الدراسات والبحوث

نظريَّة كانط في معرفة العلوم حين يحار العقل في موضوعاته

علي عابدي شاهرودي

نظريَّة كانط في معرفة العلوم حين يحار العقل في موضوعاته

علي عابدي شاهرودي

تعرض هذه للباحث في الفلسفة الإسلامية العلامة علي عابدي شاهرودي فرضية إيمانويل كانط في معرفة العلوم وتمايزها ولو على نحو الإجمال عن سواها من النظريات الفلسفية الغربية في هذا الصدد. وينطلق هذا المسعى من فرَضية اعتمدها العلامة شاهرودي ومؤداها أن كانط بنى منظومته الفلسفية على عدد من الأصول والمبادئ تدور حول الارتباط الوثيق بين الميتافيزيقا ومعرفة العلوم. هذه المقالة سعت إلى تأصيل هذه الفرضية، كما تضمّنت شرحاً لأركانها العامة ثم سعت إلى مقاربتها ونقدها.

المحرر

 

ترتبط وجهة نظر كانط في معرفة الميتافيزيقا والعلوم بصلة وثيقة بفلسفته، وربّما يصعب الحديث عنها دون تقديم شرح مختصر وموجز للأطر العامّة للفلسفة الكانطيّة، ولكنّ مثل هذه المهمّة تنوء بهذه المقالة ولا تتّسع لها حدودها؛ ولأجل هذا سوف نكتفي بإشارة موجزة إلى بعض المبادئ ذات الصلة القريبة بما نحن فيه أي معرفة العلوم.

ولا بدّ من انتقاء بعض المبادئ من فلسفة كانط لشرحها وتوضيحها والمعيار الذي سوف نعتمده هو ما يرتبط بفلسفة العلوم من وجهة نظر كانط، مع الالتزام الكامل بالاختصار قدر الإمكان.

وهذه المبادئ التي سوف نختارها تتّسم بسمتين في آنٍ، وهاتان السمتان هما: القدرة على توضح المفاصل الأساس للنظرية التي نحن بصدد البحث عنها، والسمة الثانية هي قدرتها في الوقت عينه على توضيح نقاط الضعف الموجودة في هذه النظرية. ومن خلال نقاط الضعف هذه يمكن النفوذ إلى عمق النظرية لإدخال الإصلاحات اللازمة عليها أو للحكم عليها بانتهاء صلاحيّتها، وإخراجها من دائرة التداول العلميّ.

وإذا أبدت النظرية مرونة للإصلاحات المقترحة، فسوف تدخل في مسار التعديل والتغيير بهدف تكميلها ومعالجة نقاط ضعفها. أمّا إذا أبت  الإصلاح ولم تكن مرنة بالحدّ الذي يسمح لها بالتكيّف فإنّ المآل الوحيد المتوقّع لها هو خضوعها لقضاء العلم وقدره الذي يفضي إلى خروج النظريّة التي لا تقبل التعديل من دائرة التداول وفسح المجال لغيرها من النظريّات الأكثر قدرة على تفسير ما يُراد منها تفسيره.

وتنقسم النظريّات العلمية والفلسفية إلى ما يقبل الإصلاح والتعديل من جهة أو جهات، وما لا يقبله من جهة أو جهات أخرى. ومن هذه الحيثية يجري على الأبعاد والجهات العصية على الإصلاح ما يجري على النظرية التي لا تقبل الإصلاح من الأساس، وذلك أنّ هذه الزوايا المعاندة للتعديل سوف تسقط من النظرية وتنفصل عنها، والزوايا أو الفروع القابلة للتعديل سوف تتابع مسار نموّها وتطوّرها.

وبعد هذا التمهيد ننتقل إلى بيان العناصر والروابط التي تشتمل عليها نظرية كانط في تمايز العلوم ومعرفتها:

شرح عناصر فرضية كانط وروابطها

يرى كانط أنّ العلم ينبع من مصدرين أساسين، أحدهما (ملكة الفهم) الفاهمة، والثاني (ملكة الحسّ) الحساسية.

فعن طريق الحسّ تنتقل الأشياء إلى الفكر، وهذا المصدر المعرفيّ هو القدرة على تلقّي الظواهر والتعامل معها على مستوى الشهود. وإذا كان الإنسان خلوًا من الشهود ولم يكن له أيّ شكلٍ من أشكال الاتّصال بالموضوعات الخارجيّة، يبقى حبيس داخله. فالحساسية هي نافذةٌ تفتح الباطن على ظواهر الوجود وعلى الموضوعات الخارجيّة وتقدّمها إليه.

فالمرئيّات والمسموعات وغيرها من المحسوسات تُعطى للإنسان بوساطة قوّة الحدس. ولكن ليس هذا هو نهاية المطاف وتمام عمليّة الإدراك؛ بل هي مجرّد مرحلة يتلوها غيرها. والمرحلة اللاحقة في مسار الإدراك تُنجز بوساطة الفاهمة. وهذه القوّة ليس متلقّية.

والفاهمة في الفلسفة الكانطيّة مجهّزة بشكلٍ قبليٍّ بمجموعة من الأفاهيم والصور التي لا يمكن ملاحظتها إلّا من خلال العلاقة العميقة بينها وبين الحساسيّة. والمعرفة الحقيقيّة عند كانط لا تُتاح ولا تتحقّق إلى عن طريق الاتّصال بين الفاهمية والحدس. وما تفعله الفاهمة هو الربط بين موضوعات الحدس، وجعلها إيّاها تحت مظلّة أفاهيمها ومبادئها لتضفي عليها شيئًا من الوحدة.

تقسيم الفاهمة والحساسية إلى محضة وغير محضة (خالصة وغير خالصة)

كلّ واحدة من القوى المشار إليها أعلاه إمّا أن تكون محضة وإما أن تكون غير محضة. المفاهيم المحضة هي تلك المفاهيم الفاقدة لأيّ عنصر حسيٍّ، وهي تنبع من الفاهمة نفسها بطريقة قبليّة سابقة على التجربة.

والحدس والحساسية أيضًا  عند كانط قد تكون تجريبيّة وقد تكون خالصة وغير تجريبية. والحدس التجريبيّة هي جماع أمرين، هما: المادة التي تُعطى للنفس بوساطة الحواس، والجزء الآخر هو الصورة الموجودة في الحساسية قبليًّا.

والحدس غير التجريبيّ هو الخالص من كلّ عنصرٍ تجريبيٍّ يأتي من الحواس. والشيء الوحيد الموجود في الحدس الخالص هو صور الحساسية القبلية.

وعلى أساس هذا التقسيم لبنية الإدراك البشريّ أو أيّ موجود آخر شبيه به، تتشكّل من بعدين: الأوّل منهما هو البعد القبليّ المتحرّر من الحس والتجربة، وفيه تعمل النفس عملها بطريقة مستقلّة عن التجربة. والثاني منهما هو البعد التجريبيّ إذ تفد الموضوعات وموادّ المعرفة إلى النفس عن طريق الحواس وتخضع لقواعد الإدراك البشريّ.

والصور القبليّة للحساسية عند كانط هي الزمان والمكان، وهي تضع جميع المدركات الحسيّة في إطارها وتؤمّن العلاقة والارتباط بينها، وذلك عن طريق قوّة الفهم عند الإنسان. والأفاهيم المحضة أو المقولات تنشأ بحسب كانط من صميم الفهم وليس لها أيّ منشأ تجريبيٍّ.

والمعرفة عند كانط تختلف عن التفكير، وهي مغايرة له. وهذه المغيرة هي مغايرة العموم والخصوص المطلق، بمعنى أنّ كلّ تفكير معرفة؛ ولكن ليس كلّ معرفة تفكيرًا.

والحدس التجريبيّ يعطي للفكر مادة المعرفة. والحدس الخالص يعطيه صورة هذه المادّة. ومادة الحساسية وصورتها يؤمّنان موضوع المعرفة ومحتواها على شكل واحد أمبيريّ. ومن هنا، فإنّ سهم الحدس في المعرفة يساوي سهم المادّة فيها. وقوّة الفهم وراء قوّة الحساسية تتصرّف وتتدخّل لإقرار مبادئ المعرفة وأصولها، ثمّ بعد ذلك تصل هذه المبادئ إلى حالة من الوحدة والانسجام تحت كلّيّات العقل المحض، وبفعل عقلٍ أعلى.

تقسيم القضايا إلى تحليلية وتركيبيّة

وهذا التقسيم للقضايا من العناصر الأصيلة في فرضيّة كانط؛ ولكن يصعب نسبته إليه نسبة الإبداع والاكتشاف وذلك أنّ الفلسفات السابقة على كانط كانت تلحظ في إطارها مثل هذا التقسيم للقضايا. فالفلسفة الإسلاميّة مثلًا، تلحظ في تعاطيها مع القضايا انقسامها إلى هذين القسمين. وما دعا إلى إبراز هذا التقسيم في فلسفة كانط، كلامٌ له في إمكان القضايا التركيبية المتحرّرة من التجربة.

العلاقة المتصوّرة بين الموضوع والمحمول على نحوين، فإمّا أن يكون المحمول (ب) منتميًا إلى الحامل/ الموضوع (أ) بوصفه شيئًا متضمّنًا فيه. ففي هذه الحالة تُسمّى القضية تحليليّةً (analytical) والحكم كذلك، فالقضية التحليلية هي التي يكون بين موضوعها ومحمولها علاقة  على مستوى الهويّة (identity). ويمكن أن تُسمّى تفسيريّة. ومن خصائص هذا النوع من القضايا أنّها لا تزيد إلى حقيقة الموضوع شيئًا.

والحالة الثانية من الحالات المتصوّرة للعلاقة بين الموضوع والمحمول هي أن يكون المحمول (ب) خارجًا عن أفهوم الموضوع (أ) خروجًا تامًّا على الرغم من ارتباطه به. وفي الحالة الثانية تُسمّى القضية تأليفيّةً/تركيبيّة (synthetical) والحكم أيضًا كذلك. والسمة الأبرز في هذا النوع من القضايا والأحكام هي أن لا يُفكّر في الموضوع والمحمول على أنّ العلاقة بينهما علاقة هويّة واتّحاد على مستواها.

وفي الأحكام التركيبيّة دائمًا ما يُضيف المحمول إلى الموضوع شيئًا، وبناء على هذه الملاحظة يمكن تسمية الأحكام التركيبيّة أحكامًا إضافيّةً. والمحمول فيها لا يأتي عن طريق تحليل الموضوع.

قضيّة «الجسمُ ممتدٌّ» هي قضيّة تحليلية عند كانط؛ وذلك لأنّ تحليل أفهوم الجسم يكفي للوصول إلى هذا الحكم واستنتاجه. أمّا قضية «الأجسامُ ثقيلةٌ (ذات وزن)» فهي قضيّة تركيبيّة وذلك لأنّ تحليل أفهوم الجسم لا يكفي للوصول إلى هذا الحكم ولا يؤمّنه؛ بل هو أفهومٌ خارجٌ عن أفهوم الجسم. وبناء على هذه الملاحظة يتبيّن عند كانط أنّ إضافة «الثقل» إلى الجسم هي إضافة تركيبيّة وليس الجزء المضاف جزءًا يمكن تفكّره في الجسم بشكلٍ مستقلٍّ وسابقٍ على التجربة.

والقضايا التحليلية هي قضايا مستقلّة عن التجربة ومتحرّرة منها، وهي في الوقت عينه تمثّل قسمًا لا يُستهان به من البناء الضروريّ للعلم والمعرفة.

أمّا القضايا التركيبية فهي ليست بالضرورة على هذا النحو. فبعضها تجربيٌّ وبعضها الآخر ليس تجربيًّا، ولكن القضايا المستفادة من التجربة هي دائمًا قضايا تركيبيّة. ولا يمكن لقضية تجربيّةً أن تكون تحليليّة. كل حكم أو قضية تحليلية غير تجربية، وكل تجريبيّ غير تحليليّ.

والقضايا التركيبية غير التجربية من وجهة نظر كانط هي أكثر أجزاء المعرفة البشريّة قيمةً. والاهتمام بهذا النوع من القضايا والبحث في إمكانها من العناصر المميِّزة لهذه الرؤية الكانطية. وإمكان الميتافيزيقا وكلّ علمٍ عقليّ محض مشروط بإمكان هذا النوع من القضايا. وأيّ شكٍّ في إمكانها يفضي إلى تزلزل بنيان العلوم العقليّة المحضة ويعرّضها لعاصفة الشكّ.

والقضايا التحليلية بضرورتها وحقانيّتها وكليّتها، معيارٌ واضحٌ ومحكٌ ممتاز ولو سلبيٌّ لكشف كذب بعض الأحكام غير التحليليّة؛ ولكنّ هذا النوع من القضايا لا يضيف إلى علومنا علمًا ولا إلى معارفنا معرفةً، وما يؤدّي إلى زيادة العلم وتطوّره هو القضايا التركيبيّة.

والقضايا التركيبية بدورها إمّا أن تكون تجربية أو مستقلّة عن التجربة. والتجريبيّات خاصّة بالعلوم التجريبيّة، وأمّا القضايا المستقلّة عن التجربة فهي من جهةٍ من صنع الميتافيزيقا ومن جهة أخرى تمثّل الأساس الذي تقوم عليه العلوم التجريبيّة.

وفي فلسفة كانط، قواعد الفهم مبادئ العقل المحض ومشتقّاته ومنتجاته جميعًا من طائفة الأحكام المستقلّة عن التجريب، ويقع على عاتق علم نقد العقل إثبات إمكانها كلًّا أو بعضاً، أو نفيًا أو إثباتًا.

تفسير الحساسية والحدس

الحساسية هي القوّة الوحيدة التي يحصل بينها وبين الموضوعات صلة مباشرة من غير وساطة. وعن طريق هذه القوّة تظهر الأشياء على شكل ظواهر. وبعبارة أخرى: تخضع النفس بوساطة الحساسية لتأثير الأشياء والموضوعات وهذا التأثّر الذي يطرأ على الروح هو الإحساس البسيط الأوّلي (الخام)، والقدرة على تلقّي التصوّرات بالطريقة التي بها نتأثّر بالموضوعات الوافدة، تُسمّى الحساسية. فبوساطة الحساسية إنّما تُعطى لنا الموضوعات وهي وحدها تزوّدنا بالحدوس.

والحسّ أو الإحساس إمّا أن يكون خارجيًّا أو داخليًّا. والحس الخارجيّ يعرض الأشياء على أنّها واقعةٌ خارجًا عنّي، والحسّ الداخليّ يعرضها بما هي متعلّقة بي. ومعطيات الحواس وبغضّ النظر عن سائر أبعاد الحساسية، هي معطيات بسيطة أوّليّة (خام) متفرّقة ومنفصلة عن أيّ شكلٍ من أشكال العلم. والحساسية في الأصل بناء صوريّ يرتّب المعطيات الحسيّة ويضفي عليها طابع التنظيم، وهذا البناء هو الذي يُسمى بالحدس المحض/ الخالص.

والحدس المحض/الخالص له بعدان أيضًا هما: الزمان والمكان. وهما صورتان محضتان من صور الحساسيّة ومرتبطتان بفاعل المعرفة، وليسا في مقام وصف الأشياء في نفسها وفي حدّ ذاتها بقطع النظر عن علاقتها بالفاعل. ويُصنّف كانط الصورتين المذكورتين على أنّهما استعلائيّتان (ترسنداليّتان). والحدس المتعلّق بهما هو حدسٌ محضٌ ومجرّد من التجربة ومستقلٌّ عنها واستعلائيٌّ؛ وذلك لأنّه يبيّن علاقة هذه التصوّرات بفاعل المعرفة.

والحدس المحض عن طريق صور الحساسيّة يحوّل الإحساسات البسيطة الأوليّة والمتفرّقة إلى إحساسات منظّمة ومرتبطة بالعلم. ولولا الحس المحض وصورة الزمان والمكان لما انتقلت الإحساسات الساذجة والبسيطة من حالة البساطة إلى حالة التنظيم ولما تحوّلت إلى حالة إدراكية معرفية.

وقوّة الحس ليست مجرّد قابليّة وتأثّر بحيث لا يبذل فاعل المعرفة من نفسه شيئًا، ولا يكون له دور سوى تلقّي الانطباع الخارجيّ؛ بل ومن حيث إنّ النفس الإنسانيّة مجهّزة بصورة قبليّة بهيكل الحدس الصوريّ والمحض المتقدّم على المعطيات الحسيّة، فإنّها من هذه الجهة تضفي على المحسوسات صورتها وكيفيّتها. والمحسوسات من دون ملاحظة الصور القبليّة للحساسية ما هي إلا ظواهر ساذجة أوّلية، ومن جهة كونها صورًا هي تجلّيات تامّة للطبيعة.

وبناءً على هذا التوضيح يتبيّن أنّ الحدس ينقسم إلى قسمين، أحدهما الحدس المحض الذي يقرّر الصور القبليّة للإحساس أي الزمان والمكان. وقد أوضح كانط هذا الحدس تحت عنوان الاستطيقا الترسندالية، وبناء على هذا المنطق ثمّة قواعد قبليّة تتأسّس عليها التجربة كما تتأسّس عليها الرياضة. وهذه القواعد على الرغم من استقلالها عن التجربة غير أنّها عاجزة عن خدمتنا في ما وراء التجربة، وينحصر استخدامها في إطار التجربة بوصفها شروطًا لازمة لإمكانها.

والقسم الثاني من أقسام الحدس هو الحدس التجريبيّ غير المحض الذي يتعامل مع الظواهر والمعطيات الحسيّة.

وكلا قسمي الحدس أو نوعيه من سنخ الحدس الحسيّ وليس ثمّة حدس آخر بحسب الرؤية الكانطيّة. وكلا القسمين وعلى الرغم من الاتّحاد والانسجام بينهما فإنّ لكلٍّ منهما مجاله وميدانه الذي سوف يأتي توضيحه لاحقًا. وهكذا يمكننا القول إنّنا بيّنّا نظرية كانط في تمايز العلوم وانفصال بعضها عن بعضها الآخر. وكأنّ بنية العلم عنده تبدأ من الحسّ البسيط الساذج، ثم تنتقل إلى مرحلة الحساسية المنظمة، وبعد ذلك نصل إلى مرحلة الحدس المحض، ومنه ننتقل إلى حالة الفهم والعقل أو التفكّر. ويبدو أنّ هذه الخريطة لا مفرّ منها في فلسفة كانط.

تفسير قوّة الفهم

تنقسم الأفاهيم كما الحدس إلى أفاهيم تجريبيّة وأخرى محضة. وتكون الأفاهيم تجريبيّة عندما تتضمّن إحساساً، وتكون محضة عندما لا يخالطها أيّ إحساس، ويمكن أن نسمّي هذه الأخيرة مادّة المعرفة الحسيّة. ويتضمّن الحدس المحض فقط الصورة التي بموجبها يُحدس شيء، ويتضمّن الأفهوم المحض فقط، صورة التفكير في موضوع بعامّة. والحدوس من وجهة نظرنا لها مصدرٌ منفصل تمامًا عن الأفاهيم، على الرغم من أنّه خارج إطار رؤيتنا قد يكون لهما أساسٌ واحدٌ.

قوّة الحساسية على الرغم من أنّها قابلةٌ لتأثيرات موضوعات المعرفة، ولكنّها أيضًا تترك أثرها وتضفي على تأثيرات الحواس دمغتها الخاصّة، وهذه الدمغة الخاصّة هي صورة الحدس المحض الذي هو اللازم غير المنفكّ عن جميع المعطيات الحسيّة.

وأمّا قوة الفهم (الفاهمة) فهو على خلاف الحساسيّة لا تقبل التأثّر بشيء؛ بل هي ذاتية الفعل وناشطة تولّد الأفاهيم من داخلها وتقرّر القواعد المستقلّة عن التجربة، وهكذا تتحقّق علمية الفهم بشكلٍ ذاتيٍّ.

وقواعد الاستطيقا الاستعلائيّة وفي الوقت التي هي غير تجريبيّة فإنّها تعدّ أساس التجربة ومنطلقها، وحتى تلك القواعد التي تمهّد لولادة الرياضيات لها صلة وثيقة بعالم التجريب والاختيار وليس لها في الوقت عينه سمة التجاوز.

والأفاهيم وقواعد الفهم وفي الوقت التي هي مستقلّة عن نظام التجريب والاختبار، هي أدوات صوريّة لإمكان التجربة وتقريرها. وليس هذا فحسب بل إنّ تقرّر موضوعات المعرفة والظواهر متعلّقة بها. والفهم هو فقط مصدرٌ لجعل التفكّر والمعرفة بالظواهر ممكنةً. ونسيج الفهم من الأفاهيم وقواعد الحكم. ويرى كانط أنّ التأمّل والتفكّر في الدقيق في صور الحكم يقودنا إلى معرفة الأفاهيم المحضة. وأحكامنا لها اثنتا عشرة صورة وكل حكم من هذه الأحكام يشير إلى أفهوم محض أو مقولة من المقولات (categories) وهذه المقولات هي عماد الأحكام وأساسها الذي تقوم عليه.

وهذه الأفاهيم والمقولات وعلى الرغم من استقلالها عن التجربة وعلى الرغم من محتواها التجاوزيّ والاستعلائي؛ لا يمكن إعمالها خارج إطار الحدس الحسيّ؛ وذلك لأنّ المقولات ليس لها مضمون تجاوزيّ وهي دائمًا خارج دائرة الحدس خلوٌ من الموضوع والمحتوى.

وهذه المقولات مع القواعد التي تتقرّر في طيفها، بمنزلة شروط لازمة لأيّ نوع من التجريب. ويعطي كانط السببية وقاعدة العليّة مثالًا ويقول: إن أفهوم السبب يدلّ على نوع خاصٍّ من التأليف الذي يفيد ترتيبًا معيّنًا بين شيء وآخر (أ) و(ب) مثلًا. وليس من الواضح لماذا يجب أن تتضمّن الظاهرات شيئًا من هذا القبيل؛ إذ لا يمكن أن نستند إلى التجارب لإثبات أفهوم السببية القبليّ. وإذا عجزنا عن إثبات مثل هذا الأفهوم فإنّنا بطريقٍ أولى نعجز عن تعميم مقتضاه وتحويله إلى قاعدة غير مشروطة بشرط نعمّمها خارج إطار التجربة.

ولا يبيّن كانط في منظومته الفلسفية كلّها التسويغ الكافي للعجز عن تعميم مثل هذه القاعدة ونقلها إلى خارج حدود التجارب التي أجريناها، ويكتفي بعرض وجهة نظره القائلة بأنّ الأفاهيم وقواعد الفهم هي بمنزلة المقدّمات اللازمة للتجريب. وهذا نقدٌ سوف نفصّل القول فيه وفي لوازمه ومقتضياته في نقدنا العقل المحض.

وبعد بحث كانط في قوّة الفهم وبعد تقويمه المنطق العام أو الصوري، وبيانه وجهةَ استعماله الصحيحة بحسب نظره، يعمل على شرح الإستطيقا الترسندالية وبيان المنطق الترسنداليّ عامّةً. ويقسّم المنطق الترسندالي (الاستعلائي) إلى قسمين أنالوطيقا (تحليلي) وديالكطيقا (جدليّ). وفي القسم الأوّل (الأنالوطيقا) يهدف من بحثه في الفهم ومعالجته إلى اكتشاف المبادئ والأسس المستقلّة عن التجربة. وهو بدرسه عملَ الفهم وصور حكمه يكشف عن الأفاهيم والقواعد المستقلّة عن التجربة، وحينها يبيّن أنّ استعمال هذه المعرفة المحضة يستند إلى شرطٍ هو أن تكون الموضوعات التي يمكن أن تطبق عليها معطاة لنا في الحدس. لأنّه من دون الحدس ستفتقر كلّ معرفتنا إلى الأشياء وتبقى فارغةً تمامًا. والمنطق الاستعلائي الذي يعالج عناصر معرفة الفاهمة المحضة أو المبادئ التي من دونها لا يمكن لأي موضوع أن يُفكَّر، وهذا المنطق هو التحليلات الاستعلائيّة التي هي في الوقت نفسه منطقٌ للحقيقة. لأنّ كلّ معرفة تناقضها تفقد على الفور كلّ مضمونٍ لها، أي تفقد كلّ علاقة بشيءٍ مّا ومن ثمّ كلّ حقيقة. ومبحث الأنالوطيقا الاستعلائيّة على قسمين: القسم الأوّل حول الأفاهيم المستقلّة عن التجربة، والقسم الثاني مخصّص لمعالجة القواعد القبليّة السابقة على التجربة.

وفي القسم الثاني من هذا المنطق من الخطأ استعمال ديالكتيك الفهم بوصفه واقعًا. وذلك أنّ هذا المنطق لا يسعه أن يكون سوى قانون للحكم على الاستعمال التجريبيّ، ومن سوء الاستعمال أن نعطيه قيمة الأورغانون الذي يستعمل استعمالا عامًّا غير محدود. ويجب أن يكون هذا القسم من المنطق الاستعلائي مجرّد نقد، ولهذا يُسمى ديالكتيكاً استعلائياً، لا من حيث هو فن توليد مثل الترائي؛ بل بوصفه نقدًا للفاهمة ونقدًا للعقل من حيث استعماله المفارق نقدًا يفضح خداع الظاهر في مزاعمه الواهية، ويثبط من دعواه التوصّل بوساطة المبادئ الاستعلائية فقط إلى الكشف والتوسيع…

توضيح أساس رؤية كانط في ترسيم حدود الحدس والفهم

لمّا كان الهدف المرسوم لهذه المقالة لا يتجاوز تبيين فرضية كانط في معرفة العلوم وتمايزها، فإنّنا لن نشتغل بنقد المبادئ التي تستند إليها فلسفته. ولكنّ توضيح الفرضية التي هي محلّ اهتمامنا تجدنا مضطرّين إلى توضيح بعض ما لا يمكن الاستغناء عن توضيحه من مبادئ هذه الفلسفة وقواعدها الأساسيّة.

وسوف نبيّن في هذا الموضع من مقالتنا هذه وعلى نحو الاختصار، السبب الذي دعا كانط إلى اعتبار تصوّرات الحدس المحض ومبادئ الفهم المحض مرتبطة بميدان التجربة والاختبار، على الرغم من ظنه أنّها مبادئ وقواعد ومفاهيم مستقلّة عن التجربة. والحال أنّ المبدأ المستقلّ عن التجربة ينبغي أن يكون مفيدًا ومجديًا في إطار أوسع من إطار التجربة.

يستند هذا التصوّر الكانطي، بالنظر إلى النصوص الكانطية، إلى عدد من القواعد شرحها كانط على النحو الآتي:

1 – الحدس المحض خاصّيّة وسمات من سمات ذات فاعل المعرفة وخواصّه. وصور هذا الحدس التي أهمها الزمان والمكان هي كيفيّات قبلية لنفس الفاعل، وليست صفاتٍ للأشياء في حدّ ذاتها خارج الظاهرات، وهي فقط تتحقّق في أطر الحدس المحض الحسي لفاعل المعرفة الذي هو النفس.

وبناء على هذا الفرض يقترح كانط أنّ التصوّرات وقواعد الحدس المحض يجب حصر استعمالها في مجال الظواهر. واستعمالها خارج إطارها افتئاتٌ على المنطق وخلوٌ من المحتوى.

2 – الأفاهيم المحضة وقواعد الفهم المحض على الرغم من استقلالها عن التجربة وقبليّتها، هي محدودة؛ وذلك لأنّها من لوازم المعرفة، وليست أمورًا تنكشف للنفس العارفة في حدّ ذاتها. ومن هنا كان تحوّلها من حالة الذهنيّة والذاتيّة (subjective) إلى حالة الواقعيّة الخارجية (objective) محصورًا في حقل الظواهر التي تعرض للنفس في صور الزمان والمكان.

واستعمالها خارج حدود الظواهر حمل إجباريٌّ لخاصيّة واقعيّة وسمة موضوعيّة (objective) كاذبةٍ على مسارٍ ذاتيّ، وهذا سوف يؤدّي بالضرورة إلى نزاع لا نهاية له هو الديالكتيك الاستعلائي.

3 – ميدان التجربة هو ميدان الظواهر وصور الحدس المحض، ويدخل إلى ساحة العلم بوساطة المقولات، وعن طريق الكلّيات يولّد الإنسان مناظر العلم وظواهره.

وكل معرفة هي نتيجة من نتائج الانسجام بين الأفهوم والحدس. فالحدس من دون أفهوم ليس معرفة، والعكس صحيح أيضًا. وعليه، إنّ بنية العلم وهيكله خارج حدود الحدس ليس معرفةً، ولا يمكننا التعرّف إلى ما لم يُعط لنا.

ويستنتج كانط من فروضه ومصادراته في تفسير العلم والمعرفة أنّ جهاز الاستطيقا والفهم الترسندالي ذاتيّ غير تجاوزيّ وظيفته تقرير التصوّرات والتصديقات في ميدان التجربة وإطارها.

العلاقة بين الفهم والعلوم التجريبية

الحدس الذي عند كانط حسيّ فقط، ينقسم إلى قسمين كما تقدّم:

1 – الحدس الإمبيريقي(التجريبي)؛ 2- والحدس المحض وغير التجريبيّ. وكلا هذين القسمين يؤمّن الأرضية المساعدة للعلم والمعرفة على العموم.

الفهم بدوره يهيّئ الأرضيّة اللازمة لحقول من العلوم. أهمّها وأعلاها شأنًا هو علم المنطق الترسندالي أو الاستعلائي.

قوّة الفهم بمنزلة منطلق للأفاهيم والقواعد التي تجعل التفكّر ممكنًا. ولو كان ذهننا خلوًا من أيّ قاعدة أو مفهوم محضٍ لما أمكننا التفكير. وبامتناع التفكير يستحيل وجود أيّ شكلٍ من أشكال العلم. ومن هنا، فإنّ كل ّالعلوم -ولا سيما العلوم التجريبية- مدينة للأفاهيم وقواعد الفهم في تحقّقها.

وإنّ علاقة الفهم بالعلوم التجريبيّة هي عين علاقة الفهم بالتجربة نفسها. فالتجربة من جهة على تماسٍّ وتواصلٍ مع معطيات الحساسية وصور الحدس المحض، ومن جهة أخرى هي على صلة في جذورها وأصولها بالمقولات والقواعد المستقلّة عن التجربة.

وإنّ الربط والتركيب والوحدة والتنوّع في الحدس،أمور تولّد حقيقة التجربة، هي جميعًا تنطلق من مصدر أساس هو الفهم وهي حاصل نشاطه واشتغاله على جميع محتويات الحدس.

وعليه، إنّ جميع فروع العلم التجريبيّ لها جذور في الفهم، ومن عمل الفهم واشتغاله على المواد وصور الحساسية التي تصله إليه تولد العلوم المرتبطة بالتجريب وتتراكم فوق الآخر.

والميتافيزيقا أيضًا وعلى الرغم من كونها من نتائج العقل المحض، فإنّ أعمدتها تقوم على أفاهيم الفاهمة وقواعدها، وذلك مع فارقٍ هو أنّ المتيافيزيقا تولد من تصاعد الفهم وتحولّ الأفكار والأصول، أما العلوم التجريبيّة فإنّها بمنزلة تنزّل انطباقيّ للفهم على الظواهر بمساعدة محكّات التجريب، وهي تتحقّق بالانسجام والتوافق مع المفهوم والحساسيّة.

وفي تقرير العلوم على أرضيّة التجربة تعمل قوى أو أجهزة الحسّ والفهم والعقل كتفًا إلى كتف، وتضع يدًا بيد وكأنّها جهاز واحدٌ يعمل في اتّجاه واحدٍ.

وما ينتج التمييز ويوجب افتراق منتجات الفهم عن منتجات العقل، ويفضي إلى تمايز هذه المنتجات عن المعطيات الحسيّة، ما يوجب ذلك كلّه هو أمور ثلاثة:

1 – الاستعلائيّة والاستقلال عن التجربة؛ بحيث لو حذفنا جميع صور الحساسية وموادّها تبقى منطلقًا للتفكّر واكتساب المعرفة.

2- الضرورة وهي الشيء الذي لا يمكن للحساسية أن تقرّره أو تولّده. والعقل كلّما ذهب في اتّجاه التجريب عثر على الحدّ الأقل من هذه الضرورة.

3- الكلّية وهي السمة التي تعقم التجربة عن إنتاجها. والعقل (بالمعنى العامّ) وحده يمكنه إنتاج الكليّة بنشاطه الذاتيّ وفعاليّته.

العقل المحض

العقل المحض، في فلسفة كانط، يقع في قمّة المعرفة البشريّة، ولا شيء في هذه الفلسفة أهمّ وأعلى شأنًا منه. وتعريفه يتّضح بالمقارنة بينه وبين الفهم، فقوّة الفهم هي القدرة على معرفة الأفاهيم والقواعد. وفي هذا المسار قوّة العقل هي القدرة على معرفة الأفكار والأصول.

يرى كانط أنّ التأمّل في صور الحكم كافٍ لاكتشاف مقولات الفهم. ولمعرفة كلّيات العقل يكفي التفكّر في صور الاستنتاج والتأمّل فيها.

وإنّنا نُعطى مضمون معرفتنا وعلمنا عن طريق الحدس، والصور المحضة للزمان والمكان تعطي هذا المحتوى شكله وكيفيّته. والمعطيات التي اشتغلت عليها الحساسية تقع تحت مظلّة كلّيات قوة الفهم بوصفها موضوعات لعمله واشتغاله. ومن هنا فإنّ الفهم يتعامل بلا وساطة مع موضوعات الحدس، أمّا العقل فإنّه ليس على هذا النحو وليس له أيّ صلة بهذه الموضوعات؛ وإنّما هو على صلة بمقولات الفهم نفسه.

موضوع عمل العقل هو المفاهيم والقواعد التي تنشأ من الفهم، ومن العمل على هذه المفاهيم تظهر أفكار العقل ومن العمل على القواعد تتحقّق مبادئ العقل وأصوله. والقياس المنطقيّ بكلّ صوره وأشكاله تجلٍّ من تجلّيات نشاط العقل المحض.

وهذا القياس يحصل من التركيب والتوحيد بين أحكام الفهم، والنظر في القياس يهدينا إلى مقولات العقل الأصلية التي هي عماد الاستنتاج.

بعبارة أخرى: إنّ الفهم هو القدرة على توحيد الظاهرات بوساطة القواعد. والعقل هو القدرة على توحيد قواعد الفهم تحت سقف المبادئ. ومن هنا، فإنّ العقل لا يعمل في ميدان التجربة دون وساطة ولا يتعاطى مع الموضوعات الحسية؛ وذلك لأنّها جميعًا موضوعات للفهم.

وقوّة الفهم تعمل على توحيد الحدوس المتنوّعة تحت سقف المفاهيم، وفي مرتبة أعلى يعمل على توحيد المفاهيم المختلفة تحت الأفكار.

إذًا في دورة المفاهيم والمبادئ ثمّة مساران طوليّان لقوّتين طوليّتين. وقبل هذا المستوى ثمة مستوى هو مستوى الحدس. ومتنوّع الحدس يصل إلى حالة الانتظام والوحدة في ظلّ الفهم، ومن هذا المسلك يحصل العلم.

وفي الفهم أيضًا ثمة تنوّعات يجب أن يُضفى عليها الوحدة والانسجام، وهذه التنوّعات والاختلافات تنال وحدتها بوساطة العقل القبليّ والاستعلائي.

وكلّ من الفهم والعقل استعلائيّ وذاتيّ وغير خاضع لتأثير الحواس، وبين الطرفين نوع من الاشتراك من حيث إنّ كلًّا منهما منطلَقٌ للتفكير والفهم. والفرق بينهما في الفلسفة الكانطية، هو أنّ الفهم محاصر بحدود ذاته وحدود التجريب، ويكتفي بالعمل على تنظيم التجربة وتمهيد الأرضية المناسبة لها، ولا تطلب مفاهيمه موضوعًا وراء الحواس، ولا تخترق قواعده أبواب الحدس.

أمّا العقل فإنّه جهاز مفارق وأفكاره لا يطابقها أيّ موضوع معطى في الحواس. ومبادئه تدعوها إلى وضع جميع حدود الحدس الممكن وراء ظهورنا وأن نخطو في فراغ محتمل يبلغ الغاية في الصعوبة والإشكال، ولا نُعطى منه عمقه إلا استنتاجات العقل التي يرى كانط أنّها وراء التجربة وخارج دائرتها وهي ذات طبيعة جدلية ومبتلاة بالتناقض.

يقول كانط في هذا المجال: على الرغم من أنّ العقل بطبعه مستقلٌّ عن التجربة، وهو في حدّ ذاته مفارقٌ؛ ولكن لما كان عالم ما وراء التجربة خلوًا من أيّ حدسٍ، فإنّه استعمال العقل وراء التجربة جدليٌّ على الدوام ومبتلًى بالتناقض.

وبناء على هذا التقويم الكانطي للاستدلال العقليّ فإنّه من الطبيعيّ أن يكون فاقدًا لأيّ قيمة علميّة. والاستعمال الصحيح للعقل هو فقط الاستعمال الاستعلائيّ بحيث يكون بمنزلة أساس للفهم، لا أن يكون بمنزلة وسيلة وجهاز للكشف عن الحقائق خارج حدود الفهم والحدس

أقسام مطلق العلم في فلسفة كانط

الآن وبعد عرض أبرز المواقف الكانطية التي تدخل في دائرة فلسفة العلم عند كانط، لا بدّ لنا من البحث في أقسام مطلق العلم؛ حتّى نتبيّن ماهية كلّ واحدٍ العلوم الأساسية ونفسّرها، في ظلّ تعرّفنا إلى هذه الأقسام.

ينقسم العلم بمعناه العامّ الذي يشمل أيّ شكل من أشكال الاتّصال بين القوى المدرِكة وبين المدرَكات إلى الأقسام الآتية:

1 – الإحساس الخام: وهو تأثّر الحساسية بالأشياء الخارجيّة. والنفس في هذه المرحلة تتأثّر بالأشياء الخارجيّة على نحوٍ حسّيٍّ انفعاليٍّ وتدركها دون معنًى.

2 – الإحساس المتصرّف فيه: وذلك أنّ المعطيات الحسية الخام تأخذ شكلها في الصور القبلية للزمان والمكان، وعن هذا الطريق تحصل على نوعٍ من الانضباط والنظام. وهذا الإحساس أيضًا ليس معرفة ولا تفكيرًا؛ ولكنّه يمهّد الأرضية اللازمة للعلم في مراتب أعلى.

3 – الحدس المحض: النفس الإنسانية مزوّدة قبليًّا بالحدس الحسيّ، وتعيّنات هذا الحدس هي الصور المكانية والزمانية للحساسية. والأبعاد المكانيّة والبعد الزمانيّ له تقرّر في النفس أكثر من أي إحساس آخر، وهو حدسها اللازم الذي لا ينفك عنها. والحدس، من جهة يمهّد المقدّمات اللازمة للمعرفة والتجربة ومن جهة أخرى هو الموضوع لاشتغال علم الرياضيات.

وبحسب هذه النظرة لا حدس غير الحدس الحسيّ، وذلك أنّ كانط يصرّح بنفي أيّ حدس معنويّ عند الذهن البشريّ. ولو أنّنا كنّا نتوفّر على حدس معنويّ لكانط تولد على أيدينا علومٌ أخرى، هي الآن بحسب كانط خلأٌ لا يُملأ إلا بنحو إشكاليٍّ (problematic) على حدّ تعبيره.

4 – الفهم: وهو منبع جميع الأفاهيم المحضة والقواعد القبليّة، وهذه الكلّيّات تجمع في وقت واحدٍ بين صفتين هما: الاستعلائية وعدم انطباقها على الخارج. ومعنى ذلك أنّ طبيعتها تسمح بالاستخدام في ميدان التجريب. واستعمال الفهم خارج نطاق التجريب هو تحميل صفة له ليست من طبيعته.

ولا تدعونا كلّيات الفهم إلى تجاهل حدود النقد ولا إلى وضع مقتضيات التجربة وراء ظهورنا، وذلك أنّ هذه الدعوة هي من خصائص كلّيات العقل، وكأنّها لا تتقرّر إلا بطريقة إشكالية.

والفهم هو منطلق الفكر الأول والعلم بمعناه المنطقي والاصطلاحيّ تظهر إرهاصاته الأولى من هذا المصدر. ومفردات الحدس المشتّتة تكتسب نظمها ووحدتها في مختبر الفهم، على الرغم من أنّ الوحدة والنظم الناشئين عن الفهم ليسا نهاية المطاف؛ بل إنّ الوصول إلى مقصد العلم وتحقّق قضاياه يتوقّف على طيّ مرحلة أخرى.

وتمام محتوى الحساسية يصير ذا معنًى على ضوء الفهم، كما أنّ الفهم لا يكتسب معناه ولا محتواه إلّا في حدود الحدس الحسيّ. فالفهم من دون حدس هو تفكير صرف وبانضمامه إليه تولد المعرفة. وسوف يأتي مزيد من التوضيح لهذه النقطة لاحقًا.

5- العقل المحض (العقل النظريّ المحض): على حدّ قول كانط لا شيء أفضل من العقل الإنسانيّ لإضفاء النظر على مادة الحدس وإدراجها تحت أفضل شكل من أشكال وحدة الفكر. والعقل، من جهة، كالفهم يعمل بطريقة صوريّة ومنطقيّة، ومن جهة أخرى له عملٌ واقعيٌّ من حيث إنّه منشأ ومصدرٌ للأفكار والمبادئ التي تنتسب إلى طبقة أعلى من طبقة الحسّ والفهم. ويكفي لاكتشاف كلّيات العقل البحث والتأمّل الصوريّ والمنطقيّ في الاستنتاجات.

والعقل من حيث هو بالطبع استعلائيّ يتضمّن بالذات أساس المعرفة التركيبية. والقضايا التحليلية التي تتوفّر في الفهم على تقرّر ذاتيٍّ هي في العقل أساس جميع القضايا التركيبيّة؛ ولكن ليس بمعنى أنّ القضايا التركيبية تُستخرج من القضايا التحليلية، بل بمعنى أنّ القضايا التحليلية هي معيارٌ ومحكٌّ سلبيٌّ لتفحّص التركيبيّات. وأمّا تقرّر القضايا التركيبية الأوّل فلا ينشأ إلى من صميم العقل المحض. والمعارف التركيبية غير الضروريّة تحصل إثر عمليّة استنتاج من التركيبيّات الأوّليّة.

والقضايا التركيبية الأوّلية هي مبادئ العقل المحض وأصوله. وهذه الأصول من حيث استقلالها عن التجربة قبليّة واستعلائيّة؛ ولأجل هذا تدعونا إلى اختراق حدود التجريب الممكن وجعله وراء ظهورنا، والاشتغال بما هو وراء الظواهر. وأفكار العقل أيضًا وفي عين أنّها استعلائيّة ومفارقة، هي غير ذات موضوعٍ في عالم التجربة.

وبحسب نظرة كانط ورؤيته نحن البشر ليس عندنا فوق الحس أيّ حدسٍ، ومن هنا فإنّ أفكار العقل ومبادئه تبقى معلّقة في فضاء إشكاليٍّ واحتماليٍّ، ولا يمكننا القبض على أجوبةٍ واضحةٍ لكثير من الأسئلة العقلية التي تطرح على أذهاننا، وليس ثمّة محكٌّ يمكن أن يكون فصل الخطاب وفيصلًا للحكم بين الاحتمالات المفترضة.

والعلم (بما هو حالة حاصلة في النفس) الحاصل من العقل على الرغم من كونه أرقى العلوم، وعلى الرغم من إضفائه حالة من النظم والانتظام على مجموع الحدوس الحسيّة والمفاهيم والقواعد؛ فإنّه وبسبب فقدانه الحدس بوصفه معياراً ومحكاً، تفكّر وليس معرفةً.

التفكّر والمعرفة في فلسفة كانط

ترى الفلسفة الكانطيّة أنّ المعرفة ذات بعدٍ تفكّريّ، تتوفّر على شيء من الحدس. وبناء على هذه الرؤية فإنّ جميع المفاهيم والقضايا المرتبطة بالحدس هي من سنخ المعرفة. والمعارف تنقسم إلى قسمين، هما: القسم القبليّ وهو مجموعة مفاهيم العقل والفهم وأصولهما ومبادئهما، يُضاف إليهما الحدس المحض. والقسم الثاني هو المعارف البعديّة وهي الظواهر الخام التي تُعرض علينا عن طريق الحساسية.

والظواهر الخام هي مادّة المعرفة والحدس وصورتهما الحسيّة. والظواهر المشكّلة (المشتغل عليها والمتصرَّف فيها) في قالب الحدس هي موضوعات المعرفة. ومفاهيم العقل والفهم وأصولهما هي الصورة المحتوائيّة والقانون الناظم للمعرفة.

ومسائل العلوم التجريبيّة كلّها من طائفة المعارف وقبيلها؛ وذلك لأنّها، من جهةٍ، تستند إلى مبادئ العقل وأسسه؛ ومن جهة أخرى يُعبّر عنها بوساطة قضايا موضوعها ومحمولها أتى إلى الحدس عن طريق الحواسّ وغلِّف بغلاف الحدس المحض للنفس.

أمّا المسائل المستقلّة عن التجربة تمامًا، فهذه لا يمكن أن تثار بوصفها كلّيات قبليّة، هذه المسائل ليست من سنخ المعرفة، وهي تنتسب إلى ساحة التفكّر المحض.

معرفة العلوم الأساسيّة على قاعدة تقسيم العلوم

والآن وبعد ما أجملنا عن نظرة كانط إلى العلم والمعرفة كما عرضه في فلسفته، صار ممكنًا الانتقال إلى مرحلة جديدة في تركيبة مقالتنا هذه، وهذ المرحلة هي مرحلة البحث عن الفرضيّة الكانطية في تقسيم العلوم والمعارف الأساسية، ليُفتح الباب بعد ذلك للنقد والتقويم.

ولعلّ من الواجب الإشارة إلى النكتة وهي أنّ في هذا الشرح سوف نغضّ الطرف عن مواقفه من العقل العمليّ، حيث إنّ مقصودنا في هذه العجالة هو البحث عن الأبعاد النظريّة المحضة في فرضيته التي هي محلّ بحثنا ونقاشنا. على أن يُترك البحث في العقل العمليّ إلى وقتٍ آخر.

يفيد النظر في أقسام العلم في فلسفة كانط إلى وجود أربعة جذور للعلم هي أربعة علوم أساسيّة، وكلّ واحد من هذه الجذور له فروع وأغصان تتفرّع منه، وهي ما يأتي:

1 – العلم الطبيعيّ التجريبيّ (= الفيزياء التجريبية بالمعنى العامّ): وهذا العلم الأساسيّ تقوم دعائمه على قاعدة الحساسيّة ومفاهيم العقل والفهم وقواعدهما. وجميع فروع هذا العلم تتمايز من جهات أخرى غير الجهة المشتركة وهي هذا الجذر الأساس المشار إليه آنفًا.

2 – العلم الطبيعيّ المحض (= الفيزياء المحضة): وهو العلم الذي يعالج القضايا الأساسيّة للطبيعة ولكن ذلك النوع من القضايا التي لا تُستمدّ من التجربة، وهذه القضايا تركيبيّة. ومن القضايا التي تُبحث في هذا العلم القضيّتان الآتيتان:

أوّلًا: في جميع تغيّرات العالم الجسميّ تبقى كميّات المادّة ثابتةً.

ثانيًا: في كلّ تواصلٍ للحركة يجب أن يظلّ الفعل وردّ الفعل واحدهما مساويًا للآخر.

وعلى الرغم من أنّ مسائل هذا العلم تركيبيّة ومستقلّة عن التجربة، تستند إلى مجموعة من المبادئ المقدّمة من المفاهيم والقواعد القبليّة الأخرى، وهذه المبادئ هي التي تعدّ مبادئ الفيزياء المحضة.

3 – الرياضيات المحضة: هذا العلم لم يأتِ من التجربة بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل إنّ دائرة التجربة لا تمتدّ إليه ولا تنسجم معه.

وقضايا علم الرياضيات عند كانط تركيبيّة وقبلية (متقدّمة على التجربة) وأساس الرياضيات المحضة هو الحدس المحض. والمستند الوحيد الذي ترتكز عليه قضايا الرياضيات هو الحدس لا غير.

والحدس المحض يضاف إلى توليده الرياضيات وتأسّسها عليه، فإنّ ثمّة علمًا آخر يستند إلى الحدس هو الإستطيقا الاستعلائية، وهو ما يرى كانط أنّه العلم الذي يدرس القواعد غير التجريبيّة للحساسية.

وهو يرى في الرياضيات أرقى ما توصّل إليه العقل في مجال إنتاج العلم، ويرى أنّ الرياضيّات علمٌ بعيدٌ غاية البعد عن الطابع الجدليّ. وسرّ هذا الخلاص من الجدل للرياضيات يكمن بحسب كانط في أمرين: أوّلهما: المفاهيم والمبادئ الترسندالية التي هي مبادئ مستقلّة عن التجربة، وهي التي تنظّم ميدان الحدس، وفي الوقت عينه تتوفّر على البداهة وتتّصف بالضرورة والكليّة.

ثانيهما: قيام هذا العلم وقضاياه على مفاهيم الحدس المحض الذي هو من جهة في غنًى عن التجربة، ومن جهة أخرى هو خلوٌ من سمة كونه إشكاليًّا وجدليًّا. وهو يرى على خلاف ما يراه كثيرون أنّ قضايا الرياضيّات تركيبية تأليفيّة ولو بدت للآخرين تحليليّة. وصفوة القول في هذا المجال أنّ قضايا الرياضيّات عند كانط تنبع من داخل الروح الإنسانيّة، ولأجل هذا هي مستقلّة عن التجربة وفي غنًى عنها.

وعلى الرغم من أنّ قضايا الرياضيات عند كانط يقينية ولا يدخل الشك إلى ساحتها، غير أنّها عنده ليست من سنخ المعارف؛ وذلك لأنّه يحصر المعرفة في التوافق بين المفاهيم والقواعد العقلية وبين معطيات الحساسية. وفي الرياضيات لا شغل لنا سوى مع الحدس المحض، ولا حاجة بنا إلى المعطيات الحسيّة التي تأتينا من الحواسّ.

وعلى ضوء ما تقدّم يُعلم أنّ كانط يضع الرياضيات المحضة في خانةٍ خاصّةٍ بها، ولا يعدّها تفكّرًا صرفًا ولا يجعلها معرفةً، بل يعدّها علمًا وسطًا بين الميتافيزيقا والعلوم التجريبيّة. وأقترح كلمة «العلم» بالمعنى المصدريّ الذي يشتقّ منه الفعل عَلِمَ. ومع ملاحظة هذا المصطلح المقترح يظهر أنّ العلوم عند كانط تنقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:

أ- التفكّر

ب- «العلم»

ج- المعرفة

التفكّر المحض دون الحدس والحساسية من خواصّ الميتافيزيقا. و»العلم» مع الحدس دون الحساسية من خواصّ الرياضيات المحضة. والمعرفة من نصيب العلوم التجريبية.

وثمّة نوع آخر من العلم ملحوظ في الفلسفة الكانطية يعدّ أساسًا لبعض العلوم. وهذا العلم هو الذي يشتغل على المفاهيم ومبادئ الفهم وصوره، وهو الذي ينتج منه المنطقان الصوريّ والاستعلائي. ولأجل التمييز بينه وبين غيره من العلوم التي لها السمات المشار إليها آنفًا، أرجّح كلمة «الوعي» للدلالة عليه.

4 – كانت الميتافيزيقا، بحسب كانط، تُسمّى لمدة طويلة ملكة العلوم. وأمّا في عصره فقد صارت غرضًا لكلّ طامعٍ يوجّه إليها سهام النقد ويعرّضها لهجماته، غافلين عن أنّ الخوض في هذه المسائل من اللوازم التي لا تنفك عن العقل الإنسانيّ، إذ إنّ أولئك الذين يفرّون منها تجدهم يقعون في أحضانها. وسبب ذلك، كما تقدّمت الإشارة مطلع هذه المقالة، أنّ الفلسفة المطلقة هي معنًى مساوٍ للتفكير عن طريق المفاهيم والمبادئ وعلى طبق الصور المنطقيّة.

وهكذا يبدو أنّ الحكم على الفلسفة المطلقة أو الميتافيزيقا بالبطلان بوساطة الدليل هو إثبات لها وعودة إلى أحضانها من حيث أراد المستدلّ أن يخرج من إطارها. وقد كان كانط يدرك هذه الحقيقة بوضوح، ولعلّه لأجل هذا لم يعمل على توضيح ضرورة الفلسفة وعدم إمكان نفيها.

وعلى الرغم من اعتقاده بعدم إمكان نفي الميتافيزيقا، فإنّه لم يصنّفها في خانة المعارف، ويرى أنّ النظام الفلسفيّ نظامٌ صوريٌّ خالٍ من الحدس والحساسية وخلوٌ من المحتوى الحسيّ. وهو يرى أنّ الميتافيزيقا ترتع في فراغٍ إشكاليٍّ من الحدوس والإحساسات، ولمّا كانت تفتقر إلى محكٍّ في إطار الحدس، ولمّا كانت كذلك عاجزةً عن الوصول إلى ذات المعقول، فإنّ قضاياها جدليّة على الدوام. وهو يرى أنّ الجدل هو السمة التي لا تنفكّ عن الميتافيزيقا، والخطأ هو الخاصيّة التي لا يمكن الفرار منها في معالجة المسائل الميتافيزيقية.

يقول كانط في هذا المجال ما حاصله: إنّ العقل يُساق إلى الميتافيزيقا بما جُبِل عليه من طبع. ولمّا كانت كلّ قضية من الميتافيزيقا المحضة قابلةً للإثبات والنفي في حدّ ذاتها، فلم يكن ثمّة مناصٌ من الفرار من ورطة الجدليّة ومراوحة النقاشات الميتافيزيقية مكانها، ومن الخيالات الباطلة السعي إلى التخلّص من هذا المأزق، وذلك أنّ أفكار العقل بما لها من خاصيّة إشكالية سوف تبقى على الدوام حائرة في دوّامة الخلأ وظلمة الفراغ. ولمّا كان الخطأ الناجم عن الطبيعة الجدلية لقضايا الميتافيزيقا مستندًا إلى طبيعة العقل ذاته، فلا مجال للخلاص منه، وأقصى ما يمكن فعله هو الاستفادة من هذه الطبيعة الجدلية واستخدامها أداة لنقد الميتافيزيقا والوصول بها إلى برّ الأمان وشاطئ العلم.

وكأنّ نظام الميتافيزيقا قائم على الفهم والعقل، وفي مجال هذين الأساسين وقبل الدخول في حلبة الفلسفية التي لا نهاية للصراع فيها، ثمّة علوم لها صلة بالوعي بالمعنى الذي أشرنا إليه آنفًا. وهذه العلوم هي:

1- المنطق الصوريّ

2- المنطق المفارق للفهم

3- المنطق المفارق للعقل.

ويشير كانط إلى المنطق الصوريّ وإلى المنطق المفارق للفهم بصراحة. والمنطق المفارق للعقل هو استكمال لمنطق الفهم غير أنّ مضمونه لم يحظ في فرضية كانط بالكثير من الاهتمام والشرح. وأفكار العقل ومبادئه وقضاياه لها في الفلسفة الكانطية خصائص أهمّها:

أ- قضايا العقل ومبادئه تركيبية كما قضايا سائر العلوم.

ب- المفارقة والاستقلال عن التحربة: وهذه الخصيصة متوفّرة في الأفكار وفي المبادئ كما في القضايا.

ج- الاستعلائية (transcendent): والمقصود من هذا الخصيصة في فلسفة كانط أنّ طبيعة الأفكار والقضايا تقتضي تجاوز حدود التجريب الممكن، وهي عصية على الاستخدام التجريبيّ.

د- الخلوّ من الحدس: وذلك أنّ كانط أقام فلسفته على فرضية عدم توفّرنا على الحدس المعنويّ، وما نتوفّر عليه ونحوزه هو الحدس الحسيّ المرتبط بعالم التجريب الممكن، وهذا النوع من الحدس لا يخدم الميتافيزيقا، ومن هنا كان هذا الفقدان خللًا وعدّه فراغًا في منظومة التفكير الميتافيزيقيّ، ولأجل هذا أيضًا يرى كانط أنّ ميدان الفلسفة أشبه بحلبة صراعٍ لا ينتهي.

هـ- الإشكال (problematic): وذلك أنّ أفكار العقل أسمى وأعلى من أيّ موضوع حسيّ وتجريبيّ، وكل الأبواب والنوافذ التي يمكن أن يُعطى العقل من خلالها هذه الأفكار مسدودة. وأقصى ما نقدر عليه هو العثور على مفهوم احتماليّ عن موضوع تنطبق عليه هذه الفكرة أو تلك من أفكار العقل. ولا يسعنا الوصول إلى علمٍ في هذا المجال.

والمفروض الإشكاليّ بعنوان كونه فكرةً لا يشتمل على أيّ تناقضٍ، وإلا لو كان يشتمل على التناقض فلن يكون محتملًا، وأمّا بعنوان كونه قضية فإنّه يمكن أن يكون جدليًّا ومنشأً للتناقض.

و- الجدلية (dialectical): والقضايا الاستعلائيّة أي قضايا العقل المحض هي جدليّة بطبيعتها، عندما يُنظر إليها بما هي قضيّة عقليّة في مجال المقولات. وكونها جدليّة ليس أمرًا طارئًا عليها بل هو جزءٌ من طبيعتها. وسمة الجدلية هذه شاملةٌ عامّةٌ تطبع بلونها القضايا التي نتوصّل إليها في معرفة العالم المحيط بها، وتفضي في كثير من الأحيان إلى إثبات القضيّة وطباقها. وأمّا في مجال الميتافيزيقا فالأمر أكثر تعقيدًا، والمشكلة ليست في القضايا أو في التقصير الشخصيّ؛ بل هي في طبيعة العقل نفسه.

يقول كانط في هذا المجال: إنّ المبادئ الإرشاديّة عندما يجري إحلالها محلّ المبادئ البنائيّة، وعندما تُستخدم كما لو أنّها موضوعيّة عندها يظهر التناقض، بينما لو جرى التعامل معها من حيث إنّها قواعد يُراد منها غايتها التنظيمية وإضفاؤها الوحدة على المعطيات العقلية، في هذه الحالة لا يبقى أيّ محلٍّ للتناقض.

وهذا الحكم الكانطيّ ينطبق على الأفكار أيضًا؛ وذلك لأنّه لو تعاملنا معها من الزاوية المذكورة أعلاه، فلا تطلّ مشكلة التناقض برأسها. وإنّما تظهر مشكلة التناقض عندما يُنظر إلى الأفكار على أنّها حقائق واقعيّة وباصطلاح الفلسفة الإسلامية قضايا نفس أمريّة.

وهكذا يظهر أنّ نتيجة الفلسفة الكانطيّة هي تدمير الميتافيزيقا في ميدان الأفكار والمبادئ الاستعلائيّة. ولكنّ كانط لا يسدّ باب الميتافيزيقا بالكامل وإنّما يبقي الباب مواربًا لها، وهو يصرّح بأنّها خيارُ ضرورة لا يمكن التخلّص منه. ومن جهة أخرى يعمل على إصلاح الموقف منها في نقده العقل العمليّ وبناء بعض القضايا التي تهتمّ بها الميتافيزيقا على مبادئ هذا العقل.

وتقويم ما فعله كانط والحكم عليه بالنجاح أو الفشل، وخاصّة تقويم مستوى الانسجام بين النتائج التي توصّل إليها وبين قواعد العقل ومبادئه، هو أمرٌ يستحقّ مزيدًا من الجهد نطوي عنه كشحًا في هذه المقالة، ونتركه إلى محلٍّ آخر.

نقد فرضيّة كانط في معرفة العلوم

وبعد هذا العرض المطوّل نسبيًّا للإطار العامّ لفرضيّات كانط والمبادئ التي تعدّ خلفيّة فلسفيّة لموقفه من معرفة العلوم، يمكن لنا الدخول إلى نقد نظرته إلى العلوم والمعرفة العلميّة، على الرغم من أنّنا لم نشرح جميع المبادئ والأفكار ذات الصلة، وعلى الرغم من إجمالنا في عرض بعض ما عرضناه. وسوف نطرح انتقاداتنا على شكل عنوانات مفهرسة على أمل أن نكمل الموقف من نقد العقل المحض الكانطيّ في مناسبة أخرى.

وهذا النقد يقع في سياق انتقادات أخرى للنظريّات الأساسية في الميتافيزيقا وفلسفة العلوم. وإنّني أستند في نقدي هذا إلى مجموعة من الأفكار التي أتبنّاها في مجال الفلسفة والعلم. وبناء على هذه النظريّات والرؤى عملت على التعامل مع النظريّات الأساسيّة في الفلسفة والعلم بأدوات نقديّة ووضعها في مسار التغيير وإعادة البناء من النوع الاكتشافيّ المحض؛ لتحقيق مجموعة من الأهداف هي:

أوّلًا: خلخلة الجزميّات غير المسوّغة وتضعيفها، الأمر الذي يفضي إلى خروجها من دائرة العلم بالتدريج.

ثانيًا: لدعم المنهج الاكتشافيّ وتزويده بطاقة جديدة ليخدم البحث العلميّ أكثر.

ثالثًا: إنّ تقديم فرضيّات أو نظريّات جديدة يؤدّي إلى ولادة منظومات وأجهزة نظريّة جديدة تنفع البحث العلميّ في مجال الميتافيزيقا والعلوم.

رابعًا: مواجهة علل التشكيكات المتفرّقة في واقعيّة جهاز العقل ونفس أمريّته. هذه التشكيكات التي أضرّت كثيرًا بالعلم، وأعاقت في مراحل تاريخيّة متعدّدة حركته وربّما أدّت في بعض الأوقات إلى توقّفه عن الحركة والتطوّر تمامًا. وخاصّة أنّ هذه التشكيكات لم تبقَ بعيدة عن ميدان القيم والأخلاق.

وقد حاول كانط حماية الأخلاق من خلال الدفاع عن استقلالها عن العلم النظريّ لتبقى في مأمنٍ من تزلزل الميتافيزيقا وغيرها من البنى العلمية. وإنّه جهده في هذا المجال يستحقّ التقدير؛ وذلك لأنّ الهجمات التي تعرّضت لها ساحة القيم الأخلاقيّة خلال عصر النهضة وبعده، لم تكن لتفشل لولا هذا السدّ المنيع الذي بناه كانط، وحال دون سقوط حصون الأخلاق في أيدي الغزاة الذين كانوا يودّون السيطرة على جميع هذه القلاع واحدة بعد أخرى.

ولسنا ندّعي أنّ كانط هو الوحيد في هذا الميدان، فقبله ثمّة فلاسفة ومفكّرون عملوا على حماية حدود الأخلاق وصون مبادئها، ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى سبينوزا الهولندي بوصفه واحداً من أعظم من تصدّوا للدفاع عن الأخلاق بعد عصر النهضة. وما زال كتابه عن الأخلاق الذي دوّنه على طريقة البرهان الهندسيّ، يشعّ كماسةٍ على جبين العلم والقيم. وعلى الرغم من ولادة سبينوزا في الغرب وعيشه فيه، فإنّ بينه وبين فلاسفة الشرق شبهاً كبيراً، وهذا الشبه يسمح بالمقارنة بينه وبين نصير الدين الطوسي وشيخ الإشراق السهروردي وملا صدرا الشيرازيّ.

وها نحن ندلف إلى تقويم الفرضيّة ونقدها، نقدّم إلى القارئ الكريم مجموعة من النقاط نعرضها على النحو الآتي:

1 – إنّ محاولة كانط شرح العقل المحض وتبيينه إيّاه هي مجرّد مصادرة وفرضيّة، تؤدّي إلى تحوّل البحث في الطبيعة إلى مسار ذاتيٍّ (subjective)، وذلك على الرغم من إصرار كانط على إمكان الخروج من دائرة الذاتيّة إلى فضاء الموضوعيّة، غير أنّ موضوعيّة كانط ليست سوى ظلٍّ لشاخص ذاتيّته.

2 – إنّ منظومة المقولات والقواعد قُدّمت في الرؤية الكانطيّة بوصفها منظومة منظِّمة، مع أنّ هذه المنظومة ذات طبيعة كشفيّة وبنّاءة، أو على الأقلّ ينبغي أن تكون كذلك، وإلا فسوف تولد تناقضات تؤدّي إلى نفي المبادئ القبليّة للفهم، أو إلى نفي السمة التنظيمية عن تلك المنظومة الكانطيّة.

3 – يتطابق جهاز الفهم مع الظواهر، ومن هذا التطابق تأتي قوانين العلوم التجريبيّة. ولكنّ الكليّة والضرورة اللتان هما من خواصّ العلوم العقليّة لا تدخلان إلى ميدان التجريب بطريقة منطقيّة؛ وذلك لأنّ العلاقات في هذا الميدان لا تتأسّس على المنطق والعقل المحض، بل تتأسّس وتُكتشف بمساعدة الحدس التجريب وتدخّل الجهاز العقليّ وتوسّط منظومة أخرى من المبادئ والقواعد.

وأمّا كيف يدخل قانون معدّل معمّمٌ يتضمّن الحكم بالضرورة إلى ميدان التجريب ليتحوّل إلى جزءٍ منه فهذا أمرٌ له قصّة طويلةٌ في الفلسفة. وللفلاسفة في الغرب والشرق من مسلمين وغير مسلمين أنظار وآراء متنوّعة، وبعد عصر النهضة في أوروبا أثيرت أفكارٌ جديدةٌ. ويُعدّ ديفيد هيوم مؤسّسًا لمرحلة جديدة في هذا المسار، وقد كان لفلسفته التشكيكية أثرٌ عميق على الفلسفة كلّها وخاصّة على المباحث المرتبطة بهذا المسألة على وجه التحديد. وقد قدّم كانط بعض آرائه بالاستناد إلى فلسفته النقديّة وكان له سهمٌ في هذه المعركة الفلسفيّة. وبعده بُذِلت مساعٍ كثيرة تهدف إلى كشف سرّ التجربة وتقنين النتائج الناجمة عنها.

وبإذن الله تعالى سوف نشتغل على تفسير النظريّات التي قُدّمت بعد كانط ونقدها؛ ليعدّ هذا النقد وذاك التفسير الأرضيّة اللازمة لتقديم نظريّة مقابلة في تفسير كيفية استنتاج القوانين والقواعد العلمية في العلوم التجريبيّة. وهذه النظرية الجديدة إضافة إلى أنّها تبتني على نقد النظريّات السابقة، فإنّها تعتمد على جهاز مفاهيمي ومجموعة من المبادئ، تعرّضنا لبعضها بالشرح والتبيين وبعضها سوف نتعرّض له بعد بيان الفرضيّات الأساسية في معرفة العلوم.

4 – إنّ أفكار العقل يمكن أن تكون يقينيّة وغير إشكاليّة؛ حتّى لو كانت خالية من الحدس والمعرفة الحدسية.

5 – وجهة نظر كانط التي حاصلها أنّه ليس عندنا حدسٌ معنويٌّ أو حدسٌ غير حسيٍّ، هي مجرّد فرضية ومصادرة لم تثبت، ولم يقدّم لنا كانط ما يبرهن صدقها. وهذا الحكم على وجهة النظر هذه لا يغفِل بعض التأييدات التي أثارها كانط من دون كثيرٍ من العناية والاهتمام، وعلى أيّ حال ربّما نعود إلى هذه النقطة لاحقًا من هذه المقالة أو في محلٍّ آخر.

6 – الجدلية ليست سمة لازمة للميتافيزيقا، وفكرة التمايز بين الشيء كما يبدو لنا والشيء في حدّ ذاته في مجال معرفة العالم، ليست ناشئة من العقل النظريّ المحض، حتّى يقال إنّ مكمن الخطأ هو في أعماق العقل النظريّ، ومن ثمّ من العبث بذل الجهد في سبيل الخلاص منه. وإنّ الجدلة سمةٌ عارضةٌ على الميتافيزيقا نتيجة أسباب وعللٍ محدّدة، متى رفعنا هذه العلل ترتفع هذه السمة وتزول.

وبناء على رؤيتنا التي توصّلنا إليها في تبيين الجهاز المعرفي القبلي للعلوم، تبيّن لنا أنّ عروض الحالة الجدلية والأخطاء في العلوم هي معلول لثلاث عللٍ بينها على نحو مانعة الخلوّ. أي إنّ أيّ خطأ أو حالةٍ جدليّة يمكن ردّها إلى واحدٍ من هذه الأسباب الثلاثة التي لا رابع لها. وهذه العلل هي:

أ- اختلال الصورة المنطقيّة للبرهان.

ب- عدم التطابق بين موادّ الدليل أو مقدّماته وبين الواقع؛ فحتّى لو كانت الصورة المنطقيّة للبرهان صحيحةً، فإنّ عدم التطابق هذا كافٍ في حصول الخطأ في المعرفة أو توليد نتيجة جدليّة.

وهاتان العلّتان نالتا حظّهما الكافي من الشرح والتفصيل في كتب المنطق والميتافيزيقا، وكانتا ملحوظتين على الدوام.

ج- فقدان المفاهيم والمبادئ الكافية، وهذه العلّة وحدها كافيةٌ لحصول الخطأ في العلوم، كما تكفي لإضفاء السمة الجدلية على العلوم. حتّى لو ارتفع السببان الأوّلان المذكوران أعلاه، وكانت صورة الدليل موافقة قواعدَ المنطق، وكانت المقدّمات والموادّ مطابقة للواقع، فإنّ العقل قد يقع في خطأ الاستنتاج من دون أن يلتفت عندما لا تتوفّر المفاهيم الكافية.

وإنّ أكثر الموارد التي استعرضها كانط وذكرها كأمثلة للتناقض في قضايا العقل النظريّ، مبتلاةٌ بالغفلة عن هذا البعد وهو عدم كفاية المفاهيم؛ ولأجل عدم توفّر تلك المفاهيم في منظومته الفلسفية وقع في الخطأ في تقدير الموقف من العقل وحكم عليه بأنّه عقلٌ جدليٌّ.

وهذه النظريّة الأخيرة (انعدام المفاهيم والمبادئ الكافية) هي من أكثر الأسباب تأثيرًا في بنية العلوم، وقد ظهر لي ذلك خلال الاصطكاك بين الفروض والفرضيّات. وميدان جولان هذه النظريّة يمتدّ على ساحة العلوم كلّها وليس علمٌ من العلوم بمنأًى عن تأثيرها، ويظهر عمق تأثيرها حين تستخدم أو تطبّق على أجهزة علمية متنوّعة. مثلًا حين نطبّق هذه النظرية على الميتافيزيقا فإنّ مشكلة الجدلية تنحلّ، وهي مشكلة أخذت بتلابيب الفلسفة مدّة طويلةً من الزمان، أمّا إذا التفتنا إلى هذا الخلل وزوّدنا الفلسفة بالمفاهيم اللازمة.

7 – يقدّم كانط الفهم والعقل بوصفهما أدوات صوريّة، لإضفاء النظم على المعارف والعلوم، وأمّا هما في حدّ ذاتهما فخاليان من المضمون والمحتوى، ولا يتوفّران على المضمون إلا عندما تتدخّل الحساسية والحدس وتقدّم لهما الأجوبة والمصاديق والقواعد والمفاهيم.

إنّ كانط بهذا الموقف وضع على عين (نبع) العلم والمعرفة حجرًا كبيرًا سدّ به فوهتها، وترك زرع الفلسفي والمعرفيّ في صحراء جافّة حارقة. ولم يستطع تخليص نفسه من هذه الورطة على الرغم من الجهود التي بذلها، ولم تجْدِه الاستعانة بالعقل العمليّ والضمير الأخلاقيّ سوى التخفيف من سورة العطش في صحراء الشكّ التي ألقى نفسه فيها. ولم يكن حظّه من ذلك سوى جرعةٍ من اليقين تخفف حدّة عطش الشكّ، ونسمةٍ تبرّد حرارة روحه التي أثقلها الشكّ.

فالعقل فيه بعدٌ تنظيميٌّ وهذا لا شكّ فيه، ولكن ليس هذا البعد هو كلّ حقيقته ولا تمام ماهيّته. ففي العقل بعدٌ آخر سواء كان ذلك في مرحلة الفهم أو في مرحلة العقل، وهذا البعد هو بعد البناء والمطابقة مع الواقع ونفس الأمر وذلك في عددٍ كبيرٍ من قضاياه ومفاهيمه ومبادئه. وإذا لم يُقبل هذا الكلام على أنه حقيقة ثابتة بالوجدان أو البرهان فليُتعامل معها بوصفه فرضيّة تعادل فرضيّة كانط ودعوًى تقابل دعواه.

هذا إذا تجاوزنا أنّ فكرة نفس أمريّة جهاز العقل والفهم من الأفكار الأساسية التي يمكن إثباتها بالبرهان وهي تتمتّع بالمستندات المنطقيّة والرياضية الكافية لإثباتها، إضافة إلى إمكان إثباتها على الطريقة الكانطيّة أيضًا.

8 – إنّ تقييد مفاهيم الفهم والعقل ومبادئهما بميدان التجريب، يساوي من الناحية المنطقية اشتراطهما بالخضوع لمحكّ التجربة والتجريب. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّهما يفقدان قبليّتهما واستقلالهما عن التجربة، وعندها على كلّ قضيّة من قضاياهما الخضوع للعرض على محكّ التجريب. وبعبارة أخرى تقييد الفهم والعقل بالتجربة من جهة، والحكم عليهما وعلى مفاهيمهما ومبادئهما بالاستقلال عن التجربة، تناقضٌ بيّنٌ، وهذا تناقضٌ وقعت فيه الفلسفة الكانطية عن غير قصدٍ وعن قصد أيضًا.

والاحتمال الأخير (تعمّد التناقض) يستند إلى أنّها فلسفة تصرّ على حفظ فروضها ومصادراتها، على الرغم من الوصول إلى التناقض المذكور، كأن تصرّ على المبادئ التي انطلقت منها حتّى لو أفضى بها ذلك إلى التناقض.

9 – لم يقدّم كانط تفسيرًا أو تبيينًا كافيًا وخاليًا من الإبهام لتطبيق مفاهيم العقل وقواعده في مجال التجربة، وإنّما اكتفى بتوضيح أنّ مبادئ العلوم الطبيعيّة مفارقةٌ. وكان على كانط أن يفسّر لنا ويجيب عن هذا السؤال وهو: لماذا وكيف يمكن لواقعتين تجريبيتين هما «(أ) و(ب)» أن تتوحّدا تحت مقولة العليّة وقانونها، ويولد في ظلّ هذه الوحدة قانونٌ علميٌّ؟ على الرغم من أنّ قانون الترابط العليّ بين واقعتين لم يخضع للتجريب؛ بل لا يمكن أن يخضع له؟ وإنّ توضيح هذه النقطة قاعدةٌ أساس في تعريف العلم الطبيعيّ، وعلى أساس هذا التوضيح تتمايز الميتافيزيقا.

ونحن نفترض صحّة نظريّة كانط التي تقوم على أنّ قانون العليّة هو قانون قبليٌّ، ونفترض كذلك أنّ فرضيّته في باب الحدس والحساسية مناسبةٌ ومقبولة أو صحيحة.

وكذلك نفترض من باب التسليم أنّ الفكر بنشاطه الذاتيّ يعمل على تطبيق المقولات والمبادئ على ميدان التجريب، وإضافة إلى هذا كلّه يستفاد من الحدس لتعيين العلّة والمعلول؛ ولكن مع كل هذه الفروض ومع كل هذا التسليم نبقى محتاجين إلى فروض أخرى لتعيين «(أ) و(ب)» بوصفهما علّةً ومعلولًا.

فمجموع هذه الفروض يعمل عمل الوسيط، ويطبّق قانون العلية على التجربة، من دون أن يكون بين أيدينا وسيط صالح للانتقال من الفكر إلى التجربة، ومن دون هذا الوسيط لا يولد أيّ قانون علميٍّ، ولا يمكن مواجهة شكّاكية هيوم إلا بوسيط يسمح بالانتقال من الفكر إلى الواقع التجريبيّ.

ولم يولِ كانط هذه المسألة العناية الكافية التي توضّح الربط بين التجربة والفكر، وإنّما اكتفى بالوقوف عند بعض العناصر ذات الصلة وبيّنها. وعلى الرغم من ولعه بالفرار من الجزمية والدوغمائية ومحاولته بناء على العلم الطبيعيّ على قواعد مختلفة اشتقّها من آرائه وأفكاره الفلسفية، لكنه في نهاية المطاف انتهى إلى جزمية الفيزياء النيوتنية – الكانطية وسمتها، فهي ليست بأقلّ من الجزمية التي أخذها على فيزياء أرسطو.

10 – حاول كانط وضع حدود لا مجال لاختراقها بين الميتافيزيقا وبين العلوم، وأقام هذه الحدود على تمايز جوهريّ بين الأمرين أدّت في نظره إلى أنّه لو عصفت عواصف التشكيك بل الإبطال بالميتافيزيقا فإنّ العلوم تبقى في مأمنٍ من ذلك، وتبقى تتابع مسارها التجريبيّ آمنةً مطمئنّة.

هذا ولكنّ نقد جهاز العقل والتحقيق فيه لا يسمح برسم هذه الحدود غير القابلة للاختراق بين الطرفين، ولا يرضى العقل برسم حدود فاصلة إلى هذه الدرجة بين الميتافيزيقا وبين سائر العلوم.

وعلى ضوء هذا، لا يمكن حذف الميتافيزيقا أو الإضرار بها، من دون حذف سائر العلوم أو الإضرار بها. وكلّ تشكيك يعصف بالعلم ما بعد الطبيعيّ تنعكس أصداؤه في أودية العلوم كلّها؛ بل إنّ إبطال الميتافيزيقا وحذفها يؤدّي إلى إبطال سائر العلوم وحذفها من صفحة العقل.

الميتافيزيقا ليست فيزياء ولا أيّ علمٍ تجريبيٍّ آخر، أما الفيزياء أو غيرها من العلوم فهي ميتافيزيقا بشكلٍ أو بآخر وهي علومٌ نمت ونبتت براعمها في الميتافيزيقا. وقد يبدو هذا الكلام غريبًا للوهلة الأولى؛ غير أنّ معرفة العقل وكيفية اشتغاله على نحو ما مرّ باختصار وعلى نحو ما سنفعله في محلٍّ آخر إن شاء الله يبرّر هذا الموقف ويجعله مأنوسًا.

ولسنا نرمي إلى التوحيد بين العلوم والفلسفة، ولا نسبة العلوم إلى الفلسفة، ولا نفي التمايز بينها وبين الفلسفة؛ بل ما نرمي إليه هو نفي وجود الخطّ الفاصل بشكلٍ نهائيٍّ بين الطرفين. فالعلوم لا يمكن فصلها بالكامل عن الفلسفة، ومهما كان الفاصل فلا بدّ من بقاء بوابة عبور وجسور تواصلٍ بين الضفّتين.

________________________________

* عن مجلة الاستغراب-العدد التاسع- السنة الثالثة- 1439هـ – خريف 2017.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى