الإلحاد والاغتراب، بحث في المصادر الفلسفيَّة للإلحاد المعاصر
باترك ماسترسن
مراجعة : الدكتور إبراهيم الموسوي
ترجمة : هبة ناصر
مقدمة المركز
ما فتئ البحث عن الإلحاد وتجلياته المختلفة مستمراً عبر القرون والعصور، سيما في زماننا الحاضر جرّاء ما أتاحته الثورة المعلوماتية من عولمة الشبهات ومحاولة تقليص دائرة الدين.
فالبحث عن الإلحاد قديم بقدم البحث عن الإيمان والألوهية، ومتنوّع بتنوّع المناشئ والأسباب من نفسية وتربوية إلى فلسفية واجتماعية وغيرها، ولكن مع هذا يبقى الجواب على السؤال الرئيسي، في أنّ الإلحاد ـ في وقتنا الحاضر ـ هل أصبح ظاهرة عامّة أو أنّه حالة عابرة، متعلّقاً بتعريف الإلحاد، إذ كثيراً ما يختلط الأمر فيُطلق المصطلح على من ترك بعض الطقوس الدينية أو تهاون فيها جرّاء ضغوط اجتماعية أو نفسية مختلفة ـ وهو الأعم الأغلب سيما في فترة المراهقة وطغيان الغرائز ـ وشتّان بين ترك بعض الطقوس أو التهاون فيها ورفض الإله تماماً.
في هذا الكتاب يبحث المؤلف «باترك ماسترسُن»، الجذور الفلسفية للإلحاد المعاصر، ويستعين بعلم نفس الدين ليصل إلى أنّ جذور الإلحاد المعاصر تنتهي إلى جدلية المحدود والمطلق (= الإنسان والله) ونوع العلاقة بينهما، حيث يرى الإلحاد المعاصر أنّ القول بوجود المطلق أمام الإنسان يسبب عزلة الإنسان انسلاخه عن هويته المطلقة، وهذا ما يحلو للنزعة الإنسانية المعاصرة التي جعلت الإنسان مطلقاً.
فالبحث عن هذه الجدلية أثارت مدارس ومذاهب فكرية فلسفية متنوعة بل ومتضاربة، تبدأ من الإيمان في دراسات أمثال ديكارت وكانط وهيغل، وتنتهي إلى الإلحاد في دراسات أمثال فيورباخ وماركس، حيث يرى المؤلّف أنّ ديكارت وكانط وهيغل وإن كانوا مؤمنين غير أنّ أعمالهم فتحت الطريق أمام تضخيم دور الإنسان وذاتيته، فاستفاد الإلحادُ المعاصرُ وتغذّى منها لصالحه، ناهيك عن أعمال فيوبارخ وماركس والفلسفة الوضعية والوجودية حيث روّجت للإلحاد صريحاً وذهبت إلى تأليه الإنسان.
في هذا الكتاب يبحث المؤلف في فصول سبعة العزلة والأصالة لدى الإنسان من خلال سبر أغوار دراسات وأفكار هؤلاء الفلاسفة بنظرة تحليلية نقدية، لينتهي في الفصل الثامن إلى تقديم وجهة نظره حول مسألة الألوهية في عالمنا المعاصر ونقد الإلحاد لكن لا من خلال إقامة أدلّة وبراهين فلسفيته كلامية على ذلك، بل من خلال معالجة سيكولوجية نفسية تكون مقدّمة لتلك البراهين، وذلك من خلال ربط مسألة الله تعالى بإطار الأمل البشري، وهذا الأمل يتعلّق بمصير الإنسان وإسعاده في هذه الدنيا دون التطرّق بشكل مباشر للعلّة الأعلى الخالقة للإنسان، ولكن في النهاية يمكن إظهار أنّ الأمل بالله يشتمل على إثبات الله الخالق الحكيم الذي هو خيرٌ للإنسان.
إذاً يقترح المؤلف لحلّ جدلية علاقة المحدود بالمطلق ومسألة العزلة والأصالة لدى الإنسان وحلّ هذا التعارض المزعوم الذي روّج له الإلحاد المعاصر، من خلال رفع التناقض بين مقتضيات الذاتية الإنسانية والأمل بالله، وإحداث مقاربة توافقية بين الأمل بالله وادعاءات الذاتية بأسلوب ينتهي إلى إثبات حقيقي لوجود الله تعالى، ليقول المؤلف في نهاية بحثه:
«إنّ إعادة ظهور هذا الأمل هو مقدمة ضرورية للمشروع الفلسفي الكبير المتمثّل بالتحليل الحاسم لإثبات وجود الله في يومنا الحالي».
ونحن إذ نقدّم ترجمة هذا الكتاب إلى المكتبة العربية، ننوّه بأنّ المستفيد هم النخبة المثقفة المعنيّة بهكذا أبحاث والمطّلعة على مسار الفكر الفلسفي ونقده في الغرب، إذ هو كتاب معقّد في محتواه وإن حاول المؤلّف تبسيطه من خلال استعمال أدبيات سهلة، ولكن مع هذا سيبقى المفهوم عصيّاً إلاّ على ذوي الخبرة والاختصاص.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الميامين.
26 ذو القعدة 1438
النجف الأشرف
مقدمة الكتاب
الإلحاد والاغتراب
باترك ماسترسُن ( Patrick Masterson) [1]
إثباتُ وجود الله هو من دون شكٍ أحدُ أكثر الانجازات البشرية التي تستحق الملاحظة. يُعبِّرُ هذا الانجازُ في مظاهره التاريخية المختلفة بعمقٍ عن تقييم الانسان لوضعه ـ لكماله وضعفه، لتصوّراته وإخفاقاته، ولآماله ومخاوفه ـ ويرمزُ بطريقةٍ لافتةٍ للغاية إلى سعيه لفهم طموحاته ومحدوديته.
ولكن بالكاد يكونُ الإنجاز المتمثّل برفض الانسان لهذا الإثبات لوجود الله أقل جدارةً بالملاحظة. الإلحاد بأشكاله المختلفة -بما لا يقل عن الايمان بالله ـ هو تعبيرٌ مهمٌ للغاية عن تصوّر الانسان عن نفسه لنفسه. بالفعل، بالقدر الذي يقدّم الإلحاد نفسه على أنّه ظاهرة متأخرة عن الايمان بالله، فإنّه يزعمُ نقلَ صورةٍ أكثر انعكاساً وأصالةً للانسان ممّا هو موصوفٌ في أيٍ من نماذج الايمان بالله.
يمكنُ بحث ظاهرة الإلحاد هذه من عدة وجهاتٍ للنظر وتتّصفُ كلُّ واحدةٍ منها بأسسها وأهدافها الخاصة. وعليه، يستطيع عالِمُ الدين، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، وعالم الاقتصاد السياسي تقديمَ تفاسير مختلفة –ولكن ليس بالضرورة متعارضة- لمغزى الإلحاد. لا يهدفُ هذا البحث إلى عرض دراسةٍ لمقاربات مُحدَّدة كهذه، بل يهدفُ إلى تقديم بيانٍ أبسط عن المغزى العام للإلحاد المعاصر وذلك من خلال توضيح تطوره الفلسفي. وعليه، يسعى البحثُ إلى تعقّب المعالم الفلسفية في تطور الإلحاد المعاصر من أسسه في الفكر الحديث إلى الوقت الحاضر.
إن الأهمية الأساسية المقَر بها عالمياً للكوجيتو الديكارتي[2] في تكوين الفهم المعاصر للذات هي فكرةٌ أساسية هادية لهذا البحث. إنّها تسعى لإظهار كيف أنّ نقطة الكوجيتو ـ مُعزّزةً بتأثير العلم المعاصر ـ قد ألهمت السير الفلسفي في المسار الذي تمّ فيه استبدال الاعتقاد التقليدي بأن الانسان المنعزل هو ذاك الذي لا يؤمن بالله بفكرة أنّ الايمان بالله هو المصدر العميق للعزلة الانسانية. يتضحُ هذا الموضوع في تطويره لفلسفات كانط (Kant)، هيغل (Hegel)، فويرباخ (Feuerbach)، وماركس(Marx) وفي مظاهره المعاصرة المتمثّلة بالمذهبين الوضعيين: الطبيعي والوجودي.
الذي يبرز من خلال مسار هذا البحث هو تفصيل المذهب الانساني عن الحرية الذي يتساءل عن إمكانية وجود الكيان المحدود والمطلق معاً ـ أو بشكلٍ أكثر واقعية: وجود الانسان والله معاً. كيف يمكنُ أن تتوافق الادعاءات المتزايدة في وقعها عن كون الذاتية الانسانية مصدراً غير قابلٍ للاختزال لعالمٍ من المعنى والقيمة، مع الادعاءات الكامنة في المفهوم الإيماني الذي يُفيدُ بأنّ الله هو الخالق المطلق لكل الموجودات المحدودة؟ تنكشفُ قصة تطور الإلحاد المعاصر كرفضٍ تدريجي ليس فقط للمطلق الإلهي بل حتى لكلِّ بديلٍ علماني كمفهوم «الروح المطلقة» لهيغل، «المطلق الاجتماعي» لفويرباخ وماركس، و«الاطلاق العلمي» للفلسفة الوضعية.
لا مفرَّ من أن يكون كتابٌ على هذا النطاق انتقائياً في معالجته للمواضيع والمصادر. وعليه، حتى ضمن آفاقه المحدودة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، فإنّه لا يتطرّق بشكلٍ صريحٍ إلى العديد من الفلاسفة الذين قاموا بتفصيل نظريات مهمة حول مسألة الله. إنّه يسعى ببساطةٍ -من خلال إيضاحات فلسفية رئيسية محددة ـ للتوسط من أجل تحقيق البصيرة في المواضيع الأساسية التي قد أنعشت تطوّر الإلحاد المعاصر. في عرضه لهذا التطور، يسعى الكتاب لبساطة التعبير من دون الوقوع في سطحية العرض، ومن خلال سرد هذا التطور يتمُّ تقديم اقتراحاتٍ إيجابيةٍ محدَّدة حول مسألة الله، وذلك في الفصل الأخير.
نشأ هذا الكتاب من سلسلةٍ من المحاضرات لتلاميذ جامعيين مختصين بالفلسفة لم يتخرّجوا بعد. من أجل تسهيل الاستكشاف الاضافي لهكذا قرّاء حول المواضيع المناقشة، تمّت الإشارة عند الإمكان إلى النسخ الانكليزية للمؤلّفات المذكورة. أودُّ توجيه الشكر لزملائي في كلية الفلسفة في المعهد الجامعي في دبلين الذين كانت أفكارهم واهتمامهم ذا قيمةٍ لي في تأليفي لهذا الكتاب. أودُّ أيضاً الإقرار بامتناني لمحرّري دورية «دراسات فلسفية» و«دراسات»، حيث ظهرت لأول مرةٍ بعض مواد الفصول 3-5. أخيراً، أودُّ أن أشكر زوجتي فرنسيس لتأمينها البيئة المنزلية والتشجيع العملي اللَّذَين ساهما كثيراً في جعل كامل المشروع ممكناً.
هوامش:
————————–
[1]-باترك ماسترسُن ( Patrick Masterson): مواليد عام 1936 في مدينة دبلِن، إيرلندا، وهو أستاذٌ فخري يُدرِّس فلسفةَ الدين في كلية جامعة دبلِن. من مؤلفاته: الإلحاد والإغتراب: بحث في المصادر الفلسفية للإلحاد المعاصر (1971)، معنى الخَلق: التجربة والإله الذي يتجاوزها (2008)، وتعابير: الشعر، الفلسفة، وتشكيل الثقافة (2008) بالاشتراك مع سيموس هيني، والإقتراب من الله: بين الفينومينولوجيا وعلم اللاهوت (2013). [2]- الكوجيتو الديكارتي: هو مبدأ فلسفي لرينيه ديكارت، أما عبارة (Cogito ergo sum) هي عبارة لاتينية ترجمتها باللغة العربية «أنا أفكر إذاً أنا موجود”.____________________________
*نقلًا عن “المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية”.