وحدة الوجود عند ابن عربي
نجيب البكوشي
(باحث وكاتب تونسي).
الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي
انظر إلى الحقِّ من مدلول أسماء
وكونِه عينُ كُلّي عينُ أجزائي
إن كان ينصفني من كان يعرف ما
يبدو إليه إعراضي وإنحائي
أسماء ربي لا يُحصى لها عددٌ
ولا يُحاط بها كمثلِ أسمائي
إن قلتُ قلتُ به أو قال قال بنا
تداخل الأمر كالمرئيّ والرائي
العينُ واحدةٌ والحكمُ مُختلفٌ
فانظر به منك في تلويح إيمائي
النورُ ليس له لونٌ يميزه
وبالزجاجِ له الألوان كالماء
الماءُ ليس له شكلٌ يُقيده
إلا الوعاءُ في تقييده دائي
الداءُ داءٌ دفينٌ لا علاجَ له
كيف العلاجُ ودائي عينُ أدوائي
أرومُ بُرْءاً لداءٍ لا يزايلني
هيهاتِ كيفَ يُدَاوى الداءُ بالداء
أقولُ باللامِ لا بالباء إنَّ لنا
شخصاً ينازعني في القولِ بالباء…
محيي الدين بن عربي
ارتبط اسم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي بفكرة وحدة الوجود، وانقسم الباحثون إلى ثلاث مجموعات رئيسية؛ المجموعة الأولى نسبت نظرية وحدة الوجود لابن عربي، والمجموعة الثانية نفت عن الشيخ الأكبر القول بوحدة الوجود، أمّا المجموعة الثالثة فذهبت إلى ان وحدة الوجود عند ابن عربي هي وحدة وجود روحية وليست وحدة وجود مادية. لكن تجدر الإشارة إلى أن مصطلح وحدة الوجود لم يرد مطلقا في مؤلفات ابن عربي بل ظهر من بعده في كتب بعض تلاميذه ومريديه.
في البدء علينا تقصّي أثر فكرة وحدة الوجود في الفكر الإنساني.
ظهرت هذه الفكرة عند الفلاسفة اليونانيين القدامى، نجدها خاصّة عند الفيلسوف هيراقليطس، القائل ان الإله هو الليل والنهار ، الشتاء والصيف، الحرب والسلم. ثمّ في ما بعد عند الفيلسوف أفلوطين مؤسس الأفلاطونية المحدثة، والذي كان له تأثير كبير على الفلاسفة المسلمين، والقائل بأن الله واحد، وأن العالم يفيض عنه كفيضان النور عن الشمس. ونجد مقولة وحدة الوجود عند المدرسة الرواقية القائلة؛ أن الله والعالم موجود واحد، وأن العالم لا ينفصل عن الله. ونجدها كذلك في الفلسفة الشرقية الهندوسية التي تعتبر أن”براهاما” أو إله الخلق عند الهندوس هو الحقيقة الكلية، وروح هذا العالم، وأن جميع الأشياء المادية ليست سوى أعراض ومظاهر له. كما نجد مبدأ وحدة الوجود في الديانة التاوية عند مؤسسها فيلسوف الصمت لاو تزو.
لكن رغم قدم فكرة وحدة الوجود فإنه لا يوجد تعريف واحد لها في الفكر الإنساني، فمصطلح وحدة الوجود في الفكر الغربي مثلا يقابله مصطلح Pantheism بالإنجليزية أو Panthéisme بالفرنسية، والمصطلح متأتّي من الكلمتين اليونانيتين Pan/Theos.
“بان” Pan بمعنى الكل و ثيوس Theos بمعنى الإله، أي ان الإله هوّ الكلّ. ويمكن تمييز اتجاهين رئيسيين في نظرية وحدة الوجود في الفكر الغربي وهما: اتجاة وحدة الوجود الشاملة، والتي تجعل من الإله متّحدا اتحادا كليّا مع العالم المادي أو الطبيعة، ومن اهم رموز هذا الإتجاه الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو الذي مات حرقا على يد محاكم التفتيش سنة 1600 ميلادية، وكذلك فيلسوف أمستردام باروخ سبينوزا، الذي سيُتّهم من طرف رجال الدين اليهود بالهرطقة، وسيطرد من الطائفة اليهودية بعد محاكمة شهيرة وقعت سنة 1656. اما الاتجاه الثاني فهو القائل بوحدة الوجود النافية للعالم أو وحدة الوجود الروحية، ويعتبر هذا الإتجاه انه ليس للعالم وجود مستقل بذاته بل هو انعكاس لوجود الله. هذا التصوّر الثاني للوجود هوّ الأقرب لنظرية الوجود عند اهل التصوّف الإسلامي عموما وعند ابن عربي خصوصا.
يرى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي أن الوجود بأسره حقيقة واحدة، ليس فيها ثنائية ولا تعدد، ولهذه الحقيقة الوجودية وجهان: وجه حق ووجه خلق؛ فهي الواحد والكثرة، والقديم والحادث، والظاهر والباطن، والأول والآخر؛ فإذا نظرت إلى الحق من حيث ذاته فهو الناظر إلى نفسه، وهذا مقام الوحدة، وإذا نظرت إليه من حيث تجلياته نظرت إليه من مقام الكثرة. فالتفرقة بين الحق والخلق، أو بين الواحد والكثرة هي تفرقة منطقية يقول بها العقل لا الذوق الصوفي، وهي تفرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقته: كالتفرقة بين الجوهر وأعراضه، وهما في الواقع حقيقة واحدة، وإن تصور العقل الفصلَ بينهما. فالذي يُحدث الكثرة في الوجود هو حكم الإنسان على الموجودات، أما حقيقة الموجودات فواحدة. يعتبر ابن عربي أن الله هو المبدأ الأوّل للوجود، ووجود الموجودات هوّ بوجود الله. فمن كان وجوده بغير وجود الله فهو في حكم العدم. وبذلك يعوّض ابن عربي مبدأ السببية الطبيعية في الفلسفة اليونانية بمبدأ السبببية الإلهية ليكون فكره في تناسق مع مبدأ التوحيد الإسلامي. ولأن مبدأ التوحيد عند المسلمين هو أساس كل العقائد، سيولي ابن عربي على خطى المتصوفين من قبله هذا المبدأ أولوية خاصّة. والتوحيد عند اهل التصوّف ثلاثة أنواع: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة. سيتمرّد الصوفيون على الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء في تصوّرهم لمبدأ التوحيد وفي صياغتهم لفكرة الألوهية، فالمعتزلة مثلا حسب أهل التصوّف قد بالغوا في تنزيه الذات الإلهيّة، وعطّلوا الصفات التي وصف الله بها نفسه في النص القرآنى. يذكر المفكّر المصري أبو العلا عفيفي في كتابه التصوّف، الثورة الروحية في الإسلام، اربع صيغ رئيسية للتوحيد في الإسلام:
الصيغة الأولى: لا إله إلا الله المنزّه تنزيها مطلقا من كل ما يتصوره العقل والوهم، وهذا تصور المعتزلة والفلاسفة وبعض الصوفية.
الصيغة الثانية: لا فاعل ولا قادر ولا مريد عن الحقيقة إلا الله، وهو تصوّر بعض الصوفية الذين يفهمون توحيد الله في صفاته وأفعاله على هذا النحو.
الصيغة الثالثة: لا مشهود على الحقيقة إلا الله، وهو قول الصوفية الذين لا يرون شيئا إلا ويرون الله معه، وهو قول أصحاب وحدة الشهود من الصوفية، ووحدة الشهود، هي تجربة يعيشها الصوفي بذاته ولذاته وليست عقيدة او منهجا فلسفيا، ويطلق عليها اهل التصوّف “عين التوحيد”، مقابل “علم التوحيد” وهو معرفة توحيد الحق عن طريق العقل و الإعتقاد.
الصيغة الرابعة والأخيرة للتوحيد: لا موجود على الحقيقة إلا الله، وهو قول أصحاب وحدة الوجود من الصوفية.
رفعا لكل إلتباس على مستوى المفاهيم، علينا أن نُميّز بين وحدة الشهود كشكل من أشكال التوحيد، تقول بوحدة الحقيقة الإلهيّة وهي حالة خاصة يعيشها الصوفي، وبين وحدة الوجود وهي مذهب فلسفي يقول بوحدة الحقيقة الوجودية، ويقول به الصوفي المسلم، و الصوفي المسيحي، والصوفي اليهودي، والصوفي البوذي، كما يقول به اللاديني والفيلسوف على حد السواء. يكون الصوفي في حال وحدة شهود عندما يقول: “لا أرى شيئاً غير الله”، ويكون في حال وحدة وجود عندما يقول: “لا أرى شيئاً إلا وأرى الله فيه”. فحال وحدة الشهود هو حال الفناء، وحال وحدة الوجود هو حال البقاء. والفناء والبقاء في التجربة الصوفية متلازمان، لاينفك أحدهما عن الآخر.
يتداخل مفهوم وحدة الوجود مع مفهومين آخرين متقاربين معه وهما مفهومي الإتحاد والحلول لذلك وجب ضبط حدود كل مفهوم من هذه المفاهيم:
الحلول: لغة: مصدر من فعل حلَّ/ ويُقال حلَّ بـ أو حلَّ على أو حلَّ في. أما إصطلاحا فهو إثبات لوجودين، وحلول أحدهما في الآخر. (مثل اعتقاد البعض بحلول الله في المسيح، ويسمونه حلول اللاهوت في الناسوت).
أما الاتحاد فهو لغة، مصدر من فعل إتّحد، وهو اصطلاحا انصهار لشيئين في شيء واحداً. ومعناه أن وجود الكائنات هو عين وجود الله. والفرق بين الحلول، والاتحاد هو أن الحلول فيه إثبات لوجودين، أمّا الاتحاد، فهو إثبات لوجود واحد. والحلول يقبل الانفصال، أما الاتحاد، فلا يقبل الانفصال، وكلٌ منهما أي الإتحاد والحلول ينقسم إلى عام وخاص.
القائلون بوحدة الوجود من اهل التصوّف يرفضون نعتهم بالحلولية أو الإتحادية لأن الحلول والإتحاد برأيهم مخالفين لمبدأ الوحدة، فالحلول يستوجب حالاّ ومَحَلاّ والإتّحاد يستوجب جسمين منفصلين، لذلك يقول ابن عربي في الفتوحات المكية؛ والقائلون بالحلول غير موحدين لأنهم أثبتوا أمرين، حالّ ومحلّ.
يتّهم بعض الفقهاء اهل التصوف بالحلولية والإتحادية، والمتأمّل في حجج هؤلاء يقف على مدى خلطهم بين وحدة الوجود والحلول والإتحاد. لا يستطيع الفقيه سجين التأويل الحرفي للنص القرآني ان يدرك حال الفناء الذي يدركه الصوفي في معراجه نحو الحقيقة الإلهية. علم الفقيه هو علم كسبي استنباطي يتحصّل عليه بالقياس المنطقي العقلي أما علم المتصوّف فهو علم وهبي يكتسبه بقلبه.
والقلب هو أداة المعرفة الرئيسية عند أهل التصوّف، يقول ابن عربي في الفتوحات المكية:” والقلب ما سُمي إلا بتقلّبه في الأحوال والأمور دائما”، فالقلب يتقلّب في أنواع الصور والصفات عكس العقل الذي يحصر الحقيقة في أمر واحد فيكون قيدا لها. ويُضيف في كتابه مواقع النجوم: ” فقد ثبت ان القلب رئيس البدن، وهو المُخَاطَب في الإنسان، وهو العقل الذي يَعقل عن الله، وهو المَلَك المطاع ويستشهد ابن عربي بالحديث النبوي القائل، ان في الجسد مضغة إذا صلُحت صلُح الجسد، وإن فَسُدَت فَسُد الجسد، الا وهي القلب.
فالهدف الأسمى عند أهل التصوّف هوّ الوصول إلى الحقّ عن طريق القلب، والطريق إلى الحق يسمّونه حال الفناء، ويعرّفه المفكّر المصري أبو العيلا عفيفي بأنه: الحال التي تتوارى فيه آثار الإرادة والشخصية والشعور بالذات وكل ما سوى الحق، فيصبح الصوفي وهو لا يرى في الوجود غير الحق، ولا يشعر بشيء في الوجود سوى الحق وفعله وإرادته.
الفناء عند الصوفية هو ثلاثة أنواع:
أوّلاً: الفناء عن عبادة وإرادة السِوى، وهو فناء القلب عن عبادة وإرادة ما سوى الله، وهو التوحيد الإرادي الخالص.
ثانياً: الفناء عن شهود السِوى، وهو فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، وهو التوحيد الشهودي.
ثالثاً: الفناء عن وجود السِوى، وهو الإعتقاد ان لا وجود سوى لله.
وحدة الوجود عند ابن عربي هي في نقطة التقاطع بين هاته الدرجات الثلاث من الفناء الصوفي، يقول المفكّر المصري أبو العيلا عفيفي، لقد تكلّم ابن عربي بلسان الذوق والإشراق وتكلّم كذلك بلسان العقل فجمع بين وحدة الشهود ووحدة الوجود.
اذن وحدة الوجود عند ابن عربي هي وحدة وجود مثالية أو روحية وليست وحدة وجود مادية كما سيتحدّث عنها بعده باكثر من اربعة قرون فيلسوف امستردام باروخ سبينوزا.
فما هي اهم ملامح نظرية وحدة الوجود عند سبينوزا وأوجه اختلافها مع نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي؟
ولد باروخ سبينوزا في مدينة أمستردام سنة 1632، وهو ينحدر من أسرة يهودية هاجرت من البرتغال بسبب الإضطهاد الذي تعرّض له اليهود على يد محاكم تفتيش الكنيسة الكاثولكية في شبه الجزيرة الإيبيرية. ويعود الفضل لباروخ سبينوزا في جعل مبحث الوجود مبحثا مركزيا من جديد في الفكر الفلسفي، كما كان عند الفلاسفة الأُول ما قبل السقراطيين، خاصة مع هيراقليطس وبارمينيدس. العالم والله عند سبينوزا هما شيئا واحدا. “ديوس سيو ناتورة” Deus sive Natura كما كتب باللاتنية، أي الله هو الطبيعة. ويحدّد سبينوزا الوجود من خلال ثلاثة مفاهيم رئيسية وهي؛ الجوهر والصفة والعرض ؛ الله هو الجوهر لأنّه موجود بذاته، أمّا الصفة فهي التي بها يُدرك العقل هذا الجوهر، والعرض هو السبيل لإدراك عواطف الجوهر. ويعتبر سبينوزا ان للجوهر الإلهي صفتين رئيسيتين هما الإمتداد والفكر. الإله السبينوزي هو الامتداد والفكر معا، وهو الطبيعة ذاتها ولكن ليست الطبيعة المطبوعة ولكن الطبيعة الطابعة.
لأن اتفق باروخ سبينوزا مع محيي الدين بن عربي في القول بوجود جوهر واحد، موجود بذاته وهو الله، فإنّه يختلف معه عند قوله أن هذا الجوهر والطبيعة أي الوجود المادي هما اسمين لمسمى واحد.
الوجود عند ابن عربي حقيقة واحدة، ليس فيه حلول ولا إتّحاد، وليس فيه ثنائية او تعدد رغم ما تدركه حواسنا من تعدد في الموجودات. فالحق والخلق عنده وجهان لحقيقة واحدة. والذات الإلهيّة عند ابن عربي لا يُسأل عنها ولا تخضع للمقولات العشر الأرسطية. والمقولات العشر عند أرسطو هي الصفات التي تطلق على الموجودات، وهي؛ الجوهر، والكم، والكيف، والمكان، والزمان، والإضافة، والوضع، والمُلك، والفعل، والإنفعال. إن الله عند ابن عربي هو الأوّل وليس قبله إبتداء، والآخر وليس بعده انتهاء، والظاهر وما أظهر منه شيئا، والباطن وليس ضمنه شيئا. ويستدلّ ابن عربي بخداع العين عند رؤية قوس قزح ليثبت ان الوجود المادي هو مجرّد شبح، فيقول في الفتوحات المكية: “ووجود الحق ما هو بالمرور فيتصف بالتناهي وعدم التناهي، فإنه عين الوجود، والموجود هو الذي يوصف بالمرور عليه،….ولا يعلم ما هي المحدثات إلا من يعلم ما هو قوس قزح، واختلاف ألوانه كاختلاف صور المحدثات. ثم أنت تعلم أنه ما ثم متلون ولا لون، مع شهودك ذلك. كذلك شهودك صور المحدثات في وجود الحق الذي هو الوجود. ”
سأوضّح هذا التفسير العلمي الدقيق لإبن عربي لظاهرة قوس قزح، وهو الدليل على موسوعية هذا الرجل وإلمامه بعلوم عصره؛ فعندما ننظر بالعين المجرّدة لقوس قزح نرى سبعة ألوان؛ الأحمر ثم البرتقالي ثم الأصفر ثم الأخضر ثم الأزرق ثمّ الأزرق النيلي واخيرا البنفسجي. لكن في حقيقة الأمر هذه الألوان السبعة هي ألوانا وهمية. ولا يوجد إلا لون واحد هو اللون الأبيض لون شعاع الشمس، وتتكوّن ألوان قوس قزح نتيجة مرور ضوء أشعة الشمس عبر قطرات الماء العالقة في الغلاف الجويّ ثمّ انعكاسها وانكسارها عليها من جديد. و الطول الموجي للضوء وزاوية انكساره على قطرة الماء هي التي تحدد اللون الذي نراه في قوس قزح.
يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: ” أمّا وجود الخلق فمجرّد ظل لصاحب الظل وصورة المرآة بالنسبة لصاحب المرآة فالخلق شبح” ويُضيف :”فما نظرت عيني إلى غير وجهه ولا سمعت أذني خلاف كلامه”. يشرح ابن عطاء الله السكندري، وهو أحد رموز الطريقة الصوفية الشاذلية هذه الفكرة الأكبرية فيقول؛ أن ما وجودنا إلا وجود حُكمي كالظل ليس موجودا بجميع مراتب الوجود وليس معدوما بجميع مراتب العدم.
ويتساءل السكندري هل يمنع السفن من التسيار وقوع ظلال الأشجار على أسطح الأنهار؟ طبعا لا. ويضيف هكذا ارادتنا في ارادة الله، ومشيئتنا في مشيئة الله، ووجودنا في وجود الله.
اذن من الواضح والجلي ان فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي تختلف عن فكرة وحدة الوجود عند باروخ سبينوزا. ابن عربي يستند إلى النص القرآني وخلفيته دينية إسلامية في صياغة نسقه الفكري، في حين أن سبينوزا يستند أساسا إلى الفلسفة العقلانية وخاصة منهج الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. ومن المُرجّح ان يكون فيلسوف أمستردام قد اطلع من خلال مؤلفات الفيلسوف القرطبي اليهودي موسى ابن ميمون، التي يعرفها جيّدا، على مبدأ وحدة الوجود عند اهل التصوّف عموما وابن عربي خصوصا. فإبن ميمون صاحب كتاب “دليل الحائرين” كان تقريبا معاصرا لإبن رشد ولمحيي الدين بن عربي، وتناول بالدرس كل القضايا التي تناولها المتكلمون والفلاسفة ورموز التصوّف الإسلامي.
فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي ستنقلنا إلى فكرة أخرى مركزية في هندسته الروحية وهي فكرة الإنسان الكامل. والإنسان الكامل عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي هو النموذج الأمثل للإمكان الإنساني، فهو المختصر الشريف، الذي أوجد الله فيه جميع الأسماء الإلهية، وجعله روحاً للعالم، فسخر له العلوّ والسُفل لكمال الصورة، فهو نسخة جامعة لجميع النسخ وهو المستخرج والمستنبط من الكل، الجامع بين الحقائق الإلهية والكونية. ويحدد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أهم ميزات الإنسان الكامل فيقول: هو الذي يكون متفقِّدًا لجميع أخلاقه، متيقظًا لجميع معايبه، متحرزًا من دخول كل نقص عليه، مستعملًا لكل فضيلة، مجتهدًا في بلوغ الغاية، عاشقًا لصورة الكمال، ملتذًّا بمحاسن الأخلاق، متيقظًا لمذموم العادات، معتنيًا بتهذيب نفسه، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل، مستعظمًا لليسير من الرذائل، مستصغرًا للمرتبة العليا، مستحقرًا للغاية القصوى، يرى التمام دون محله، والكمال أقل أوصافه.
تجد فكرة الإنسان الكامل عند ابن عربي جذورها في المكانة الخاصّة للإنسان عند الله في الإسلام، ويستند الشيخ الأكبر إلى النص القرآني ليثبت هذا الإمتياز الآدمي عند الخالق، حيث خلق العالم لأجله، وجعله خليفة له في الأرض. ورد في الآية 30 من سورة البقرة ما يلي: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ…”
لذلك يقول ابن عربي في كتابه فصوص الحكم في فص حكمة إلهية في كلمة آدمية: “أن آدم للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المُعبّر عنه بالبصر، فلهذا سُمي إنسانا، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم. فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي والكلمة الفاصلة والجامعة، قيام العالم بوجوده، فهو من العالم كفصّ الخاتم من الخاتم.
سيجمع ابن عربي في منظومته الفكريّة والروحية كلّ معارف عصره تقريبا، فإلى جانب النصّ القرآني والحديث القدسي كروافد معرفية رئيسية، سنجد في مؤلفاته أثر أفكار القرامطة والإسماعيلية وإخوان الصفاء، وسيستوعب تجربة المتصوفين المتقدّمين عليه خاصة الحسين بن منصور الحلاج، وسنجد كذلك في أفكاره أثر الفلسفة المشائية الأرسطية، وفلسفة أفلوطين، والفلسفة الرواقية والفلسفة الهندوسية.
ففكرة الإنسان الكامل عند ابن عربي هي نفسها فكرة الإنسان الأوّل عند أرسطو، و الإنسان الفاضل عند الفرابي، و الإنسان المطلق عند جماعة إخوان الصفاء. المتصوّف الكبير عبد الكريم الجيلي، احد أهم شُرّاح ابن عربي، والذي توفي سنة 1410 ميلادية، سيجمع اهم أراء الفلاسفة المسلمين واهل التصوّف حول فكرة الإنسان الكامل في كتاب هام سمّاه” الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل”.
فكرة الإنسان الكامل ستحمل إبن عربي إلى فكرة الدين الكامل، والدين الكامل عند ابن عربي هو دين الحبّ الذي لا يفرّق بين الناس على أساس جنسهم أو عرقهم أو مذهبهم. ولمقام الحب عند ابن عربي عدة مراتب مثل مرتبة الودّ ومرتبة العشق ومرتبة الهوى، والشيخ الأكبر يُقسم بالهوى تعظيما له فيقول:
وحقِّ الهوى
إنَّ الهوى سببُ الهوى
ولولا الهوى في القلب
ما عُبد الهوى…
تخيّلوا أنه قبل سبعة قرون من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، محيي الدين ابن عربي لا يدعونا إلى التسامح والتآخي مع الآخر فحسب بل يدعونا إلى أن نتماثل مع الآخر، إلى ان نكون الآخر.
وذروة ما يقوله ابن عربي في عقيدة المحبّة والتآخي مع الآخر هوّ ما اورده في كتابه ترجمان الأشواق عندما قال:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني..
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ..
ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني…
فالمعتقد الذي يُدنيك من الحق عند ابن عربي هو المعتقد الذي لا يخضع للحصر والتقييد مطلقا. ويضيف في كتابه فصوص الحكم: “فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص، وتكفر بما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات كلها، فإن الله تعالي أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ”. فدين الحب عند ابن عربي هوّ ان لا نُنكر على احد معتقده، لذلك يضيف قائلا: عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه.
تنبّأ ابن عربي بأن فكره سيمتدّ إلى مشارق الأرض ومغاربها، وبالفعل تحققت نبوءة الشيخ الأكبر بعد وفاته فملأ الدنيا وشغل أهل الفكر.
المستشرق الإسباني ميڨال آسين بلاثيوس سيثبت في كتابه أثر الإسلام في الكوميديا الإلهيّة، تأثّر الشاعر الإيطالي الشهير دانتي أليغيري/ Danté Alighieri في أدبه بمحيي الدين ابن عربي وخاصّة في رائعته الشعرية “الكوميديا الالهية”، التي تُصوّر رحلته إلى العالم الآخر، حيث اقتبس صور الفردوس والجحيم والمعراج من رسالة “الإسراء والمعراج” لإبن عربي الواردة في الفتوحات المكية.
كما يظهر تأثر دانتي بابن عربي في أشعاره الغزلية عند وصفه لحبيبته “بياريشي” بديوان ترجمان الأشواق للشيخ الأكبر الذي يتغزّل فيها بنظام بنت رستم الكيلاني.
كتاب أثر الإسلام في الكوميديا الإلهيّة لميڨال آسين بلاثيوس سيثير ضجة كبيرة عند ظهوره في بداية القرن العشرين خاصّة في صفوف الدانتيين الإيطاليين، الذي رفضوا فكرة ان يكون دانتي أليغيري رمز ثقافة أوروبا المسيحية في القرون الوسطى قد تأثر بفلاسفة مسلمين، ووصل الأمر بالزعيم الفاشي موسيليني إلى منع ترجمة وتداول كتاب آسين بلاثيوس في إيطاليا. طبعا ان يكون دانتي قد تأثر بقصة المعراج في الأدب الإسلامي عند كتابته للكوميديا الإلهيّة لا ينقص شيئا من عبقرية هذا الكاتب، وقصّة العروج إلى السماء موجودة في ثقافات أخرى قبل الإسلام، لكن معراج دانتي يشبه في تفاصيله معراج النبي محمّد ومعراج ابن عربي.
بعد ميڨال آسين بلاثيوس وفي ثلاثينات القرن الماضي المستشرق الفرنسي هنري كوربان الذي كان مهتمّا بمبحث الفلسفة الوجودية ومنكبّا على ترجمة كتاب الوجود والزمن للفيلسوف الألماني مارتن هيديجير سيكتشف ابن عربي وسيغيّر مبحثه الفكري والفلسفي
ويتجه لسبر اغوار الفكر الأكبري ليؤلف كتابه المهم “الخيال الخلاّق عند ابن عربي”. هنري كوربان سيحاول ان يجد اجوبة لأسئلته الوجودية في فكر الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، باحثا كما قال عن بعض الدفء الروحي بعيدا عن برودة العقل التجريبي.
بعد هنري كوربان الفرنسي، المستشرق الياباني توشيهيكو إيزوتسو سيستعمل منهج البحث الدلالي ليقوم بدراسة مقارنة بين الصوفية والتاوية، بين ابن عربي ولاو تزو، ويأخذنا في حوار داخلي حميمي بين ثقافتين مختلفتين بحثا عن روحانية كونية عابرة لحدود اللغة والدين والثقافة.
اذن من الواضح والجلي وجود وحدة رابطة بين كل تجارب التصوف في مختلف الحضارات الإنسانية على مر العصور، والتصوف الإسلامي هو جزء لايتجزأ من التصوّف الإنساني
ويمثل فكر ابن عربي الذي جمع بين حدس الصّوفي، وحيرة الفيلسوف، ويقين المتديّن أعلى مراتب نضج الفكر العربي الإسلامي في التصوّف والفلسفة و اللاهوت.
مؤلفات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي التي تجاوزت 800 كتاب ورسالة، وللأسف فقدنا أغلبها، هي بمثابة غابة فكرية مترامية الأطراف، والباحث كي لا يضل الطريق داخل هذه الغابة يحتاج إلى دليل كي يرشده، وفي رحلتي المعرفية بين مؤلفات ابن عربي اتخذت ثمانية أدلاّء عوضا عن دليل واحد: دليلي الأوّل كان دليلا لغويا مكّنني من اكتشاف مفاتن اللغة الأكبرية، هذا الدليل هو كتاب المعجم الصوفي لأستاذة التصوّف في الجامعة اللبنانية الدكتورة سعاد الحكيم، أمّا دليلي الثاني فكان كتاب التصوّف، الثورة الروحية في الإسلام للمفكّر المصري أبو العيلا عفيفي، ودليلي الثالث كان كتاب المستشرق الفرنسي هنري كوربان: الخيال الخلاّق في تصوّف ابن عربي، ودليلي الرابع كانت أبحاث المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس حول ابن عربي في كتابيه ابن عربي حياته ومذهبه و أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية، أمّا دليلي الخامس فكان كتاب هكذا تكلّم ابن عربي للمفكّر المصري نصر حامد أبو زيد، ودليلي السادس كان كتاب : النبوة والولاية في مذهب ابن عربي للمستشرق الفرنسي، ميشيل شودكيفيتش. ودليلي السابع هو كتاب: ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر، لإبنة شودكيفيتش الكاتبة الفرنسية كلود آداس. أمّا دليلي الثامن فكان كتاب المواقف للأمير عبد القادر الجزائري آخر وريث فكري وروحي لابن عربي.
أهم المراجع المُعتمدة في البحث:
*الفُتوحات المكّية للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1999.
* هكذا تكلم ابن عربي، نصر حامد أبو زيد. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2002.
*المعجم الصوفي، الحكمة في حدود الكلمة، سعاد الحكيم، صدر عن دار دندرة للطباعة والنشر سنة 1981.
*الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، هنري كوربان.
Henry Corbin, L’Imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn’Arabî
*التصوّف، الثورة الروحية في الإسلام، أبو العلا عفيفي، مؤسسة هنداوي للنشر، القاهرة 2017.
*ابن عربي حياته ومذهبه أسين بلاثيوس، ترجمة عبد الرحمان بدوي.
*خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي، ميشيل شودكيفيتش.
Michel Chodkiewicz, Le Sceau des saints : Prophétie et sainteté dans la doctrine d’Ibn ‘Arabī
Éditions Gallimard, Paris, 1986.
* ” ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر”، كلود آداس
Claude Addas, “Ibn Arabi, ou, La quête du souffre rouge”. Éditions Gallimard, Paris, 1989.
*كتاب المواقف للأمير عبد القادر الجزائري، دار اليقظة العربية للتأليف و الترجمة و النشر، 1967، دمشق.
____________________________
*نقلًا عن موقع ” midline-news”.