الزاوية المعينية وخصوصية المسلك الجنيدي بالمغرب
د. طارق العلمي
يعد التصوف أحد مقومات الهوية المغربية عبر التاريخ، فقد شكَّل إلى جانب العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي أهم ثوابت ومرتكزات الأمة المغربية؛ ولم تقتصر آثاره على المجال الديني فحسب، بل شملت معالجته كل ما هو محيط بالإنسان عبر المجالات الروحية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وقد كان اختيار المغاربة للمسلك الجنيدي، ملائما لطبيعة رجالاته، من خلال اهتمامهم بالجانب العَمَلي للتصوف، وما تثمره التجربة الروحية من أفعال أخلاقية تعود على السلوك بالاستقامة، دون إطلاق القول في الحقائق والكشوفات، بخلاف التجارب الأخرى التي جنح مُعظم أهلها إلى إبراز الجانب العرفاني للتصوف، مما جعل مجال استيعابها ضيقا ومخصوصا برجال الفكر.
وهذا المنحى هو الذي أعطى للمسلك الجنيدي امتدادات بين فئات واسعة من المجتمع على اختلاف طبقاته، في ارتباط وثيق بواقع الأفراد، حيث يمكن القول بأن التصوف أخذ يتشكل في مجالات الحياة، بما يمده من قيم ترقى بالحس الوطني إلى مستويات إحسانية.
وبفعل هذه القوة الاستيعابية والفاعلية المتجددة التي اختص بها المسلك الجنيدي، فقد حظي بعناية سلاطين وملوك الدولة العلوية الشريفة عبر مراحل حكمهم للمغرب، وسيرا على نهج أسلافه الميامين، سلك أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نفس النهج، في اعتبار الأدوار المهمة التي يضطلع بها التصوف في بلدنا المغرب، يظهر ذلك من خلال قوله المولوي: “ولعل صوفية المغرب قد تميزوا عن سواهم بما غلب عليهم من نزعة اجتماعية وتربوية وخلقية، فقد اشتغلوا على الخصوص بتعليم القرآن ونشر تعاليمه بأسلوب مبني على مخاطبة القلوب، وتعميق رجائها في رحمة الله.”[1]
ويضيف جلالته قائلا:”والتصوف وإن كان مداره على التربية وترقية النفس في مدارج السلوك، فإن له تجليات على المجتمع، ومن هذه التجليات ما يظهر في أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقوَمها.”[2]
وما التصوف المعيني إلا امتداد للمسلك الجنيدي، القائم على أبعاد روحية أساسها التزكية والأخلاق، واجتماعية قوامها التضامن والتنمية، ووطنية هدفها الدفاع عن حوزة الوطن، وسياسية أساسها ترسيخ قيم الوحدة والالتفاف حول السلطان.
وقد شكَّل هذا الالتقاء الذي يعكس مسار التجربة المعينية وفق خصوصية المدرسة الجنيدية، محور هذا المقال، الذي سيهتم بإبراز عنصرين أساسيين:
الأول: يتعلق بالبعد الأخلاقي الذي سلكته المدرسة الجنيدية، والذي يدعو إلى عدم إطلاق القول في حقائق التصوف.
والثاني: يخص المجالات المتنوعة التي عمل التصوف المغربي على تكريسها، وهو ما انعكس على الممارسة المعينية من خلال ارتباطها بالقضايا الوطنية والاجتماعية والعلمية والسياسية للأمة.
1- البعد الأخلاقي للمدرسة الجنيدية، وعدم إطلاق القول في حقائق التصوف:
لقد اعتبر أهل التصوف أن ما يحصل للسالك من تنزلات ومعاني ربانية، تَصحبُه في تدرجه الإيماني، هو من الأمانات المودعة عنده، والتي لا يجوز البوح بها، الشئ الذي يجعل إخراجها من نطاقها الخاص، وتعديتها إلى غير صاحبها، فيه من الإساءة لتلك المعاني نفسها، باعتبار ما هو مطلوب منه، من التأدب معها، وتقدير حقها.
فكان منهج الإمام الجنيد في تعامله مع هذه الحقائق إبعادها على من ليست له أهلية تقبلها، بل الإنكارعلى من يفشي ذلك، مثلما ورد في قوله مُؤنِّبا الإمام الشبلي على إشاعته هذه العلوم بين العوام: ” نحن حبَّرنا هذا العلم تحبيرا ووضعناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ.”[3]
فكانت تلك إشارة على أن مذهب الجنيد بُني على الصحو وعدم الانسياق وراء هذه الكشوفات، انطلاقا من أن القدرة على كتم هذه الحقائق تدل على رسوخ القدم في المعرفة الربانية، وإفشاؤها يدل على عكس ذلك.
بل إن بعضهم، كعالِم الاجتماع ابن خلدون، يَعتبِرُ ذلك استدراجا وامتحانا، فيتعوذون مما ينكشف لهم و“يفرون منه، ويرون أنه من العوائق والمحن”[4]حتى لا يكون وقوف السالك عند ما ينكشف له، ويَسْتَكِنَّ إلى ما يَتَحَصَّلُ لديه فَتَقِلُّ مجاهدته، وتضعفُ همته في مواصلة السير، والله تعالى يقول (وأنَّ إلى ربك المنتهى).[5]
لذلك كان منهجهم هو النظر إلى جهة التعبد والاستغراق في مدارج الاقتداء، بحيث لا يطلقون القول إلا إذا كانت فيه منفعة عملية للسالك في سيره وتقربه، وإلى ذلك ذهب معظم صوفية المغرب في تعاملهم مع الأذواق وعدم إطلاق الحقائق التي كانت محل اعتراض بالنسبة للشعور العام، حيث ورد في معلمة المغرب: “أن تلك الحقائق كانت رائجة، ولكنها كانت موضوع اعتراض؛ فتكون مراعاة الشعور السني العام في المغرب واقعا متأصلا، ولكن لا يعني البتة أن تلك المعاني المسماة «بالحقائق» يمكن فصلها عن التجربة الصوفية، ولو عند رجل لم يعرف من العربية إلا فاتحة الكتاب مثل أبي يعزى.”[6]
مما يدل على أن هاجس تقريب الممارسة الصوفية وتوسيع مجالها أمام شرائح المجتمع، هو الذي أفضى بهم إلى تخليص القول الصوفي مما يتلاءم مع الشعور العام، وذلك بإظهار الجانب العملي منه، بخلاف ما ذهب إليه غيرهم الذين غلب عليهم القول بالحقائق، فكان تفاعلهم قاصرا على الخاصة منهم وليس شاملا لغيرهم.
وتعتبر الزاوية المعينية نموذجا للتصوف ذو المنحى الجنيدي الذي التزم به المغاربة عبر التاريخ، لما سلكه أصحابها من العمل على إبراز الجانب العملي للتصوف، في ارتباط مع متطلبات الواقع المعيش، بحيث أنّ “الفكرة الوحدوية” التي بُني عليها منهج الشيخ ماء العينين كانت لا تقبل بأي حال من الأحوال إطلاق القول بالحقائق، وإلا سيكون ذلك مناقضا لعمله الهادف إلى توحيد الطرق الصوفية والتأليف بين القبائل الصحراوية المتنازعة.
لذلك يصرح بأنه: “لا ينبغي إلقاء كلام للناس لا يفهمونه، لأنه سبب للفتنة، فلذا نُهي عن مطالعة كتب التصوف الغامضة: كالإنسان الكامل للجيلي، والفتوحات للشيخ الأكبر، فقد قالوا: نحن قوم لا يجوز لغيرنا أن يطالع كتبَنا إلا إذا ذاق مذاقنا، وقد كان بعض أهل الله تعالى إذا أراد مطالعة كتبهم، أخذ من تلامذته شخصا أو اثنين ممن عرف نجابته، ودخل الخلوة وأغلق الباب مخافة أن يدخل عليه من ليس من أهل ذلك الشأن.”[7]
لذلك كان منهج الشيخ ماء العينين هو تأصيل القول الصوفي والأخذ بالجانب العملي منه، وذلك التزاما بمبدإ توسيع مجال الممارسة الصوفية بين فئات المجتمع، وفق ثنائية الظاهر والباطن، بحيث إن السلوكات الظاهرة تصدقها الأعمال الباطنة، والعكس، وهو ما أشار إليه الشيخ ماء العينين في تعريفه للتصوف بقوله:” هو الوقوف مع آداب الشريعة ظاهرا وباطنا، فيرى حكمه من الظاهر في الباطن، ومن الباطن في الظاهر، فيحصل من الحكمين كمالٌ لم يكن بعده كمال.”[8]
كلُّ هذا يدل على أن الطريقة المعينية عملت على الالتزام بخصوصية المسلك الجنيدي فيما يتعلق بإبراز معالم التصوف العملي، وذلك من أجل تعميم الممارسة الصوفية، وجعلها في متناول عموم السالكين، وحتى يتسنى لها بذلك توسيع مجال”فكرة الوحدة” ونقلها من المجال الصوفي واستثمارها في قضايا تنموية ووطنية، استجابة للأوضاع التي كانت تمر بها المنطقة آنذاك.
2– فاعلية التصوف بين التجربتين الجنيدية والمعينية:
كما تقدم، بُنِي المسلك الجنيدي على إبراز الجانب العملي للتصوف، الذي من شأنه أن يولد شعورا باطنيا لا يحتاج معه السالك إلى استدلال، إلا أن يكون ذلك على وجه الاستئناس، إذ تصبح التجربة التي تنفعل بها جوانح السالك بمثابة استدلال معنوي، يورثه اعتقادا يقينيا في صدق هذا التوجه، وتحقيقه للرقي في مراتب الإحسان.
ويهدف هذا المبنى الجنيدي إلى تعميم المعرفة الصوفية، حتى تستفيد منها كل الفئات؛ فهي ليست مختصة برجالات الفكر فحسب، كما هو الحال عند مُعظم المشارقة الذين زخرت مؤلفاتهم بالأذواق والمواجيد، فانحصرت في مجال ضيق، بل على العكس من ذلك، فقد تميزت الممارسة الصوفية بالمغرب بالفعل الاجتماعي النافع والمندمج، بعيدا عن الدروشة والانزواء.
وقد ساهم في ذلك تشبع التصوف بالمغرب بالمذهب المالكي، الذي أَثّر في توجهه، وأصبغ عليه لباسا عمليا، جعله أكثر ارتياحا لعموم السالكين؛ ذلك أن التوجه المالكي لم يكن يهتم إلا بما يفيد عملا، يَظهر ذلك من خلال ما وقع للإمام مالك حين سأله رجل عن شئ من علم الباطن، فغضب، وقال:” إن علم الباطن لا يعرفه إلا من عرف علم الظاهر، فمتى عُرف علم الظاهر وعُمل به، فتح الله عليه علم الباطن، ولا يكون ذلك إلا مع فتحِ قلبه وتنويره.”[9]
فيكون هذا المنهج المالكي في رد هذا الرجل إلى الاهتمام بمجال العمل، داعيا إلى القول بأن البحث في مجال الذوقيات لا يكون عن طريق المشافهة، بل بالممارسة والعمل، بحيث تصير معه هذه الحقائق بشائر يستأنس بها، وربما في مراحل أخرى لا يُلتفت إليها، لما هو منغمس فيه، من التعلق بمصدرها وهو الحق سبحانه وتعالى.
فالتصوف “الجنيدي” كان له هاجس يريد تحقيقه، وهو إيصال النفع العام للخلائق، لذلك فقد تمت تنمية هذا الجانب عن طريق المدرسة المغربية، بشكل صار معه التصوف يأخذ صبغة أكثر فاعلية، حيث ارتبط بمجالات الحياة العامة.
وإذا نحن أثبتنا هذا التوجه المنفعي وخصصناه بالتصوف المغربي، فلا ننكر معه أن غيرهم لا يهتمون بخدمة القضايا المعيشية للأمة، وإنما اهتمامهم هذا كان أقل مما هو عليه الأمر عند إخوانهم المغاربة، بحيث توسع مجال خدمة قضايا الأمة في مجموعة من المجالات التي استغرقت حياة الفرد في جوانبه الدينية والاجتماعية والأمنية…
لهذا سنتخذ الطريقة المعينية كنموذج لتبيان الأدوار التي قام بها التصوف المغربي، والمجالات التي خدمها في الواقع المعيش للأمة، والتي من شأنها أن تزيل الإدِّعاء بسلبية التصوف وجموده.
فقد عمل الشيخ ماء العينين وفق منهج إصلاحي متعدد الأبعاد، استجابة لما تقتضيه الظروف التي تمر بها البلاد الإسلامية على وجه العموم، والمنطقة الصحراوية على وجه الخصوص، حيث أعطى لمفهوم الإصلاح مجالا أوسع، يهتم بمحيط الفرد: روحيا وماديا، “وبهذا تميز الشيخ ماء العينين عن كثير من علماء وزعماء زمنه بتعدد الأنشطة، فإذا ذُكر العلم فهو دائرته المتحركة، وإذا ذُكر الجهاد فهو فارسه المغوار وبطله المجرب، وإذا طُرح التدبير السياسي فهو داهيته المحنك، وإذا ذُكرت التربية الإسلامية فهو شمس السلفية في وقته، وإذا ذُكر الزهد فهو شيخ المتصوفة السنيين، وإذا طُرحت الوطنية فهو الموحد الذي وضع كل قدراته لصالح وطنه، ملتزما بالحدود التي تفرضها عليه بيعته وبيعة أسلافه للسلالة العلوية الشريفة.”[10]
أ- الأبعاد الروحية
إنّ من قوة الرسوخ المعرفي، والوُسع الروحي للشيخ ماء العينين أن أُجيز في تلقين أوراد الطرق كلها، وهو ما ساهم في عمله الإصلاحي المبني على مبدأ الأخوة، والذي استخلصه من النصوص الشرعية، فعمل على توحيد الطرق الصوفية، انطلاقا من “أن طرق القوم كلها وإن تعددت، وفي الظاهر ربما اختلفت، شئ واحد وأخوة في الدين، ولبعضهم على بعض حُرْمَة الأخوة، لا بُغض الأباعد ذوي الجفوة.”[11]
فعَقَد العزم على المساهمة في الإصلاح، بما يفرضه عليه واجب الدين، حيث أسس زاويته بالسمارة، ثم جعل لها فروعا في مختلف المدن المغربية، “وإذ يهتم بوحدة الجماعة الإسلامية، وينادي بتحقيق أخوتها الدينية، فإنه لا ينطلق من نزعة إقليمية أو سياسية ضيقة، وإنما يهدف إلى الرفع من مكانة الأمة الإسلامية، ويسعى إلى إنقاذها مما يهددها من أخطار استعمارية. وهو يستقي هذه العناصر الإصلاحية من علاقته بالتصوف الإسلامي، ومن خصوصية البيئة التي نشأ فيها وترعرع في أجوائها، فهو ليس حلقة مفقودة في التاريخ الإسلامي أو شجرة منقطعة الصلة عن البيئة التي نشأ فيها، ولكنه امتداد طبيعي للتجربة الصوفية الإسلامية، فيما تقوم عليه من دعوة إلى مجاهدة النفس وترويضها، وتربية الفرد وتنشئته، وينطلق من واقع المجتمع الصحراوي فيما ينبني عليه من دعوة إلى الاتحاد والائتلاف.”[12]
ب- الأبعاد الاجتماعية:
عَمِل الشيخ ماء العينين في مساره الإصلاحي على الرقي بالواقع المعيش لسكان المنطقة الصحراوية، لما فتحه من أعمال اجتماعية من شأنها أن تخفف من معاناة القبائل، والتي كانت تعود إليه في كل ما يهمها من مشاكل وأزمات طارئة، يقول عنه أحد معاصريه- محمد بن الأمين الشنقيطي-: “وكان هذا الشيخ- ماء العينين- فاضلا كريما لا يوجد أحسن منه أخلاقا، وقد اجتمعتُ به، فرأيت منه ما يُحيِّرني، لأني قدَّرْتُ مَن مَعَه في وادي السمارة بالساقية الحمراء بعشرة آلاف شخص ما بين أرملة ومزمن وصحيح البِنْيَة، وكل هؤلاء في أرغد عِيشةٍ، كاسِياً من ذلك الشيخ، ويزوِّج الشخص ويدفع المهر مِن عنده ويجهُز المرأة من عنده، مع حسن معاشرته لهم…ولا يمضي عليه يوم إلا وقد بعث قافلة تأتيه بالميرة (الطّعام)، وقدمت أخرى تحملها…”[13]
وبالتالي يكون قد قدَّم نموذجا “للتكافل الاجتماعي في أَجَلِّ صُوَرِه وأبهاها، إذ يقضي بها دين المدين، ويكسي العاري، ويتزوّج فيها من لم يقدر على الزواج، لِكوْن الزاوية تدفع المهر وتتحمَل التجهيز، وهكذا كان الآلاف من أبناء الوطن الذين يَفِدُون على السمارة يجدون فيها الملاذَ الروحي، والإشباعَ الثقافي والأمنَ الاجتماعي والاستقرارَ النفسي لما توفره لهم ماديا ومعنويا.”[14]
ج- الأبعاد العلمية:
قامت الزاوية المعينية بدور هام في النهوض بالجانب العلمي داخل الزوايا، بحيث “لم تكن هذه المؤسسات- الزوايا- المميّزة لتاريخ المغرب مجرد بيوت للتعبد وممارسة الطقوس الصوفية، أو مجرد دُور لإيواء الفقراء والمستضعفين واليتامى، أو رِباطات للدفاع عن الدين والوطن، وحمايتها ممّا يمكن أن يهددها من أخطار أجنبية، ولكنها كانت فوق ذلك كله، مراكز ثقافية كبرى في أعماق البوادي والصحاري المغربية.”[15]
فقد عملت الطريقة المعينية على نشر العلوم الإسلامية في مجموعة من الحواضر المغربية وقُراها، بحيث صارت ملاذا للمتعطشين للمعرفة الإسلامية في جميع أنحاء المغرب، كل ذلك في ارتباط وثيق بقضايا الأمة، و”ما ينفع الناس في حياتهم الاجتماعية، وتقودهم إلى مجابهة ما يهدد وطنهم، وتوعِّيهم بالواقع وتحفِّزهم إلى العمل من أجل المستقبل، وباختصار فهي ثقافة الوعي بالمسؤولية، وتحمُّل الرسالة، والتزام بقضايا الوطن الكبرى… وهذا هو الذي يجعل منها بنت الوسط الاجتماعي والظرف التاريخي، ونتاج ما تمخضت عنه أحاسيس المغاربة.”[16]
فكان الجانب العِلمي في تصور المدرسة المعينية، لا ينفك عن قضايا الواقع والظروف التي تمر بها المنطقة الصحراوية على وجه الخصوص، من تكالب القوى الاستعمارية، قصد الاستحواذ على خيراتها.
د- الأبعاد السياسية والوطنية:
مما لا شك فيه أن التصوف بالمغرب عبر التاريخ حمل مشعل الدفاع عن القضايا الكبرى للأمة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقضية الإسلام أو الوطن أو إمارة المؤمنين، حيث قدَّم الصوفية صُوَرا مشرقة، ونماذج بطولية ستظل محل عبرة وفخر للأجيال الصاعدة.
ومن اللوحات التي حفظها لنا التاريخ، ورسمتها دماء شهداء الصوفية، ما قدمته الزاوية المعينية من عمل بطولي ضد أيادي الغصب والاحتلال، من خلال المنهج الذي سلكه الشيخ ماء العينين في التأليف بين القبائل الصحراوية المتنازعة، وإحياء أواصر المحبة بينها، إذ كان الشيخ يحتل مكانة عالية في قلوب القبائل الصحراوية، الشئ الذي جعله ينجح في إقناع معظم الشيوخ، برفض التعامل مع المستعمر الأجنبي، “كما أن سياسة المؤاخاة بين الطرق والزوايا التي دعا إليها الشيخ ماء العينين لعبت دورها الوحدوي، وقللت من أسباب التنافر بين أتباع مختلف الزوايا، وأصبح الانتماء إلى طريقة شيخ ذي وزن علمي وجهادي واجتماعي، سلوكا مشرِّفا وحافزا للانخراط في واجب الذَّوْدِ عن أرض الإسلام…”[17]
لقد مثَّلت الزاوية المعينية نموذجا للوطنية الصادقة، التي لا تَبْغِي من وراء عملها الجهادي سوى رضا الله سبحانه وتعالى، وتهيئ أسباب الاطمئنان حتى يؤدي المسلمون ما أوجب الله تعالى عليهم من شعائر، في جو من السكينة والارتياح، كل ذلك في ارتباط مع السلطة الشرعية للبلاد.
فقد كان الشيخ ماء العينين في تواصل مستمر مع الملوك العلويين، و“كان من نتائج هذه الاتصالات تقديم ملوك المغرب المتأخرين للشيخ ماء العينين كل التسهيلات لإنشاء زواياه بكل من فاس، مراكش، مكناس…إلخ، بل وسهر الحاجب “أبا حماد” على طبع وإخراج مؤلفاته العديدة، وهو موقف جعل لماء العينين مكانة خاصة في الحياة الدينية والسياسية المغربية، مما أهَّله للقيام بأدوار مهمة بارزة في هذا المجال.”[18]
وتؤكد مجموعة من الوثائق والظهائر عمق هذه الروابط، من نماذجها: ما بعث به السلطان المولى الحسن الأول للشيخ ماء العينين يُعَيِّنُه كخليفة له على سوس ووادي نون والصحراء المغربية، ويطلب من جميع قبائل هذه المناطق طاعته، حيث يقول: “يُعَلَمُ من كتابنا هذا أسماه الله وأعزَّ قدره وجعل في الصالحات طيَّه ونشره، أننا استولينا بحول الله وقوته، وشامل يُمنه ومِنَّته لحامله الفقيه السيد محمد بن فاضل ماء العينين السوسي الصحراوي تولية تامة شاملة على بلاد بني بعمران بسوس الأقصى، ومن ورائهم بني جرار ومن فوقهم من الجزوليين، قبيلة بعد قبيلة من الأعرابيين بالصحراء كلهم من بني بعمران إلى وادي نون إلى الساقية الحمراء، لطرفاية إلى منتهى العمارة من إيالتنا لتلكم البلاد نائبها، أمر الله بأمرنا المعتز بالله أن يكونوا عند السمع والطاعة لكلمتنا حيث بانت لهم، وينصتوا لما فيها من الأمر والنهي، وإن الفقيه الشريف المذكور استوليناه عليهم ليكون نائبا عنَّا عليهم تولية شاملة شرعية، بحمد الله، وعليه في ذلك بحسن السيرة وتقوى الله العظيم في السر والإعلان، وبذلك صير الإعلام في 12ربيع الثاني عام 1296ھ.”[19]
وختاما، نقول: بإن التصوف الذي يعتبر من مقومات الهوية المغربية، والذي يستند في عمله التربوي على الجانب السلوكي، من أجل التحقق بالكمالات الخلقية، إلى جانب ما يَنتُجُ عن ذلك من فاعلية تنعكس على خدمة القضايا الاجتماعية للأمة، هو ما انعكس على التجربة المعينية التي عملت على ترسيخ السلوك الأخلاقي للأفراد عن طريق التمسك بالشريعة الإسلامية، واعتبار التصوف العملي منهجا للإرتقاء بالعمل التعبدي إلى مستوى الذوق المعرفي، وكذا استثمار هذه التجربة في خدمة القضايا المصيرية للأمة، في ارتباط مع السلطة الشرعية للبلاد.
[1] – من نص الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر (يوم الجمعة 19 شتنبر 2008م).
[2] – من نص الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر (يوم الجمعة 19 شتنبر 2008م).
[3] – سعاد الحكيم: “تاج العارفين: الجنيد البغدادي” (الأعمال الكاملة)، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط3، 2007م، ص:36.
[4] – عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (732-808هـ): “المقدمة”، مهد لها ونشر الفصول والفقرات الناقصة من طبعاتها وحققها وضبط كلماتها وشرحها وعلق عليها وعمل فهارسها: علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط4، 2006م ،3/102.
[5]– النجم.آية: 42.
[6] – الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر: معلمة المغرب، مطابع سلا، د.ط،1415هـ/1995م،7/2392.
[7] – أخيار ابن الشيخ مامينا آل الشيخ ماء العينين: “الشيخ ماء العينين، علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي”، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، ط1، 2005م،1/152.
[8] – الشيخ ماء العينين (1246- 1328هـ): الإيضاح لبعض الاصطلاح، تحقيق: محمد الظريف، مطبعة بني ازناسن، سلا، ط1، 2000م، ص:41.
[9] – القاضي عياض بن موسى السبتي (ت544هـ): “ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك”، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 2008م،1/188.
[10] – شبيهنا حمداتي ماء العينين: قبسات من حياة الشيخ ماء العينين، من كتاب: الشيخ ماء العينين، فكر وجهاد، تقديم: اليزيد الراضي، تنسيق: النعمة علي ماء العينين، المجلس البلدي، تيزنيت، ط1، 1421هـ/2001م، ص:47.
[11] – الشيخ ماء العينين (1246-1328هـ): “مفيد الراوي على أني مخاوي”، تحقيق: محمد الظريف، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، ط1، 1999م، ص:41.
[12] – محمد الظريف: “الحياة الأدبية في زاوية الشيخ ماء العينين”، مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، مطبعة بني ازناسن، سلا، ط1، 2003م، ص:127.
[13] – أحمد بن الأمين الشنقيطي:”الوسيط في تراجم أدباء شنقيط والكلام على تلك البلاد تحديدا أو تخطيطا وعاداتهم وأخلاقهم وما يتعلق بذلك”، مطبعة محمد الخانجي الكتبي وشركائه، مصر، ط1، 1339هـ، ص:360.
[14]– أحمد مفدي: “الشعر العربي في الصحراء المغربية:ظواهره وقضاياه”، كلية الآداب، الرباط، (دكتوراه الدولة)، 1989-1990م،2/266.
[15] – الظريف: “الحياة الأدبية في زاوية الشيخ ماء العينين”، ص:11.
[16] – مفدي: “الشعر العربي في الصحراء المغربية”،2/276-277.
[17] – أحمد منكي الزياني: “حركة المقاومة المعينية، محاولة تأسيس فعل المواجهة الشعبية بين الضغط الاستعماري واضطراب الوضع المخزني”، (من كتاب:الشيخ ماء العينين:فكر وجهاد)، ص:110.
[18] – أحمد بوكاري: “الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب”، (1204-1330هـ/1790-1912م)، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية، ط1، 1427هـ/2006م، 3/126.
[19] – نور الدين بلحداد: “التسرب الإسباني إلى شواطئ الصحراء المغربية”، (1860-1934م)، كلية الآداب، الرباط،(ددع)، 1993-1994م، ص:269.
_________________________
نقلًا عن موقع “الرابطة المحمدية للعلماء”-المملكة المغربية.