الدراسات والبحوث

لا فقيه إلا العارف

لا فقيه إلا العارف:

تجديد النظر في ضوء مدونات ملا صدرا الشيرازي

                                                           

د. جعفر نجم نصر

باحث و استاذ الانثروبولوجيا بجامعة المستنصرية – العراق

 

لقد أستقر في العقل الاسلامي ومنذ قرون خلت ان العليم في الدين او (الشريعة) بوجه أخص هو من اصطلح عليه ب (الفقيه) فحسب، على الرغم من أن كلمة الفقه لغة وفي معظم المعاجم اللغوية تطلق على العلم بالشئ والفهم له ، وأفقهه: علمه ، أو أفهمه ،بل أنها على صلة وطيدة بالتأويل حصرا!!، وذلك استنادا الى دعاء النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لابن عباس: اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل. فكلمة الفقه كانت تطلق على الفهم والبراعة ومهارة التأويل في اصناف العلوم الدينية وغير الدينية ، ولكنها اصطلاحا بعدئذ حصرت بمن تفقه في الدين او الشريعة حصرا!!.

وهذه المشكلة اللغوية تحدث عنها سابقا (نيتشه) ، وهي نابعة من معضلة جوهرية أطلق عليها اسم ( تقنين اللغة) ، فبحسبه اللغة هي التي ترسي (القوانين الاولى للحقيقة) ، وذلك لان تحول (كلمة الى مفهوم) يعني بنظره: ان توفق بين ما لايحصى من الحالات التي قد تتشابه بقدر أو بأخر فيما بينها…. ولكنها قطعا حالات غير متطابقة.

ومن ثم فأن تقنين هذه الكلمات الى مفاهيم قطعية حاكمة وناظمة في مرور الوقت ، أنما هو في الحقيقة الامر ليس الا تقنينا (للحقيقة) نفسها ، وذلك من خلال تلك الاستعارات والكنايات والتأنيسات التي تمثلت لغويا بوصفها أشياء راسخة ومقدسة وملزمة ، وعليه بنظره تصبح (كل كلمة انحياز) لحقيقة مصطنعة !!.

وبهذا المعنى فان كلمة (الفقه) و(الفقيه) تم تقنينهما وتأبيدهما بوصفهما (قوانين للحقيقة) التي مؤداها: انهما مفهومان يشيران الى من اشتغل في الشريعة حصرا . ومن ثم تأسس على ذلك الامر ، ان ماعداهما عيال عليهما وتبع لهما وذلك لكونهما الاصل بحسب التوليد المفاهيمي ، وهذا الرأي استقر بسبب ترسخ المذاهب الاسلامية كافة وتثبت اركانها بالدعم السياسي ، وهذا ما لانقره ولا نعتقد بوجوده ، وهو ما نناقشه في هذه المقالة.

وعلى العموم أصبح هولاء الفقهاء يمتلكون السلطة الثقافية المطلقة على حد تعبيرات الكاتب علي أومليل ، ومن ثم فأن ما يقولونه ويفعلونه ويقرورنه صار ملزما للمسلمين كافة ، بوصفهم هم حملة ميراث النبوة وصائني الشريعة ومستنبطي احكامها ، والناظرين في النوازل والحوادث والمستجدات ، فهم بذلك أصبحوا يمثلون ما اصطلح عليه لاحقا ب(الاسلام الرسمي) او (الاسلام القويم).

قبالة ذلك يوجد الخط الموازي ولكن المهمش والمقصي والمنفي ثقافيا والمسور حوله أسوار المنع والتكتيم والتعمية انه خط ما اصطلح عليه ب (الاسلام الصوفي ) او (الاسلام العرفاني) الذي لديه منظوره الفقهي وفهمه التأويلي الخاص بالشريعة، ولكن ينظر اليهم بوصفهم اصحاب الفقه الباطني المضاد والخارج عن الاجماع بنظر بعض الفقهاء!!.

ولو اخذنا التجربة الفقهية للمذهب (الاثني عشري) الشيعي لوجدنا ان سلطة الفقهاء انما تحددت وتمددت بناء على فكرة مؤداها: أنهم نواب الائمة (الاثني عشر) ، وأن وظائفهم انتقلت اليهم أمثال: امامة صلاة الجماعة ، وقيادة الحرب المقدسة، واموال الخمس ، والقضاء ، وفرض القصاص الشرعي ، وترسخت هذه السلطة بنحو مطلق بعد عصر الغيبة الكبرى ، اي بعد غيبة الامام الثاني عشر ، اذ بغيابه تصدى فقهاء الامامية لمسألة عالم الفقاهة عبر تأسيس (الحوزة العلمية). وهم بذلك النحو أعلنوا أمرين أساسيين هما:

أولا : النيابة المطلقة عن الائمة الاثني عشر ، وهذا ما صيغ بعد عصر الغيبة الكبرى بطبيعة الحال.

ثانيا: صناعة التقليد الخاص بأفراد المجتمع الشيعي ، أي على جميع الافراد الشيعة تقليد الفقيه الاعلى في كل الامور الشرعية.

وكانت الاية القرانية الكريمة(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون)(التوبة: 122) بمثابة الحجة او البرهان الاكبر على التفقه في الشريعة حصرا ولتثبيت عمل الفقهاء وضرورة تقليدهم واتباعهم في الشوؤن الشرعية كافة.

وفي الحقيقة ان هذه الاية المباركة لم يتفق على تفسيرها عند كل الفقهاء(يراجع محمد مهدي شمس الدين وعز الدين بحر العلوم ويحيى محمد واخرون)، فهي ترد ضمن سياق قرآني يتحدث عن ضرورة العلم بدل الظن ،وهي ليست مطلقة اللفظ بل مقيدة ، ولكثرة الجدال حولها دائما يلجأ الكثير من الفقهاء الشيعة الى الاحاديث الواردة عن أهل البيت لأجل حسم الجدل بظنهم ، ويلجأون على سبيل المثال لا الحصر الى الحديث المشهور(فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه مخالفا هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه)، هذا لاجل تثبيت سلطتهم ولكسب الشرعية في الان نفسه ، على الرغم من ان موضوعة التقليد برمتها منهي عنها في الكثير من النصوص القرآنية!!.

وعلى الرغم من كل ذلك ، فأن الفقهاء الشيعة وكذلك السنة في الوقت عينه ، لم يكونوا يهتمون من الفقه سوى بتطبيق الاحكام الشرعية فحسب ، أي يهتمون ب (التقوى الظاهرية) في مدار الجسد بنحو مباشر ، ولا يعبأون أبدا ب (التقوى الباطنية) في مدار القلب ، أذ يعدون تطبيق الحكم الشرعي من الفرد ( المقلد) على النحو الظاهري كافيا لان يكون فعله اخلاقيا وتقويا!!.

ولعل الاشكال الاكبر ليست جدلية (الفقيه_التقليد) ولا جدلية (التقوى الظاهرية والتقوى الباطنية)، بل الاشكال في اصالة وأحقية الفقيه غير( العارف) لان يتولى شوؤن المسلمين كافة!؟، ولقد تحدث جمال الدين العاملي(959_1011ه)في كتابه المعروف (معالم الدين وملاذ المجتهدين) عن رتبة الاجتهاد في المنظور الشيعي ، اذ اشترط فيها العلم بالاحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية ، بينما انكر اخرون هذا المعنى ، كما فعل فخر الدين الطريحي (979_1085ه) في كتابه الشهير (مجمع البحرين ) الذي ألح فيه على (الملكات الروحية) للفقيه ، والذي قال بأن الفقه هو البصيرة في الدين ، وهو احالة للمعنى الاخلاقي الباطني بطبيعة الحال ، ولكن بمرور الوقت تثبتت رؤية العاملي واضرابه ولم يعبأ باراء الطريحي ، لانها تؤكد على ان يتصف المتصدي للاجتهاد والفتيا ان يكون صاحب ملكات اخلاقية _ عرفانية وهذا ما اكده لاحقا في بدايات القرن العشرين الفقيه العارف محمد البهاري الهمداني(1265ه_1325ه) في كتابه( تذكرة المتقين).

ولكن هذا الامر رفضته نسبة هائلة من الفقهاء الشيعة ، لأنهم عدوا (صفة العدالة) الظاهرية كافية لوحدها مع سائر الاشتراطات الاخرى ، وان المطالبة بنيل الملكات الروحية أمر تعجيزي لا يمكن لاحد نيله على حد زعمهم!!.

ان للعرفاء الشيعة موقفا واضحا ومتشددا ازاء ذلك كله ، وهذا ما تلمسناه في مدونات العارف الكبير والفيلسوف المعروف ملا صدرا الشيرازي (1572م_1641) ومنها على سبيل المثال(تفسير القرآن الكريم ، ورسالة الأصول الثلاثة)، فهو قد تحدث على ان هنالك ألفاظ دالة على العلوم الحقيقية واشتبهت على الناس بغيرها، قائلا: اعلم انه قد التبست العلوم الحقيقية المحمودة الشرعية بغيرها من جهة تحريف الاسامي المحمودة عن وضعها الاول وتبديلها ونقلها بسبب الاغراض الفاسدة الى معاني غير ما أراد بها الصدر الاول والسلف الصالح ، عادى الفقه احداها الى جانب (العلم ، التوحيد ، التذكر، والحكمة ) ، ونحن هنا بصدد تسليط الضوء على الفقه فحسب.

اذ يقول عنه ان اللفظ الاول للفقه فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل ، اذ  خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي ، والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها ، فمن كان أشد تعمقا وأكثر اشتغالا فهو الافقه!!.

اذ هو ينفي ان يكون الفقه ما عليه القوم من سائر الفقهاء ، اذ قال : فقد صرح بعض العلماء بأن كلمة (الفقه) كانت تطلق في الازمنة السابقة على علم طريق الآخرة ومعرفة النفس ودقائق آفاتها ومكائدها وامراضها وفهم التسويلات والغرور الشيطاني . والاعراض عن لذات الدنيا وأغراض النفس والهوى والاشتياق الى معين الآخرة ، ولقاء الله ، والخوف من يوم الحساب.

وهو يستغرب من ان يكون الفقه في مصطلح طلاب العلم اليوم ، انقلب الى بحث حول مسائل الطلاق والعتاق واللعان والبيع والرهان، والمهارة في تقسيم المواريث ، ومعرفة الحدود والجرائم والتعزيرات والكفارات وغيرها.

بينما الفقيه عند ارباب البصيرة بحسب رأيه فهو كما يفهم من مؤدى الاية القرآنية(انما يخشى الله من عباده العلماء)(فاطر:28) ومن فحوى (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم)(التوبة:122)، ولهذا يرى ان من يخشى الله اكثر من غيره يكون الخوف والخشية أكثر في قلبه، وهو يخالف تفسيرات الفقهاء حول هذه الايات لكونه يرى فيها اشارة الى التفقه الباطني/ التهذيبي ، وليس المعنى المشاع الذي تقدم ذكره!!.

وهو يرى ان ابواب عالم الفقاهة هذه تؤدي الى المسار المغاير لمن أوغل بها، اذ بنظره تتولد منها الجرأة والجسارة أكثر مما يتولد الخوف والخشية!، بل ان الاقتصار على هذه الابواب الفقهية ينتجان أضداد ما ذكر ، ويصيران سببا لزوال الخوف والخشية من القلوب ، بل سبيلا لتحقق القسوة والغلظة والأمن من مكر الله كما نشاهده بحسب رأيه في كثير من المخدوعين.

فلهذا يعد الفقه عموما ليس من جنس العلم الحقيقي والعلم الرباني ومن ثم يخاطب المؤمنين به قائلا: يا عديم الحس والانصاف ، ويا ايها المغرور الكثير الجور والتعسف .ألا لماذا تنكر العلم الذي تعلم به الاسرار الصمدية والحقائق الالهية ، وبه تعرف المعارف الربوبية ، وكذا معرفة أسرار الايمان مثل علم الوحي والالهام ، ومعنى الرسالة والنبوة والامامة ، وعلم كتب الله وصحائف الملكوت ولوح الرب وقلمه وكتابته…، وكيفية نزول الشياطين على قلوب الاشرار بالوسواس ، ونزول الملائكة على قلوب الاخيار بالهام العلوم والاسرار، ومعرفة الدنيا والاخرة.

ثم يتسأل منكرا على الفقهاء وما اكثرهم ممكن ينكر هذا الفقه الالهي بحسب رأيه قائلا:فلماذا تنكر كل ذلك وتعد معرفته سهلا وعبثا؟ وتعظم العلوم الاخرى (ويقصد علوم الفقه) التي يمكن فهمها حسبما يقول : في ستة أشهر او أقل وتعد صاحبها من علماء الدين؟.

ثم يقول ان علم القرآن لايناله الا اصحاب الطهارة (القلبية) أي اصحاب التقوى الباطنية حصرا ، وليس اصحاب الطهارة الخارجية/ الجسدية اي اصحاب التقوى الظاهرية ، ولهذا قال : وان علم القرآن هو كما قال الحق تعالى (لايمسه الا المطهرون)(الواقعة:79)، وهو علم لايمسه الا اهل الطهارة والتقديس ، وأهل التجرد والتنزيه، لان المراد بهذه الطهارة بحسب رأيه: ليس هذا الغسل للوجه واللحية وتنظيف الثوب والجسد ، بل المراد تطهير القلب من لوث الشهوة والغضب ، وتجريده من العقائد الفاسدة ونجاسات الكفر والتشبيه والتجسيم ……، وهذه الامور و التوجهات الفاسدة برأيه لاتنتج كما هو معلوم من تهذيب الباطن وتجريد القلب من غشاوات الطبع والهوى، انما تتاتى من عمل بعض الفقهاء الذين يحبون: الجاه والرئاسة وتمني القضاء والحكومة والرغبة في الصيت والشهرة والحسد للنظراء والترفع عن الاقران!!.

وبنظره ليست حدود عالم الفقاهة هو منتهى العلم ، كما يزعم الفقهاء ، بل بنظره العلم الرباني/ الالهي هو الاعلى والاكمل والافضل ، اذ لوكانت حدود العلم هي الفقه فحسب لكانت هيبة العلم ضائعة حقا ، ولهذا قال لمناوئيه: لو كان العلم الذي تعرفه والذي تسميه علم الشريعة والحديث ، وكان ما لاتعرفه ولاتقدر على معرفته غير صحيح ، فكم ستكون قامة العلم قصيرة ، وكم ستكون عرصة القلب مظلمة سوداء ، وكم ستكون ساحة  ميدان المعركة ومجال العلم ضيقين ، وكم ستكون رجل العقل واهية عرجاء!!.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى