الدراسات والبحوث

الصوفيَّة حركة التحديث والتجديد الأولى في الفكر العربي

د. بليغ حمدي اسماعيل

الصوفيَّة حركة التحديث والتجديد الأولى في الفكر العربي

د. بليغ حمدي اسماعيل

الولوج إلى أكوان التصوف الإسلامي يحتاج إلى علم وعمل وموهبة فطرية يمنحها الله ـ عز وجل ـ لصاحبها ، والإمام النووي كان يذكر أن التصوف عماده ثلاثة أركان هي العلم، والزهد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،  وألطف ما في التصوف أنه تربية وصقل للأخلاق والآداب السامية، وأعذب ما فيه أنه تجربة غير قابلة للتكرار أو التشابه بل هي تجربة متفردة متمايزة لا تعرف للاشتراك سبيلاً ولا للمشاركة طريقاً.

ومن يلجأ إلى تعرف أحوال ومقامات أهل التصوف عليه أن يخطو بحذر ورفق وهو يرصد ويستقرئ ويتناول مواجيدهم وأحوالهم وأخبارهم بعيداً عن ما شاب التصوف من حكايات المتسامرين ونوادر المتعطلين وحجج المتنطعين، وهذا الدخول الحذر في أكوان التصوف والمتصوفة الأجلاء يحتاج إلى قدر كبير وعظيم من الثقة. ثقة بالله أولاً ويخطئ ويجادل من يدعي ليل نهار أنه واثق بالله وأعماله وأحواله لا تشير إلى ذلك، لأن الثقة بالله تشير إلى معان وخصال يجب أن تتجسد في المرء كجزء من تكوينه منها التأدب مع الله سراً وعلانية.

ومنها أن تكون شديد الاطمئنان مع الله تبارك وتعالى، وهذا الاطمئنان هو ما فسره أبو بكر الطمستاني في حديثه عن التصوف حينما ذكر أن من معانيه الاضطراب فإذا وقع سكون فلا تصوف. وهو يقصد بالاضطراب لا اضطراب وزعزعة النفس أو القلق النفسي من عوارض الدنيا وشواغلها إنما أن يظل المرء في حيرة من أمره هل ربه راض عنه بعباداته وطاعاته وقيامه وصلاته وصيامه أم لا؟ وهذا الاضطراب هو الذي يدفع الصوفي إلى مزيد من التعبد والخشوع والالتجاء المستدام إلى الله طمعاً في محبته لأن المتصوف الحق هو الذي يقدم محبة الله على الخوف منه.

ومثلما كانت أحوال المتصوف ومقاماته متفردة ومتميزة عن غيره من المتصوفة، فإن المصطلح ذاته يظل محل جدل في توصيفه وتقنينه ليصبح مواضعة لغوية ثابتة، وأهل التصوف أنفسهم يظلون غير مستقرين على تحديد مفهوم ثابت للتصوف، فمن التفسيرات والتأويلات التي أطلقت على أهل التصوف أنهم في الصف الأول بين يدي الله، أو لأنهم يلبسون الصوف تركاً واجتناباً لفتنة وزينة الدنيا ولقد أجمع المحدثون والقدامى من مؤرخي التصوف على أن اللفظ صوفي مشتق بلا شك من اللفظ الصوف أي من الأصل ( ص و ف )  فمنه يأتي اللفظ الصوفي (النسبة) واللفظ تصَوَّفَ بمعنى لبس الصوف، واللفظ التصوف (المصدر)، وقيل في التفسيرات أن صوفي على وزن عوفي، بمعنى عافاه الله وكوفي بمعنى كافأه الله والصوفي هو من صافاه الله واصطفاه أيضاً، وسئل طاهر المقدسي عن سبب تسمية التصوف بهذا الاسم فقال: لاستتارها عن الخلق بلوائح الوجد وانكشافها بشمائل القصد. وهناك من يقول إن اللفظ مشتق من أهل الصفة  وكما تظل أحوال ومقامات الصوفية أكثر غموضاً يظل المصطلح ذاته غامضاً حياتهم أيضاً.

ويخطئ من لا يظن بأن التصوف فلسفة، فهو في الحقيقة فلسفة لها جوهر كائن وقائم بذاته، وفي هذا الصدد نجد أبا الوفا التفتازاني يشير إلى التصوف معرفاً إياه بأنه “فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقياً، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية معينة تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً، وثمرتها السعادة الروحية، ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع وذاتية” .

والتصوف في حقيقته فكر وطريقة تفكير رصينة؛ فكر يستنجد بالدين وتعاليمه وشرائعه السمحة التي لا تعرف للتطرف سبيلاً، ولا تفطن للغلو طريقاً، وأسلوب تفكير يرتكز على التأمل أو ما يعرف بنظرية السلام الداخلي، وهذه النظرية تمثل أعلى درجات التحصيل للإنسان وهي وصوله إلى نقطة تنعدم عندها كل رغباته بحيث يستحيل إنساناً كريماً مع الجميع ولا يطلب شيئاً من أحد مطلقاً لأنه في حالة وصال واتصال مستدامة مع ربه تبارك وتعالى. والسلام الداخلي حل حصري للتخلص من المعاناة اليومية للإنسان التي تنتج من هوس المرء بالرغبات والشهوات، فمثلاً إذا تعلق الإنسان بأمر من أمور الدنيا الزائلة فلا مناص من أن يصنع شيئين؛ إما أن يحاول جاهداً للحصول عليه أو أن يتوقف عن الرغبة فيه، وفي كلتا الحالتين فلن يكون حزيناً بعدها، لكن الأخطر أن فكرة الحصول وتحقق الرغبة والشهوة من مطامع الدنيا تولد لديه طمعاً وجشعاً في تحقيق مآرب كثيرة ومطامح عديدة تجعله يبدو أكثر توتراً وقلقاً. ومن المؤسف حقاً أن الناس لا يستطيعون التوقف عن الرغبة في الأشياء.

حملات الهجوم على التصوف الإسلامي

واعتاد أصحاب حملات الهجوم على التصوف التطاول على ماهيته التي في أساسها التدبر والتأمل والاعتبار والتفكير في وظيفة الإنسان في هذه الحياة، واهتموا فقط هؤلاء المتعثرين فكرياً على التقاط بعض المظاهر السلوكية لفئة من البشر غير محسوبين على التصوف وأهله، وارتكزوا على انتقاد بعض التصرفات لفصيل لا يمكننا وصفه بفساد العقيدة ولكن بالخروج عن تعاليم الإسلام وهم أولئك الذين نجدهم يفترشون الطرقات ومداخل المساجد وأسوارها وهم بالضرورة القطعية لاال من الأحوال .

ولو كلف مهاجمو التصوف والصوفية أنفسهم بجهد قراءة مقامات ومواجيد أهل الحب، أعني التصوف لفطنوا بعقولهم أن أقطاب الصوفية احتكموا إلى العقل وهم يتعاملون مع الدنيا وفنائها، ولكن غلبة النصوص المجردة واللغة الاستثنائية لأقطاب التصوف جعلتهم بعيدين كمال البعد عن العامة والعوام. فالحسن البصري يقول: “فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً”، ويقول في موضع ثانٍ: “والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك وليكثرن في الدنيا بكاؤك”.

التصوف الحركة التجديدية الأولى في الفكر العربي

والصوفية تعد حركة تحديثية وتجديدية أسماها المستشرقون بالحداثة المعكوسة حيث إنهم نادوا بالحداثة عن طريق العودة إلى الماضي واتباع السلف الصالح في القول والفعل معاً وهم قوم أيقنوا أن مزيد من العبادة والتجرد عن الأهواء والرغبات وشرور الدنيا وفتنتها أمل في الشفاء من أسقام النفس وأوهام العقل. يذكر إبراهيم بن أدهم أن العباد لو علموا حب الله (عز وجل) لقل مطعمهم ومشربهم وملبسهم وحرصهم، وذلك أن ملائكة الله أحبوا الله فاشتغلوا بعبادته عن غيره، حتى إن منهم قائماً وراكعاً وساجداً منذ خلق الله الدنيا ما التفت إلى مَنْ عن يمينه وشماله، اشتغالاً بالله وبخدمته. ويقول مالك بن دينار: “خرج أهل الدنيا ولم يذوقوا أطيب شئ فيها، قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قال: معرفة الله تعالى”.

ومن أبرز ما يجده المستقرئ في مواجيد ومقامات الصوفية غلبة الحزن على نصوصهم الشفاهية أو الكتابية، وهو حزن يقرب المرء للعبادة حيث إن المتصوف يجد نفسه مضطراً لإعمال عقله في حاله وكنهه ووظيفته في الدنيا التي هو على يقين بأنها فانية مثله تماماً وأنه في دار عمل وشغل وعليه أن يكتفي بعباداته وطاعاته التي تقربه إلى الله عز وجل. وفي هذا نجد أقوالاً كثيرة للحسن البصري الذي تغلب على نصوصه الصوفية مسحة الحزن تلك، فيقول في عدة مواضع: “نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إنه من عصى الله فقد حاربه”. ويقول في موضع آخر: “إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً ولا يسعه غير ذلك، لأنه بين مخافتين؛ بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدري ما يصيب فيه من المهالك”. ويقول أبو الدرداء: “إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت، فما عملت فيما علمت؟”.

والرائي بعمق وروية وتدبر في النص الصوفي يدرك على الفور خارطة طريق واضحة المعالم لحياته التي يجب أن تكون سليمة الفطرة والتكوين والنشأة ومن ثم يضمن لنفسه سلاماً داخلياً بغير تعب نفسي أو احتدام داخلي بين رغبات وشهوات قد تعصف به، فأبو الدرداء يقول: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل، فإن أحسنت حمدت الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل”. والحسن البصري يقول: “رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعني وإياك يراد”.

والفضيل بن عياض يقدم للمرء روشتة علاج سريعة من أمراض القلب وهوس الرغبة وفتنة الدنيا، فيقول: “لم يتزين الناس بشئ أفضل من الصدق وطلب الحلال”. ويقول: “ثلاث خصال تقسي القلب: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام”، ويقول في موضع آخر: “لم يدرك عندنا من أدرك، بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة”.

أما شقيق البلخي وهو أحد أبرز أقطاب التصوف الإسلامي وأول من تكلم في علوم الأحوال ببلاد خراسان فيقول: “من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس، بأيهما قلبه أوثق”. ويقول: “ميز بين ما تعطي وتُعطى، إن كان من يعطيك أحب إليك فإنك محب للدنيا، وإن كان من تعطيه أحب إليك فإنك محب للآخرة”. ويقول: “إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت، والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك”.

سُلْطَانُ العَارِفِينَ.. مُحْي الدِّين بن عَرَبِي

هذا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيما يرويه عن جبريل عن الله (عز وجل)، أنه قال: “ما تقرب إلي عبدي، بمثل أداء ما افترضت عليه، وأنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله وفؤاده: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يمشي، وبي يعقل، وبي يبطش”، ووفقاً لهذا الحديث فإن الحقيقة الصوفية تشير إلى أن من أحب الله، وأحبه الله، فقد تمت ولايته بالحب، والمحب على الحقيقة، من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته، على خلاف منطق الفقهاء، حيث يرون أن حب الله لابد وأن يتمثل في الطاعة والاقتداء بالنبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم) عملاً بقوله تبارك وتعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، كما أنهم يقرون أنه لا يجوز وقوع الحب إلا بين متماثلين، وطبقاً لهذا فلا مماثلة بين العبد وربه.

والمتصوفة يجيزون الحب الإلهي مستندين أيضاً على أساس متين وقويم وهو القرآن الكريم عملاً بقوله تعالى (والذين آمنوا أشد حباً لله)، وقوله في محكم التنزيل (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)، وهذا الحب لا يتحقق إلا بمعرفة كاملة وتامة بالخالق تبارك وتعالى، وإذا ذكرت المعرفة وكانت إحدى شرائطها المحبة، تتم الإشارة دوماً إلى سلطانين لا ثالث لهما؛ سلطان العاشقين ابن الفارض الذي أبدع شعراً فأجاز واختزل مواجيده الصوفية ناظماً:

قلبي يحدثني بأنك متلفي

روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ .

لم أقض حق هواك إن كنت الذي

لم أقض فيه أسىً ومثلي من يفي .

ما لي سوى روحي وباذل نفسه

في حب من يهواه ليس بمسرفِ .

وسلطان ثان وأخير، وهو سلطان العارفين محي الدين أبو عبدالله محمد بن علي بن محمد، الملقب دوماً بالشيخ الأكبر، وإن كان لقبه الثاني بـ”سلطان العارفين” هو اللقب الذي يسود ذكره ويلازمه في مكاتيب الصوفيين وتأريخ أقطاب الصوفية في الإسلام، وهو لقب لم ينله إلا بعد أن تبوأ مكانة ومقاماً بين رجالات التصوف مكابدة ومعاناة ومعرفة وتوسعاً في الحقائق والمشاهدات، وقد قال عنه شهاب الدين السهروردي إنه بحر الحقائق. وهو بحق سلطان العارفين وإن بدا بشعره عاشقاً أيضاً، حينما نراه ينظم ناشداً:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

فقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعى لغزلان وديراً لرهبانِ

وبيتاً لأوثانٍ وكعبة طائفٍ

وألواح توراة ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

وكثير من العامة لا يعرف أن ابن عربي من أسرة عريقة النسب والعزة والكرم، فهو من نسل حاتم بن عبدالله الطائي (حاتم الطائي)، وهو الفارس الجواد المشهور بكرم الأخلاق والآداب، ولقد ولد ابن عربي الذي نجد اسمه في بعض كتابات المستشرقين عنه بابن العربي في مرسية وهي مدينة في جنوب شرق الأندلس سنة 560 هجرية، وانتقل في الثامنة من عمره إلى إشبيلية مع أسرته فبدأ دراسة وتعلم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان أستاذه في علم القراءات أبا بكر محمد بن خلف اللخمي الإشبيلي وهو من أكبر العارفين والمتميزين بالقراءات وعلوم العربية.

وتذكر الكتب أنه التقى بفيلسوف قرطبة وقاضيها ابن رشد، وهو نفسه يشير إلى ذلك في كتابه الفتوحات المكية حيث لقائه الطويل معه وإثباته تفوق العلوم الصوفية على العلوم العقلانية. يقول بشأن هذا اللقاء: دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلى محبة وإعظاماً، فعانقني وقال لي: نعم، فقلت له: نعم ، فزاد فرحه بي لفهمي منه، ثم أني استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونه، وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر؟.

فقال له: نعم، لا، وبين نعم وتطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها، فاصفر لونه وأخذه الأفكل (الأفكل على وزن أحمد أي الرعدة)، وقعد يحوقل، وعرف ما أشار به إليه، وهو عين المسألة التي ذكرها هذا القطب أعني مداوي الكلوم.

وربما حالة الاستبداد التي سادت في أثناء اضمحلال وتدهور الأندلس الإسلامي هي التي دفعت الكثير من العلماء والأدباء والشعراء إلى الارتحال من الأندلس ومنهم ابن عربي رغم أن كثيراً من مؤرخي هذه الحقبة الزمنية يرون أن ابن عربي لم يكن مختاراً في القيام بالرحلة خارج أندلسه ولكنها كانت توجيهاً ربانياً. المهم في رحلته هذه أنه ارتحل إلى المشرق نحو تونس التي توقف فيها كثيراً، ثم توجه إلى مكة المكرمة ماراً بمصر المحروسة التي لم يتوقف فيها طويلاً.

وفي مكة المكرمة، توافد عليه العلماء والأولياء من كل مكان وزاوية يطلبون علمه ومعرفته الموسوعية، وهناك توثقت صلته بإمام الحرم المكي آنذاك الشيخ (مكين الدين أبي شجاع زاهد بن رستم الأصفهاني). ثم ارتحل مجدداً إلى الطائف ومنه إلى مكة ثانية ثم القاهرة فالإسكندرية ومكة مرة ثالثة. ويذكر الرواة أنه التقى بمصر سلطان العاشقين ابن الفارض. وقصة اللقاء أن سلطان العارفين ابن عربي طلب من ابن الفارض أن يأذن له في شرح تائيته الكبرى فأجاب ابن الفارض بقوله: ” إن كتابك الفتوحات المكية شرح لها”.

وما يميز ابن عربي أنه يشبه النحلة النشيطة، إذ ينتقل من روض معرفي إلى آخر، ينهل ويتعلم ويعي ويفطن ما يتعلمه، وكانت عزيمته لا تعرف الكلل، ونبغ في مجاله وميدانه حتى أجازه أساطين عصره من أمثال ابن عساكر إمام هذا الوقت وزمانه، وكذلك ابن الجوزي الذي كان علامة العصر والزمان والتاريخ.

ويمكننا أن نلمح نشاط قطبنا الصوفي الكبير في مؤلفاته، حيث ترك عدداً ضخماً من المؤلفات في شتى العلوم الصوفية تقدر بحوالي ثلاثمائة كتاب من أشهرها الفتوحات المكية التي تقع في أربعة مجلدات ضخمة، وكتاب فصوص الحكم، ويعد هذا الكتاب من الدرر التي كتبت في تاريخ التصوف الإسلامي بمجمله، إذ استطاع فيه ابن عربي أن يقدم رؤية صوفية إزاء بعض التي يمكن توصيفها بالفلسفية المجردة والتي تحتاج إلى عناية كبيرة بتقديمها إلى القارئ العربي بقصد توضيحها وتيسيرها عليه، وديوان (ترجمان الأشواق)، وهذا الأخير اجتهد المفسرون وفقهاء التاريخ أن يضعوا حدوداً جغرافية وتنظيرات تأويلية له عن مقصده وهدفه ولمن كتب. ومن هذه الاجتهادات ما جاء في كتاب نفح الطيب بأن شيخ الحرمين مكين الدين كانت له أخت أطلق عليها شيخة الحرمين ومربية البلد الأمين، واسمها الأصلي (النظام)، وقد عرف عنها أنها من أرباب الأحوال والمقامات، ولقد جمعت بين الحسنيين المعنوي والظاهري، ولقد تم وصفها بأنها من العابدات الزاهدات. ولقد أعجب بعلمها ومعرفتها شيخنا (ابن عربي) بل كانت أيضاً مصدر إلهام له وتجسد ذلك في ديوانه (ترجمان الأشواق).

وفي هذا الديوان نسج  ابن عربي) قصائد رمزية على طرائق الصوفيين الذين يتغزلون فيها بإنسان، وهم لا يقصدون من وراء ذلك سوى الإشارة إلى معانٍ سامية، وخوفاً من سوء الفهم والإدراك لصنيع ابن عربي في ترجمان أشواقه لجأ إلى وضع شرح للديوان خشية أن يتبادر إلى ذهن العامة فهم خاطئ لا يتناسب وجلال القصائد الصوفية الماتعة.

وابن عربي كصوفي وقطب كبير يختلف تمام الاختلاف مع نظرائه من أهل التصوف، فلقد ابتعد عن التقليد الذي كان شائعا ًفي زمانه، ولم يهتم بأن يكون مردداً لكلام من سبقوه بغير تفهم لمقاصدهم الرئيسة، فأتى بأسلوب رشيق وجديد ومليئ بالمفارقات والدهشة، بل كما يشير جوزيبي سكاتولين في كتابه (التجليات الروحية في الإسلام ـ نصوص صوفية عبر التاريخ) إلى أن ابن عربي جاء بمتضادات مفهومية يتحير العقل إزاءها، ومن أمثال ذلك عبارته الشهيرة  “سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها”. فكيف يكون الخالق هو عين المخلوق؟.

ولقد اشتدت المجادلات حول مثل تلك العبارات الأكبرية كما يذكر جوزيبي سكاتولين في كتابه، إلا أن المقصود منها لم يكن مجرد الغموض والإغراب لدى سامعيها بقدر ما كان إيقاظ روح القارئ إلى إدراك أعمق وأوسع للحقيقة الإلهية التي لا تنحصر في القوالب العقلانية العادية، إنما تظل دائماً وأبداً متعالية ومتسامية عن كل إدراك بشري.

وها هو (ابن عربي) تتكون شخصيته الصوفية عن طريق جهاد شاق وصعب ومتواصل، عن طريق القيام برياضات تنوعت بين الجوع والسياحة والأسفار الطويلة والعزلة المطلقة والصمت وذكر الله والتفكر في مخلوقاته، بجانب مجالسة ومصاحبة وملازمة الصالحين وأولياء الله، والحرص كل الحرص على الالتزام بشرع الله وأحكامه وأوامره ونواهيه.

والشرع في رأي (ابن عربي) ليس تمثلاً ظاهرياً أو صورة سطحية للمرء، لكن كان يراها صاحبنا كالشجرة الفارعة الباسقة ثمارها المعرفة ويقين الحقيقة، ويرى أنه كلما أمعن المريد في ممارسة الشرع ظهرت له حقائق كان يغفلها، وتكشفت أمامه أسرار كان يجهلها، ولن يتحقق هذا إلا بإقامة الشريعة على أصولها.

مشكلة ابن عربي هي مشكلة معظم أقطاب الصوفية أنهم يتحدثون بإشارات ورموز معرفية ولغوية لا يفطن كنهها العامة وربما الخاصة أيضاً، وهم في اعتقادهم ومظانهم أنهم يحادثون صفوة الخاصة فقط

واستحقاق شيخنا (ابن عربي) لقب سلطان العارفين جاء من عمقه في تفسير وكشف أسرار العبادات، فهو لا يرى في العبادات أنها مجرد ممارسات يومية، بل يعتني بتأويلها وهو على إصراره في أن يضيف عمقاً فلسفياً للعبادات تؤهله بالفعل لنيل لقب سلطان العارفين، ومن ذلك نصيحته للمريد وهو يتأهب للصلاة، فنجده يقول في ذلك: “فإذا توضأت فاسع في الخروج من الخلاف وتوضأ أسبغ وضوء، وسم الله في بدء كل حركة، واغسل يديك بترك الدنيا منهما، ومضمض بالذكر والتلاوة، واستنشق بشم الروائح الإلهية، واستبر بالخضوع وترك الكبر، واغسل وجهك بالحياء، وذراعيك بالتوكل، وامسح رأسك بالمذلة والافتقار، وامسح أذنيك باستماع القول واتباع أحسنه، واغسل قدميك لإيطاء كثيب المشاهدة، ثم اثن على الله بما هو أهله  وصل على رسوله الذي أوضح لك سنن الهدى (صلى الله عليه وسلم)، وقف في مصلاك بين يدي ربك من غير تحديد ولا تشبيه، وواجهه بقلبك كما تواجه الكعبة بوجهك وتحقق أن ما في الوجود أحد إلا هو وأنت فتخلص ضرورة، وكبره بالتعظيم، ومشاهدة عبوديتك، وإذا تلوت فكن على حسب الآية المتلوة فإن كانت ثناء عليه فكن أنت المحدث وهو الذي يتلو كتابه عليك فيعلمك الثناء عليه فيما يثني به على نفسه”.

وإذا كان موضوع الكرامات من أبرز الموضوعات التي تحتل مكاناً ومساحة عند الحديث عن التصوف وأهله  فإن صاحبنا (ابن عربي) له رأي في هذا الموضوع، فهو يرى أن الكرامة الحقيقية هي الاستقامة على الجادة، والمضي قدما إلى الأمام دون الالتفات إلى أي عارض يعترض الطريق. ويشير إلى ذلك بقوله: ” لا تطلب من الله في خلوتك سواه، ولا تعلق الهمة بغيره، ولو عرض عليك كل ما في الكون فخذه بأدب ولا تقف عنده، وصمم على طلبك فإنه يبتليك، ومهما وقفت مع شئ فاتك، وإذا حصلته لم يفتك بشئ”.

ولابن عربي نظرية عميقة في الإنسان الذي يراه كوناً جامعاً، أي ووفقاً لتصور ابن عربي فإنه يجمع التجليات الإلهية في الكون كله، وعلى أساس ذلك طور (ابن عربي) مفهومه الخاص بالإنسان الكامل الذي يمثل لديه أقصى وأشمل تحقيق للكائن البشري الذي يتجلى في تاريخ الأنبياء. واستطاع جوزيبي سكاتولين أن يقوم بسبر أغوار هذا المفهوم عند (ابن عربي) حينما أشار إلى أن فكرة الإنسان الكامل في تصوف ابن عربي تتضمن أبعاداً عديدة ومعقدة منها مفهوم الحقيقة المحمدية، ومفهوم “ختم الولاية”.

وهذا المعنى أورده ابن عربي في كتابه (فصوص الحكم) في الجزء المعنون بـ”فص حكمة فردية في كلمة محمدية” فنجده يقول: “إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بدئ به الأمر وختم   فكان نبياً وآدم بين الماء والطين, ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين. وأول الأفراد الثلاثة, وما زاد على هذه الأولية من الأفراد فإنها عنها. فكان عليه السلام أدل دليل على ربه, فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مسميات أسماء آدم فأشبه الدليل في تثليثه, والدليل دليل لنفسه ولما كانت حقيقته تعطي الفردية الأولى بما هو مثلث النشأة لذلك قال في باب المحبة التي هي أصل الموجودات (حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث) بما فيه من التثليث, ثم ذكر النساء والطيب وجعلت قرة عينه في الصلاة فابتدأ بذكر النساء وآخر الصلاة, وذلك لأن المرأة جزء من الرجل في أصل ظهور عينها ومعرفة الإنسان بنفسه مقدمة على معرفته بربه, فإن معرفته بربه نتيجة عن معرفته بنفسه, لذلك قال عليه السلام {من عرف نفسه عرف ربه} فإن شئت قلت بمنع المعرفة في هذا الخبر والعجز عن الوصول فإنه سائغ فيه, وإن شئت قلت بثبوت المعرفة.

فالأول أن تعرف أن نفسك لا تعرفها فلا تعرف ربك: والثاني أن تعرفها فتعرف ربك فكان محمد أوضح دليل على ربه, فإن كل جزء من العالم دليل على أصله الذي هو ربه فافهم. فإنما حبب إليه النساء فحن من إليهن لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه, فأبان بذلك عن الأمر في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشأة الإنسانية العنصرية {ونفخت فيه من روحي} ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه فقال للمشتاقين (يا داود إني أشد شوقاً إليهم) يعني المشتاقين إليه وهو لقاء خاص: فإنه قال في حديث الدجال إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت, فلابد من الشوق لمن هذه صفته. فشوق الحق لهؤلاء المقربين من كونه يراهم فيحب أن يروه ويأبى المقام ذلك فأشبه قوله (حتى نعلم) مع كونه عالماً, فهو يشتاق لهذه الصفة الخاصة التي لا وجود لها إلا عند الموت, فيبل بها شوقهم إليه كما قال تعالى في حديث التردد وهو من هذا الباب (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له من لقائي فبشره وما قال له لابد له من الموت لئلا يغمه بذكر الموت.

ولابد من التأكيد على أن كتابه هذا (فصوص الحكم) قد أثار ضجة في حياته وحتى وقتنا الراهن، وبين مؤيد ومعارض تأرجح الحكم على فصوصه، فلقد هوجم عليه ابن عربي كما لم يهاجم صُوفِىٌّ على كتاب! حتى أن الذهبىَّ وصفه بأنه من أردأ تصانيف ابن عربي، ثم ذكر نصاً قوله: ” فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفرٌ، فواغوثاه بالله”،  بينما وصف صدر الدين القونوي ـ تلميذ ابن عربي ـ الفصوص بأنها: من أنفس مختصرات شيخنا، وهو من خواتم منشآته وأواخر تنزلاته، ورد من منبع المقام المحمدي والمشرب الذاتي والجمع الأحدي، فجاء مشتملًا على زبدة ذوق نبينا.

وكم من حملة وجهت إلى صدر وعقل وعقيدة ابن عربي، وكم من تهمة لحقت به مثل الزندقة وهي التهمة التي واجهته عند زيارته إلى مصر المحروسة وبها قبض عليه وكاد أن يلقى حتفه بها لولا أن نفراً استطاع أن يؤول كلامه النثري ونظمه الشعري فنجا. ومشكلة ابن عربي هي مشكلة معظم أقطاب الصوفية أنهم يتحدثون بإشارات ورموز معرفية ولغوية لا يفطن كنهها العامة وربما الخاصة أيضاً ، وهم في اعتقادهم ومظانهم أنهم يحادثون صفوة الخاصة فقط ، وربما نجد لهم مبرراً في ذلك أنهم لم يكترثوا بنقل معارفهم كونهم في أحوال ومقامات مستدامة ، ووجد لا ينقطع ولا ينقضي مع الله تبارك وتعالى فلم ينشغلوا بمستويات الفهم والإدراك لطروحاتهم الفكرية.

_____________________

*نقلًا عن موقع ” ميدل إيست أونلاين(meo).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى