الدراسات والبحوث

وحدة الوجود منطق الفلسفة وميتافيزيقا الصوفيَّة

علي محمد اليوسف

وحدة الوجود منطق الفلسفة وميتافيزيقا الصوفيَّة

علي محمد يوسف

لتحميل الدراسة pdf :

(كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة)

تعريف أولي:
يذهب والتر ستيس وهو فيلسوف يعنى بالتصوف في كتابه الذي نناقش بعض أفكاره (التصوف والفلسفة) تقديم وترجمة امام عبد الفتاح امام الى أن : المشكلة الأساسية في وحدة الوجود الصوفي تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والإختلاف , هل الله والعالم متحدان في هويه واحدة ؟ أم أنهما متمايزان تماما ؟ (1). كما يذهب له الإدراك والتفكيرالذهني العقلي واللاهوت الديني في مختلف الديانات التوحيدية وعديد من الديانات الأخرى منها الوثنية من الذين لا يؤمنون بوحدة الوجود ويعتبرون أن الله والعالم متمايزان ومختلفان بالكينونة والماهية والهوية والكيفية والصفات ولا علاقة إتحاد بينهما تحصل في أي شكل من أشكال الترابط أو الحلول الصوفي بينهما.*وبهذا الصدد نضع عبارة لايبينتز(أن الله موجود بموجب ماهيته, وماهيته ووجوده شيء واحد فيه لا فرق بينهما). وتبدو مفارقة أن ألأديان الوثنية ما قبل التوحيدية تعاليمها الروحية حول الفرق بين الله كماهية وصفات لا تدرك بشريا يتماشى مع الفهم المنطقي الفلسفي لوحدة الوجود.

اسبينوزا وحدة الوجود
ولا بد من المرور برأي اسبينوزا صاحب مذهب وحدة الوجود الكلاسيكي الذي قال به فلسفيا أن الله شأنه شأن جميع الظواهر الطبيعية والموجودات يتكوّن من جوهر وصفات موزّعة على جميع الكائنات الحيّة والطبيعة والانسان والكوني, لذا نجده يتحدث عن الله والطبيعة أو العالم والكون أنهم جميعا مترادفات لمدلول ومعنى واحد, ولا يمكن الفصل بينها من حيث أنها جميعا تعني دلالة واحدة,هي أن الله موجود في كل شيء, ولا تفريق كيفي هوّياتي مختلف متمايز ذاتيا من أي نوع بينهم. (كما لا يسلّم سبينوزا بأي وجود خالص خارج الطبيعة). ( 2).
أي لا وجود لله خارج صفاته التي يمكن إدراكها في الطبيعة وفي وجود الاشياء في العالم الخارجي.أوالتي يتعذر علينا إدراكها ومعرفتنا بها كقيّم وأخلاق وتديّن بل نستمدّها من الطبيعة.بمعنى أن اسبينوزا لا يقرّ بوجود الخالق خارج مجال الصفات المدركة المستّدة من الطبيعة أو من الكوني المدرك غير الميتافيزيقي كقوانين فيزيائية.
كما يذهب دارسو سبينوزا الى أن فكرة وحدة الوجود عنده لا تقوم على منطق فلسفي ذهني ولا على حجّة عقلية بل تقوم على فكرة إيمانية صوفية تماما.بمعنى أكثر وضوحا أن الله وجوده ملحوظ في توزّع صفاته على الطبيعة والانسان والكوني وما عدا ذلك فلا وجود إلهي خارج هذه العوالم يمكننا إدراكه خارج صفاته بها أوخلقه لها التي نحيا بها ومعها,.
ومن الملاحظ أن فيورباخ ذهب نفس المذهب الاسبينوزي في تأصيله نشأة الدين في علاقة الانسان بالطبيعة وتخليق الخيال الانساني لما يرغبه في إلهه المصنوع من صفات تلبي نوازعه وتبعث الطمأنينة في نفسه وتهديء من روعه وخوفه وقلقه, ولا وجود من أي نوع من المقدس الالهي عابر لهذه الحقيقة في مقولة فيورباخ (أن عبادة الله تعتمد فقط على عبادة الانسان لنفسه).
من الواضح أن سبينوزا في فهمه وحدة الوجود يتأرجح بين الإلحاد غير المعلن صراحة , وبين الإيمان الذي تعجزه البرهنة عليه , فهو يطرح مسألة وحدة الوجود بتلاعب لفظي فلسفي نجده نحن أن (سبينوزا) يفترض أن الطبيعة تلتقي ب (الله) بالصفات لا بالجوهرأو الماهية, وأنهما الله والطبيعة كلاهما وجودان بصفات غير إختلافية في ظاهرياتها, لكنما الطبيعة والإله وجودان متمايزان بالكيفية والماهية خاصة الانسان الذي هو جزء من الطبيعة التي يتمايز عنها بالصفات والكيفية والماهية ايضا ولا يمتلك ماهية ولا صفة إلهية. ,
وهذا الجوهرالإلهي أساسا ليس مفتقدا بالنسبة لظواهر الطبيعة كظواهر وماهيّات لا حصر لها, لكنه مفتقد بالنسبة لفهم (الله) كينونة ماهوّية مستقلة في وجود إفتراضي بذاته أي نومين , فالله بلا ماهية ولا جوهر يحتويهما وجوده الإفتراضي, ولا يمكن إدراكها و معرفتها لذا فهو غير متعيّن خارج صفاته اللانهائية بالطبيعة.,وأنما يعرف جوهرالخالق في مجموع صفاته ألبائنة في صفات موجودات الطبيعة, وهي صفات لاهوتية إيمانية تجريدية تتلى في ممارسة طقوس الصلاة والعبادة فقط , كالرحمة ,والقوة, والخير,والمحبة, والعذاب, والعفو,والعظمة, والمقدرة وهكذا, وهذه غير صفاته المدركة حسّيا وعقليا وقوانينها المستمدة من الطبيعة في كل ماهو خيّر يتطلع الانسان الإقتداء به, صفات لاهوتية أصلها الطبيعة يقرّها الإيمان الغيبي و لا يقرّ بها العقل والعلم.
ومحاولة سبينوزا الربط بين الله والطبيعة والوجود الكوني بالجوهروصفاته, يؤكد لدينا نحن فقط أن صفات الله ألإلهية بلا ماهية ولا جوهر, فهوأي(الله) ليس ذاتا ولا موضوعا يمكن وعي وإدراك ماهيته و صفاته غير المذكورة صفاته في اللاهوت الديني المستمدة جميعها من الطبيعة والصفات الخيرّة كما يتمّناها الانسان في حياته, بل هو ممكن أن تكون بعض صفاته إدراكية في الطبيعة والكوني فقط لا غير, ومعدومة في كل مجالات التعرّف أو التعريف بها خارج الطبيعة الحسّية والإدراك العقلي أو أللاشعوري التخيّلي, ولكل شخص تفسيره لهذه الصفات وإيمانه بها, بخلاف أن الطبيعة ظواهرها في أغلبها هي جواهروظواهرمعا تحكمها قوانين الطبيعة المدركة منها وغير المدركة إنسانيا في فضائي قانون الزمان والمكان المحكوم بهما الإنسان والطبيعة معا , بخلاف أن الله بلا ماهيّة ولا جوهر يحتويهما وجود مستقل لا يمكن للإنسان إدراكها كما في إستحالة إدراك وجوده. فالله مدرك وجودا غيبّيا بصفاته وليس مدركا بماهيته العصّية على المعرفة والإدراك الحسّي والذهني ,ماعدا أن تكون مجمل صفاته هي تمّثل جوهره, سواء أكانت تلك الصفات مدركة أم غير مدركة لنا.
من نافل القول أن فيورباخ يلتقي بهذا الفهم الإسبينوزي في كتابيه, أصل الدين , وكتاب جوهر المسيحية في تلخيص رأيه أن الانسان والطبيعة والخالق هي تمّثل بمجموعها كينونة واحدة تعبر عن نفسها أن الانسان في علاقته بالإله والطبيعة إنما هي تجسيد أن الانسان يعبد ذاته من خلال وعيه الطبيعة وتخليقه إلهه الخيالي ألخاص به وهي نظرة ماديّة من الصعب جدا محاولة مزاوجتها التلفيقية مع الصوفية التي يغلب عليها التديّن..

الصفات الطبيعية في صوفية الاوبنشاد :
وحدة الوجود التي تعتمدها الاوبنشاد التي يطلبها صوفية الهندوسية والبوذية في إقتفائهما تعاليم ألمعبود براهمان و بوذا, هي من منطلق إسباغ قدسيّة الصفات الطبيعية على المعبود عندهم, ولا وجود لحياة أخرى فيها حساب وثواب بخلاف أديان الوحي التوحيدية, ويبدو أن هذا التعبير قريب من فهمنا لمقولة سبينوزا بأنه لا وجود لخالق فوق مدركات صفاته الأرضية والكونية له التي ندركها بالعقل وليس بالايمان القلبي.
ولنقرأ هذه الابيات الشعرية للاوبنشاد:
أنت النار والشمس والهواء/ وأنت القمر/وأنت الفلك المرصّع بالنجوم/ أنت براهمان الأعلى /أنت المياه/ (أنت خالق كل شيء)/ أنت الشاب والصّبية والشيخ الذي يتوكأ على عصاه/ فثّم وجهك في كل مكان/ أنت الفراشة السوداء/ أنت الببغاء ذو العينين الحمراوتين/ أنت السحاب وأنت الفصول وأنت البحار/(أنت البداية وأنت فوق الزمان والمكان) . (3)
من الواضح جدا أن وصف الاوبنشاد الصوفي هو وصف حسّي إدراكي عقلي لظواهر الطبيعة والكون وخلعها على معبودهم في إستنساخهم فلسفة فيورباخ دونما دراية, وهو توصيف لاهوتي مشترك في غالبية الأديان التوحيدية وفي العديد من الاديان غير التوحيدية. , ولا يوجد بهذه الصفات التعبّدية الإيمانية خرق لقوانين الطبيعة على شكل معجزات إيمانية مجردة إلا في عبارتين (أنت البداية وأنت فوق الزمان والمكان) و(أنت خالق كل شيء) اللتان هما كسروخرق لقوانين الطبيعة التي تحكم قدرات البشرالإدراكية حسّيا وعقليا في اللانهائي زمانا ومكانا, وبهذا الفارق نكون نحن بشرعلى الارض, ويكون الله إلها يعبد موجود في السماء .
هذا الإحساس الصوفي والتعلّق بالصفات الطبيعية المنسوبة للخالق على أنها صفات خارقة لقوانين الطبيعة هي في حقيقتها الأرضية ليست كذلك في القداسة المسّبغة عليها, ولا تنسجم مع القول: (براهما أنت خالق كل شيء), وفي هذا لا نجد ميزة قدسية تنفرد بها صوفية براهما عن باقي الأديان التوحيدية التي لا تجمع بين أن تكون الطبيعة بصفاتها هي الخالق,في نفس وقت أن تكون هي مخلوقة أيضا, كما تدعي الاوبنشاد أنها مخلوقة من خالق أسبق عليها بمعنى (أن الكون خالق للكون)(4) ذاتيا ولنفسه فقط, والطبيعة مخلوقة بصفاتها من قبل خالق هو في حقيقته عدم وخواء وإمتلاء في وقت واحد, صاحب الصفات في الطبيعة واللاهوت الديني , والخالق غير المدرك للبشر لا في ماهيته ولا في صوره وتجليّاته وهو ما ينطبق على ألفهم الديني واللاهوتي في مختلف الأديان التوحيدية في عجزها العقلي إثبات وجود الخالق أو في إثبات عدم وجوده أيضا. ولا في إمكانية الإستدلال على صفاته غير الأرضية أو الكونية التي يدّعي الصوفية الإتحاد بها في العرفان والإشراق في مدارج الحال الصوفية.

شيء عن صوفية zen البوذية
نبدأ بالتساؤل الأزلي والإشكالية المتقادمة زمنيا في مختلف العصور ومختلف الأديان هي كيف يمكن لما لا يمكن أن يقال عنه أنه موجود أو موضوعي, أن يكون علّة أولى لكل ما هو موجود, وموجود وخالق من عدم أو لاشيء ؟ (5)
من العبث اللامجدي أن نتدخل في حل إشكالية وفك رموز شفرة ليست عصيّة على الصوفية وحسب , وأنما عصّية في محاولة سحبها على جميع الاديان في إشكالية اشبعت أجتهادا دونما نتيجة منذ وعي الانسان تخليقه معبوده في بدء الخليقة, وهي كيف يكون الخالق علة بلا معلول , صانع وخالق كل شيء,وموجود من غير وجود أو عدم سابق عليه لا قبله ولا بعده؟ وهكذا ندخل في دوامة من التجاذبات الميتافيزيقية واللاهوتية التي لا نهاية لها, في إدراك المسار الازلي لخلق العالم من عدم ومن وجود إلهي لم تبق علة ولا حركة تعقبه أيضا.
من الخطأ الإعتقاد أن يكون ما ذكرناه حجّة كافيّة لأصحاب الإشراق الصوفي والإتحادي العرفاني على أنها إمكانية حقيقية ومتاح لهم تحقيقها, وأنها وأن كانت لا تمتلك الاقناع العقلي بها لكنها كافية لديهم للتعايش مع إشكالية الأصل في عدم إمكانية تفسير الخالق بأنه علة بلا معلول , وأنه وجود ازلي سرمدي واجب الإيمان به بألضرورة والحاجة البشرية له.
فلماذا لا تكون التجربة الصوفية صادقة إيمانيا بزعمهم في مثل هذه الإشكالية العصّية على التفسير بمنطق أو منهج فلسفي أو لاهوت ديني يلتقي بإشكالية الميتافيزيقا وإختلافات التفسير اللاهوتي المتنوعة.؟ التي لا تمتلك لحد الآن حلولا مقبولة.
بمعنى أن القضايا الميتافيزيقية والدينية اللاهوتية التي ليس لها حل, هي نفسها الايمان الغيبي في قضايا الصوفية كيقينيات لا تمتلك برهان صحتها ولا نفيها, ولكن يوجد من يؤمن بها ويدعو لها ويزيدها إرباكا وغموضا.
ما يجعل الشك وعدم الترجيح والتسليم في أن تكون التجربة الصوفية حقيقة وليست ذهانات خيالية إغترابية تغذّيها الجوانب النفسية اللاشعورية الوجدانية التي يخلعها المتصوف على الخالق المتصورالمعشوق , ويرتّد فيها وعليها في وعيه وفي تأكيد ذاتيته الإضطرابية مستعينا نفس المعيار الإشكالي غير المحسوم في غالبية الإشكاليات اللاهوتية الدينية والفلسفية في معالجتها قضايا الميتافيزيقا التي يدخل ضمنها الدين و الصوفية من دون حل مرضي ونتيجة مقبولة.
ترى البوذية الصوفية zen ردّا على إشكالية عدم وجود المتعيّن وجودا بنفس معيارية عجزالعقل البشري في إدراك أي نوع من أنواع الصفات الإلهية أو إمكانية الإتحاد بها في تجربة المتصوف في غير مجال الطبيعة والانسان والكوني, وهي وجهة نظر لا تبتعد كثيرا عن الدوران حول مركزية الإشكالية اللاهوتية في غالبية الأديان التي تجمع على أن وجود الله هو في تجليّاته الطبيعية وصفاته المدركة عقليا وعاطفيا التي يتساوى في إدراكها المتصوف وغير المتصوف الديني ميتافيزيقيا وماديا, وعليه لا تطرح البوذية معالجات جديدة يمكن الإعتداد والتسليم بمقبوليتها فتقول (طالما أن النرفانا هي الحقيقة النهائية التي هي بغير تمايز ولا أختلاف أو ثنائيات ,وأنه لا توجد تفرقة في الحقيقة النهائية بين النرفانا واللانرفانا,بين الحقيقة واللاحقيقة وبين التعاليم واللاتعاليم, لذا يعلن بوذا أن الوجود واللاوجود ينبغي رفضهما معا, لا على أنه وجود ولا على أنه لا وجود أو عدم ).ص 253 من المصدر كتاب والتر ستيس(الفلسفة الصوفية) .
بضوء ما ذكرناه آنفا أنه لمن المهم أن نعيد للذهن عدم إمكانية المتصوف تجاوز ذاتيته الصوفية التعبدية التي تعني التشتت واللانظام والكثرة بصفات لا (أنسيّة) أو لا بشرية تصوفيّة أمام الواحدية الكلية الإلهية التي هي غير ذاتية ولا موضوعية, كي يستطيع الصوفي تنظيم وبرمجة مدركاته الحسية والتخييلية في أمكانية الاتحاد الصوفي بها,فالواحدية الالهية هي اللامتعيّن اللانهائي غير المحدود زمانا ومكانا, واللامختلف في واحديته ولا هوية تميزّه يمكن إدراكها بأي وسيلة تصورية ادراكية بشرية , فهو الخالق بذاته (نومين) وليس من أجل ذاته بعلاقته بالآخر فهو ليس بحاجة الى غيره وبعيد عن أمكانية التشيؤ بأي معنى أو مظهرحسّيا أوتخييليا أمام من يرغب ذلك من مريدي الإتحاد به من أصحاب الصوفية .
كل هذه العلاقة غير السوّية وغير المتكافئة بأدنى شروط المعيارية المقارنة بين الله والانسان, أنما تجعل المتصوف يسلك طريقا خاطئا, ولا يعود بحصيلة لتجربته يمكن الوثوق بها والتيّقن منها, لا كتجربة خارج إدراك الشخص غير المتصوف, ولا كتجربة ذاتية تمتلك أقل الإمكانات الإدراكية أو المقومات غير المنظورة في إمكانية كسر قوانين الطبيعة الشغاّلة في حيّزي الزمان والمكان أن جاز التعبيروتحقيق الإتحاد بالله صوفيا.
حتى عندما يعجزالمتصوفون التعبير عن تجربتهم الصوفية لغويا,فهم يعزون ذلك العجز الى إدعائهم أن اللغة كيان محدود بمدركات الطبيعة ومفهوم الزمان والمكان الأرضي فقط, ولا يمكنهم توظيف اللغة المحدودة الصوفية للتعبير والإحاطة بكيان لا متناهي ولا محدود ولا متعيّن بصفات يتسنى للبشر إدراكها أو معرفة ماهيتها.بل يذهب بعض المتصوفة أبعد من ذلك, في أن نقل التجربة الصوفية لغويا للآخرين أنما هو تخريب في أن لا يبقى للتجربة أية مصداقية,من خلال أنها تجربة بين ذاتيتين إثنتين لا واسطة ثالثة تدخل بينهما.لذا نجد إعدام اللغة تصوّفيا عمل مقصود لذاته وليس عجزا في إستعصاء لغة التعبير توصيف التجربة الصوفية فقط.

وحدة الوجود في المسيحية
يطرح والتر ستيس إشكالية وحدة الوجود في الأديان السماوية التوحيدية بالتساؤل التالي:(ما الذي يحدث في لحظة الاتحاد الصوفي مع الله؟ هل تصبح روح الصوفي ببساطة متحدّة بالله؟ أم تبقى وجودا متمايزا ومختلفا عن الله تماما؟ أم ينتج عنهما هوية ثالثة في الإختلاف الإتحادي) (6) .
من المبّكر التأكيد بالقطع أن المسيحية تفهم الإتحاد بالله أنه لا يعني بالمطلق وحدة الوجود الذي تدينه كما في إدانة الإسلام له عند الصوفية ولا تقرّ به.
فالقديسة تيريزا تصف الإتحاد بالله بقولها ( واضح جدا ما الذي يعنيه الاتحاد, شيئان متمايزان يصبحان شيئا واحدا)(7). تفسير الإتحاد هنا يعني أن الشيئين كلاهما يحتفظان بكيفياتهما المتمايزة غير المشتركة بعد الإتحاد لا قبله فقط أثناء التجربة الصوفية, ويفقدان ألله والتصوّف تمايز الكيفيتين وقت ألاتحاد, فمثلا إلتقاء نهر مع نهر آخر يكونان نهرا ثالثا في كيفية واحدة جديدة ,(مثال واقعي إلتقاء نهري دجلة والفرات وتكوينهما شط العرب في العراق) لكنهما في حقيقتهما (النهرين) يلغيان المجانسة المشتركة (بالماء) وذوبانها في خصائص كل منهما في المجرى النهري الثالث بلا رجعة, ويكتفيان بتمايزهما كنهرين غير متصّلين قبل التقائهما وإتحادهما معا في نهر شط العرب,
ربما هذا المثل يفيدنا في الإتحاد الطبيعي المادي بين شيئين ماديين بكيفيات معلومة محسوسة ومشتركة عقلانيا لدينا , لكن هذا النوع من الإتحاد في الطبيعة غير صحيح في التعميم في وصف تجربة الإتحاد الصوفي الروحانية غير المادية بالله, من حيث إذا ما حقق المتصوف (كيفيّة ) متمايزة عن كيفية البشر في ألإتحاد الصوفي المؤقت بالله , فالنتيجة رجوع كل من الله والصوفي الى كيفياتهما الأصيلة قبل تحقيق إتحادهما وعودة المتصوف الطبيعي الخارج من تجربة الإتحاد الصوفي كأنسان أرضي كما هو قبل الإتحاد الروحي.
لكن في مثال إلتقاء النهرين وتشكيلهما نهرا ثالثا بكيفية ثالثة يتعذّر على أي من النهرين العودة الى كيفياتهما المستقلة قبل إتحادهما وتكوينهما حالة كيفية جديدة ناشئة من أتحادهما.
لأنهما يمتلكان كيفيتين ماديتين من نوع واحد هو (الماء). فالكيفيات المختلفة في حالة الاتحاد الصوفي تبقى متمايزة بالصفات, فالاله هو الخالق ,والصوفي يبقى بشرا لا غيراذا صح تواصله مع الخالق أم لا.فالصوفي لا يمتلك أية خاصية تربطه بخاصية يمتلكها الله, وبخلاف ذلك يكون التشكيك في صدقية التجربة الصوفية أمر مفروغ من مشروعية التسليم به.
ولنطّلع على هذه العبارات لفيلسوف كبير في قضايا الصوفية تذهب لتاكيد ما ذهبنا له في العبارات السابقة ,يقول روز بروك:(كما أن النار لا تصبح حديدا, ولا يصبح الحديد نارا, فأن المخلوق المتحد بالله لايكون الها, كما لا يصبح الله مخلوقا).(8). وهذه من أبلغ التبيرات الفلسفية اللاهوتية الموفقة , لكنها لا تتوافق تماما مع قول القديس يوحنا :(إن الاتحاد بالله إتحاد مشابهة يحدث عندما تتطابق إرادتان, إرادة الله وإرادة الروح معا,تلك الروح التي وصلت مرحلة التطابق الكامل والمماثلة فتتحد إتحادا تاما مع الله وتتحول الى الله على نحو يفوق الطبيعة ). (9)
هنا واضح جدا من عبارة يوحنا أن الانسان الصوفي يمكنه أكتساب صفة فوق بشرية بالإتحاد مع الله ليرجع يفقدها بعد زمن إنتهاء تجربة الإتحاد الصوفي.ومن هنا يجري ألتأكيد على أن الذات الفردية للمتصوف التي يتسنى لها زعم الإتحاد بالذات الإلهية, أنما تبقى محتفظة بهويتها الخاصة البشرية بعد عودتها من رحلة التجربة الصوفية ولا يمكنها الإتحاد الهوّياتي الكيفي من غير الإختلاف مع الذات الإلهية.
عند أمعان النظر جيدا في عبارات يوحنا حامل الصليب نفهم أنه لا يتحدث عن إتحاد الصوفي بالله في المسيحية, ولا يتحدث أيضا عن وحدة الوجود, بل يتحدث عن أسقاطه إتحاد إعجازي مستمد من تجربة المسيح في الولادة وفي الصلب والقيامة,وفي خرقه نواميس الطبيعة في إعجاز لا يستطيعه البشر المتصوفة ولا الناس العاديين, عليه لا يترتّب على مثل هذا النوع من الإتحاد مبدأ التعميم الصوفي في مفهومة وحقيقة الاتحاد بالخالق. وهذا لا يمنح تفويضا لاهوتيا أن بمقدور كل صوفي يقّلد تجربة ما مر به المسيح .فالمسيح يمتلك إعجازا ممنوحا له من قبل الخالق في تمكينه إجتراح المعجزات التي لايستطيعها أحد من البشر في قيامه بخوارق الأفعال, وهو ما يعجز عنه الصوفي أو أي كائن إنساني عادي.
أنه لمن المهم أن فكرة وحدة الوجود في المسيحية مرتبطة إرتباطا وثيقا في اللاهوت الديني المسيحي, وتعاليم الكنيسة أكثر من إرتباطها بفهم فلسفي صوفي كما يتاكد لنا من هذا الاقتباس:(أن ايكهارت وهو من أعظم متصوفة المسيحية في القرون الوسطى أنه كان يردد في مواعظه بما أتهمته به الكنيسة على أنه يزعم الهوية مع الله, في قوله:ينبغي على المرء أن يحيا بحيث يكون متحّدا مع ابن الله لدرجة أن يصبح هو ذلك الابن,حتى لايكون بين الروح والابن أي تمايز ) ص 285 من المصدر المشار له سابقا ونعتمده في هذه الورقة.
ويقول القديس بولص؛(اننا جميعا نتحول الى الله, وكل مايتغيّر الى شيء آخر, يصبح متحّدا معه في هوية واحدة ,ومن ثم لو انني تغيرت الى الله وجعلني واحدا مع ذاته, فلن يكون مع الله الحي أي تمييز بيننا, وأنا والله واحد, وعيني عين الله واحدة, وهي هي,واحدة في الرؤية, واحدة في الحب). ص286 من المصدر المشار له.كتاب والتر ستيس(الفلسفة والصوفية).
(بعبارة أخرى فان الله والروح من حيث الوجود هي كيفيات متمايزة, وإتحادهما هو إتحاد تشابه كيفي أي نوعي لإرادتين متفقتين, ويمكن تسمية هذا النوع من الإتحاد بالإتحاد الكيفي كتمييز له عن الإتحاد في الوجود – وحدة الوجود في الطبيعة – أو في الجوهر أو في الهوية). (10) لاحظ العبارة تقول إرادتين متفقتين ولم يقل صفتين متشابهتين لكيانين يمتلكان كيفيتين متمايزتين جدا ومختلفتين هوّياتيا, ولا مجال في تكافؤهما.خالق إلهي ومخلوق بشري لا يتحّدان لا في خاصية كيفية ولا في تماثل صفاتي يدرك عقليا..
تفهم المسيحية ( العلاقة بين الله وجزء من العالم – المقصود بهذا الجزء الانسان – التي هي الذات الفردية في وصولها حالة الاتحاد الصوفي بالله إنما تعني الهوية مع الله حتى لو كانت خلال فترة الاتحاد على الأقل).(11)
أيضا في الإقتباس أعلاه نلاحظ مدى التحفّظ اللاهوتي المسيحي حول إمكانية وحقيقة الاتحاد بالله وفي أمكانية اكتساب الصوفي كيفية خارقة لعالم البشر ,وتستمد هذا الاكتساب – حتى لو كان اكتسابا مؤقتا خلال لحظة الاتحاد كما مر بنا – في الاتحاد المتكرر بالله تصوّفيا.
هذا الفهم الهوياتي الصوفي للاتحاد بالله قد يعطي تصورا زائفا لدى الصوفي أنه بمستطاعه أن يكون ذاتا فردية وهوية صفاتية مكتسبة مغايرة لحقيقتها الاصلية البشرية الطبيعية , في إكتسابه هوّية جزئية بصفات ألوهية في إتحاده بالله.وهذا غير صحيح فلا يمكن لكيفيات متباينة مختلفة في الهوّية والتكوين أن تتحدا ويكتسب أحدها من الآخربعض صفاته الذي هو الإلهي صفات تجعل منه فوق الإنسان البشري حتى ولو لبعض الوقت , التي هي التجربة الصوفية وزمنها,وهذا النوع من وحدة الوجود يطلق عليه الكتّاب المسيحيين, وليس كل فرق المسيحيين أسم (الهرطقة) وإلتجديف.
وحدة الوجود في المسيحية بإدانتها زعم الصوفية بالإتحاد بالذات الإلهية أنما تقوم على مبدأ( الهوية في الاختلاف بين الله والعالم أو بين الروح والله,وأن الإختلاف بين الله والذات المتناهية – الانسان – هو ما يسلّم به كل إنسان بوصفه مسألة طبيعية لا تحتاج الى متصوف يؤكدها ولا الى فيلسوف يوضّحها). ص 308
ويلتقي الإسلام بهذا النوع من التفسير التصوفي على أن هناك هوة عظيمة تفصل الخالق عن مخلوقاته, كما أن صوفية الإسلام تميل الأخذ بالإختلاف الهويّاتي الكيفي, بين الإلهي والبشري, وعن مقولة الفناء في الله لدى صوفية الإسلام يصفها الغزالي(غاية التصوف الفناء التام في الله,تخيّلها البعض أنهم أصبحوا مع الله في وحدة, كما تخيّل آخرون انهم أصبحوا معه في هوّية, وتخيّل فريق ثالث أنهم إرتبطوا به, لكن كل هذا غلط.).ص320

هوامش:
• نحن هنا نصف الخالق بأن له كينونة وهوية وماهية وصفات, قولا مجازيا فقط فلا أحد بمستطاعه الجزم ان هذه من معالم الإدراك البشري لها لا إيمانيا ولا عقليا ولا تصوفيا. (كاتب المقالة).
1. والتر ستيس /التصوف والفلسفة/ ترجمة امام عبد الفتاح امام / ص262
2. نفس المصدر السابق ص 267
3. نفس المصدر السابق ص 269
4. نفس المصدر السابق ص 256
5. نفس المصدر السابق ص 270
6. نفس المصدر السابق ص 281
7. نفس المصدر السابق ص 282
8. نفس المصدر السابق ص 283
9. نفس المصدر السابق ص 285
10. نفس المصدر السابق ص 287
11. نفس المصدر السابق ص 257

______________________________________

*نقلًا عن موقع ” الحوار المتمدن”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى