أبعاد ومحدِّدات الرؤية الاستشراقيَّة في دراسة التراث والتاريخ الإسلامي
أ.د. طالب جاسم العنزي
أبعاد ومحدِّدات الرؤية الاستشراقيَّة في دراسة التراث والتاريخ الإسلامي
أ.د. طالب جاسم العنزي
توطئة:
إن معالجتنا لتحليل أبعاد ومحددات الرؤية الاستشراقية، في حقل الدراسات التاريخية، غايته الاساسية – في هذا البحث – هو الوصول لتحديد المباني الفكرية والاسس المنهجية التي قامت عليها هذه الرؤية وتشكلت ابعادها من جهة، ومعرفة اثارها وانعكاساتها في طبيعة النتائج البحثية التي انتهى اليها المستشرقون في معالجتهم لقضايا وإشكاليات التاريخ الاسلامي من جهة أخرى، أي اننا نذهب في هذا البحث الى التأكيد على ان طبيعة المعرفة والكتابة التاريخية عند المستشرقين بقيت في معظم مراحلها غير منفصلة بأبعادها، عن المرتكزات والمحددات النظرية التي رافقت عملية تشكيل رؤيتهم لقضايا التاريخ الإسلامي وأبعاده.
وفي ضوء هذه المعطيات -التي أشرنا إليها- ستكون زاوية نظرنا في تحديد أبعاد الرؤية الاستشراقية، تستند الى التوقف عند محورين أساسيين شكَّلا بتداخلهما البنية المهيمنة لخطاب الاستشراق بشكل عام، ولاسيما في مراحله وبداياته الكلاسيكية الأولى في فترة القرن التاسع عشر، والتي أثرت بالنتيجة في صياغة الرؤية الاستشراقية، التي تمظهرت أبعادها لاحقاً، ليس في نتاج المستشرقين وإسهاماتهم في حقل دراسة التاريخ الإسلامي في هذه الفترة، بل بقيت أبعادها ومحدداتها ثاوية في كثير من الكتابات الاستشراقية خصوصاً في بدايات القرن العشرين.
وهذان المحوران اللذان شكَّلا الأساس الموضوعي الذي تأسست عن طريقه الرؤية الاستشراقية في دراسة التاريخ والتراث الإسلامي … سنحاول في ما سيأتي التعرف على أبعادهما وخصائصهما المنهجية العامة، وكيف أسهما في صياغة تلك الرؤية الاستشراقية وتشكيل مضمونها .
لكننا بداية سنقوم بتوضيح دلالات المفاهيم ـ التي سترد في هذا البحث ـ والتي هي في المجمل العام تعتبر أدوات إجرائية كاشفة، ليس لتحديد طبيعة تلك الرؤية الاستشراقية وأسسها ومنطلقاتها النظرية وغاياتها فقط، بل لان ما نتوصل إليه من معطيات ومضامين من خلال تلك المفاهيم، سوف تنعكس أثاره على زاوية تناولنا للموضوع المدروس، وهو محاولة الكشف عن أهم أبعاد ومحددات الرؤية الاستشراقية، والتي تجلت آثارها في طبيعة الأحكام والنتائج التي توصل إليها المستشرقون في مجال دراستهم للتراث والتاريخ الإسلامي … وعلى هذا الأساس سنقوم ابتداءً بالتعريف بأهم تلك المفاهيم التي سيرد استخدامها وتوظيفها في هذا البحث.
أولاً: الاستشراق، الرؤية، المركزية “حدود المفهوم ودلالته ونزيحاته”:
تعني كلمة مستشرِق بالاصطلاح اللغوي، والتي هي بالأساس اسم فاعل متأتية من الجذر “شرق” أولئك الذين يدرسون الشرق أو المشرق ويتطلعون إليه، أو الذين يميلون إلى الشرقيين/المشرقيين، فكلمتا “مشرق” و “مشرقيون” تنحيان لأن تكون لهما دلالة معنوية أكثر نوعاً من كلمتي “الشرق” و “الشرقيين”، ومن ثم فإن كلمة “مستشرقون” تحمل معنى أوسع مما يحمله المصطلح الغربي الحالي “أورينتاليستس” أي: العلماء المتخصصون بالدراسات الشرقية، أما من ناحية المصطلح فقد استعمل مصطلح “المشرق” بالأنكليزية لأول مرة 1779م، وبالفرنسية في سنة 1799م، وفيما بعد أصبح مصطلح “الاستشراق” “أورينتالزم” المعنى الأوسع لـ”التوجه نحو الثقافة الشرقية”([1]).
أما بالنسبة للدلالات التي يحملها الاستشراق بوصفه مجالاً لدراسة المشرق من ناحية الأبعاد المكانية التي يغطيها، فحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان مصطلح “المشرق” يمثل الشرق الأدنى تحديداً، ولكنه كان يشمل ما تبقى من الدولة العثمانية، وبطريقة التعبير الفرنسية شمال أفريقيا أيضاً، وكان الشرق “القديم” يمثل الشرق الأدنى حتى انتشار المسيحية في المنطقة، التي دخلت عصر الشرق “المسيحي” ثم عصر الشرق “المسلم” إذ اعتنقت المنطقة الإسلام، وخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، توسع نطاق مفهوم “المشرق” ليشمل آسيا كلها، محتفظاً بمعنى الثقافات المجهولة -إلى حد بعيد-، التي تتحدى الرجل الغربي لاستكشافها، وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، كان الاستشراق يدل بمعناه الأوسع، على اتجاه ثقافي محدد في أوربا وأمريكا الشمالية وبمعناه الضيق كان يعني دراسات شرقية تجريبية([2]).
ويذهب المستشرق الإيطالي فرانشيسكو كبرييلي([3]) إلى أن مصطلح الاستشراق لم يعد مناسباً إطلاقه وصفاً لدراسة الشرق، ذلك لأن الاستشراق برأيه قد شهد فضلاً عن التطور الداخلي المرتبط بتطور الفكر التاريخي والفلسفي والديني للغرب- تطوراً خارجياً ناتجاً عن نموه الخاص بالذات، إذ شهد تنوعاً اختلافياً وتعميقاً لخطه الذي انتهجه، وقد عُدَّ في البداية عِلْماً واحداً متكاملاً ثم سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصصات مستقلة بعضها عن بعض، ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الأفريقي_الآسيوي، وهكذا شهدنا ظهور الاستشراق الصيني والهندي والدراسات الإيرانية والتركية والعالم السامي والإسلاميات والدراسات المصرية القديمة ودراسات أفريقيا وبقية التجمعات المناسبة أو المتعلقة بتقسيمات محددة تماماً من النواحي اللغوية والتاريخية والعرقية للحضارات، كل هذه التخصصات راحت تحل محل التسمية العامة والمشتركة للاستشراق، وأصبحت هذه التسمية القاسم المشترك بينها، أو اللحمة المشتركة لها([4]).
أما بالنسبة لاستخدامنا لمفهوم الرؤية الاستشراقية، فنعني به تحديداً مجموع الاسهامات والنتاج الفكري والتاريخي الممنهج والمدروس من قبل مستشرقين في حقل دراستهم للتاريخ والتراث الإسلامي بشكل عام، والذي يعكس في نتائجه وغاياته طبيعة معرفتهم وزاوية نظرهم لهذا التاريخ، ما يعني أَن الرؤية الاستشراقية هنا لا تنفصل عن مناهج المستشرقين المستخدمة في دراستهم للتاريخ الإسلامي، لأن كل منهج يصدر عن رؤية ولابد -إما صراحة أو ضمناً- من الوعي بأبعاد الرؤية، فهو شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالاً سليماً مثمراً، فالرؤية تؤطر المنهج، وتحدد له أفقه وأبعاده، والمنهج يغني الرؤية ويصححها([5]).
أما المركزية الغربية فهي نسق يحيل إلى مجموعة الأفكار والتصورات أو القناعات التي أصبحت بمثابة ثوابت أسهمت في تشكيل العقل الغربي وتحديد نظرته تجاه الآخر، وهي من حيث أسسها ومنطلقاتها تعتمد على مجموعة من المبادئ أو الأصول التي تم الاتفاق عليها في المجال التاريخي لهذا العقل، ولاسيما في فترة القرن التاسع عشر – وهي الفترة التي تبلورت فيها توجهات الاستشراق بشكل منظم ومدروس- منها ما يتعلق بالإعلاء من قيمة العقل الغربي، والتأكيد على أن النزعة العقلية في التفكير هي من حيث الولادة والتأسيس تعود في أصولها التاريخية إلى بدايات تشكل الحضارة الغربية نفسها، ولاسيما في المرحلة الإِغريقية، وكذلك تستقي المركزية الغربية أبعادها من أصل آخر يقوم على أفضلية العرق، إذ تم اعتبار الجنس الآري هو المؤهل الوحيد من حيث درجة النضوج والارتقاء والانتخاب الطبيعي، بوصفه جنساً له من المواصفات والخصائص ما يجعله أعلى مرتبة في سلّم التطور البشري من الجنس السامي.
إن إشكالية مفهوم المركزية الغربية تتجلى من أنه تقصّد أن يؤسس وجهة نظر حول “الغرب” بناءً على إعادة إنتاج مكونات تاريخية، توافق رؤيته، عاداً إياها جذوراً خاصة به، ومستحوذاً في الوقت نفسه على الاشعاعات الحضارية القديمة كلها، وقاطعاً أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها، إلى ذلك تقصّد ذلك المفهوم أن يمارس اقصاءً لكل ما هو ليس غربياً، دافعاً به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح “الغرب” مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يُجهّز بما يحتاج إليه([6]).
ثانياً: المركزية الغربية وأثرها في مجال الدراسات الإسلامية عند المستشرقين:
إن المركزية الغربية كنزعة ظهرت في فترة كان الغرب يمارس فيها فعلين متداخلين، يشكلان جوهر هويته الذاتية، أولهما: إعادة إنتاج غائية لتاريخه، بالبحث عن مقومات ثقافية ودينية وعرقية تؤهله بوصفه كياناً موحداً ومستمراً في التاريخ الإسلامي، وثانيهما اختزال العالم بالفتح والاحتلال إلى تابع ساكن وفاقد الحيوية تقتضي الضرورة التاريخية أن يخترقه الغرب ليبث فيه غاية الحياة المحكومة بسير متصل ومحتوم نحو هدف سام، والحق أن هذين الفعلين ظلا موضع عناية استثنائية منذ ذلك الوقت إلى الآن، وسيستمران مدة طويلة، مع الأخذ بالاعتبار أن تجلياتهما تأخذ أشكالاً عديدة([7]).
إن الذي يهمنا في هذا البحث، ليس الانشغال بالتتبع التاريخي لولادة الاتجاهات والمذاهب الفكرية أو الفلسفية أو السياسية([8])، التي عززت هذه المبادئ بوصفها أصولاً اعتمدت عليها في الإعلاء من شأن المركزية الغربية، بقدر بيان أثرها في تشكيل الرؤية الاستشراقية لتاريخ “الآخر” الشرقي والذي جعلته “موضوعاً” لها، لأن الاستشراق بوصفه مجالاً لدراسة الشرق قد ظهر ضمن فضاء العقل الغربي، بحيث لا يمكن له أن يكون بمعزل عن “مؤثرات” هذا العقل وطريقة تفكيره، لكن هذا الحكم لا يسري على انتاج الاستشراق كله، بقدر ما يمكن القول إنه بقي ملازماً لمراحل ونماذج معينة من المستشرقين الذين وقعوا من حيث منهجيتهم في التعاطي مع عقل دراسة التاريخ الإسلامي بأصول ومحددات هذه المركزية الغربية.
وعلى هذا الأساس يذهب أحد الباحثين في سياق كشفه لمؤثرات المركزية الغربية وأصولها، وعلاقتها ببناء الرؤية الاستشراقية في مجال دراسة التاريخ والتراث الإسلامي بصورة عامة، إلى أن تمظهرها كان في اتجاهين شكلا محطات بارزة في تاريخ الاستشراق بشكل عام، الأول: الجانب الذي يتصل بالعلاقة الصريحة حيناً، والخفية حيناً آخر، بين الظاهرة الاستشراقية والظاهرة الاستعمارية، والذي يمكن الذهاب به بعيداً إلى الرواسب الدفينة التي تعود في أصلها إلى الصراع التاريخي بين المسيحية والإسلام خلال القرون الوسطى، والتي تؤسس كثيراً من المطاعن التي وجهها المستشرقين إلى الفكر العربي الإسلامي، منكرين عليه كل اصالة بدعوى صدوره عن ما سموه بـ”العقلية السّامية” التي حكموا عليها بالعقم في مجال العلم والفلسفة من جهة، واستسلامه للعقيدة الإسلامية التي تقوم عائقاً حسب زعمهم أمام التفكير الحر، والثاني: الجانب الذي يتصل بالشروط الموضوعية التاريخية والمنهجية التي كانت توجّه من الداخل الباحثين الأوربيين في القرن الماضي وأوائل القرن، مستشرقين وغير مستشرقين، لقد عرف الفكر الأوربي خلال هذه الفترة – وهي الفترة التي نشطت فيها الحركة الاستشراقية – نشاطاً واسع النطاق يهدف إلى إعادة كتابة التاريخ الثقافي الأوربي بصورة تحقق له الوحدة والاستمرارية من جهة، وتجعل منه التاريخ العام للفكر الإنساني بأجمعه من جهة أخرى([9]).
تحيل دراسة المركزية الغربية بوصفها نزعة لازمت بعض مراحل الفكر الاستشراقي ليس إلى تحديدنا للأصول والمنطلقات التي تأسست عليها فقط، بل إلى معرفة طبيعة الصراع التاريخي بين الشرق والغرب على المستوى الحضاري والعقائدي والفكري، بحيث إِننا لو أردنا الوصول إلى تحديد نشأة هذا الصراع وجذوره لوجدناه في البدايات التأسيسية الأولى لعصر الدعوة الإسلامية.
لقد اتخذ هذا الصراع التاريخي – الذي هو من منظور المركزية الغربية صراع حتمي- أشكالاً عدة، منها ما أخذ مظهراً دينياً تجلى بأبرز صوره في الحملات الصليبية، أو ما تعرف في فضاء الفكر الغربي وأدبياته بـ”الحروب المقدسة”، ومنها ما كان يتخذ شكلاً ثقافياً وحضارياً، وذلك بمحاولة الحط من أصول الثقافة العربية وقيمها ومنابعها –وهذه المهمة قد قام بها مجموعة من المستشرقين الذين ستتناولهم هذه الدراسة- واعتبارها امتداداً للحضارة الإغريقية من ناحية التأثر بعلومها ومعارفها، وحتى في مجال العقيدة كان هذا الصراع واضحاً في الحملات التبشيرية، والتي كان من أهدافها الأساسية تشويه معالم الدين الإسلامي وأسسه، وإفراغ محتواه الروحي، والإعلاء من شأن المسيحية بوصفها ديانة عالمية بديلة لها خصوصية السبق الزمني والأصالة على مستوى الديانة التوحيدية.
ذلك أن هشام جعيط في تأكيده على هذه المسألة يحاول دائماً جعل الإسلام في عملية مواجهة حضارية مع الغرب، ويسّير تاريخ الإسلام لا وفق ديناميكيته الخاصة، بل على وفق انعكاس شاحب ومعكوس لتاريخ الغرب، لنأخذ مثلاً على ذلك : شخصية النبي محمد نلاحظ أنــه ضمــن كــل تحليل لهــذه الشخصية تنساب عملية مقارنة مع المسيح ، إذا كـان محمـد غير صادق ذلك لأن المسيح كان صادقاً، وإذا كان متعدد الزوجات وشهوانياً فلأن المسيح كان عفيفاً، وإذا كان محمد محارباً وسياسياً فذلك استناداً إلى أن يسوع مسالم مغلوب ومعذب، إن مفارقة الاستشراق الإسلامي هي أنه على هامش الجسم المركزي للتقليد الفكري الغربي، ومع هذا فهو يطرح نفسه ناطقاً باسم الغرب([10]).
لقد تطور هذا الصراع في العصور الحديثة واتخذ أشكالاً عدة ووصل إلى مرحلة الاستعمار المباشر للمجتمعات العربية والإسلامية، وما صاحبه من هيمنة فكرية واستنزاف منظم للثروات الاقتصادية، فضلاً عن تكريسه لواقع من الانقسامات العرقية والدينية والإثنية لم يتخلص المجتمع العربي والإسلامي من آثارها حتى بعد حصول دول العالم العربي على استقلالها، والذي أصبح فيه هذا الصراع يأخذ شكلاً استعمارياً آخر غير مباشر، تمثل بربط تلك البلدان “المستقلة” بتبعية اقتصادية وثقافية أخرت ولا تزال نهضة تلك الدول، وتقدمها على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي.
إن نزعة المركزية الغربية باتخاذها لمبدأ الصراع –الذي تحدثنا عن بعض أبعاده سابقاً- بوصفها مظهراً للعلاقة مع الآخر الشرق([11])، وليس مبدأ الندية أو التكافؤ، قد كانت تخفي حقيقتين مزدوجتين، هما الخوف منه وحب السيطرة عليه، أي: إن تلك المركزية الغربية كانت تضمر بداخلها أنا متعالية لا تعترف بشرعية وجود المغاير لها سواء كان على مستوى الهوية الدينية أو الحضارية، وهذه الأبعاد التي حكمت هذه العلاقة مع الآخر “الشرق” قد ألقت بظلالها على مقاصد الاستشراق وغاياته لاسيما في مراحله الكلاسيكية المبكرة، فالاسهامات التي قدمت من قبل عدد كبير من المستشرقين في هذه المراحل بخصوص دراستهم للتاريخ والحضارة الإسلامية كانت ليس بقصد معرفة الآخر واكتشافه، بقدر ما كانت منطلقاتها موجهة وعن قصد أحياناً نحو الإساءة والتشويه لهذا التاريخ([12])، فتحول الاستشراق بما أنه من المفترض أن يكون مجالاً أكاديمياً لدراسة الشرق، -كما يذهب ادوارد سعيد- تحول إلى خطاب سلطة وهيمنة وليس معرفة([13]).
إن انعكاسات وآثار المركزية الغربية كنسق فكري لرؤية الغرب تجاه الآخر وتحديداً الشرق قد ساهمت في تأسيس صور نمطية وأحياناً متخيلة عن الإسلام، إذ إن هذه الصورة النمطية عن الإسلام، تشكلت بالتدرج، وعبّرت بكيفيات مختلفة عن الاهتمام المسيحي الأوربي بالواقعة الإسلامية، انطلق هذا الاهتمام في البدء من خلال المسيحية الشرقية والنصارى الأصليين، ثم اتخذ أبعاداً أكثر جدية مع احتدام المواجهة في سياق الصراع التاريخي والحضاري على المواقع والأمكنة والرموز، وفي كل الأحوال يمكن القول إن “الصورة” المسيحية عن الإسلام، أي التعبير المسيحي عن الوعي الضدي بالآخر جاءت نتاج الأدبيات التي وصفها رجال الكنيسة، وعلماء الكلام، والمؤرخون والدعاة بالدرجة الأولى، لسبب بسيط، هو أنه منذ العصر الوسيط حتى النهضة، كان رجال الكنيسة والرهبان والكهان وموظفو الكنيسة الكبار هم الذين يمتلكون مفاتيح المعرفة ويتكفلون بتربية المؤمنين بكتاباتهم ودعواتهم([14]).
إن تلك الصور النمطية عن الإسلام جرى فيما بعد تعميمها وإسقاطها عند بعض المستشرقين، في مجال دراستهم للتاريخ الإسلامي، وعلى هذا الأساس لم يستطع قسم منهم التمييز بين دراسة التاريخ العام للحضارة العربية الإسلامية وبين دراستهم لتاريخ الإسلام كدين وعقيدة([15])، وعدم تمييزهم هذا أفضى إلى خلق نوع من سوء الفهم لهذا التاريخ ولاسيما في تحديد مساراته وتحليل قضاياه واشكالياته، لأن طبيعة بعض تلك الأحكام والنتائج التي انتهت إليها تلك الدراسات، كانت مرتكزاتها وبواعثها المنهجية لا تستند إلى دراسة الإسلام من داخله([16])، بل من خلال اسقاطات خارجة عنه جرى تعميمها بوصفها أحكاماً قبلية مستمدة من صور وأنماط متخيلة عنه وربما مفتعلة، تكون في الغالب معدة سلفاً، وقد جرى فيما بعد توظيفها وإعادة إنتاج مضامينها في تلك الدراسات.
إن مسألة تشخيصنا للنزعة المركزية الغربية بوصفه خطاباً تسربت آثاره إلى تشكيل الرؤية الاستشراقية في دراسة التاريخ الإسلامي، ولاسيما في الفترة الكلاسيكية من تاريخ الاستشراق، والتي تبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين، لم تأت من باب النقد الأيديولوجي له، ولم يكن مجرد افتراض لا تؤيده الشهادات والوقائع، بل إن تأكيده جاء على لسان المستشرقين أنفسهم، خاصة مِمن تصدوا لنقد الاستشراق من داخله وتصحيح مساراته المنهجية، فها هو مكسيم رودنسون([17])، المستشرق الفرنسي يذهب -من باب الإدانة- للقول: إن النزعة المركزية واضحة هنا –يقصد في الدراسات الاستشراقية- وإذا كان من العبث أن ندينها الآن بكل هذا العنف والهيجان، وأن نمارس تجاهها نوعاً من الاستنكار الأخلاقي السهل والزائد عن الحد، فإن ذلك لا يعني أن نغض النظر عن الظاهرة وعدم ملاحظة وجودها بكل آثارها الضارة، فلم يكتف هؤلاء العلماء فقط في تنصيب المجتمع الأوربي والحضارة الأوربية بوصفهما نموذجاً كونياً أعلى صالح للجميع، ولم يكتفوا فقط بافتراض تفوقهما على المستويات كافة، وإنما راحوا أيضا ينقلون العوامل الفاعلة في هذه الحضارة وذلك المجتمع ويطبقونها بشكل ميكانيكي على كل مكان وبشكل دائم([18]).
ثالثاً : أثر المناهج المستخدمة في تحديد وصياغة أبعاد الرؤية الاستشراقية :
إن تحليل المناهج الاستشراقية في دراسة التاريخ والتراث الإسلامي ، يظهر لنا أن غالبيتها لم تتخلص من الغايات الإيديولوجية([19])، الثاوية خلف تطبيقاتها ونتائجها في مجال دراستها لروافد التاريخ والفكر الإسلامي، هذا الأمر يعني أن تلك المناهج حتى لو أدعت العلمية والموضوعية في مقاربتها، إلا أنها -من خلال تحليل الكيفية التي مارست من خلالها طرق معالجتها لقضايا التاريخ الإسلامي- بقيت أمينة أكثر لأصولها الغربية التي خرجت منها، ولم تأخذ بعين الاعتبار خصوصية هذا التاريخ وأبعاده وأصالته .
فالمستشرق صاحب المنهج التاريخي يفكر شموليا في الفلسفة الإسلامية لا بوصفها جزءاً من كيان ثقافي عام هو الثقافة العربية الإسلامية ، بل بوصفها امتدادا منحرفا أو مشوها للفلسفة اليونانية، وبالمثل يفكر بالنحو العربي ومدارسه، يوجهه هاجس ربطها بمدارس النحو اليونانية بالإسكندرية أو برغام، وبيان تأثرها بالمنطق الأرسطي، كما قد لا يتردد في ربط الفقه الإسلامي، نوعا من الربط بالقانون الروماني وما خلقه في المنطقة العربية من آثار وأعراض، أما المستشرق المغرم بالتحليل الفيولولوجي، فهو عندما يتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية بنظرته التجزيئية، لا يعمل على رد فروعها وعناصرها إلى جذور وأصول تقع داخلها، أو على الأقل مقروءة بتوجيه من همومها الخاصة، بل هو يجتهد كل الاجتهاد في رد تلك الفروع والعناصر إلى أصول يونانية، وعندما تعوزه الحجة إلى أصول هندواوربية… أما المستشرق صاحب المنهج الذاتوي، فإنه على الرغم من تعاطفه مع بعض الشخصيات الإسلامية كتعاطف ماسينيون مع الحلاج أو هنري كوربان مع السهروردي، فإنه يبقى مع ذلك موجها من داخل إطاره المرجع الأصلي، إطار المركزية الأوربية مشدودا إليه غير قادر ولا راغب في الخروج عنه أو القطيعة معه([20]).
أن تأكيدنا على المضامين الأيديولوجية التي حملتها مناهج المستشرقين، الذين تسلحوا بها لدراسة التاريخ الإسلامي وقضاياه كالمنهج التاريخي والفلولوجي والمنهج المقارن … وغيرها، لا يعني أغفال جانب مهم يخص طبيعة تلك المناهج وفلسفتها من حيث نشأتها وتأسيسها عندهم، فكما هو معروف فإن دراسة التاريخ من حيث الأصول والقواعد المنهجية، مر عبر تاريخ الفكر الغربي بتحولات كبيرة سواء على صعيد الرؤية أم المنهج، وقد ظهرت في خضم هذه التحولات مدارس واتجاهات عدة حاولت إعادة الاعتبار للتاريخ بوصفه علماً له مرتكزاته وأسسه سواء من حيث طرق الكتابة أو طبيعة المعرفة التاريخية، وهذا الأمر بدا واضحا في الاتجاه الوضعي أو التاريخاني أو التأويلي في دراسة الـتاريخ([21]).
أن هذه الاتجاهات على ما بينها من تباين في المنطلقات والاختلاف في أساليب المعالجات المنهجية، قد أعادت الاعتبار لمفهوم المؤرخ وقدرته على الوصول للحقيقة التاريخية، بحيث بالغت في الأعلاء من شأن مسألة” المنهج وإمكانيته في دراسة الوقائع والأحداث وتحديد المسارات واكتشاف القوانين الفاعلة في حركة التاريخ، لاسيما ما يتعلق منها بأزمة التاريخ القديم، فأصبحت إمكانية بناء تاريخ للماضي ــ من وجهة نظر هذه الاتجاهات ــ على أسس ومعايير علمية شيئا ممكن التحقق في مجال الدراسات التاريخية.
لقد تبنى بعض المستشرقين أطروحات وأسس تلك المناهج وعدّوها صالحة للعمل والاستخدام في حقل الدراسات الإسلامية، من دون مراعاة لخصوصية هذا التاريخ واختلافه وعدم تماثله مع غيره في البنى والأنساق والسياقات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي اسهمت بتشكيله([22])، بل أن قسما منهم قد غالى في مجال تطبيقاته لهذه المناهج في حقل دراسة التاريخ الإسلامي، وعدَّ ما توصل إليه من نتائج عبرها غير خاضع للمراجعة أو النقد، هذا الأمر يعني أن تلك المناهج وأن بقيت في قسم منها تحاول الوصول إلى ترسيخ رؤية أيديولوجية معدة مسبقا، تنتمي في منطلقاتها ومبادئها إلى المركزية الغربية، إلا أنها في الوقت نفسه عندما أعيد توظيفها في حقل دراسة التاريخ الإسلامي جاءت معبرة عن الخلفيات الفكرية والفلسفية للمنهج نفسه.
يتضح مما تقدم أنه إذا كانت مناهج المستشرقين بتنوعها وتعددها، قد أضحت هي الممارسة العملية التي من خلالها يستطيع الباحث تقييم جهودهم، ومعرفة طبيعة ما توصلوا إليه خاصة في حقل دراستهم للتاريخ الإسلامي، فإن هذه الممارسة لم تكن يوما بمعزل عن المواقف الأيديولوجية التي تسربت إلى تلك المنهجية، والتي ظهرت في تحليلاتهم ومعالجاتهم أما بشكل صريح أو مضمر.
هذا الأمر راجع إلى أن المستشرق ومن ناحية تكوينه العلمي يبقى في النهاية هو ابن البيئة، والحواضن الفكرية والحضارية والسياسية التي اسهمت في تشكيل عقليته، أي إنه يبقى أمينا لتوجهاته الذاتية وخلفياته الدينية أو السياسية، وربما في بعض الأحيان وفيا لقناعاته وهواجسه النفسية، لكن مع إقرارنا بهذه المسائل وانعكاساتها السلبية في اسهامات المستشرقين، تبقى هنالك جهود علمية وأكاديمية رصينة لكثير منهم([23])، استطاعت أن تحيّد وبنسب متفاوتة من هذه الاعتبارات في مجال الدراسات الإسلامية بشكل عام والتاريخ الإسلامي بشكل خاص، فتعاملت مع مسألة المنهج ليس على أساس المبالغة في قابليته في الوصول لبناء رؤية متكاملة لقضايا وإشكاليات التاريخ الإسلامي، بل من خلال عدّه وسيلة نصل من خلالها إلى نتائج قابلة للنقد وإعادة النظر في مقدماتها المنهجية.
إن ما يميز هذه الجهود والاسهامات الاستشراقية ذات المنحى الموضوعي، هي أن معالجاتها المنهجية لا تدعي التطابق مع الموضوع المدروس ـ وهو هنا مجال التاريخ الإسلامي ـ بقدر ما كان هاجسها استخدام آليات المنهج للوصول إلى إشتراح نظرة جديدة ومبتكرة يمكن لنا من خلالها استعادة ودراسة وقائع وأحداث العصور الإسلامية، ليس على مستوى أن ما ننتهي إليه من نتائج وتحليلات هو تفسير مطابق لحقيقة ما جرى فعلا، بل على مستوى توسيع دائرة فهمنا لهذا التاريخ ضمن منظور تعددي نسبي لا يدعي امتلاكه تفسيراً قاطعاً ووحيداً ونهائياً له، ومن خلال هذا المنظور أصبحت تلك الاسهامات أقرب لروح الموضوعية والعلمية التي يجب أن يتحلى بها المستشرق وهو يخوض في أبعاد التراث والتاريخ الإسلامي، فابتعدت بالنتيجة عن الوقوع في نمط الدراسات الاستشراقية السابقة، التي كانت معالجاتها والنتائج التي انتهت إليها، مبنية على أسس أيديولوجية وليست معرفية.
هوامش البحث:
([1])جان دي جاك واردنبرغ ، المستشرقون، ترجمة: أنيس عبد الله الخالق محمود، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014) ، ص11.
([2])جان دي جاك واردنبرغ ، المستشرقون، مرجع سابق، ص12.
([3]) فرانشيسكو كابرييلي (1904-1996): من أبرز المستشرقين الإيطاليين، وله تأثير مهم بما قدمه من أعمال على مستوى الاستشراق الأوربي بشكل عام، تتلمذ على يد المستشرق الإيطالي الشهير كرلو نللينو، كان أحد أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما والمعهد الشرقي في نابولي، أولى اهتماما خاصا بدراسة الشعر العربي في الجاهلية تحقيقا ودرساً، فضلاً عن تحقيقاته لمخطوطات في التاريخ الإسلامي، في عام 1948 انتخب عضوا مراسلاً في المجتمع العلمي العربي في دمشق، ألف كثيراً من الكتب والبحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية ولاسيما بتاريخ العصر الأموي، وله إسهامات مهمة في دراسة مؤرخي الحروب الصليبية، فضلاً عن إسهاماته في دائرة المعارف الإسلامية…
للاستزادة ينظر:- فرانشيسكو كابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق عبد الجبار ناجي،ط1، ( بيروت : المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011)، مقدمة المعرب، ص13.
([4])فرانشيسكو كابرييلي، ثناء على الاستشراق، ضمن كتاب: الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة واعداد: هاشم صالح، ط1، ( بيروت : دار الساقي، 2000)، ص21-22… وفي السياق نفسه يذهب هشام جعيط في تأكيده لحاضر الاستشراق ومستقبله، ولكن من زاوية نظر مختلفة، إذ يقول إنه سيأتي “اليوم الذي سيذوب علم الشرق في مختلف العلوم الانسانية التي تكونه بانتظار أن يسيطر العرب – المسلمون شيئاً فشيئاً على ـ المناهج الحديثة في البحث ـ ، فيفقد تقريباً سبباً للوجود، عدا كونه حلقة صغيرة في سلسلة المعرفة العالمية، في الأصل وعلى الأقل خلال قرن من الزمان من 1850-1950 كان وجود الاستشراق مشروطاً بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته، في حد ذاته كان دليل وصاية فكرية وتقليلاً من شأن الشرق…” للاستزادة ينظر: هشام جعيط ، أوربا والإسلام صدام الثقافة والحداثة، ط3، (بيروت: دار الطليعة، 2007 )، ص43-44.
([5])محمد عابد الجابري ، نحن والتراث “قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي”، ط1، ( بيروت : دار الطليعة، 1980) ، ص27.
([6])عبدالله إبراهيم، المركزية الغربية، ط1، ( بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010)، ص11-12.
([7])المرجع نفسه، ص44.
([8])ينظر في أثر هذه المبادئ ولاسيما نزعة الإعلاء والانتماء للعنصر الآري وأثره في تكوين المذاهب والأفكار السياسية الغربية، التي أسهمت في المحصلة النهائية من صعود النازية والفاشية: شانتال ميلون دلسول، الأفكار السياسية في القرن العشرين، ترجمة: جورج كتورة، ط1، ( بيروت :المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1994)، ص77-92.
([9])محمد عابد الجابري، التراث والحداثة “دراسة ومناقشات”، ط3، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص26-27.
([10])جعيط، أوربا والإسلام صدام الثقافة والحداثة، مرجع سابق، ص40.
([11]) في مسألة تحليل أبعاد الصراع التاريخي لعلاقة الإسلام بالغرب ينظر: أحمد عرفات القاضي ، الإسلام والغرب إشكالية الصراع وضرورة الحوار ، ط1، ( القاهرة : مكتبة مدبولي 2010)، ص109-115.
([12])من الدراسات المهمة التي تتبعت وبتحليل منهجي أحد أبعاد هذا التشويه للدين الإسلامي، خاصة ما يتعلق بنبوة نبيه الأعظم محمد 9 ينظر: لخضر شايب ، نبوة محمد في الفكر الاستشراقي المعاصر، ط1، ( الرياض : مكتبة العبيكان، 2002)، ص37-57.
([13])ينظر: إدوارد سعيد ، الاستشراق “المعرفة، السلطة، الإنشاء”، نقله إلى العربية كمال ابو ديب، ط2، ( بيروت : مؤسسة الأبحاث العربية، 1984م) ، ص40-43…
يجدر في مثل هذا السياق الإشارة إلى مسألة مهمة تخص عملية التصدي لنقد الاستشراق، فهذه القضية إذا لم يراعَ فيها طبيعة المراحل التاريخية التي قطعها الاستشراق عبر تطوره، ولم يؤخذ بعين الاعتبار السياقات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تحكمت بكل مرحلة من مراحله، فإنه –أي هذا النقد- سوف يقع في مسألة التقييم والحكم في التعميم والاختزال والأحكام السلبية التي قد تنال من جهود واسهامات حقيقية لمجموعة كبيرة من المستشرقين في حقل الدراسات الإسلامية، وعلى هذا الأساس نقول يجب أن لا نسحب النتائج التي انتهى اليها ادوارد سعيد في دراسته الهامة عن الاستشراق، ونجعلها النموذج لهذا النقد من حيث اعتبار كل ما ورد فيها من ناحية المنطلقات والأسس المنهجية مطابقاً لحقيقة الاستشراق وأهدافه، فنكون في هذه الحالة قد وقعنا في المغالاة وعدم الإنصاف، فبالرغم من إن دراسة ادوارد سعيد فتحت افقاً جديداً ومبتكراً في تحليل الخطاب الاستشراقي، إلا أن ما ذهبت إليه أطروحة الكتاب الأساسية من أن كل الجهود الاستشراقية كانت واقعة في ثنائية السلطة والمعرفة – التي استمدها أصلاً من ميشيل فوكو وأعاد توظيفها في دراسته ـ واختزال كل تلك الجهود والنظر إليها كأنها عبارة عن تقارير استخباراتية أعدت لمراكز ومؤسسات القرار السياسي الغربي، لايوصلنا بالنتيجة ـ لفهم ظاهرة الاستشراق بشكل موضوعي ومدروس، ذلك أن كثيراً من تلك الجهود وحتى بعض مدارس الاستشراق لم تكن واقعة في ضمن هذه الثنائية، أما بحكم أن دراستهم كانت في حقول نظرية صرفة ليس لها علاقة بأبعاد وأطر سياسية كالتحقيق اللغوي أو التاريخي أو دراسات ما قبل الإسلام… وما سواها، أو لأن قسماً من أصحابها كانوا يمثلون دولاً لم يسجل لها أي حضور أو تحرك استعماري في دائرة الشرق الأوسط، كألمانيا مثلاً ، خاصة في فترة القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي الفترة الزمنية التي حلل فيها ادوارد سعيد أغلب نماذج دراسته على أساس هذه الثنائية… للاستزادة في هذا الموضوع، ينظر النقد المقدم على كتاب ادوارد سعيد في: صادق جلال العظم ، الاستشراق والاستشراق معكوساً، ط1، ( بيروت : دار الحداثة ، 1980م) ، ص8-9.
وفي السياق نفسه نقول ان أهم ما جاء به كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق كما أشار إلى ذلك وجيه كوثراني ” ليس التوصيف الذي ينعت به بعض قطاعات الاستشراق بالعنصرية أو المركزية الاثنية الغربية، أو الثقافة الإمبريالية، أو خدمة الهيمنة الاستعمارية عن طريق تقديم معرفة معينة عن الشرق والمجتمعات الإسلامية وتواريخها، فكل هذه المواصفات يقدمها الاستشراق السياسي فعلاً، لكن أهم ما في انجازه هو استخدامه لإنجازات الثقافة الغربية نفسها في جانبها النقدي لذاتها، ليقرأ مسار الاستشراق ومآله “كخطاب معرفة” أدى وظيفة تاريخية واستنزف نفسه في عملية تراكم أضحت تطرح قطيعة وتجاوزاً على الصعيد المعرفي وفي شروط مغايرة لشروط صعود الغرب الإمبريالي وهيمنته على العالم…
للاستزادة ينظر: وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل “دراسات في البحث والبحث التاريخي، ط1، ( بيروت: دار الطليعة، 2000) ، ص92.
([14])محمد نور الدين افايه، الإسلام في متخيل الغرب “في مكونات الصور النمطية الغربية عن الإسلام، ضمن كتاب: الإسلام والغرب “الأنا والآخر”، مجموعة باحثين، سلسلة فكر ونقد، الكتاب الأول، ط1، ( بيروت : الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009)، ص111.
([15])هذا الحكم لا ينسحب على كل جهود المستشرقين، فلقد أكد كثير من ” المستشرقين الأكثر حداثة، على أهمية البعد الديني في التاريخ الإسلامي مع اعتمادهم على أحدث طرق المعالجة للعلوم الاجتماعية، ومهما يكن من أمر، فبينما نجد مستشرقين بعينهم يدرسون البعد الديني كما يفهمه المسلمون قبل أن يوجّه أولئك المستشرقون نقدهم وحكمهم، نجد آخرين يفعلون ذلك وهم يرمون في نهاية الأمر إلى تحقير شأنه وتشويه حقيقته…”.
للاستزادة ينظر: محمد بن عبود، منهجية الاستشراق في دراسة التاريخ الإسلامي، مرجع سابق، ص362.
([16])من باب الإنصاف والموضوعية نقول، إن هنالك من المستشرقين من أشار إلى هذه الحقيقة، منهم المستشرق الفرنسي الكبير كلود كاهين، الذي عرف بدراساته الموضوعية للتاريخ الإسلامي، حيث قال “في بعض الأحيان نجد أن التوسع المهيمن للغرب قد أثار دراسات وأبحاث تهدف إلى تنظيم الإدارة الاستعمارية، وترتيب شؤون الاستعمار حتى ولو حاولت أن تتخذ صفة الموضوعية… بالطبع ينبغي أن نعيد التوازن إلى الأمور فنعترف بضرورة دراسة هذه المجتمعات من الداخل، وليس فقط من الخارج، فالنظرة الخارجية أو الاستشراقية لا تكفي…” .
للاستزادة ينظر: مجموعة باحثين، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة وإعداد هاشن صالح، ط2، ( بيروت : دار الساقي، ط2، 2000)، ص33.
([17])مكسيم رودنسون: من أهم المستعربين، إن لم نقل المستشرقين في فرنسا، له عدة إسهامات مهمة على صعيد دراسة التاريخ الإسلامي منها: الإسلام والرأسمالية 1966م، الماركسية والعالم الإسلامي 1972م، محمد 1979م، العرب 1979م، جاذبية الإسلام 1980م، وقد ترجمت أغلب أعماله إلى اللغة العربية…
ينظر: مجموعة باحثين، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ص39.
([18])رودنسون، الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، ضمن كتاب: الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، مرجع سابق، ص49.
([19]) أن مقولة الفصل ما بين البعد المعرفي والبعد الأيديولوجي في تحليل نسق الأفكار هي أحدى الآليات المهمة التي أستعملها محمد عابد الجابري في قراءته لحقل التراث العربي الإسلامي، ولقد قمنا بتوظيف دلالات هذه الآلية في تحديدنا للمناحي الأيديولوجية في إسهامات المستشرقين، ورؤيتهم في مجال دراستهم للتاريخ الإسلامي، هذا يعني أن مصطلح الأيديولوجية في هذه الدراسة يعني المضمون الذي يحمله ذلك الفكر، أي الوظيفة الأيديولوجية السياسية الاجتماعية التي يعطيها صاحب أو أصحاب ذلك الفكر لتلك المادة المعرفية…
للاستزادة ينظر: الجابري، نحن والتراث، مرجع سابق ، ص31 ــ 32.
([20])محمد عابد الجابري، التراث والحداثة دراسات ومناقشات، المرجع السابق، ص 28 ــ 29.
([21]) لدراسة أثر هذه الاتجاهات في أحداث طفره نوعية في منهجية البحث التاريخي في دائرة الفكر الغربي.. ينظر: قيس ماضي فرو، المعرفة التاريخية في الغرب مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، ط1، ( بيروت : المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص17-82.
([22]) ضمن هذا السياق يؤشر محمد أركون إلى ثلاث عقبات أبستمولوجية معرفية بقين بنظره ملازمة لتاريخ الاستشراق بالنسبة للأطر النظرية التي رافقت عملية دراستهم للتاريخ والحضارة الإسلامية بشكل عام.
الأولى: النزعة المركزية الغربية.
والثانية: التعميم الأيديولوجي.
والثالثة: حضور الأغراض غير العلمية في عمل المستشرقين أو قسم غير قليل منهم…
للاستزادة ينظر: عبد الإله بلقزيز، الاستشراق وحدوده المعرفية المنهجية، في نقديات محمد أركون، ضمن كتاب: محمد أركون المفكر والباحث والإنسان، مجموعة باحثين، ط1) بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011 )، ص 59.
([23]) نذكر من باب التمثيل لا الحصر جهود كل من: مونتغمري واط، مكسيم رودنسون، لويس غارديه، لويس ماسنيون، هنري كوربان، كارل بركلمان، رينه غينون، جورج قنواتي، كلود كاهين، جوزيف شاخت، روزنثال، ميجول آسن بلاسيوس، جوزيف فان أس، غوستاف لوبون، فلهاوزن، جاك بيرك، روجيه غارودي… وغيرهم.
المصادر والمراجع:
*أحمد عرفات القاضي ، الإسلام والغرب إشكالية الصراع وضرورة الحوار ، ط1، ( القاهرة: مكتبة مدبولي 2010) .
*إدوارد سعيد ، الاستشراق “المعرفة، السلطة، الإنشاء”، نقله إلى العربية كمال ابو ديب، ط2، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1984م) .
*جان دي جاك واردنبرغ ، المستشرقون، ترجمة: أنيس عبد الله الخالق محمود، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2014) .
*شانتال ميلون دلسول، الأفكار السياسية في القرن العشرين، ترجمة: جورج كتورة، ط1، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1994).
*صادق جلال العظم ، الاستشراق والاستشراق معكوساً، ط1، ( بيروت: دار الحداثة، 1980م).
*عبد الإله بلقزيز، الاستشراق وحدوده المعرفية المنهجية، في نقديات محمد أركون، ضمن كتاب: محمد أركون المفكر والباحث والإنسان، مجموعة باحثين، ط1، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011 ) .
*عبدالله إبراهيم، المركزية الغربية، ط1، ( بيروت : الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010) .
*فرانشيسكو كابرييلي، محمد والفتوحات الإسلامية، تعريب وتقديم وتعليق عبد الجبار ناجي،ط1، ( بيروت: المركز الأكاديمي للأبحاث، 2011) .
*فرانشيسكو كابرييلي، ثناء على الاستشراق، ضمن كتاب: الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة واعداد: هاشم صالح، ط1، ( بيروت : دار الساقي، 2000) .
*قيس ماضي فرو، المعرفة التاريخية في الغرب مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية، ط1، (بيروت: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، 2013) .
*مجموعة باحثين، الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة وإعداد هاشن صالح، ط2، (بيروت : دار الساقي، ط2، 2000) .
*محمد عابد الجابري ، نحن والتراث “قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي”، ط1، ( بيروت : دار الطليعة، 1980) .
*ــــــــــ، التراث والحداثة “دراسة ومناقشات”، ط3،( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006) .
*محمد نور الدين افايه، الإسلام في متخيل الغرب “في مكونات الصور النمطية الغربية عن الإسلام، ضمن كتاب: الإسلام والغرب “الأنا والآخر”، مجموعة باحثين، سلسلة فكر ونقد، الكتاب الأول، ط1، ( بيروت : الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009) .
*هشام جعيط، أوربا والإسلام صدام الثقافة والحداثة، ط3، ( بيروت: دار الطليعة، 2007).
*وجيه كوثراني، الذاكرة والتاريخ في القرن العشرين الطويل “دراسات في البحث والبحث التاريخي، ط1، ( بيروت: دار الطليعة، 2000) .
_______________
* نقلًا عن” المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيَّة” – بيروت.