مقامات فلسطين والانتحال التوراتي
أحمد الدبش
انتشرت المقامات الإسلامية انتشارًا واسعًا في معظم أرجاء فلسطين، وبنيت خاصّةً على قمم الجبال أو السهول أو المنحدرات الجبليّة أو بالقرب من الأنهار، وقد أقيمت هذه النصب على قبورٍ مُتخيلةٍ لأنبياء “الكتاب المقدس“، أو الصالحين، والشهداء، والقادة، ومن اعتقد الناس أن لهم كراماتٍ يخدمون بها الأحياء.
بذلك انطبعت صورة فلسطين؛ على مر القرون، في أذهان ملايين المؤمنين بأنّها “الأرض المقدسة”، إذ سميت (Terra Sancta) باللاتينية، و(Eretz hakodesh) بالعبرية، و(الأرض المقدسة) بالعربية. فإنّ أتباع الأديان الثلاثة كانوا يعتبرون أنّ للمقامات العديدة، والأماكن المقدسة الأخرى المنتشرة في البلد طابعًا ساميًّا.
يصف جوزف دبليو ميري في دراسته “عبادة القديسين بين المسلمين واليهود في سورية في العصور الوسطى”، كيف بُنيت هذه الطوبوغرافيا المقدسة: “خلق المؤمنون (القداسة) وحافظوا عليها، عبر بناء المقامات والأضرحة وصروحٍ تذكاريةٍ أُخرى، والكتابة عن الأماكن المقدسة، وأداء الشعائر والطقوس. وتشمل الطوبوغرافيا المقدسة السمات التي تُميِّز مكانًا ما حدّده سكانه، ومن يكتبون عنه، والمسافرون إليه بأنه مقدس، إنّها عبارةٌ عن صروحٍ مثل المقابر والمدافن والأضرحة، والمنازل والمقامات، والمساجد والكُنس والكنائس، فضلاً عن مواقعٍ طبيعيةٍ مثل الجبال والآبار والأنهر والكهوف”.
من غير المعروف من أين نبع مصدر التقليد، في ما يتعلق بأماكن دفن شخصيات “الكتاب المقدس“
تنبه د. محمود يزبك؛ كبير المحاضرين في جامعة حيفا، إلى أنّ “أصول معظم المقامات القديمة لا تزال محاطةً بغشاوةٍ من الأساطير. فعلى غرار ما حدث في معظم أنحاء الشرق الأوسط، تبنّى اليهود والمسيحيون والمسلمون في فلسطين تقاليد الأماكن المقدسة، التي كانت موجودةً قبل وقتٍ طويلٍ من صعود الديانات التوحيدية. ومع انتقال السكان المحليين من معتقداتهم الوثنية إلى التوحيد، فإنّهم نقلوا معهم القدسية الملازمة للمقامات المقدسة القديمة، كي تتكيّف مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية المتغيّرة”. وبذلك، كانت هذه الأضرحة والمقامات قائمةً على أساسٍ من الإيمان والتراث والفلكلور “المحلي” النمطي، وكانت محليةً أكثر منها دينيةً.
المسألة العسكرية وتشييد المقامات
إنّ تقديس قبور القديسين أو الأولياء والسيادة عليها لم تكن أبدًا مسألةً دينيةً تراثيةً تمامًا. لقد كانت باستمرار مسألةً سياسيةً وعسكريةً، نظرًا للحالة التي كانت تمر بها المنطقة، من الصراع الطويل مع الصليبيين، الذي بلغ ذروته في أيّام صلاح الدين الأيوبي، فقد ألحّت الحالة العسكرية على تشييد مقاماتٍ دينيَّةٍ على قمم الجبال، لمراقبة تحركات العدّو بالدرجة الأولى، وكخطوط اتصالٍ بين المواقع العسكريَّة في الدرجة الثانية. والحاجة المُلحة لتأكيد الهويَّة الإسلاميَّة للأرض، ورغبة الحكام المسلمين في تثبيت الناس فيها، عبر صبغها بصبغةٍ دينيَّةٍ وروحيَّةٍ، في الدرجة الثالثة.
فقد مثلت أجواء الحروب الصليبية، وتجمعات عيد الفصح المسيحية خطرًا على الوجود الإسلامي في فلسطين، ما دفع صلاح الدين الأيوبي؛ بعد تحريره مدينة القدس في عام 583هـ/ 1187م، إلى إنشاء سلسلةٍ من المواسم الشعبية، بهدف حشد القوى البشرية للدفاع عن كرامة الإنسان ووطنه، وتحدي القوى الأجنبية، ولتكون جاهزةً لمؤازرة قوات السلطان، المتخوفة من أيّ احتكاك أثناء موسم الحج المسيحي.
في السياق ذاته، يقول الباحث الصهيوني بنفنستي: إنّ “التخوف من هجومٍ مسيحيٍ جديدٍ دفع بالسلاطين الأيوبيين والمماليك؛ خاصّةً ركن الدين بيبرس، إلى اكتشاف وتشييد قبور القديسين، أو الأولياء في المواقع الاستراتيجية (على السهل الساحلي أو السهل الفلسطيني، وفي منطقة القدس)، وتنظيم الحجيج إليها. وحُددَ موعد الحج إلى النبي موسى قرب أريحا؛ عن قصدٍ، في الأسبوع الذي يسبق الاحتفالات بعيد الفصح المسيحي. لقد كان موسم النبي موسى (وإلى حدٍ أقلّ موسم النبي صالح في الرملة والنبي روبين) مناسبةً كبيرةً تَجمع الناس من جميع أطراف البلاد، وساهمت بتطوير شعورهم بالانتماء إلى شعبٍ فلسطينيٍ عربيٍ واحدٍ. وخلال الانتداب البريطاني كان تجميع عشرات الآلاف من المسلمين لافتتاح موسم النبي موسى مناسبةً للتحريض ضدّ اليهود، انتهت أكثر من مرّةٍ بدمويةٍ مفرطةٍ”.
إعادة تكريس عبر الغزاة
وفقًا للمسوحات والتنقيبات الأثرية؛ التي لم تترك شبرًا أو حجرًا من أرض فلسطين دون قلبها، فإنّه يستحيل ربط “أسفار التناخ”؛ أكثر أسماء الكتاب المقدس العبري شيوعًا، بها. ولم يتمكن علماء الآثار من تقديم البُرهان على أنّ أرض فلسطين قد احتضنت أنبياء “الكتاب المقدس”.
إن تبنّي الحكام المسلمين لبعض شخصيات “الكتاب المقدس”، وتشيد الأضرحة والمقامات لها، وتحويل هذه الأماكن؛ التي لم تكن معروفةً في التراث اليهودي، إلى أماكن للمواسم الفلسطينية، قد مثلت مكوّناً أساسيًّا في المعتقدات الدينية الشعبية الفلسطينية. فعلى مر السنين تحوّل الحرم الإبراهيمي في الخليل، وقبر راحيل قرب بيت لحم، وقبر يوسف قرب نابلس، ومقام النبي صموئيل في قرية النبي صموئيل قرب القدس، إلى وجهاتٍ مقدسةٍ للزيارات، يتردد عليها الأشخاص منفردين؛ أو في مجموعاتٍ صغيرةٍ، لزيارتها على مدار العام. لقد استوعب الإسلام التراث “الكتابي”، وحوّل شخصيات “الكتاب المقدس” إلى قديسين مسلمين، وجعلهم محط إعجابٍ وتقديرٍ، وحدد مواقع دفنهم، دون دليلٍ ملموسٍ يثبت صلة المقامات أو الأضرحة المُشيدة بشخصيات “الكتاب المقدس”.
كانت هذه الأضرحة والمقامات قائمةً على أساسٍ من الإيمان والتراث والفلكلور “المحلي” النمطي
كما هو الحال في كثيرٍ من الأضرحة المقدسة، فإنّه من غير المعروف من أين نبع مصدر التقليد، في ما يتعلق بأماكن دفن شخصيات “الكتاب المقدس”. ولعل تأثر بعض المسلمين بالأدبيات (الإسرائيلية- التوراتية)، وخاصّةً فيما يتعلق بشخصيات “الكتاب المقدس”، جعلهم يقتفون أثر المراجع (الإسرائيلية- التوراتية) بدافعٍ دينيٍ محض. دون أنّ يتأكدوا من صحة المراجع التوراتية التاريخية، ومطابقتها للواقع. واليهود الذين دخلوا الإسلام، أدخلوا معهم الكثير من هذه (الإسرائيليات- التوراتية)، التي تأثر بها بعض الكتاب المسلمين.
بعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (1948 و1967)، أصبح مصير المقامات والأضرحة التي يقدسها المسلمون، مثالاً على قدرة المنتصرين على حيازة هذه المواقع، من أجل تكريس هوية المكان الدينية والتاريخية، حيث تم الادعاء بيهودية هذه المقامات والأضرحة، بناءً على هوية الأسماء، دون النظر إلى تاريخ تشييد البناء، وأسباب التشييد، ومن هو الراقد داخلها!
______________________________
*نقلًا عن موقع ” العربي الجديد”.