أهلاً بك في العيادة الفلسفيَّة للمرة الثانية
د. مصطفى النشار
من الظواهر اللافتة للنظر فى أيامنا هذه أن الناس غاضبون وتبدو على وجوههم دائماً علامات الغضب والضيق ليس فقط فى الكثير من بلداننا ومجتمعاتنا العربية بل حتى فى دول العالم الأكثر تقدماً، وبالطبع فإن الأسباب معروفة، فنحن نعيش منذ سنوات ثلاث ظروفاً صعبة وأزمات متلاحقة فلا نكاد نخرج من أزمة حتى ندخل فى أخرى، فمن أزمة جائحة كورونا التى ألزمت الناس منازلها أكثر من عام إلى أزمة الحرب الروسية الأوكرانية التى شردت الملايين وهددت العالم كله بأزمات غذائية طاحنة إلى أزمات داخلية عديدة من غلاء أسعار ونقص فى الرواتب والوظائف مما أدى إلى إضرابات ومظاهرات ضد الحكومات فى كثير من دول العالم. والحقيقة التى لا ينبغى أن تغيب عنا بداية هى أن كل ذلك من صنع الإنسان فهو بسلوكياته الشاذة وقرارات زعمائه الطائشة هو المسئول عما يعانيه من أزمات.
ولما كان الانسان العادى البسيط مغلوباً على أمره فى كل ذلك فهو للأسف الأكثر شعوراً بالغضب للدرجة التى قد تدمر حياته خاصة اذا ما كان بطبيعته غضوباً وتتسم ردود فعله بشدة الانفعال، وهنا ربما تنفعنا الروشتة الرواقية فى علاج الغضب؛ فقد قال «سينكا» وهو أحد أهم أعلامهم فى القرن الأول الميلادى:» إن الغضب عدو للعقل وهو جنون قصير، بل هو فى رأيه رذيلة مُدمرة، وهو لا يتوافق مع الطبيعة البكر للانسان بأى حال من الأحوال، ومن الأفضل التحكم فيه عن طريق إعمال العقل، فالعقل هو المسيطر على المشاعر ولا ينبغى أن يصبح الإنسان عبدًا للمشاعر، ومن ثم يجب مُمارسة ضبط النفس بالعقل بدلًا من الغضب، إن الغضب هو السبب فى الحروب والمجازر التى ترتكب بين البشر بعضهم البعض، بل وربما هو السبب فى تدمير مدن بأكملها، فالغضب يؤدى إلى الرغبة فى الانتقام والمزيد من الانتقام.. وهكذا. وهذا ما نراه – بالفعل – فيما يجرى من ردود أفعال المعنيين بالحرب الدائرة الآن بين الغرب وروسيا على الأرض الاوكرانية!!
وقد أوضح «سينكا» أن من أسباب الغضب المعتقدات الخاطئة حيث أن غضبى من الآخرين ينجم من اعتقادى بأنهم يجب أن يتصرفوا وفقًا لتوقعاتى دائما، وقد يأتى الغضب بسبب الأشياء التى لا استطيع أن أتحكم فيها بعقلى، تلك التى أريدها أن تأتى دائمًا أيضا وفق توقعاتى مثل تقلبات الطقس وسلوك الآخرين الخ… إن علاج هذا الغضب إنما يستند هنا بالتأكيد على إعمال فضيلة ضبط النفس وعلى ادراكنا أن الغضب ليس مُفيدًا، وأن نتعلم كيفية التحكم فى انفعالنا الغاضب، فالشخص الغاضب غير قادر على الحكم السليم لأن الغضب يجعله عبدًا لانفعالاته وأسيرًا لغضبه وحينئذ يفقد العقل سيطرته على الانفعال.
وعلى الرغم من رفض «سينكا» للغضب، فإنه مع ذلك يرى أن الغضب قد يكون مفيداً وإيجابياً حينما يدفعك إلى العمل، فهو فى هذه الحالة يعد غضباً مُحفزاً، فحينما تغضب لشعورك مثلاً بأن حقاً قد ضاع منك وتحاول استرداده بمزيد من العمل وبذل الجهد فحينئذ يكون الغضب مشروعاً ومحفزاً لمزيد من الابداع والترقى، وهنا يصدق قول أرسطو فى أن الغضب ضرورى ولا يمكن لأى كفاح أن ينتصر بدونه لأنه يملأ العقل ويوقظ الروح فعندما يقوم العدو مثلاً بخداعنا والاعتداء علينا نحتاج إلى الغضب لكى يولد لدينا دافعية الانتصار عليه!!
ومن ذلك يتضح أن الغضب ليس كله شراً وهو ككل الانفعالات ففيها دائماً جانباً إيجابياً بما فيها حتى انفعال الخوف الذى فيه ما قد يدفعنا أيضاً إلى التفكير فى أسبابه لنكتشفها ونقضى عليها، إن معالجة الانفعالات ومن بينها الغضب والخوف إنما يكون بداية بالوعى بها والتفكير الهادئ فيها، فهذا الوعى وذلك التفكير سيمكننا من تحمل أى شىء سلبى والعمل على تجاوزه بنجاح، وحينئذ قد يصبح الألم والغضب والخوف فُرصة للإبداع بدلاً من الخضوع لهم والشكوى منهم.
وعموماً فإذا كانت تلك المناقشة غير كافية لتخليصك من هذه الانفعالات السلبية، فقد تجد المزيد من المساعدة عند المستشار الفلسفى.. وأهلاً بك مرة أخرى فى العيادة الفلسفية.
_____________________________
*نقلًا عن موقع صحيفة ” الوفد ” المصرية.