حاضر العالم الإسلامي ص91.

  [xxiii]– حبيب وداعة الحسناوي، عمر المختار نشأته وبيئته الأولى،. ليبيا، جامعة الفاتح ص22.

 [xxiv]–  لوثورب – حاضر العالم الإسلامي.

 [xxv]– د.عبد الله عبد الرزاق إبراهيم، المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقية، سلسلة عالم المعرفة الكويتية 139- تموز 189، ص 223 وما بعدها. بتصرف

 [xxvi]– د.الهام ذهني، جهاد الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا ضد الاستعمار الفرنسي (1850-  1914) ، الرياض، دار المريخ للنشر، 1988 ص200.

 [xxvii]المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقيَة، ص271.

 [xxviii]المسلمون والاستعمار الأوروبي لأفريقية، ص271.

 [xxix]– محمد عبد المنعم المحامي ومحمد عبد الوارث الصوفي، الأمير عبد الكريم الخطابي بطل الشمال الأفريقي، القاهرة المكتبة العلمية( ط1) 1958، ص88.

 [xxx]– لوثورب – حاضر العالم الإسلامي، ج2، ص396.

 [xxxi]- انتشرت الطريقة الرحمانية في الخمسينات من القرن الماضي، ويعزى انتشارها إلى أنها كانت رد فعل لنشاط المبشرين بين القبائل وناصرت الرحمانية ثورة أحمد المقراني انظر الإسلام وحركات التحرر العربية ص74.

 [xxxii] عبد الرزاق البيطار(توفي 1335 ه/1916م)، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تحقيق: محمد بهجة البيطار، بيروت، دار صادر (ط2)1993، ج2 ص883.

 [xxxiii]– انظر د.شوقي أبو خليل، الإسلام وحركات التحرر العربية، دمشق 1976 دار الرشيد،( ط1) ص74 -85.

 [xxxiv]- السابق ص85.

 [xxxv]– محمد أحمد المهدي، توفيق أحمد البكري(توفي1386ه/1966م)، سلسلة أعلام الإسلام– القاهرة 1944 مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ص7.

 [xxxvi]- الدعوة المهديَّة، الندوة العالميَّة لشباب العالم الإسلامي.  http://www.almwsoaa.com/Forum/showthread.php?t=4423

 [xxxvii] البيطار، حلية البشر، ج2، ص801.

 [xxxviii]–  محمود محمود الخفيف، أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه (توفي1431ه/2010م) ، مصر مطبعة الرسالة 1947، (ط1)، ص3.

[xxxix] – د.شوقي أبو خليل، الإسلام وحركات التحرر العربية، ص42 وما بعدها.

 [xl]المسلم” مجلة العشيرة” المحمدية، السنة6 ، عدد4، 1375 10حزيران 1956م. وانظر عدد21توز 1955م ،ص7، وانظر حركات التحرر العربية، ص46

 [xli] د. يوسف زيدان،  شعراء الصوفيَّة المجهولون ، بيروت، دار الجيل ، 1996م ،(ط2)، ص113-115.

 [xlii]– للاطِّلاع على مواقف هذا القائد وجهاده ودوره في جهاد الإنكليز والإيطاليين والفرنسيين. انظر موقع المعرفة http://www.marefa.org/index.php

 [xliii]– دكتور عمر مسعود التجان، دور الصوفيَّة في مقاومة الاستعمار في أفريقيا     http://www.mubarak-inst.org/stud_reas/research_view.php?id=139

[xliv]انظر شوقي أبو خليل “الحركات الإسلاميَّة المعاصرة“، ص 8 وما بعدها.

[xlv] انظر المؤامرة على تاريخنا في مقدِّمة كتاب محمد جلال كشك”ودخلت الخيل الأزهر”(ط3)1990م، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، ص:10- 15.

[xlvi] انظر المصادر والمراجع للاطِّلاع على هذه المؤلَّفات القيِّمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى