العرفان السياسي كمنشأ لحضارة التوحيد
د. محمود حیدر
باحث في الفلسفة والإلهيَّات – لبنان
يستثير الكلام على العرفان السياسي، أو العرفان في مقام السياسة، السؤال حول مشروعية هذا المصطلح المركَّب، والمهمة التي يرادُ له أن يؤدِّيها في الاجتماع الحضاري الإسلامي. وما من ريب فإن قضية كهذه هي من القضايا الإشكالية التي نَدُر تناوُلُها بالبحث المستقل قديماً وحديثاً. سوى أن مقاربتها بالدرس والمعاينة والتحليل، وإن كانت تنطوي على وجوه شتى من الالتباس والغموض، فإن تظهيرها في ميدان البحوث العلمية يكتسب أهمية استثنائية. وما ذاك إلا لندرتها أولاً، وتالياً إلى المسائل النظرية والمعرفية التي تثيرها، والتي تؤلف مُنفسحاً تنظيرياً غير مألوف في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر. إلى هذا كذلك، لم يشهد التراث المعرفي الإسلامي، الذي زخر على امتداد تاريخه بمباحث فلسفية وأصولية وكلامية حول نظريات الدولة والسلطة وأصول الحكم، إلا على مساعٍ محدودة، أو غير مكتملة في ميدان الفلسفة السياسية العرفانية.
لم يكن اختيارنا لعنوان هذه المداخلة من قبيل الترتيب اللفظيِّ، لناحية إخراجها على ثنائية العرفان والسياسة، حتى ليظنّ الناظرُ فيها كما لو أننا جمعنا بين نقيضين. والحال ليس هذا؛ فلقد قصدتُ من هذا الجمع، إنشاء رابطة ودٍّ بين العرفان والسياسة من أجل أن يستويا نظراً وعملاً على واحديَّة أُفُق. وكان لي لكي أنجز هذه الرابطة، أن أتجاوز عن منازعةٍ لا تزال موضع مكابدة وجدال في المباحث النظرية لعلم الوجود؛ عنيتُ بها تلك التي ترتَّب على الانفصال المديد بين ضربين من المعرفة: معرفة الله ومعرفة العالم. ومع أن الفصل بين المعرفتين لا موطِنَ له في توحيد العرفاء، إلا أنه ملحوظٌ باعتناءات مشهودة في مباحثهم. وذاك ما سيظهر من تصدِّيات العرفان النظري للفجوة الأنطولوجية، التي دأبت الميتافيزيقا الكلاسيكية على إحداثها لمَّا أوكلت إلى العقل رعاية عالم الممكنات، ورأت إلى عالمَيْ الغيب والواقع باعتبارهما قضيتين منفصلتين، ولكل منهما أُفُقُها الخاص في نظرية المعرفة. أما النتيجة التي ستنتهي إليها، فهي استحالة لقاء النقيضين. أي، الغيب بما هو أمرٌ لا عقلاني، والواقع بوصفه حقيقة عيانية يُستدلُّ عليها بالبرهان والتجربة. لقد سلكت الميتافيزيقا الكلاسيكية هذا المسلك منذ تأسيساتها اليونانية الأولى، ولمَّا تزل تداعياتها تسري في أزمتنا المعاصرة. ربما لهذا الداعي تعذّر عليها فهم الوجود بـ«أفقٍ تأويلي ما بَعديٍ»، ينفسحُ فيه نشاط الفكر، ويكتشفُ العقلُ قدرتَه على مجاوزة ذاته المسكونةً بدنيا المقولات العشر. إلى ذلك، ثمة داعٍ آخر يعود إلى ما يجوز وصفه بـ«الخليط المنهجي» الذي اقترفه ميتافيزيقيُّو العقل المقيَّد قديماً وحديثاً، لمَّا قاربوا الإلهيات بأدوات المنطقِ الأرسطي، واستفهموا الأمرَ الدينيَ بفلسفة وضعانية مثلومة.
ومع أن هذه المعضلة لا تني تُستنبتُ من دون توقف في مسارات الفلسفة، فإن كُثُراً من العرفاء سلكوا درباً مغايراً فلم يجدوا تناقضاً بين العقل والنقل والكشف كسبلٍ للتعرُّف على الله والعالم. وإلى هذا راحوا يوجبون التمييز وبيان الفروق في عمل كلٍّ منهما. وقد نجد في الحكاية المشهورة عن الخلوة التي انعقدت بين إبن سينا والعارف بالله أبو سعيد أبو الخير ما يُلمِحُ إلى أصل المُشكِل. أي إلى إمكان التواصل بين العقل الفلسفي والقلب العرفاني من دون أن ينفيَ أحدُهما الآخر.. تقول الحكاية إن ابن سينا سُئِلَ لمّا انقضت خلوته مع أبي سعيد: كيف وجدت الشيخَ.. فأجاب: كل ما أعلَمُه هو يراه. ولمَّا سُئِل الأخير عما وجده من الشيخ الرئيس قال: كل ما أراه يعلمُه. تشير إجابتا الفيلسوف والعارف – وكلٌ من طَرَفه – إلى وحدة بين إلهامات القلب العرفاني، واستدلالات العقل البرهاني. وإن كان تحقّق هذه الوحدة حاصلاً من منهجين مختلفين. نظير هذه الحكاية، وإن بسياقات أخرى متصلة بالمنهج، ما حصل في مبتدأ القرن الثالث عشر الميلادي، عندما طَلَب القديس توما الأكويني إلى أساتذة اللاّهوت ألاَّ يبرهنوا على أصلٍ إيمانيٍ بالبرهان المنطقي. ذلك لأن الإيمان –برأيه- لا يرتكز على المنطق بل على كلمة الله. وعلى التوازي نبَّه أساتذة الفلسفة إلى ضرورة ألاَّ يستدلَّوا على حقيقة فلسفية باللُّجوء إلى كلمة الله، لأن الفلسفة لا ترتكز على الوحي بل على العقل. ورغم أن الأكويني كان أرسطياً متشدِّداً، فقد حرِصَ على التمييز بين الفلسفة والوحي؛ وذلك من قبيل حفظ موقعية كل منهما في إنتاج المعرفة الصحيحة. فإذا كان اللاَّهوت هو العلم بالأشياء عن طريق تلقِّيها من الوحي الإلهي، فالفلسفةَ هي المعرفة بالأشياء التي تفيض من مبادئ العقل الطبيعي. ولأن المصدر المشترك للفلسفة واللاَّهوت هو الله خالق العقل والوحي، فإن هذين العلمين يسيران في النهاية إلى التوافق.
المعادلة نفسها تسري أيضاً على جدليات المواصلة بين العرفان والسياسة، حيث تتخذ العلاقة بينهما وضعية الوصل الإمتدادي على الرغم من الاختلاف المنهجي في نظرية المعرفة لدى كل منهما. ووَفْقاً لمقاصد الأطروحة التي نحن بصددها، فإن السياسة – وبفضل الوضعية الامتدادية التي مرَّ ذكرها- تحتل مرتبة عليا في المنظومة العرفانية، وفي ميادينها الفسيحة يتبوَّأ العارفُ مقام التدبير، وصولاً إلى المقام الأسمى في معراجه العرفاني.
١- ماهية السياسة العرفانية في الحكمة التوحيدية
السياسة عند العرفاء تساوق ما جرت عليه دربة الحكماء والفلاسفة وان كانت تجاوزها مرتبة في علم التوحيد. إنها فضاء النظر الذي يكون موضوعه الدرس والتحقيق والتفكّر بالحكومة وأنواعها وظواهرها، وكذلك بنظام المؤسسات والغايات السياسية. وهي بهذا المعنى «الحكمة العملية التي يُطلق عليها في الفلسفة الإسلامية «تدبير المدن والعلم المدني» كما يبين الفارابي في «آراء أهل المدينة الفاضلة»، أو «الحكمة المدنية التي مهمتها النظر في القوانين العامة على مقتضى المصلحة العامة، وغايتها الوصول إلى الكمال الحقيقي» كما يقرر الحكيم الإلهي نصير الدين الطوسي.
ولما كانت السياسة من خواص الكائن الإنساني ولا يشاركه فيها غيره من أنواع الموجودات، فهي -عند العرفاء على وجه الخصوص- القيمة الموصلة إلى الفضيلة، وتحقيق الكرامة الكونية الشاملة. والسياسة المعني بها هنا ليست مطلق السياسة التي هي في جانب منها نابعة من القوة الشهوية والغضبية، وإنما تلك التي غايتها الكمال والخيرية التامة. وحين اتفق الحكماء على مدنية الإنسان بالفطرة والطبع، كانوا على يقين من أن الكائن الآدمي هو أشرف المخلوقات من حيث الاستعداد والأهلية لنيل السعادة. ذلك بأنه كائن يختزن في ذاته بعدين أساسيين يؤلفان ماهيته الوجودية، هما: بعدٌ مادي وبعدٌ روحاني. من جهة: لا تتاح له حياتُه المادية على النحو الأمثل إلا بمؤاخاة أبناء نوعه، ومن جهة ثانية: لا يفلح بكماله الإنساني ما لم يعتنِ بروحانيته التي توفرها له الفطرة الإلهية المودعة فيه. لذا كان بديهياً أن ينشأ المجتمع المدني من تلبية الحاجات المادية للإنسان مقرونة بالضرورة في تلبية حاجاته الروحانية. فمن شروط قيام الإجتماع المدني – كما يبين الفيلسوف العارف نصير الدين الطوسي- أن تكون لأهله القدرة على تقبل القواعد السياسية، وأن يتعرفوا إلى مدبِّريهم الإلهيين ويقبلوا بهم.
ولأن ماهية السياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه – كما يقول الحكماء – فإنها بهذا التعريف عين ما قصدت إليه المعارف الإلهية. ولا سيما لجهة استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل. وهذا أيضاً ما تدل عليه توجيهات الأنبياء وأعمالهم، وما أورثوه للأولياء من علوم الظاهر والباطن. فالسياسة الفاضلة بهذين المعنى والمقصد تسري على الحضارات والمجتمعات، مثلما تسري على منظومات القيم بين الأفراد. لهذا سنرى كيف جمع العرفاء بين الخلاص الفردي والوفاء بخلاص الجماعة البشرية. فالعارف إنما يتدبَّر هذين النوعين من الخلاص على نحو الوحدة الأصيلة بينهما، ولكن بلحاظ التعاطي مع كل منهما على قاعدة الخصوص والعموم. ففي سيره وسلوكه ومعارفه يكون العارف متيقناً من أن تحصيل شهادة القرب إلى الله أمر لا يتحقَّق له إلا بحفظ حق الخلق أفراداً وجماعات وحضارات، ومن ثم الوصل معهم وتدبير أمرهم وإرشادهم نحو سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ومع أن واجبية الوصل مع الجماعة داخلٌ في صميم تكليفه، إلا أن العارف متنبِّه في الآن عينه، إلى ضرورة حفظ نفسه مما قد يلحق بها مما تكتظ به عوالم الكثرة من أهواء وكدورات ونواقص. وما كان المتصوِّف العارف ليعرِّف مذهبه بـ «أنه النظر إلى الكون بعين النقص»، إلا لأن النقص الكامن في دنيا الكثرة هو نقصٌ كبير ومتمادٍ في دنيا الانسان كما في سائر الموجودات. من أجل ذلك كان من أظهر خصائص المشروع الإحيائي العرفاني مواجهة الخواء بالامتلاء، والنقصان بالكمال، ودرء الظلم بالعدل، وردِّ الجحود بمكارم الأخلاق. وهذه الخصائص هي نفسها التي تدور مدار المشروع الإحيائي العرفاني، حيث يشكل التدبير السياسي نقطة الجاذبية في قانون السياسة بما هي فعل تدبيري الإستخلاف الإلهي. وهو ما آلت إليه تنظيرات العرفاء المسلمين، لقولهم إن الحق الأول تعالى أوجب السياسة على الإنسان كمهمة ينبغي له أن يؤديها بالعمل والنظر في سياق تكليفه واستخلافه. وانطلاقاً من ذلك كانوا يرون أن كل مسألة لا يُبنى عليها عمل، فإن الخوض فيها غير مستحسن، لأن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم.
٢- السياسة العرفانية في مقام السؤال
تعود الإشكالية الأساسية في ما نسعى إلى بيانه وتأصيله إلى سؤال إشكالي مؤدَّاه التالي: كيف لمسار روحي ومعنوي يقوم على الإعراض عن الدنيا، وينتسب الى عالم لطيف، ومكتظ بالأسرار، ومضنون به على غير أهله، ويترجَّح بين الغيب والحضور.. أن يلتقي في حقلٍ واحد مع العمل السياسي بما ينطوي عليه من غَرَضيات وشوائب وعيوب لا حصر لها؟.. ثم كيف لفقيه عارف، يركن إلى روحانيته ويُعرِضُ عن دنياه، أن يهبط إلى عالم السياسة، ويخوض لجتَّها المكتظة بالأهواء والأنانيات والمنافع الدنيوية؟.
بإزاء هذا الاستفهام الإشكالي المركَّب، نَجِدنا تلقاء مفارقةٍ بيِّنة يستظهرُها الجمعُ بين العرفان والسياسة كضدَّين مدعوَّيْن إلى الحَرثِ في حقلٍ واحد. أما منشأُ المفارقةِ، فيعود إلى مشكلتين:
المشكلة الأولى، إمكان رفع وهم التباين بين العرفان كاختبار روحي فردي، والسياسة كفعالية سوسيو- تاريخية تُخاضُ في أرجاء الجماعة الحضارية..
المشكلة الثانية، إمكان قيام وحدة أفق تتكامل فيها عناصر التمايز والإختلاف بين الضدَّين المفترضَين؛ سواء لجهة المنهجِ والمسلكِ، أم لجهة التنظير لنظرية معرفة في الميتافيزيقا العرفانية.
ومع أن هاتين المشكلتين قد تؤوَّلانِ إلى الإلتقاء على أرض واحدة، إلا أن التمييز بينهما يبقى من الضرورات المنهجية. فبينما تكتفي السياسة – للإستهداء إلى غاياتها- بموازين العقل الإستدلالي لفهم حركة التاريخ وتحولاته.. يستهدي العرفان إلى الوجود الحق بطريقين متلازمين: أولاً، بالعقل الآخِذِ بالأسباب.. وثانياً، بالكشف الباطني المسدَّد بالعلم اللدنِّي والشهود القلبي. غير أن هذه المباينة بين الاستهداءَين لا تلبث أن تصيرَ على نشأة ِالوحدة والانسجام والتكامل، متى أدركْنا المنطقَ الداخلي الذي تنشط فيه معرفة العارفِ، من أجل أن يتحقَّق له الجمعُ بين مقتضيات العقل الاستدلالي وسبيل الوصول إلى مقامات الكشف. وعليه، فإن الإشكالية التي سوف يتعرض البحث إليها لا تتوقف على السؤال المتشعّب الذي جرى طرحه، بل هي تتمدَّد نحو أسئلة أخرى موازية حاول العرفاء المسلمون، وخلال أحقاب تاريخية مختلفة، تقديم الإجابات عليها نظراً وعملاً. من هؤلاء من انصرف إلى التأصيل الفقهي للتصوف فأقاموه على أصوله الشرعية الثلاثة: القرآن والسنّة والاقتداء بسيرة النبي وآل بيته. ومنهم من مضى إلى تقديم الجواب عبر الدعوة إلى العمل المحض، بداعي أن العلم المعتبر هو العلم الباعث على العمل. وآخرون وجدوا بالجهاد والمرابطة السبيل الأقوم إلى تحقق الولاية الإلهية المأمولة.
وما من ريب، أن الطريق الذي أخذ به أكابر العرفاء للتوحيد بين الغيب والواقع، قد أسهم في إرساء مفاهيم كلِّية يمكن الاستهداء بها لإنتاج نظرية معرفة تستعيد صلات الوصل بين الغيب والحضور. ومما يتبيّن لنا، عند مقاربة ظاهرة التصوف والعرفان في التاريخ الإسلامي، هو مدى التنوع في مكوناتها ومصادرها بحكم التناظر والتبادل المعرفي مع الحضارات والأديان المختلفة. إلا أن هذه الظاهرة – على تعدد مدارسها واختلاف طُرُقها وتياراتها – كانت حريصة على مرجعيتها الدينية في علوم التوحيد، وبيانات الوحي، وحقائق الشريعة. مع ذلك لم يكن الاختلاف في ما بينها ليقتصر على الاجتهاد في الطريقة، وإنما يضم طائفة من العوامل الحاسمة بعضها متصل بمؤثرات إيديولوجية رافقت تحولات السلطة الإسلامية وما ترتب عليها من توظيف إيديولوجي، وبعضها الآخر ذو صلة بالعلاقة الملتبسة بين التصوف والتشيُّع والآثار العقدية والفقهية والسوسيولوجية المترتبة على تلك العلاقة. هذا إلى عوامل إضافية شكلت في جملتها منطقة إشكالية سيكون لها الأثر البيِّن في إضفاء المزيد من الغموض واللَّبس، لجهة تعثُّر موضَعَة التصوُّف في إطار فقه سياسي واضح المعالم.
٣- التنظير العرفاني في حقل الاختبار
أعتقد أن ما نحن بصدده في هذا الملتقى، هو تقديم تصوُّرات ورؤى معرفية تُخرج العرفان بحقلَيهِ النظري والمسلكي من المنطقة الرمادية التي أحاطت به، والتعرُّف على الأسباب الكامنة وراء اضطراب الفهم الذي صاحَبَ ظهور حركات التصوف وعلوم العرفان على امتداد قرون متعاقبة. ولنا في هذا الصدد أن نورد على الإجمال بعض أهم الأسباب والعوامل المؤدية إلى الإضطراب المشار إليه:
١: شائعة التناقض في الماهيَّة والوظيفة والمنهج بين العرفان والسياسة.
٢: إعتقاد كثرةٍ من النظَّار بامتناع التجربة العرفانية على التنظير، بوصفها اختباراً شخصياً لا يعتدُّ به لاستيلاد منهج علمي ونظرية في المعرفة.
٣: إنحصار النظر إلى التراث الصوفي والعرفاني في نطاق الكتابة الأدبية والفلسفية، وتجريده من أبعاده الإجتماعية والسياسية وآفاقه الحضارية.
٤: نُدرة كلام العرفاء على منظومة واضحة تعيَّن الأسس والمباني المعرفية للتدبير السياسي؛ وذلك بالتلازم مع ندرة في الممارسة الهرمنيوطيقية على هذا الصعيد، والتي يفترض أن تفتح الآفاق على تأويلاتٍ تُسهم في بلورة فقه سياسي عرفاني.
٥: شيوع فكرة راسخة الجذور في الثقافة التاريخية الإسلامية، ترى إلى التصوف عموماً، وإلى العرفان على نحو أخصّ، بوصفهما حالة برَّانية تُنكِرُ على أهله الانتساب إلى الفضاء الديني والحضاري للإسلام.
٦: النظر إلى التصوُّف كظاهرة مثيرة للقلق في الإجتماع الإسلامي بدءاً من القرن الثالث الهجري وإلى وقتنا الحاضر. وهو ما كان للسلطة التاريخية دورٌ وازنٌ في تعزيزه، حيناً بداعي الغلوِّ والتشدُّد، وأخرى بداعي الإنكار والتكفير، وثالثة بزعم اغترابها عن الجغرافيا الثقافية الإسلامية، أو بذريعة انسلابها إلى الحكمة اليونانية وفلسفات الشرق.
٧: لما كانت ظاهرة التصوُّف من المسائل القلقة التي وَسَمَت الاجتماع الإسلامي ابتداء من القرن الثالث الهجري، فإنها غالباً ما أثارت الخلاف والاضطراب الفكري في المجتمعات العربية والإسلامية. ولقد حدث ذلك، حيناً بداعي الغلوِّ والتشدُّد، وأخرى بداعي الإنكار والتكفير، وثالثة بزعم اغترابها عن روح الإسلام وانسلابها إلى الوافد من الحكمة اليونانية وفلسفات الشرق، الأمر الذي حمل شريحة وازنة من كبار المتصوفة والعرفاء على التصدي لهذه المعضلة، فذهبوا إلى بيان غاياتهم الإصلاحية وفقاً لمقاصد الوحي وروح الشريعة، وتأسِّياً بما جاء به الأنبياء والرسل والأولياء من هدايات وتوجيهات.
استكمالاً لما مرَّ معنا، نرانا مسوقين إلى ضرورة تظهير نظرية معرفة عرفانية في ميدان الاجتماع السياسي. ولتحقيق هذا الهدف أجد من المفيد منهجياً استقراء الميراث العرفاني في ميادينه الميتافيزيقية والإبستمولوجية وفي اختباراته العملية. كذلك تأصيل وفهم الدور السياسي – الاجتماعي الذي يتولاه العرفاء لقيادة الجماعات البشرية نحو تحررها وإنجاز قيامتها الحضارية الفاضلة. وهذا يفترض بطبيعة الأمر، تحديد الأطر النظرية والمرتكزات المعرفية للقاء العرفان بالعمل السياسي. وفي هذا السياق فإن ما تفترضه، هو الإجابة على استفهامات ظل جُلُّها خارج متون الدراسات المعمّقة، وعلى أقل تقدير لم تنَل حظها الوافي من العناية والدرس. من أخصِّ هذه الإستفهامات، التساؤل عن إمكان قيام ميتافيزيقا سياسية عرفانية تنبني نظريتها المعرفية على اقتران العلم بالعمل، والوحي الإلهي بالزمان البشري. وليس من ريب، أن خصوصية التنظير لفقه سياسي عرفاني، تعود إلى كونه قضية محورية نَدُر تناوُلُها بالبحث المستقل في بحوث العرفان والتصوُّف قديماً وحديثاً. ولذا فإن مقاربة هذه القضية بالدرس والمعاينة، وتظهيرها في ميدان البحث العلمي، يكتسب أهمية استثنائية. فللمسائل التي يتشكَّل منها حقل هذه الدراسة، امتدادات عميقة في حقول الإلهيات، وعلم الوجود، وعلم اجتماع التديُّن، وفلسفة التاريخ. وسيكون من شأن هذه الحقول، والآثار المترتبِّة على تفعيلها، أن تستولد حقلاً تنظيرياً غير مألوف في التفكير المعاصر. ومع أن جمعاً من أقطاب العرفان النظري مثل الحكيم الترمذي، ومحيي الدين ابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، وحيدر آملي، وعبد الكريم الجيلي وسواهم، جَهِدوا في خلال أحقاب تاريخية مختلفة على تظهير هندسة معرفية حول مفهوم الولاية ومركزيَّتها في الفكر العرفاني الإسلامي، إلا أن مجهوداتهم طفقت ضمن حدود الكلِّيات، ولم تصل حدَّ إنتاج منظومة فقهية سياسية مكتملة البناء. وذاك بطبيعة الأمر، لا يُنقِصُ البتَّة من الشأن الرفيع لأعمالهم، خصوصاً حين أصَّلوا كلِّيات علم العرفان، وأقاموه على مباني الوحي والعقل والسنَّة النبوية.
على أن ما يمنح موضوعاً كهذا مكانته المخصوصة، أنه يتاخم مجالاً حيوياً في الفكر العرفاني بوصفه فكراً وأصلاً بين العلم بالله والعلم بدنيا المخلوقات، وينطوي في الآن نفسه على وعود إحيائية بحتمية الوصول إلى الحضارة المُنجية. وعليه فإن من الاستهدافات المحورية للدراسة إجراء تأصيلات معمَّقة لماهية وهوية العارف الواصل، من خلال الكشف عما تختزنه اختباراته ومعارفه الإلهية من اهتمام استثنائي بالتدبير السياسي.
٤- المنظومة العرفانية في استراتيجيتها الإحيائية
لما كانت المسألة المحورية، متعلقة بالمكانة التي تتبوَّأها المنظومة العرفانية في الإحياء الحضاري، فإن تنجيز هذه المسألة يفترض مجموعة من الفرضيات:
أ- حاضريَّة العرفان كفضاء معرفي وسلوكي وأخلاقي، بما لهذه الحاضريَّة من مؤثِّرات حاسمة في تشكُّلات نظام القيم في التاريخ الاجتماعي والحضاري الإسلامي.
ب- إيقان العرفاء بسيادة العدل الكوني كخاتمة حتمية في تاريخ الإنسان.
ج- إعتناء المنظومة العرفانية بشؤون الإنسان الدنيوية والأخروية هي واجب إلهي. وتبعاً لهذا الإعتناء تنسلك أطروحة التدبير ضمن مسرى اعتنائيِّ هادفٍ إلى بناء مجتمع إنساني مؤسَّسٍ على الخيرية الشاملة. وعلى خلاف ما شاع من أحكام عجولة في هذا الشأن، فإن معاينة متأنيِّة لاختبارات العرفان السياسي، تُظهر صلته الوطيدة بتحولات كبرى انخرط فيها كبار المتصوفة والعرفاء؛ وهو ما تدل عليه شواهد بيّنة في التاريخ الإسلامي، سنأتي على بسطها في هذه الدراسة، وعلى الأخص ضمن فصول الباب الثالث منها.
د- إن رؤية إجمالية لمواقف العرفاء ومناهجهم في مقام التدبير، تكشف عن وصل عميق بين التعرُّف على الحق، ورعاية شؤون الخلق. ومثل هذا الوصل- الذي يعرب عن فعليَّتِه وفق مبدأ الحكمة والموعظة الحسنة- يشكل ركناً تأسيسياً في المنظومة المفترضة للفلسفة السياسية العرفانية.
هـ- العارف في مقام التدبير هو الولي الجامع لشرائط الولاية على وجه الإجمال وبما تقتضيه مهمته من إحاطة بأصول الدين والحكمة النظرية وأهلية القيادة السياسية. وعليه، فهو ينظر إلى مهمته بوصفها تكليفاً إلهياً يتكامل فيه توحيد الخالق مع توحيد الخلق. وهذا مقام يعدل مقام «الجهاد الأعظم» الذي هو المحطة الأخيرة للولاية السياسية العرفانية.
على أن التراكب المنهجي المشار إليه يعود إلى جملة من السمات والخصائص يفترضها العرفان في مقام التدبير السياسي، ويمكن إجمالها على النحو الآتي:
أولاً: إذا كان من نَسَبٍ علمي للعرفان، فنسبتُه عائدة إلى علم التوحيد. ومع أن تمام هذا العلم يكون بالنظر والعمل معاً، فإن الشطر النظري منه يفارقُ ما درجت عليه المباحث الفلسفية الكلاسيكية لجهة تعريف موضوعها بأنه «علم الوجود بما هو موجود». أما مباحث العرفان فهي تقطع مسافة أبعد لتنظر في الوجود الحقيقي الجاعل لأصل الوجود. وهذا ما يؤول بها إلى متاخمة التوحيد الأقصى، أو إلى ما يصطلح عليه في العرفان النظري بـ «الوحدة الشخصية للوجود». وهذا المقام من المعرفة هو ما يطلق عليه أيضاً «التوحيد الوجودي»، الذي لا يُحمل إلا على الله تعالى بنحو حقيقي وذاتي، بينما يُحمل على غيره على نحو المجاز والاعتبار.
ثانياً: العرفانُ علمٌ عمليٌ جامع لأركان الشريعة، ومؤيّدَ بالسير والسلوك والمجاهدة بغية الوصول إلى مقام الولاية التدبيرية. وبوصفه علماً دينياً جامعاً للنظر والعمل، وغايته التدبير السياسي والاجتماعي والحضاري، يدخل العرفان كمكوِّن تأسيسي في علم اجتماع التديُّن.
ثالثاً: إنه علمٌ مرتَّب على منهج التأويل.
رابعاً: إنه علم ربَّانيٌ يحصِّلهُ العارفُ بالإلهام والحدس والمجاهدات المعنوية والروحية. وبالتالي فهو علم رسالة غايته إصلاح شأن الخلق وإيصالهم إلى الحضارة الفاضلة.
خامساً: إنه علمٌ سيّال يؤتَى العارفَ من جهات الوجود كلها، ويجري مجرى معرفة النفس ومعرفة العالم ومعرفة الله.
سادساً: إنه علمٌ رسالي غايته إصلاح شأن الخلق، وإيصال البشرية إلى سعادتها.
وبسبب من حَواية العرفان على المعارف الإلهيَّة والعلوم الإنسانية المكتسبة في آن، فبديهي أن يُتعاملَ وخاصيَّته الاحتوائيَّة هذه، بمنهج مفارق، يتضافر مع المناهج الأخرى ويتعدَّاها في الآن عينه. هذه الجدليَّة المنهجيَّة تتعدَّد آلياتُها تبعاً لما تفترضه طبيعة كل قضية من القضايا التي يجري تناولها. ولذلك افترضت السِيَرُ الذاتية للأولياء الذين عاشوا تجارب العرفان السياسي، أن تُقاربَ اختباراتهُم وفقاً لسيْرِيَّة الجمعِ والمؤالفة بين النقل والعقل والذوق والتأويل، فضلاً عن المنهج التجريبي. فالمنهج العرفاني هو الذي تتضايف فيه الأضداد على نصاب الوحدة والتكامل، كما تتناظر فيه أسئلة الواقع مع أسئلة الغيب، والأسئلة الوجوديَّة مع الإجابات الوحيانيَّة. ومع أن لكلّ من الأسئلة والإجابات اتجاهات متغايرة ضمن دائرة التضايف، إلا أنها تلتئم ضمن مشترك واحد. ولئن كان تعبير «التضايف»، يستخدمُ بمعانٍ متعددة في مجال اللغة العلميَّة، إلا أنّه يُفهم في هذا الموضع بالذات، على أنّه تقابُلُ عنصرين مستقلين عن بعضهما، إلا أنهما يتآخيان، ويحنوان على بعضهما البعض من أجل أن يؤدِّيا وظيفة واحدة…
ولأجل أن يستدلَّ العرفاء على مشروعية منهجهم في لقاء الأضداد، راحوا يميزِّون بين مفردات متشابهة مثل الإختلاف والتفاوت والتنافي. فالفرق – مثلاً – بين الإختلاف والتفاوت، أن الأخير يدل على الإختلاف الواقع على غير سُنَن، أي على غير نظام. بينما يعني الإختلاف أن يكون «على سُنَنٍ واحدة». ومن ذلك قوله تعالى: «ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت»[الملك-٣] وقوله: «وله اختلاف الليل والنهار»[المؤمنون-٨٠]. وأما الفرق بين التنافي والتضادِّ، أن الأول لا يكون إلا بين شيئين يجوز عليهما البقاء، بينما يكون الثاني، – أي التضادَّ – بين ما يبقى وما لا يبقى. وكذلك الحال بالنسبة إلى الفرق بين الضدِّ والترك؛ فإن كلَّ تركٍ هو ضدٌ، وليس كلُّ ضِّدٍ تركاً، لأن فعل غيري – كما يوضحُ علماء اللسان- قد يضاد فعلي ولا يكون تركاً له.
ترتيباً على ما تقدَّم، يجد هذا المنهج ما يُسوِّغه لدى جمعٍ من الحكماء لمّا واءَموا بين الفلسفة والعرفان وعلوم الشريعة، ورأوا أن الإنسان متأثرٌ بعوالم ثلاثة هي: العالم العقلي، والعالم المثالي، والعالم الطبيعي. وبناء على قولهم، أن عروة وثقى تربط هذه العوالم بعضها إلى بعض، يستطيع العارف، وبوساطة كمال القوة النظرية التي يحرزها بالمجاهدات العقلية والعبادية، أن يستبصر معنى الخير المتعالي، ويسلك سبيله في الحياة المادية ومنها على الأخص، الحياة السياسية. ومثلما فعل الفارابي في كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» وابن سينا في «كتاب الشفاء»، سيمضي كل من السهروردي وملَّا صدرا الشيرازي إلى ربط منهجهم الطبيعي – الفلسفي بمسائل الوحي والغيب والنبوة والإمامة. من هذا النحو يفتتح المنهج العرفاني دُربةَ الجمعِ المفارق بين الحقائق الغيبية، والتدبيرات الواقعية في المجتمع الإنساني. وهذا ما يتجلى في عقل النبي، ومنه إلى آل بيته، فالتابعين بإحسانٍ من الأولياء، وصولاً إلى خاتم الولاية المحمدية المطلقة الذي سيقود الإنسانية إلى حضارتها العادلة.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.