الدراسات والبحوث

الاسم الأعظم «الله» وأسرار حروفه ومعانيها عند سيدي ابن عربي

الاسم الأعظم «الله» وأسرار حروفه ومعانيها عند سيدي ابن عربي

جاء في الفصل الثاني من كتاب [ أبجدية الوجود..دراسة في مراتب الحروف ومراتب الوجود عند ابن عربي ] للباحث المغربي الدكتور أحمد بلحاج آية وارهام :

 

حروف الاسم الأعظم  :

إنها حروف الاسم الأعظم الذي انبثقت منه كل الأسماء الحُسنى ، وحروفُ الأمر المُحكَم الذي تجلَّى في حروف الفواتح ، فمن هذه الثلاثية الحروفية ينطلق ابن عربي في تفسير الحروف عامّةً ، حيث نجد تفسيره هذا متماهياً مع تفسيره للأسماء الحسنى ، فرمز الحرف عنده يدخل في رمز الاسم ، ورمز الاسم يدخل في رمز الوجود :

إِنَّ اٌلْوُجُودَ لَحَرْفٌ أَنْــتَ مَعْـــنَــــــــاهُ *** وَلَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي اٌلْكَوْنِ إِلاَّهُ

اٌلْحَرْفُ مَعْنًى ، ومَعْنَى اٌلْحَرْفِ سَاكِنُهُ *** وَمَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ

بمعنى أن التجلي الحروفي من النَفَس الإلهي ، وتجليه في الفِعلِ الأسمائي ، هو ما يُعطي لحروف اللغة إمكانيةَ موازاتها لمراتب الوجود الأساسية .

فالنفَس الإلهي برزخٌ تَضمَّن مراتب وجودية يصلُ عددُها إلى ثمانٍ وعشرين مرتبة أساسية ..

توازي كل واحدة منها حرفاً من حروف اللغة العربية الصوامت أو السواكن LES CONSONNES ..

أما الصوائت أو الحركات LES VOYELLES فإنها توازي مراتب المستوى الأول من البرزخ أي البرزخ الأعلى ..

والعلاقة بين البرزخ ومستوياته كلها هي علاقة << الباطن >> و << الظاهر >> أي أن البرزخ الأعلى يرمز إلى << الظاهر >> مقارنًا بمستوى الذات الإلهية في وحدتها المطلقة ، ولكنه بالنسبة للمستوى الثاني الذي هو عالم العقول يرمز إلى <<الباطن >> وهذا المستوى الثاني يعتبر من ناحية أخرى <<ظاهراً>> بالنسبة للمستوى الأول ، غير أنه << باطن >> بالنسبة للمستوى الثالث… وهكذا في كل مستويات البرزخ.

ونفس علاقة الظاهر والباطن تتمثلُ في العلاقة بين المراتب في كل مستوى على حدة ، فالمرتبة الأولى دائماً في كل مستوى ترمز إلى << ظاهر >> المرتبة الأخيرة في المستوى السابق ، وهي << باطن>> بالنسبة للمرتبة التالية لها داخل نفس المستوى … وهكذا ..

ومشاهدةُ هذا الوجودِ البرزخي أو الخيالِ المطلقِ لا تتأتى إلا لعارف رباني يقول للشيء << كن فيكون >> طبقاً للحديث القدسي << عبدي أَطِعْني أجعَلْك ربانياً تقول للشيء كن فيكون>> وهو ما تحقق لابن عربي في الرؤيا التي رأى فيها أنه نكح نجوم السماء كلها ، فما بقى نجم فيها إلا نكحه بلذةٍ عظيمة روحانية ثم لمَّا أكمل نكاح النجوم أُعطِيَ الحروف فنكحها كلها في حال إفرادها وتركيبها ، وأُعطيَ فيها سِرًّا إلهياً يدل على شرفها ، وما أودعَ الله عندها من الجلال . ولما عرض رؤياه هاته عل رجل بصير بالرؤيا وعِبَارَتِها استعظَم ذلك ، وقال : ( هذا هو البحر الذي لا يُدرَك قعرُه ، صاحب هذه الرؤيا يَفتح من العلوم العُلوية ، وعلومِ الأسرارِ ، وخواصِّ الكواكب والحروفِ ما لا يكون بيد أحد ).

وهذا السر الإلهي الذي أُعطيَه ابن عربي في الحروف هو الذي جعله يستشف في الأبجدية باعتبارها نفَسَاً رحمانياً ما يستشفُّه في الأسماء الحسنى وعلى رأسها الاسم الأعظم .

فاسم الجلالة << الله >> هو وحده الذي اكتسب الوجودَ بحقيقته ، فالله قد جعله مرآةً للإنسان ، إذا نظر فيها بوجهه عَلِمَ حقيقةَ << كان الله ولاشيء معه >> وأدرك أن سمعَه سمعُ الله ، وبصَره بصرُ الله ، وكلامَه كلام الله ، وحياتَه حياة الله ، وعِلمَه علمُ الله ، وإرادتَه إرادةُ الله وقدرتَه قدرةُ الله ، وذلك كله بطريق الأصالة.

فهذا الاسم هو هَيُولَى الكمالات كلها ، لا يوجد كمال إلا وهو تحت فَلَكِه ، وكمالُ الله لا نهاية له ، لأن كل كمال يُظهره الحق من نفسه فإن له في غيبه من الكمالات ماهو أعظم من ذلك وأكمل ،والهَيولَى لها نفس الشيء، لا يُدرَك لَمَا فيها من الصور غايةُُ . ولهذا كان هذا الاسم هَيُولَى كمالِ صُورِ المعاني الإلهية ، وكان كل تَجلٍّ من تجليات الحق التي لنفسه في نفسه داخلاً تحت مِظَلة هذا الاسم ، إلا الظلمة التي تُسَمَّى بُطون الذات في الذات فإنه نورٌ لَهَا، فيه يُبصِرُ الحق نفسه .

إنه اسم خماسيُّ الحروف نُطقًا ، رُباعيُّها كِتابةً ..

فمن ناحية النطق فهو مُكون من خمسة حروف ؛ هي : (ألِف ، لام ، لام ، ألِف، هاء)، وكل واحد منها له دلالة خاصة ودلالة عامة ، زيادة على الدلالة الكلانية والوجودية .

فالألف الأولى : هي عبارة عن الأحدية التي هلكت فيها الكثرة كُلِّيَا ، لأنها أو تجليات الذات المطلقة في نفسها لنفسها بنفسها ، ولأجل هذا كان الألف في أول هذا الاسم مُنفردًا لم يتعلق به شيء من الحروفُ ،إشارة إلى الأحدية التي ليس أول الأوصاف الحقيقية ولا للنعوت الخَلقية فيها ظهور ، فقد بَطَنَ فيها حُكمُ كل شيء من حقائق أسماء الحق وصفاته وأفعاله ومؤثراته ومخلوقاته ، ولم يَبق إلا صفة ذاته المعبَّرُ عنها بالأحدية ، والمرموزُ لها بهذه الألف.

واللام الأولى : هي عبارة عن الجلال ، ولهذا كانت موالية للألف ، لأن الجلال أعلى تجليات الذات ، وأسبقُ إليها من الجمال . وقد ورد في الحديث النبوي << العظمة إزاري والكبرياء ردائي>> ، ولا أقرب من الإزار والرداء إلى الشخص، فظهر بهذا أن صفات الجلال أسبق إلى الذات من صفات الجمال .

واللام الثانية: هي عبارة عن الجمال المطلق الساري في مظاهر الحق . وجميع أوصاف الجمال راجعٌ إلى وصفين : العلم واللطف ، كما أن جميع أوصاف الجلال راجع إلى وصفين : العظمة والاقتدار .

والألف الثانية : ( الساقطة كتابةً والظاهرة نُطقاً ) هي عبارة عن الكمال الذي لا نهاية له ولا غاية ، والمستوعب لكل المظاهر الذاتية استيعاباً مُطلقًا . وسقوطها في الخط دليل على هذا ، لأن الساقط لا تُدرك له عين ولا أثر، أما ثبوتها في اللفظ فهو إشارة إلى حقيقة وجودِ نفس الكمال في ذات الحق .

والهاء : هي عبارة عن هوية الحق الذي هو عين الإنسان ، فالإنسان هو صورة الله المعنوية الجامعة للجلال والجمال والتنزيه والتشبيه والإطلاق والتقييد ، يُقابِل الخَلق ببشريته ، ويُقابل الحق بروحانيته ، ويُقابل عالمَ المُلك بجسمه ونفسه ، وعالمَ الملكوت بقلبه وعقله ، كما يُقابل عالمَ الجبروت بروحه وسره ، فهو من حيث بشريته حادثٌ و مُمكنٌ وعدمٌ وخيالٌ ، وهو من حيث روحانيتُه الواجبُ بالله تعالى ، والوجــــودُ ، والحق والحقيقةُ .

يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري في حِكَمه : ( تَحققْ بأَوصافكَ يُمَجِّدْكَ بأوصافه ، تَحقق بذلك يُمِدَّك بِعِزَّته ، تحقق بعجزك يُمِدَّك بقدرته ، تحقق بضعفك يُمدَّك بحوله وقوته ) ..

إن استدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رَحَى الوجود الحقِّي والخَلقي على الإنسان ، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت إليها الهاء .فالدائرة حق ، ومركزُها حق ، وهي كذلك خَلق ومركزها حق ، وعليه فإن الإنسان هو حق وخَلق ، له ذلُّ العبودية والعجز ، وله الكمال والعِزُّ.

هذه قراءة الاسم الأعظم من ناحية حروفه المنطوقة ..

أما من ناحية حروفه المكتوبة فقط (ألف ،لام ، لام ، هاء) فإن قراءته ستوقفنا على الحقائق التالية:

1ـ إن عدد حروف هذا الاسم أربعة ، وهو عددُ حروف أسماء الأنبياء الأربعة : داود ، موسى ، عيسى ، محمد ، وعددُ الكتب المنزَلة عليهم .فما السر في هذا التوافق العددي في حروف أسماء هؤلاء الأنبياء واسم الجلالة ، وعدد الكتب التي أُنزلت عليهم؟

2 ـ إن الله تعالى هو الوجود المحض ، وهو الذات المتصفة بالصفات والمسمَّاة بالأسماء ، والفاعلة للأفعال. وكل حقيقة من الحقائق الحقية والخَلقية أنزلها على نبي من أنبيائه ليتعرَّف على ربه ويُعرِّف بها قومَه الذين أُرسل إليهم .

3 ـ إن الكتب التي أُنزلت على هؤلاء الأنبياء تختلف في ماهية التعبير عن الذات الإلهية من حيث التجليات .

فالزبور : أنزله الله على داود آيات مفصلات ، ولكنه لم يخرجه إلى قومه إلا جملة واحدة بعد ان أكمل الله تعالى نزوله عليه ، وهو عبارة عن تجليات أسماء الأفعال الإلهية، وأكثره مَواعظُ ، وبَاقِيهِ ثناء على الله بما هو له فيه .

والتوراة : أنزله الله على موسى في تسعة ألواحٍ؛ هي : النور ، الهدَى ، الحِكمة ، القُوى ، الحُكم ، العبودية ، النَّجْدَان (=أي وضوح طريق السعادة من طريق الشقاوة )، الربوبية ، القدرة . وهذه الألواح التسعة التي تُكَون التوراة هي عبارة عن تجليات جملة أسماء الصفات الإلهية فقط.

والإنجيل : أنزله الله على عيسى ، وأوله : بِاٌسْمِ الأب والأمِّ والابن ، كما أن القرآن أوله : بسم الله الرحمن الرحيم . والمراد بالأب هو اسم الله ، وبالأُم كُنه الذات المعبَّر عنها بماهية الحقائق ، وبالابن الكِتَابُ وهو الوجود المطلق ، لأنه فرعُُ ونتيجة عن ماهية الكُنْهِ فالانجيل عبارة عن تجليات أسماء الذات الإلهية فقط.

أما القرآن:فقد أنزله الله على محمد ﷺ مُنَجَّمًا ، وهو عبارة عن تجلي الذات ، وعن تجليات الأفعال والأسماء والصفات الإلهية . ومن ثمة كان عبارة عن الذات التي تضمحل فيها جميع الصفات ، لكونها المَجْلَى المسمَّى بالأحدية المنزَلة على محمد ﷺ ، ليكون مشهدُه الأحديةَ من الأكوان .

ويترتب على هذه الحقائق الثلاث خمسُ ملاحظات :

أ- إن أي واحد من هؤلاء الأنبياء الرسُل السابقين على محمد ﷺ لم يُنزل الله عليه المجموع الذي هو تجلي الذات،ولذلك لم يكن أحد منهم خاتم الأنبياء والرسل ، ولم تكن رسالته خاتمة الرسالات السماوية .

ب- إن أي واحد منهم لم يُرسل إلى البشرية جمعاء ، بل أُرسل كل فرد منهم إلى قومه فقط ، وذلك لأن معرفة الله على الكمال ، أي معرفة ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله تعالى على الكمال لم تحصل بعد.

ج- إن القرآن هو الكتاب الجامع للكتب المتقدمة والمحتوي على معرفة الله تعالى على الكمال لأنه يحتوي على تجلي الذات الإلهية الذي يقتضي بالضرورة احتواءَ تجلي الصفات والأسماء والأفعال. ولهذا كان آخر الكتب ، وكان محمد ﷺ الذي أُنزل عليه خاتم الرسل والأنبياء والرسالات ، ورسولاً للبشرية جمعاء.

د- إن هذه الكتب يتميز بعضها على بعض في الأفضلية بقَدر تَميز المُرسَل بها على غيره عند الله ، وإن كانت كلها من مشكاة واحدة ، وتدعو إلى عبادة إله واحد ، والدليل على هذا قوله ﷺ :<< سورة الفاتحة أفضل القرآن >> ، فإذا صحت الأفضلية في القرآن بعضه على بعض ، فهي في الكتب السابقة أَوْلَى .

هـ – إن القرآن هو الرابع بين هذه الكتب، والأربعة بلا شك تتضمن الأعداد التي قبلها وتحتويها ، ولكن ما قبلها لا يُمكن أن يحتويها ، فهي رمزٌ لعدد حروف اسم << الله>> المكتوبة ، ورمزٌ للقرآن الذي هو ذات الله.

وإذا رجعنا إلى أصل اسم << الله>> فسنجد أنه هو <<الإله>> ، ولكن الألف الوسطى سقطت منه ، وأُدغِمَت اللام في التي تليها ، فصارت الكلمة << الله>>. وعلى هذا الأساس فإن الأصل مُكون من سبعة حروف :ستة رقمية (=كتابية)، والسابعُ الواو الظاهرة في إشباع الهاء هكذا: ( ا ل إ ل ا هـ و)، وهي عينُ السبعِ الصفات التي هي الأُلوهية .

وإذن؛ فحروفُ أصلِ اسمِ << الله>> تَفرضُ قراءة أخرى تستكنه معناها ، وتستجلي صفات الأُلوهية المُضَمَّنَة فيها :

فالألف الأولى : هي عين اسمِه الحي ، فحياة الله تعالى سارية في جميع الوجود، كسريان الألف في جميع الحروف .فالألف هنا رمز لهذه الحياة السارية في الكون حِسّا ومَعنى .

واللام الأولى : هي الإرادة التي كانت أولَ تَوجُّه من الحق في ظهور العالم ، كما أشار إلى ذلك الحديث القدسي << كنُتُ كنزا مَخفيا لا أُعرف ، فأحببتُ أن أُعرف ، فخلقتُ الخلق ، فبي عرفوني >> ، وليس الحب إلا الإرادة .

والألف الثانية : هي القدرة السارية في جميع الموجودات الكونية ، إذ الموجودات كلها داخلة تحت سُلْطان القدرة .

واللام الثانية : هي العلم ، وهو جمال الله تعالى المتعلق بذاته وبمخلوقاته . فقائمة اللام مَحلُّ عِلمه بذاته ، وتعريقُها مَحلُّ عِلمه بمخلوقاته ، ونَفْسُ الحرف هو عين العِلم الجامعِ.

والألف الثالثة : هي السمعُ السامعُ ؛ الذي يُجلّيه منطوقُ {وإِنْ من شيء إلا يُسبّحُ بحمده }

والهاء: هي بَصَرُ الله ، فدائرة الهاء تدل على إنسانِ غيبه المُحيط الذي ينظر به إلى جميع العالم ،والعالم هو البياض الموجود في عين دائرة الهاء . وفي هذا إشارة إلى أن العالم ليس له وجودٌ إلا بِنَظَرِ الله تعالى وإليه إِذْ لو رفعَ نظره عنه لَفَنِيَ بأجمعه ، كما أنه لو لم تَدُرْ دائرة الهاء على النقطة البيضاء لم يكن لها وجود البَتة ، ومع وجودها فهي باقية على ما كانت عليه من العدم ، لأن البياض الموجود قبل استدارة الهاء موجود بعدها ، وكذلك العالم مع الله على حالته التي كان عليها قبل أن يَخلقه الله.

والواو : الظاهرة في إشباع الهاء ، هي مَعنى يُشير إلى كلام الله تعالى ، وعَدَدُها في المرتبة السادسة ، ومن ثمة تُعتبر رمزًا لِلسِّتِّ الجهات التي غايةُ نهايتِها كمالُ العرش الرحماني المنسوبِ إلى كل جهة . فكما أن كلام الله لا نهاية له كذلك المخلوق الداخل تحت حيطة العرش مُمكِنٌ ، ولا نهاية للمُمكِن ، فعدمُ النهاية في الواجب الوجود ظهَرَ بعينه في المُمكِن الجائز الوجود والعدم.

إن هذه السبعة الأحرف هي عين معنى اللهِ وصورتِه اسمًا وذاتًا ، وليست سواه، وهي هي . فالحق تعالى تَسمَّى باسم <<الله>> قبل أن يخلق العالم ، لأنه غَني عنه، بخلاف اسمه <<الرحمن>> فإنه ناظر إلى ظهور أثر الرحمانية في المرحوم . وكذلك الرب والخالقُ وبقية الأسماء الرحمانية كالمُعطي والواهب والمنتقم التي تطلب مُؤثَّرًا يظهر فيه أثرها ، كالعلم فإنه يطلبُ معلومًا ، وككلمة <<كُنْ>> فإنها تطلبُ مُكوَّنا ، فهذه وما مَاثَلَها أسماء رحمانية . وأما اسم << الله >> فهو عَلَمٌ للذات التي هي هُوِّيَّة كل هوية ، وأَنِّيَّةُ كل أنّيّة ، وأَنَانِيَّةُ كل أنانية ، وهو الجامع للشي وضِدِّه.

وبما أن هذا الاسمَ هو هوية كل شيء ، فإن هوية الإنسان من هويته ، ولذلك كانت أحرف كلمة << الإنسان >> كذلك سبعة أحرف مقابلة في عددها لعدد أحرف كلمة << الإله>> السبعة . والسر في هذا هو أن الإنسان مُقابل للحق من وجهٍ ، ومُقابِلٌ للخَلق من وجه آخر ، كما أنه مقابل لعوالم المُلك والملكوت والجبروت ، يُقابِل الأول بجسده ، والثاني بقلبه ، والثالث بروحه .

إن إسم << الله>> هو أعلى الأسماء ، وأعْلَى مَظاهرِ الذات مَظهر الألوهية ، إذ له الحيطةُ والشمول على كل مَظهر ، وهَيمنةٌ على كل وصف أو اسم . فالأُلوهية هي أُمُّ الكتاب، والقرآن هو الأَحَدِيَّة ، والفرقانُ هو الواحدية القرآنية . والأَحَدِيَّةُ هي أعلى الأسماء التي تحت هيمنة الألوهية ، والواحدية أولُ تنزلات الحق من الأحدية، فأعلى المراتب التي شملتها الواحدية هي المرتبة الرحمانية ، وأعلى مظاهر الرحمانية في الربوبية ، وأعلى مظاهر الربوبية في اسمه المَلِك، فالمَلَكِية تحت الربوبية ، والربوبية تحت الرحمانية ، والرحمانية تحت الواحدية ، والواحدية تحت الأحدية ، والأحدية تحت الألوهية ،لأن الألوهية هي إعطاءُ حقائق الوجود وغير الوجود حقَّها مع الحيطة والشمول ، والأحدية حقيقة من جملة حقائق الوجود. فالألوهية أعلى ، ولهذا كان اسم الله أعلى الأسماء ، وأعلى من اسمه الأحَدِ،و الأَحديةُ أخصُّ مظاهر الذات لنفسها ، والأُلوهيةُ أفضلُ مظاهر الذات لنفسها ولغيرها ، ولذلك مَنَعَ أهلُ الله تَجلِّي الأحدية ، ولم يمعنوا تجلي الألوهية ، لأن الأحدية ذات مَحْضٌ لا ظهورَ لصفةٍ فيها ، فضلاً عن أن يَظهَر فيها مخلوق ، فامتنعَت نِسبَتها إلى المخلوق ..

أما اسم الله تعالى << الرحمن>> فهو بخلاف ذلك ، لأنه يجمع تحته جميع الأسماء الإلهية النفسية ؛ وهي سبعة : الحياة، العِلم ، القدرة ، الإرادة ، السمع ، البصر ، الكلام ، بعد حروف هذا الاسم؛ التي سنُفصِّل الحديث عنها أدناه :

فالألف الأولى :هي الحياة ، فهي رمز لحياة الله السارية في جميع الأشياء بنفسها ، كما الألف سارية بنفسها في كل الحروف ، حتى أنه ما ثَمَّ حرف إلا والألِفُ موجودة فيه لفظا وكتابةً, ومن هنا كان حرفُ الألف مَظهرَ الحياة الرحمانية السارية في الكائنات .

واللام : هي مَظهرُ العِلم ، فمَحلُّ قائمتها عِلمُه بنفسه ، ومَحلُّ تعريقها عِلمُه بالمخلوقات .

والراء : هي مَظهرُ القدرة المُبرَزَة من كون العدم إلى ظهور الوجود ، فتَرَى ما كان يَعلَمُ ، وتُوجِدُ ما كان يَعْدِمُ

والحاء : هي مَظهرُ الإرادة ، ومحلُّها غيبُ الغيب، فدلالةُ الحاءِ على هذا واضحة هنا ، لأنها تَخرجُ من آخر الحلق إلى ما يلي الصدر ، والإرادة كذلك مجهولة في نفس الله ، فلا يعلم ولا يدري ماذا يريد ، فيقضي به ، فهي غيب مَحْضُُ.

والميم : هي مَظهرُ السمع ، فمَخْرَجُها شفوي أي من ظاهر الفم ، إذ لا يَسمع إلا ما يُقال وما قيل ، فهو ظاهرٌ سواء كان القول لفظيا أو حاليا . فدائرة رأسِ الميم المُشابهةُ لَهَا الهُوية محلُّ سماعِه لكلامه ، لأن الدائرة يعود آخرها إلى المحل الذي ابتدأت منه ، وكلامُه منه ابتدأ وإليه يعود . وأما تعريقة الميم فَمَحَلُّ سماعه لكلام الموجودات حَاليًّا كان أو مَقاليًّا .

والألف الثانية : ( التي بين الميم والنون) هي مَظهرُ البصر ، ولها من الأعداد الواحدُ ، وهو إشارة إلى أن الحق لا يرى إلا بذاته . وسقوط الألف هاته من الكتابة يشير إلى أن الحق لا يرى المخلوقات إلا من نفسه ، فهي ليست بغير له ، وإثْباتُها في اللفظ يُشير إلى تَمْيِيزِ الحق بذاته في ذاته عن المخلوقات وتَقدُّسِه وتعاليه عن أوصافهم وما هم عليه .

والنون : هي مَظهرٌ لكلامه تعالى ، وكنايةٌ عن اللوح المحفوظ ، زيادة على أنها عبارة عن انتقاش صُورِ المخلوقات بأحوالها وأوصافها كما هي عليه جملةً واحدة ، وما هذا الانتقاشُ إلا كلمة اللهِ لَهاَ (كُنْ) فهي تكون ، على حسب ما جرى به القلمُ في اللوح الذي هو مَظهرٌ لكلمة الحضرة ، إِذْ كلُّ ما يَصدرُ عن (كن) فهو تحت حيطة اللوح المحفوظ . ولهذا كانت النقطة التي فوق النون إشارة دالة على نقطة الوجود، أي على ذات الله الظاهرة بصورة المخلوقات ، فأولُ ما يَظهر من المخلوقات ذاتُه ، ثم يَظْهَرُ المخلوق ، لأن نون ذاته أَعْلَى وأَظْهرُ من نون المخلوق ، فدائرة النون السُّفلَى هي إشارة إلى هذه المخلوقات ، فالنونُ السفلىَ لها ارتباطٌ بالنون العُليا ، وهذا الإرتباطُ يتمثَّل في العبودية التي هي حرفٌ من حروف الأمر المُحكم ؛ فما هي حروف هذا الأمر ؟ وأين تظهر؟

 

حروف الأمر المُحكَم :

إنَّ الأحدية مرتبطة بالعبودية ارتباطَ الألف باللام (=لا) ، فَمن غابَ عنها لا يرى نفسَه ، فهي حضرة التوالي والارتباط ، فسرُّها كسرِّ ارتباطِ اللام بالألف لا ينكشف ، مُودَعٌ في قوله تعالى : {الله الذي رفع السموات بغير عمَدٍ ترونها ، ثم استوى على العَرْشِ } ، لأنه نورٌ يَطلُعُ بطلوعِ نجمِ العبودية ، لو انقصم لم يكن وجودٌ ، وذلك لأن الوجود كله مَسَيَّرٌ ومُدَبَّر بسبعين حرفًا أٌنزِلَ عليها الأمر ، تَظهرُ كلها في حرف واحد ، وهذا الحرف هو إشارة إلى جوهر النبوة والنبيِّ والحروف دائرته .

عشرون من هذه الحروف السبعين مُظهَرة في الإنزال ، والباقي مُدرَجَة فيها ؛ وهي :

1ـ الغين : وهي سِمةُ الحق في الأعيان

2ـ الميم : وهي ناظرُ الحق.

3ـ الكاف : وهي كاتب الحق.

4ـ النون : وهي شأن الحق.

5ـ الحاء: وهي حافظ الحق

6ـ الفاء : وهي فاتحة الحق

7ـ الألف : وهي سلطان الحق

8ـ الذال : وهي شاهد الحق .

9ـ القاف : وهي داعية الحق

10ـ الباء : وهي ناظر الحق

11ـ الهاء : وهي هادي القرآن ، والقرآن حق

12ـ الراء : وهي دولة الحق

13ـ التاء : وهي مشهود الحق

14ـ اللام : وهي حَل الحق

15ـ الجيم : وهي يقين الحق

16ـ السين : وهي سَناءُ الحق وسنا برقه

17ـ الزاي :وهي زاد الحق

18ـ الدال : وهي علو الحق

19ـ الواو : وهي وجه الحق

20ـ لاَمُ الألف : وهي آية الحق

فهذه العشرون حرفًا قد اندرجت فيها بقية حروف الأمر الإلهي المُحكم المُتِمَّةُ للسبعين ، والتي هي دائرة النبي ونبوته ، فهي تظهر في النبي ، ولا يمكن لأحد أن يعرف حقيقتَه إلا بعد الإطلاع عليها ، فهي سبعون في واحدٍ ، والواحد حقيقة ، تَظْهَرُ في سبعين ألفٍ في واحد ، وهو الرب جَلَّ جلاله .

وإذن فحروفُ الأمر المحكم تُمثِّلُ دائرة الله تعالى ودائرة النبوة المُخوَّلِ لها التصرف في الوجود بمقتضى الحروف المنزلة عليها .

__________________________

*نقلًا عن موقع الطريقة النقشبندية القادرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى