مشاهد ومراقد

التكايا” و”الأسبلة”.. من قونيا إلى القاهرة

التكايا” و”الأسبلة”.. من قونيا إلى القاهرة

 

بملابس بيضاء متوجة بقبعة بنية طويلة تعلو الرأس، وعلى أبيات مولانا جلال الدين الرومي الممزوجة بأنغام الناي ودقات الطبول، تنفصل أرواح تلتحف السماء في حالة عشق إلهي، وهم يؤدون الرقصة المولوية الشهيرة.
هذا المشهد الصوفي يعود لمئات السنين، ويمكن استحضاره مع زيارة إلى “التكية المولوية” بالقاهرة، التي تؤرخ جدرانها تاريخ دراويش “الرومي” ممن قدموا من ولاية قونية (التركية) إلى عاصمة المعز إبان شروق شمس الدولة العثمانية في مصر.

تحتضن القاهرة في حواريها وأزقتها تكايا وأسبلة، وراء كلّ جدار منها قصة بما تحويه من شواهد أثرية تمتزج بالروحانيات الصوفية، وتعد شاهدا على العمارة العثمانية.
والتكايا ارتبطت في نشأتها في مصر بالحكم العثماني (1517- 1867م)، وهي نموذج للعمارة الخيرية، لاستقبال وعلاج المرضى والمسافرين وخدمة الفقراء، أو كونها مقاما أو خلوة للطرق الصوفية.
أما الأسبلة، فارتبطت في مجملها بالطراز المملوكي (1250- 1517) حيث حجرة مستطيلة أو مربعة تكتسي أرضها بالرخام وترتكز على الخشب، لتقديم المياه لعابري السبيل والفقراء ومن يجاورها.
ووفق مشاهدات مراسل الأناضول ومعلومات تاريخية، فإنها تنتشر التكايا والأسبلة في المناطق التاريخية وسط القاهرة وأبرزها مناطق الخليفة والجمالية ومصر القديمة وشارع المعز.

 

ملجأ الدراويش

شهدت القاهرة خلال العصر العثماني طفرة في بناء التكايا، أما عمارتها فكانت في مجملها تتألف من صحن داخلي (قاعة)، يتخللها منطقة “السماعخانة” وهي مكان الذكر الصوفي، وغرف للمريدين (الأتباع) والدراويش، وأخرى لتحضير الأطعمة، وقد تضم مقامات للأولياء.
وبُني في مصر 29 تكية عثمانية، بقي منها 7 والباقي اندثر، وفق معلومات تاريخية ومشاهدات مراسل الأناضول، وأبرزها “التكية المولوية”.
تقع التكية المولوية بشارع السيوفية بحي الخليفة (وسط القاهرة)، وأقامها أتباع الرومي الذين قدموا من قونية إلى القاهرة، على أنقاض مدرسة مملوكية، وفق النص التأسيسي المدون بها، فيما أشارت وثيقة عُثر عليها داخل التكية أثناء الترميم إلى أنها بنيت عام 1005 هـ (1595م).

الطريقة المولوية، أنشأها الرومي بولاية قونية في القرن الـ13 هـ ويمارس أتباعها رقصة المولوية، التي يعتبرونها إحدى طرق ذكر الله.
والتكية المولوية، وفق مشاهدات الأناضول تتكون من مسرح (سماغخانة) مخصص لرقصة المولوية، وطابق علوي جزء منه مخصص للنساء وآخر لرجال الدولة، وآخر للفرقة الموسيقية المكونة من عازف الناي والطبال وضارب الدُف.
ويعلو المسرح، قبة ضخمة تحتوي على رسومات هي عبارة عن ملامح لمنازل عثمانية، يعلوها قرص شمس للدلالة على شروق الدولة العثمانية وفي القلب منها آيات قرآنية.
وبالقبة أشكال طيور تعبر عن حلقة الوصل بين الدرويش وربه كإحساس وشعور للعشق الإلهي حين يرفع يديه الاثنتين إلى السماء في الرقصة الصوفية الشهيرة، بحسب شرح المسؤول ذاته.
وتقوم القبة على 12 عمودًا خشبيا، ولوحة على يمين التكية مدون عليها “يا حضرة مولانا”.
أما المدرسة التي أقيمت عليها التكية، فهي مدرسة سنقر السعدي التي تعود لعصر الدولة المملوكية، وتضم أضرحة، بينها ضريح آخر طباخ للدراويش المولوية ويدعى محمد غالب درة، بجانب ضريح حسن صدقة وهو آخر درويش عثماني بالتكية.
وداخل المدرسة يوجد متحف صغير يضم زيًا للدراويش داخل صندوق زجاجي، بجانب الكتاب “المثنوي” الذي يضم أشعار الرومي وتفاصيل الطريقة المولوية وبعض الآيات القرآنية.
وهذا الكتاب أهدته السفارة التركية لإدارة التكية بجانب صورة لجلال الدين الرومي، بحسب المسؤول بالتكية.
أما رقصة الدراويش المولوية، فكانت تبدأ بأن يخلع كل درويش عباءة سوداء ليبقى بأخرى بيضاء اللون، ثم يتم تقبيل يد كبيرهم وهم يرددون “يا حضرة مولانا” والدعاء لجلال الدين الرومي.
أول بيت يقولونه قبل الرقص “يا نفس رومي لجلال الدين الرومي”، لتحلق أرواحهم بعد ذلك في سحاب العشق الإلهي.

 

أهم التكايا العثمانية

أما “تكية محمد أبو الدهب”، فتعد أهم تكايا العصر العثماني في مصر وأكثرها تكاملاً، ويعود تاريخها إلى عام 1703.
تقع التكية ضمن مجموعة أبو الدهب قرب الجامع الأزهر (وسط القاهرة)، وهي ثاني أهم مجموعة معمارية أثرية، بعد مجموعة السلطان الغوري (مملوكية) القريبة منها.
وقبل شهرين، اتخذت وزارة الآثار المصرية من جزء من التكية، متحفا للأديب المصري العالمي الحائز على جائزة نوبل في الآداب، نجيب محفوظ.

مولانا سنان

ومن أشهر التكايا العثمانية أيضا تكية الشيخ سنان، التي انشئت في عهد حاكم مصر العثماني سنان باشا، أواخر القرن العاشر الهجري.
ووفق مشاهدات، فإنها تقع التكية بدرب قرمز بحي الجمالية، وسط القاهرة، وهي عبارة عن حجرة مستطيلة مقسمة قسمين تعلوها قباب.
ونقش على جدران التكية: “من خيرات مولانا سنان باشا”.

الأسبلة العثمانية

ورغم أن ظهور الأسبلة بدأ في العصر الأيوبي بمصر (1171- 1250م) إلا أنها شهدت رواجًا كبيرًا إبان الدولة العثمانية، مع بقائها على الطراز المملوكي.
ووفق مشاهدات فإن عمارتها عبارة عن غرفة مستطيلة للتسبيل (مكان المياه)، تكسوها قاعدة رخامية وسقف يرتكز على خشب، أما شباك السبيل فهو يتكئ على حوض الشرب، في مواجهة الشارع.
ومن أبرز هذه الأسبلة، التي ارتبطت بالعصر العثماني، سبيل خسرو باشا بمنطقة النحاسين، وسبيل عبد الرحمن كتخدا بشارع المعز التاريخي.

____________________________

*نقلًا عن موقع ” عربي 21″.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى