نقد رؤية جون هيغ للدين والتعدُّديَّة الدينيَّة (كتاب “تفسير الدين” موضوعاً)
نقد رؤية جون هيغ للدين والتعدُّديَّة الدينيَّة (كتاب “تفسير الدين” موضوعاً)
سيّد محسن موسوي
يعتني هذا البحث بتقديم مقاربة تحليليّة نقديّة لرؤية الفيلسوف البريطانيّ جون هيغ للدين ونظريّته في التعدّديّة الدينيّة[**]. وقد اعتمد الباحث في مقاربته على كتاب هيغ المعروف «تفسير الدين»[2]، باعتباره الكتاب الرئيسيّ الذي أسّس عليه نظريّته في هذا الميدان. وهنا يناقش الباحث إحدى أبرز المسائل المنهجيّة عند هيغ وهي نظريّة المعرفة في التجربة الدينيّة.
«المحرّر»
________________________________________
التعدّدية الدينية نظرية طرحها الفيلسوف البريطاني جون هيك بهدف بيان مسألة تعدّد الأديان أو تنوّع التجارب الدينية للبشر ـ حسب تعبيره ـ وهي في مقابل نظريتي التفرّدية الدينية والشمولية الدينية.
الجدير بالذكر هنا أنّ إبستيمولوجيا التجربة الدينية تعتبر أهمّ مضمار ولجه هذا الفيلسوف الغربي لطرح تفسير للتعدّدية التي ادّعاها بخصوص الدين وهو في مقابل التنوّع الديني، حيث اعتمد على هذه الإبستيمولوجا كمرتكزٍ لاستدلاله ورؤيته التعدّدية إزاء الدين، وفي هذا السياق اتّخذ خطوتين أساستين هما كالتالي:
- الدفاع عن أصالة مختلف التجارب الدينية وادّعاء مصداقيتها بنحوٍ مطلقٍ.
- تبرير كافّة المعتقدات المنبثقة من التجارب الدينية واعتبارها معقولةً.
في كلا هاتين الخطوتين استند إلى مبادئ وأسس خاصّة لأجل بيان وتبرير مصداقية التجاربة الدينية في إطارها العامّ مقابل النظريات المنبثقة من رؤى طبيعية مثل نظريات كارل ماركس وسيغموند فرويد ولودفيج فويرباخ، والمنبثقة من رؤى واقعية مثل نظريات دون كوبيت وفيلبس؛ وأيضاً لأجل الدفاع عن مصداقيتها مقابل نظريتي التفرّدية الدينية والشمولية الدينية.[3]
جون هيك اعتبر هذه النظرية فلسفية وليست لاهوتية، وأشار إلى أهميتها قائلاً:
«التجربة الدينية تعني حضور الله عزّ وجلّ عند الدعاء والتهجّد، فهي ليست معرفةً[4] كذلك ليست من سنخ التشتّت الفكري»[5].
بل عبارة عن استجابة وردّة فعل أمام حقيقة لها تأثير علينا.
لو أنّ التجربة الدينية من سنخ الاستجابة، أي لو كانت ردّة فعل معرفية إزاء أمرٍ له تأثير علينا ففي هذه الحالة إمّا أن نتّبع مذهب ألفين كارل بلانتينغا على سبيل المثال وندّعي أنّ التجربة المسيحية فقط أصيلةً ومعتبرةً وكلّ ما سواها باطلٌ جملةً وتفصيلاً، أو نتّبع مذهباً آخر يسوّغ لنا اعتبار كلّ التجارب التي يقال إنّها دينية، تعدّ دينية في حقيقتها ومعتبرة لكنّها متنوّعة وبأنماط مختلفة ظهرت في رحاب أديان عديدة.
كافّة الأديان الكبيرة في شتّى أرجاء العالم شهدت نتائج حسنة من التجارب الدينية بنحوٍ أو بآخر، لذا ليس من الصواب ادّعاء أنّ الفضائل التي شاعت بين أتباع الديانة المسيحية مثل الرأفة والمحبّة والاهتمام بالغير، قد اختّصت بهم دون أتباع سائر الأديان.
هنا يطرح السؤال التالي: كيف يمكننا تفسير هذه الظاهرة الدينية؟ فحوى الموضوع هي مسألة التعدّدية الدينية، حيث تطرح في هذا السياق بمثابة منطلق فلسفي معتمد يساعدنا على فهم حقيقة الموضوع والإجابة عن هذا السؤال.
أعتقد أنّ التعدّدية الدينية هي أبسط إجابة يمكن أن تطرح بخصوص السؤال المذكور وأكثرها إقناعاً، وإذا رجّحتموها أنتم أيضاً بإمكانكم اعتبارها أمراً لاهوتياً لكنّي أعتبرها أمراً فلسفياً.[6]
في بادئ الفصل الرابع من كتاب «تفسير للدين» ذكر جون هيك استدلاله الذي أثبت فيه أنّ عقلانية الاعتقاد الديني متقوّمة على التجربة الدينية، وفي هذا السياق أكّد على ضرورة طرح نظرية التعدّدية الدينية، وفحوى استدلاله كما يلي: نظراً لتعدّد الأديان ودلالة كلّ واحدٍ منها على إلهٍ شخصي (خاصّ به) وأهداف غير شخصية ومتنوّعة، فالتجارب والمعتقدات الدينية ليس لها هدف ومقصود واحد.
وبعد أن ذكر قائمةً لهذه الآلهة المتنوّعة، تساءل قائلاً:
«كيف ينبغي لنا وصف كلّ هذه الآلهة المتنوّعة من زاوية دينية؟ هل يصحّ لنا ادّعاء أنّها كلّها حقيقية وموجودة على أرض الواقع؟ طبعاً ليس من الممكن وفق الظروف الطبيعية ادّعاء أنّ كلّ هذه الآلهة موجودة على أرض الواقع».
أجاب عن تساؤله وفق مبادئ الفلسفة الطبيعية مؤكّداً على أنّ هذه المعتقدات إمّا أن تكون باطلة أو على أقلّ تقدير شكل من أشكال الإسقاط الأثيري ـ الإسقاط النجمي ـ الذي يحكي عن تصوّرات ورؤى فكرية إنسانية قديمة هدفها الخلاص من المشاكل القاسية في الحياة. وفي مقابل هذه الرؤية ذكّر استدلاله السابق الذي قوامه حكم العقل بصواب مسألة أنّ المتدين يمكن أن يجرّب الحياة مع الأمر المتعالي، وعلى هذا الأساس أكّد على عدم صواب تجاهل التجارب والمعتقدات الدينية واعتبارها مجرّد أمور تافهة لا قيمة لها. ومن جهةٍ أخرى أكّد على عدم صواب اعتبار التجربة الدينية مختصّة بدينٍ أو مجتمعٍ محدّدٍ، وفي هذا السياق فنّد الرؤية الشكوكية التي تعتبر التجربة الدينية مجرّد وهمٍ وخيالٍ[7] كما فنّد الرؤية الدوغماتية التي يدّعي من يتبنّاها صواب تجربته الدينية فقط وبطلان كافّة التجارب الدينية الأخرى، ثمّ ذكر رؤيةً أخرى قوامها التعدّدية الدينية التي تعني ارتباط الأديان الكبيرة بعصر ما بعد المركزية الدينية ـ ما بعد عصر الدين الواحد ـ مؤكّداً على أنّ التجارب الدينية التي تحدث في رحاب هذه الأديان متنوّعة ومختلفة عن بعضها وكلّ واحدةٍ منها تصوغ حقيقةً غائيةً تتمثّل في الإله الذي يعتبر أعلا مرتبةً ـ برأي أتباع كلّ دينٍ ـ من آلهة من كلّ معتقدٍ آخر.
بعد أن ذكر هذه الإيضاحات، أطلق على إله الأديان اسم «الحقّ» [8] ورجّحه على سائر الأوصاف التي ذكرت له، مثل «الأمر الغائي» [9] و«الحقيقة الغائية» [10] و«الواحد»، [11] وما إلى ذلك من أوصاف ومسمّيات أخرى باتت كمصطلحات تدلّ على هذا الأمر المتعالي المطروح في مختلف التجارب الدينية، [12] ومن هذا المنطلق أكّد على ضرورة التمييز بين «الحقّ في نفسه» [13] و«الحقّ برؤية مختلف المجتمعات البشرية» والذي يطرح بأشكال وصور متنوّعة في رحاب تجارب ومعتقدات دينية.
كذلك ادّعى أنّ كلّ دينٍ كبيرٍ يؤكّد على وجود اختلافٍ بين الحقّ في نفسه والحقّ كما هو في نطاق التوجّهات الروحية والتجريبية[14] في الأديان الأخرى مؤكّداً على أنّ هذا الاختلاف ذو درجات متباينة وليس على نسقٍ واحدٍ، ولا فرق برأيه هنا بين كون الحقّ في نفسه يسمّى الله أو براهما أو دارماكاي[15] أو أيّ مسمّى آخر.
وضمن إشارته إلى مصاديق الاختلاف بين آلهة الأديان أكّد على وجود تحدّيات أمام النظرية التقليدية القائلة بعدم إمكانية وصف الإله الملكوتي بالصفات الطبيعية، [16] وفي هذا المضمار تحدّث عن الاختلاف بين الحقّ في نفسه والحقّ كما هو في الفكر والتجربة البشرية، وذكر معالم نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها قائلاً:
«الأديان الكبرى في العالم تتبنّى معتقدات وتطرح استنتاجات مختلفة بخصوص الحقّ، وحسب هذه الأطروحات ذكرت أوصاف متنوّعة ومختلفة له على غرار تنوّع الصفات البشرية، وكلّ واحدٍ منها طرح فكرة تحوّل[17] كيان الإنسان من مركزية الذات[18] إلى مركزية الحقّ، [19] وعلى هذا الأساس يجب اعتبار هذه الأديان أطراً أو سبُلاً بديلةً لإنقاذ البشر بحيث يتمكّن كافّة الناس من رجال ونساء أن ينالوا السعادة[20] والخلاص[21] والرضا الذي يطمحون إليه[22]».[23]
المبدأ الفلسفي الأساسي الذي اعتمد عليه كمرتكزٍ في نظريته ـ كما صرّح بنفسه ـ يعدّ من أهمّ المبادئ الإبستيمولوجية التي تبنّاها الفيلسوف إيمانوئيل كانط، وهو الاختلاف بين النومين (الذاتي) والفينومين (الظاهري)، وقال بهذا الخصوص: «لقد طبّقت النظرية الأساسية لإيمانوئيل كانط رغم أنّه لم يطبّقها بنفسه في هذا المضمار، وهي نظرية إبستيمولوجيا الدين».الجدير بالذكر هنا أنّ الكثير من الباحثين انتقدوه بسبب اعتماده على نظرية كانط وتوظيفه بعض المفاهيم من قبيل النومين والفينومين ضمن نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها لكون هذه المفاهيم متقوّمة على آراء وأفكار إيمانوئيل كانط، لكنّه في تصرحٍ له حينما كان في إيران ردّ على ذلك مؤكّداً بأنّه يتبنّى مبادئ إبستيمولوجية مختلفة بالكامل عن الإبستيمولوجيا الكانطية، حيث صرّح قائلاً:
«على الرغم من توظيفي مفهومي النومين والفينومين واعتمادي على أوجه الاختلاف بينهما ضمن نظريتي الفلسفية بخصوص التعدّدية الدينية واعتمادي في هذا السياق طبعاً على ما ذكره إيمانوئيل كانط، إلا أنّ مضمون ما ذكرته بهذا الخصوص لا يتقوّم على فلسفة كانط، بل غاية ما في الأمر أنّي اعتمدت على هذين المفهومين وبادرت إلى تحليل مضمونيهما من جهة واحدة فقط، وما ذكرته قطعاً لا يتناسب مع ما ذكره هذا الفيلسوف في نظرياته.
كنت قادراً على طرح نظرية التعدّدية الدينية دون الاعتماد على فلسفة كانط، بل اعتماداً على المذهب الواقعي الانتقادي الشائع في القرن العشرين بين الفلاسفة الأمريكان، فهذا المذهب تمّ تأييده من قبل الباحثين والمفكّرين المعاصرين في مضمار علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الإبستيمولوجي».[24]
رغم هذا الكلام لكنّه أذعن بأنّ كلّ التوجّهات الفكرية المعاصرة على صعيد علم النفس التحليلي والاجتماعي وعلم الاجتماع الإبستيمولوجي تدرج ضمن التراث الفكري لإيمانوئيل كانط وتتقوّم على نظرياته.
جون هيك لم يكتف بمبادئ نظرية إيمانوئيل كانط، بل اعتمد أيضاً على المبادئ النظرية الموروثة ممّن سبقه مثل القدّيس توما الأكويني ولا سيّما قوله: «الأمور التي يدركها الإنسان موجودة في ذهنه بشكل يتناسب مع قدرته المعرفية»، حيث سخّر هذا الكلام لتأييد نظريته واعتبره بمثابة مبدأ إبستيمولوجي ارتكازي وعنصر تفسيري أساسي لمعرفة واقع البيئة الاجتماعية مؤكّداً على أنّ البشر جرّبوا مسألة الألوهية وفق «قدراتهم المعرفية» ضمن مختلف الأنظمة الدينية والثقافية، فعلى هذا الأساس جرّبوا الإله «الحقّ» في نطاقٍ واسعٍ ومتنوّعٍ.
وعلى الرغم من اعتقاده بأنّ نظرية القدّيس توما الأكويني كافيةً في بيان نقطة البداية لتعدّدية الإبستيمولوجيا الدينية التي يحتاجها البشر، لكنّه اعتبر نظرية إيمانوئيل كانط التي طرحها بعد عهد هذا القدّيس أكثر فائدةً بخصوص الموضوع نظراً لتنوّع تفاصيلها، لأنّ هذا الفيلسوف ميّز بوضوح بين الشيء بذاته (النومين) والشيء الذي يدرك كأمر ظاهري (الفينومين). كذلك تطرّق إلى ذكر أوجه التشابه والاختلاف بين آرائه وآراء إيمانوئيل كانط، وفي هذا السياق لم يعتبر وجود الله عزّ وجلّ شرطاً أساسياً للحياة الأخلاقية، بل اعتبره شرطاً سابقاً على التجربة الدينية لمظاهر تجلّي الحقّ، [25] وممّا قاله بهذا الخصوص:
«على أساس هذه المقارنة أريد أن أقول بأنّ حقيقة النومين ـ الذاتي ـ تختلف باختلاف أفكار البشر الدينية بحيث نشأت وفق هذا التنوّع العقائدي، فهي تحكي عن نطاق واسع من الآلهة والقضايا المطلقة التي أوجدتها الفينومينات الدينية وتبلورت على هيئة فكر وتجربة رغم أنّ إيمانوئيل كانط ضمن آرائه النقدية الثلاثة لم يقصد تأييد هذه الفكرة من منطلق اعتقاده بأنّ الله ليس من سنخ الحقائق التي يكتشفها الإنسان عن طريق تجربته الدينية، بل اعتبره موضوعاً يدركه العقل العملي في نطاق مبادئ أخلاقية مفترضة مسبقاً؛ [26] إلا أنّني أعتقد بخلاف ذلك وأقصد ممّا ذكرت أنّنا كبشرٍ نفترض وجود الحقّ في نفسه ـ الذاتي ـ بصفته افتراضاً مسبقاً وفقاً لحياتنا وتجربتنا الدينية وليس وفقاً لتوجّهاتنا الأخلاقية».[27]
جون هيك فسّر التجارب الدينية المختلفة التي يخوضها الناس في شتّى المجتمعات بالنسبة إلى الحقّ في نفسه، على ضوء التركيب بين نظريته ونظرية إيمانوئيل كانط على صعيد المفاهيم الذهنية وهيكلة العقل ضمن إطارٍ معينٍ، فالأخير اعتبر هذه المفاهيم قبلية (سابقة) [28] وعلى هذا الأساس باتت كحالات شمولية[29] وثابتة[30] في الفكر الإنساني؛ بينما الأوّل رغم تبنّيه ذات ما ذهب إليه كانط بشكلٍ عامٍّ بخصوص التجربة الدينية وإدراك البشر للحقّ في نفسه إلا أنّ نظريته تختلف اختلافاً جذرياً مع هذه الرؤية الكانطية، حيث أكّد على أنّ الاختلاف الأساسي يكمن في أنّ مفاهيم التجربة الدينية التي اعتبرها كانط في نظريته شبه مفاهيم[31] ، هي في الواقع ليست شموليةً وغير ثابتةٍ، بل ذات ارتباط وطيد بثقافة الناس[32]، وفي هذا السياق أكّد قائلاً:«بالرغم من أنّ نظرية كانط التي طرحها على صعيد إبستيمولوجيا الدين لا ارتباط لها مطلقاً برأيه الذي تبنّاه إزاء الإدراك الحسّي، لكن يمكن أن نستشفّ منها أنّ التجربتين الحسّية والدينية مرتبطتان مع بعضهما من الناحية النوعية، ومن هذا المنطلق بإمكاننا اعتبار رؤيته إزاء التجربة الحسّية ساريةً في نطاق التجربة الدينية فيما لو تمّ تشذيبها بالشكل الذي يجعلها تتناسب مع التجربة الدينية».
جون هيك يعتقد بأنّ العلم الفطري (الحضوري)[33] بالحقّ في نفسه[34] أو ما يسمّى بالتجربة الدينية لحقيقة متعالية، متاح[35] للإنسان وبإمكان عقله تلقّي معلوماتٍ من هذه التجربة كما يتلقّى معلومات من عالم الطبيعة، وخلالها تتبلور الحقيقة الإلهية المحيطة[36] بكلّ شيءٍ في نطاق مفاهيم أساسية محدّدة ضمن إدراك ذاتي.[37] وقد قسّم هذه المفاهيم المحدّدة إلى نوعين أساسيين، الأوّل هو مفهوم الإله أو الحقّ في نفسه باعتباره أمراً شخصياً[38] واعتبره أوّل وأهمّ موارد الإشكال على مسألة الإيمان بالله[39] ضمن مختلف التجارب الدينية، والثاني هو الأمر المطلق[40] أو الحقّ بصفته أمراً غير شخصي[41] واعبتره أوّل وأهمّ موارد الإشكال على مسألة الإيمان بأمور أخرى غير الله[42] ضمن مختلف التجارب الدينية؛ وقد أطلق على القسم الأوّل عنوان صفة شخصية (جهه شخصية) [43] والثاني أسماه صفة غير شخصية (جهة غير شخصية).[44]
وفي هذا السياق أكّد على أنّ الارتباط بين الإدراك وتجربة الحقّ في نفسه اللذين هما أمرين مختلفين بالكامل عن بعضهما، عبارة عن تشابه[45] ومتمّم[46] لمختلف طرق إدراك النور، وهذا النور شبّهه بالموجة أو الذرّة، وفي هذا السياق قال: ليس بمقدور الإنسان مشاهدة البنية الفيزيائية البحتة للنور برأي الخبراء والمتخصّصين في هذا المضمار، لكنّه مع ذلك له خواصّ تشابه الأمواج أو الذرّات كما أثبتت بعض التجارب، وعلى هذا الأساس فالحقيقة بذاتها ـ الحقّ في نفسه ـ يمكن أن تعرف عن طريق الإدراك والتجربة أيضاً، وكلاهما معتبر.
ثمّ وضّح هذا التشابه قائلاً:
«بناءً على هذه المقارنة لا يمكن للإنسان إدراك حقيقة الإله بذاتها، لكن عندما يواجه الناس بعضهم على هيئة (أنا وأنت) [47] سوف يرتبطون بهذه الحقيقة وكلّ واحدٍ منهم يجرّبها بشكلٍ شخصي.
هذه الحقيقة التي هي نطاق أو سياق[48] لارتباط الإنسان، عبارة عن أمرٍ شخصي وليست الحقيقة بنفسها، بل [يجب القول] إنّ الحقّ عندما يهدي مخلوقاته كي يرتبطوا به ضمن إدراك غير شخصي سوف يجرّبونه بصفته أمراً غير شخصي أيضاً، وفي رحاب هذا الارتباط يمكن اعتباره حقيقةً غير شخصيةٍ.
كلا هذين المفهومين الأساسيين ـ الله والأمر المطلق ـ تحوّلا عن طريق التجربة الدينية العملية[49] إلى مضمارٍ واسعٍ للأمور المطلقة أو الآلهة المعينة والإضافية[50] أو شيئاً شبيهاً بالآلهة»[51][52].
بعد هذا الكلام تطرّق جون هيك إلى بيان واقع الارتباط بين القضايا الشخصية وغير الشخصية، وفي هذا السياق أكّد على عدم إمكانية إطلاقها بمختلف أشكالها على الحقّ في نفسه، حيث قال:
«لا يمكن القول إنّه [الله] واحد أو متعدّد، شخص أو شيء، جوهر أو حالة، خير أو شرّ، ذو هدفٍ[53] أو بلا هدفٍ؛ [54] إذ لا يمكن وصفه بالصفات الملحقة (الإضافية)[55] التي يجرّبها البشر في حياتهم، كذلك ليس هناك لفظ حرفي[56] يمكن أن يطلق عليه لكونه أمراً غير خاضعٍ للتجربة البشرية.[57]
بما أنّ عالم الظواهر[58] عبارة عن نطاق مفهومي[59] من صناعة الذهن البشري، لذا لا يمكن تطبيق مفاهيمه على الحقّ في نفسه، [60] حتّى لا يمكننا وصفه بكونه شيئاً أو موجوداً، [61] بل غاية ما في الأمر نستطيع افتراض[62] صورة ذهنية[63] محضة له».[64]
وفي هذا السياق تطرّق إلى تحليل تعريف الفيلسوف أنسلم[65] لله بصفته أشهر مثالٍ على الوصف الصوري المحض المطروح في الخطاب الديني الغربي، فرأي هذا الفيلسوف هو عدم إمكانية وجود حقيقة أعظم منه تعالى؛ كذلك وضّح كيفية الارتباط بين الحقّ في نفسه والجهات الشخصية وغير الشخصية في تصوّرات البشر استناداً إلى مفهومي النومين (الذاتي) والفينومين (الظاهري) واستناداً إلى النموذج الثاني المطروح من قبل القدّيس توما الأكويني والذي يناظر بنحوٍ ما عقيدة التشبيه (القياس التمثيلي) [66] المطروحة في الأوساط الفكرية الغربية، حيث قال:
«بناءً على رؤيته يمكن استنتاج أنّ الله على سبيل المثال حسنٌ[67] ـ طبعاً ليس كما نقول تلك المرأة حسنةٌ أو ذلك الرجل حسنٌ، وفي الحين ذاته ليس بمعنى بعيد[68] عن الحـُسن ـ بل المقصود من ذلك أنّ هذا المعنى موجود في ألوهيته على هيئة كيفية مطلقة[69] ومتعالية[70] وفي الحين ذاته يشابه حُسن الخلق[71] الموجود عند البشر.
نحن غير قادرين على معرفة حقيقة الله، بل غاية ما [نعرفه] هو الأشياء التي لا تحكي عنه ونعرف كيف يرتبط به كلّ شيء، ناهيك عن أنّ الصفات الألوهية الموجودة في أذهاننا تختلف عن بعضها ولها مسمّيات متنوّعة مثل المحبّة والعدل والمعرفة والقدرة لكنّها في ذاته المقدّسة منطبقة مع بعضها، لأنّه بحدّ ذاته عبارة عن كيان واحد وبسيط»[72][73].
إذن، لو أذعنّا إلى أنّ الحقّ، أي الشيء في نفسه[74] لم يخضع للتجربة البشرية ولا يمكن أن يخضع لها على الإطلاق، فما السبب الذي يدعونا لأن نعتقد به؟ فهل هناك مسوّغ منطقي يدعونا لأن نفترض وجود شيء مجهول؟ جون هيك أجاب عن هذا السؤال ووضّح السبب في افتراض وجود الحقّ في نفسه وأشار إلى المقصود من توحيده قائلاً: ليس لدينا دليل سابق[75] يثبت ذلك لكن إن أردنا تبرير كثرة أنواع التجارب والمعتقدات الدينية فأبسط شيء يمكن طرحه في هذا المضمار هو افتراض وجود الحقّ في نفسه، أي الذات الإلهية التي هي عبارة عن فرضية ضرورية تفسّر تنوّع التوجّهات الدينية لدى البشر.
وضمن حوارٍ أجري معه بهذا الخصوص قال:
«لا أدّعي أنّنا قادرون على إثبات وجود الله، وفي الحين ذاته لا أظنّ أنّ ذلك مستحيل على نحو الإطلاق، فالأدلّة التقليدية بهذا الخصوص تجعلنا نفكّر في الموضوع بشكل جادّ وهي هامّة للغاية لكنّها لا تعدّ مستنداً قطعياً يثبت وجوده على نحو اليقين؛ وعلى هذا الأساس كلّ إنسانٍ مسلماً كان أو مسيحياً لديه إيمان على المستوى الشخصي واعتقاد بوجود حقيقة ميتافيزيقية فيما وراء وجود المادّة والبشر، لكن إذا لم يعتقد شخصٌ آخر بهذا الأمر لا يمكننا إرغامه أو فعل أيّ شيءٍ لإقناعه.
التعدّدية الدينية استناداً إلى ما ذكر متقوّمة على أساس ديني، والتجربة الدينية تعتبر أوّل ركيزة لها، لذا من لا يخوض هذه التجربة فهو ليس ملزماً بالاعتقاد بنظرية التعدّدية الدينية… ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ رفض الحقائق الميتافيزيقية يعدّ افتراضاً ميتافيزيقياً، وكلا الأمرين عبارة عن مبدئين اعتقاديين بمعنى أنّ ارتباط الإنسان بهما إيماني وليس استدلالياً».[76]
يعتقد هذا الفيلسوف أنّ الغايات التي جعلت الأديان تتبلور بين البشر بأشكال متنوّعة، هي الأخرى متنوّعة ومختلفة لذا لا يمكن أن تكون كلّها صادقة، لكن مع ذلك يمكن اعتبارها مظاهر متنوّعة لحقيقة غائية واحدة تتبلور ضمن توجّهات فكرية وتجارب بشرية مختلفة، ونظراً لاستحالة تعدّد الحقيقة الغائية فلا بدّ من الاعتقاد بأنّ غائية[77] الحقّ في نفسه تحكي عن غاية واحدة فحسب، ولو اعتقدنا بحقّانية موضوع العبادة الدينية أو التأمّل[78] الباطني فلا محيص لنا حينئذٍ من اعتبار الحقّ في نفسه صورةً للوجود الصادق (ذات الحقّ) [79] تتجلّى في رحاب مختلف أنواع التجارب الدينية، وفي غير هذه الحالة سنواجه تعدّديةً لأنماط من الجهات الشخصية وغير الشخصية التي يدّعى أنّ كلّ واحدة منها تحكي عن حقيقة غائية مستقلّة، في حين أنّ الواقع ليس كذلك قطعاً.
بناءً على ما ذكر إمّا يجب اعتبار كافّة التجارب الدينية التي يتناقلها الناس وهميةً، [80] وإمّا أن نتّخذ موقفاً تعبّدياً[81] ونتجاهل تجارب سائر الأديان باعتبار أنّها مجرّد أوهام لا مصداقية لها وعلى هذا الأساس نسعى إلى توثيق[82] تجربتنا الدينية. جون هيك رفض هاتين الوجهتين مؤكّداً على عدم واقعية[83] أيٍّ منهما، وفي هذا السياق أكّد على عدم وجود سبيلٍ آخر سوى الاعتقاد بالتعدّدية الدينية المتقوّمة على افتراض وجود الحقّ في نفسه بصور متنوّعة ضمن ظواهر ألوهية متعدّدة توارثتها البشرية طوال تأريخها الديني وجرّبتها في شتّى العصور.
بعد ذلك تطرّق إلى ذكر تفاصيل حول ما أسماه «جهات شخصية» للحقّ في نفسه والتي تحكي عن مظاهر ذات طابع شخصي في الأديان الكبيرة في العالم، ومن هذا المنطلق أوعز منشأ تصوّر الحقّ وتجربته بنحوٍ شخصي إلى رغبة الإنسان في أن يدرك الحقّ الألوهي بصورة «أنت» [84] حيث يدرك الحقيقة الألوهية في رحاب قابلياته الإنسانية المحدودة، واعتبر هذا التوجّه عالمياً تقريباً وشائعاً بين البشر بتنوّع مجتمعاتهم، فهو برأيه أمرٌ فكري وتجريبي شخصي على صعيد وجود الحقّ في نفسه.
كذلك تحدّث عن أوجه الاختلاف بين آلهة الأديان ومختلف صفاتها وتجلّياتها، ومقصوده هنا طبعاً الإله الشخصي في كلّ دين، كما وضّح المراد من كونها مطلقة أو محدودة، وفي هذا المضمار أكّد على أنّ غالبية الآلهة المتعارفة بين الناس بصورتها التقليدية المتوارثة من الأجيال القديمة، أي حسب واقعها في الأديان التقليدية، تعتبر محدودةً وكلّ من يعبدها ليس بإمكانه سوى القيام بنشاطات دينية ضمن نطاق سلطتها فقط بحيث لا يحقّ له تجاوزه. على أساس هذا الاستنتاج ادّعى أنّ العبودية الفلسفية لا يمكن أن تنشأ من مصدرٍ محدودٍ في رحاب تجربة دينية رغم تحقّقها في معظم التعاليم العبادية ضمن مختلف الأديان، فهذه التعاليم العبادية برأيه منبثقة من توجّهات وأفكار دينية ونظرية.
وأمّا الصفات اللامتناهية لله تعالى والتي تتنوّع بتنوّع الأديان في العالم، فقد تحدّث عنها قائلاً: الصفات الإلهية المتنوّعة واللامحدودة لا يمكن اعتبارها انعكاسات مباشرة للتجربة الدينية، والاعتقاد بها متقوّم بشكل أساسي على استدلالات فلسفية، فنحن كبشرٍ لا ندرك سوى حقائق محدودة وليس بإمكاننا بتاتاً تجربة الجوانب المطلقة للحقائق المطلقة، كذلك لا يمكننا مشاهدتها وحتّى تحليلها.
وأمّا الاقتراح الذي ذكره في هذا السياق فهو كالتالي: نشاطات الحياة الدينية على الصعيد العملي من الدرجة الأولى مختلفة بالنسبة إلى الفلاسفة واللاهوتيين عن نشاطات الحياة الدينية على الصعيد العملي من الدرجة الثانية، والإله لا يوصف بكونه مطلقاً لا حدود له، بل يُدرك على هيئة صور خارجية تتفاوت أحجامها[85] بين نطاق محدود ومتعيّن[86] ونطاق واسع غير محدود وغير متعيّن.[87] كما أنّ عبادة الإله السرمدي سواءً اعتبرنا سرمديته بمعنى الزمان غير المحدود[88] أو بمعنى الوجود اللامحدود زمانياً، [89] ليست مطروحةً في الخطاب الديني من الدرجة الأولى تناسباً مع حقيقة الإله الذي دعا إلى عبادته إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل مطروحةٌ في رحاب استدلالات فلسفية، لأنّ كلّ سؤال يتجاوز نطاق التجربة البشرية يندرج ضمن الاستنتاجات العقلية المرتبط بالقضايا الميتافيزيقية، لذا يجب تمييز هذه الأمور عن التجربة الدينية.
وضمن تسليطه الضوء على مكانة الآلهة من حيث كونها جهات شخصية أو مصاديق للحقّ في نفسه، تطرّق إلى الحديث عن عدد من المفاهيم المرتبطة بهذا الموضوع مثل العنصر المقوّم للشخصية والشخصية بذاتها والمفهوم السيكولوجي لها بهدف بيان مقصوده من كون الإله مفهوماً شخصياً، [90] كما وضّح المقصود من وصف الصفات الإلهية بالشخصية، وممّا قاله في هذا الصدد:
«العنصر المرتبط[91] بالشخصية تمّ توضيحه بشكل كامل ضمن بيان المفهوم السيكولوجي للشخصية[92] بصفتها دوراً يمارسه الفرد في نطاق فئة اجتماعية معينة، والجدير بالذكر هنا أنّ كلمة شخصية (فردية) مقتبسة من النصوص المسرحية الرومية، حيث كانت تشير إلى القناع[93] الذي يضعه الممثّل على وجهه لإيفاء دوره في التمثيل المسرحي.
الجدير بالذكر هنا أنّ تنوّع شخصيات أحد الناس ضمن شرائح اجتماعية متنوّعة يشبه تقريباً تنوّع شخصيات الآلهة في شتّى المجتمعات الدينية[94]»[95].
التصوّر السائد في الأوساط الفكرية هو أنّ جون هيك أوّل من استخدم مصطلح (شخصية)[96] لوصف تعدّد صور الحقّ في نفسه (الإله)، إلا أنّ هذا التصور ليس صائباً نظراً لاستخدام هذا المصطلح من قبل القدماء الذين سبقوه بحقب زمنية متمادية، وفيما يلي نذكر مثالاً يثبت هذا الأمر:
«سابيليوس[97] هو أحد الشخصيات الغامضة والمجهولة، حيث يدّعى أنّه عاش في السنوات الأولى من القرن الثالث الميلادي، ومن أقواله: كلمات (الأب والابن وروح القدس) في الكتاب المقدّس يمكن أن تقارن مع أقنعة يضعها الممثّلون المسرحيون على أوجههم ليمثّل كلّ واحد منهم دور شخصية معينة ويتحدّث بصوتٍ عالٍ كي يسمعه الحاضرون، وعلى هذا الأساس تجلّت للإله الواحد في عالم الدنيا شخصيات متنوّعة ومختلفة عن بعضها».[98]
وضمن بيانه مدى تأثير نظرية شخصيات الآلهة (مصاديق الإله) على صعيد تفسير تأريخ الأديان، تطرّق إلى تحليل نطاقين مستقلّين لتجربة الإنسان الشخصية إزاء الحقّ في نفسه، حيث ذكر صفات إله الهندوس «كريشنا» وإله اليهود «يهوه» وأوجه الاختلاف بينهما ليستنتج في نهاية المطاف أنّ كلّ إله ـ الشخصية الإلهية ـ تشيع صفاته وخصائصه في حقبة معينة من التأريخ وفي نطاق مجتمع محدّد.
الموضوع الآخر الذي سلّط الضوء عليه هو أنطولوجيا[99] شخصية الإله، وبناءً على اعتقاده بعدم إمكانية وجود أكثر من إلهٍ، أي خالق واحد لا غير، قلّل من مقام كلّ إلهٍ في الأديان التي يعتقد أتباعها بتعدّد الآلهة، [100] فهذه الآلهة برأيه ليست غائيةً، [101] بل هي أدنى منزلةً بصفتها ما قبل الأخيرة.[102] استناداً إلى ذلك لو أردنا طرح نظرية يكون الإله فيها أمراً غائياً وفي الحين ذاته تؤيّد تعدّدية التجربة الألوهية من قبل البشر، فنحن بحاجة إلى استنتاج في غاية التعقيد قوامه الاعتقاد بعدّة آلهة كلّ واحد منها يمتاز ببعدٍ إلهي خاصّ به.
جون هيك وضّح هذا الموضوع مؤكّداً على أنّ الاعتقاد بأكثر من إلهٍ والذي يعتبر كثرة في وحدةٍ[103] في الفكر الديني، نجد مصداقه في التثليث المسيحي[104] وعقيدة التريكايا[105] (الأجسام الثلاثة) في البوذية؛ ثمّ تناول هذه المعتقدات بالشرح والتحليل، وفي المبحث اللاحق تطرّق إلى بيان الغايات الدينية أو الإلهية غير الشخصية في بعض الأديان والمذاهب الشرقية التي تقوّمت مبادئ نظريته عليها مثل مفهوم البراهما في تعاليم أدفيتا فيدانتا والنيرفانا والدراما كايا والتاتهاتا، [106] حيث حلّل واقع هذه المفاهيم البوذية في رحاب الهندوسية والطاوية الصينية.
الهدف الذي أراد تحقيقه من وراء هذه البحوث الدينية المسهبة هو إثبات أنّ الآلهة الشخصية والحقائق المطلقة غير الشخصية كلّها ذات تأثير على واقع الفكر الديني البشري ولها دور مؤثّر في تحوّل الإنسان وتخلّيه عن أنانيته ومركزية ذاته إلى كائن يعتقد بالحقّ ويعتبره مرتكزاً لكلّ نشاطاته في الحياة.
الموضوع الآخر الذي طرحه للبحث والتحليل ضمن هذه المباحث يتمحور حول إمكانية حدوث تجارب عرفانية ـ مكاشفات روحية مباشرة ـ لدى البشر والشروط الكفيلة بتحقّقها، حيث استنتج وجود نوعين مختلفين منها وفقاً للنصوص والتعاليم الدينية المتداولة في مختلف المجتمعات، فبعض التجارب تحكي عن وجود علمٍ مباشرٍ ـ بلا واسطة ـ بالنسبة إلى الحقّ في نفسه لدى بعض المتدينين، وعلم آخر غير مباشر به لدى غيرهم، وقال بهذا الخصوص: لو افترضنا صواب العلم المباشر في هذا المضمار فبعض التعاليم الدينية تقترح في هذه الحالة بدائل لا تتناغم مع بعضها لمن لا يستطيع امتلاك علم بها.
ثمّ وضّح هذا الموضوع عبر تسليط الضوء على بعض التوجّهات الدينية في العالم، إذ يعتقد أنّ تعاليم البوذية الزنّية وأدفايتا فيدانتا والعرفان التوحيدي[107] تختلف بالكامل عن النظرية الإبستيمولوجية التي يدّعي من يعتقد بها بكون جميع المعارف البشرية تحكي عن تجربة في مواجهة أمرٍ ما[108] ضمن نطاق مفاهيم ومداليل معينة تختلف مع بعضها في شتّى الأديان والثقافات والحقب التأريخية. ومن جهة أخرى رغم أنّ العرفان التوحيدي خارج عن نطاق هذه النظرية لكونه يتقوّم على أسس معرفية شهودية مباشرة إزاء الأمر الغائي ـ الحقّ في نفسه ـ بدل الفكر والتجربة في رحاب توجّهات بشرية شخصية، إلا أنّنا نجد الكثير من المذاهب العرفانية التوحيدية في شتّى الأديان والمذاهب تصوّر الإله ـ الحقّ في نفسه ـ بأساليب متنوّعة، أي كلّ مذهب عرفاني يصوّر الأمر الغائي وفق تصوّرات شهودية خاصّة تختلف عمّا هو مطروح في المذاهب الأخرى.
جون هيك استنتج من هذه الظاهرة الشائعة في الأديان أنّ التجارب الدينية العرفانية وغيرها أيضاً تصوّر المعرفة البشرية بالإله بنحوٍ آخر، حيث نستشفّ منها أنّ ذلك الشيء الذي يجرّبه العارف مباشرةً هو ليس الحقّ في نفسه، بل عبارة عن أمرٍ يتناسب مع الإله المتعارف في شتّى الأديان مثل الشونيتا والبراهما والله، فهو يتجلّى في كلّ دين وفقاً لمعتقدات أتباعه، وعلى هذا الأساس يثبت لنا أنّ العرفاء بالدين أنفسهم خاضعون للأوضاع الثقافية والتقاليد والأعراف التي تحكم مجتمعاتهم وغير منفكّين عن الظروف الزمانية في عهدهم، وممّا قاله في هذا المضمار:
«العرفاء ضمن مختلف مذاهبهم العرفانية في الأديان المتعارفة بين البشر روّجوا لمجموعة من العقائد الهندوسية والبوذية واليهودية والمسيحية والإسلامية والسيخية بنحوٍ يحكي عن آمالهم وطموحاتهم، وهذه العقائد في الواقع تروّج على ضوء نوعٍ من التجربة الدينية المعتبرة في النهج العرفاني، حيث تستهوي كلّ عارفٍ نحوها.
يمكن اعتبار هذا الموضوع ركيزةً أساسيةً للفرضية القائلة بأنّ ذهن الإنسان يطرح هواجسه الدينية في كلّ ثقافة وفقاً لمفاهيمها ومتبنّياتها الفكرية، والتأثّر هنا يعمّ حتّى أدقّ الطرق العرفانية التوحيدية؛ لذا يمكن اعتبار ما يناله العرفاء في هذا المضمار من معرفة اعتقادية بأنّها مجرّد معرفة تحكي عن مظهر من مظاهر الحقّ ولا تحكي عن الحقّ في نفسه».[109]
وبعد أن ذكر تفاصيل نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها وكافّة جزئياتها بشرح مسهب، تطرّق في بادئ الفصل الخامس من كتابه المذكور إلى مواضيع بمحورية العلم المعياري لأجل تصنيف مختلف مدّعيات الأديان ومعتقداتها والتعاليم والمفاهيم المطروحة فيها وتقييمها بأسلوب علمي، فقد سلّط الضوء في بادئ الأمر على عقيدة النجاة ـ الخلاص ـ المتعارفة بين أتباع مخلف الأديان معتبراً إيّاها معياراً أساسياً لتقييم سائر المعتقدات الدينية، وممّا قاله في هذا الصعيد: فيما وراء النقد الأخلاقي والميتافيزيقي واللاهوتي الذي يطرحه كبار مختلف الأديان إزاء أوضاع مجتمعاتهم، يوجد هاجس عنوانه النجاة، لأنّ الركيزة الأساسية للدين الذي يروّج للحياة الآخرة هي انتقال وجود الإنسان من مرحلة مركزية الذات إلى مرحلة مركزية الحقيقة، وهذا الأمر يتيسّر في رحاب عقيدة النجاة.
التعاليم الدينية بادّعاء هذا الفيلسوف الغربي ومختلف العقائد التي تنبثق منها والتجارب الدينية التي يخوضها الناس استناداً إليها والنصوص المقدّسة التي ترتبط بها وكافّة المناسك والعبادات والأخلاق التي تدعو لها ومختلف أنماط الحياة التي تشيع في المجتمعات على ضوئها وجميع المؤسّسات والمقرّرات الاجتماعية التي ترتكز عليها، كلّها تتمحور حول مسألة تأخير أو تيسير حدوث النجاة،[110] وهي بطبيعة الحال من حيث الأهمية تتراوح بين الشدّة والضعف؛ لكن إن أردنا معرفة كيف يحدث ذلك، أي كيف تحقّق هذا التأثير الملحوظ للدين بشكل مطلق أو كيف يتحقّق في الوقت الراهن، فنحن بحاجة إلى معيارٍ نقيّم الأوضاع على أساسه.
جون هيك وضّح الموضوع في رحاب افتراض أنّ كافّة الأديان في العالم نشأت على ضوء تصوّرات متنوّعة للحقيقة المتعالية ـ الحقّ في نفسه ـ لذا على أقلّ تقدير يمكن اعتبارها في امتداد الحقيقة إلى حدٍّ ما، ومن ثمّ فالمعيار المتاح لنا بغية تقييمها كامنٌ فيها، أي يجب اكتشاف المعايير التي نقيّم على أساسها الأديان من الأديان نفسها.
القداسة[111] التي هي حالة تحوّلية تتبلور نجاة الإنسان فيها ضمن آثار معنوية وأخلاقية، اعتبرها واحدةً من المعايير المشار إليها، وقد عرّف القدّيس كما يلي: هو من تحوّل الوجود الإنساني في شخصيته من حالة مركزية الذات إلى مركزية الحقيقة بشكل يفوق سائر الناس بحيث يتوجّه إلى الإله ويؤمن به دون تأنٍّ، وهذه الميزة تعدّ سموّاً نفسانياً والتحوّل فيها يحدث عن طريق الخضوع التامّ للحقّ في نفسه أو عبر اتّخاذ بعض صفاته مرتكزاً أساسياً للشخصية، وإثر ذلك تتحلّى شخصية القدّيس بالمحبّة والشفقة إزاء سائر البشر بحيث تكون مفعمة بالحيوية والنشاط.
هذا التقدّس الذي اعتبره تجاوزاً للذات بمركزية الحقّ[112] يتجلّى في حياة القدّيس بأشكال مختلفة، أي كلّ قدّيس يبلوره بنمطٍ خاصٍّ يختلف عن غيره، لذا نلاحظ أنّ بعض القدّيسين يعتزلون الناس ويتفرّغون بالكامل للتهجّد والعبادة ومراقبة النفس، وبعضهم أكثر انفتاحاً بحيث يزاولون نشاطات اجتماعية أو حتّى سياسية ومنهم من يزاول أعمالاً ويمتهن حرفاً كسائر الناس.
بعد ذلك سلّط الضوء على الحرّية الدينية ووضّح طبيعة ارتباطها بالحرّيتين السياسية والاقتصادية، [113] وفي هذا السياق تحدّث عن التطوّر الدلالي لهذه المفاهيم ولا سيّما في اللاهوت الليبرالي، حيث تبلورت في رحابه كمصاديق لعقيدة النجاة، كما ذكر العوامل الدينية والاجتماعية والسياسية التي أدّت إلى ظهور قدّيسين سياسيين في القرون الأخيرة؛ ثمّ تطرّق إلى بيان التعاليم والمعتقدات الدينية الأصيلة التي تعدّ بمثابة أرضية خصبة لنشأة وتأهيل القدّيسين بمختلف توجّهاتهم الدينية وأساليبهم السلوكية ليظهر بينهم أهل المراقبة والتأمّل، [114] وكلّ من ينخرط منهم في عالم السياسة والنشاطات الاجتماعية كسائر الناس، وقد اعتبرها أيضاً من جملة المعايير المعتبرة التي يمكن على أساسها إثبات أنّ الدين المرتبطة به يندرج ضمن الأديان التي تضمن النجاة للبشرية ومعرفة الحقّ في نفسه. ومن آرائه في هذا المضمار أنّنا حتّى إذا اعتبرنا التقدّس معياراً يمنحنا القدرة على معرفة الأديان الكبيرة التي تعدّ نطاقاً لعقيدة النجاة، لكن ليس من الممكن الاعتماد عليه لتصنيف هذه الأديان بشكل مقارن.
الجدير بالذكر هنا أنّه ادّعى إمكانية تقييم النهضات الدينية الحديثة وفق هذه المعايير، وكما أشرنا فهو يعتقد بكون عقيدة النجاة والتقدّس معيارين، لذا يمكن تقييم هذه النهضات على أساسهما، لكن هناك مشكلة تكمن في ضيق نطاق المعلومات التي تتمخّض عنهما، فهما ظاهرتان متأخّرتان تأريخياً ولا وجود لمعلومات كثيرة بخصوصهما، وممّا قاله في هذا الصدد:
«نظرية التعدّدية الدينية التي نعتقد بها تلزمنا لأن نعتقد بعدم إمكانية تبنّي أيّ حكم مسبق بالنسبة إلى مفهوم النجاة الذي يمكن أن تحمله معها هذه النهضات الحديثة، إذ من المحتمل أنّ كلّ واحدة منها تبلغ من الشأن مقاماً متعالياً من حيث عقيدة الخلاص أو النجاة بحيث يمكن أن تقارن مع الأديان العالمية الكبيرة في العصر الحاضر، كذلك من المحتمل أنّها ترتبط بنهضات دينية سابقة لا حصر لها فتزدهر مدّةً ثمّ سرعان ما تؤول إلى الزوال؛ لكن حتّى النهضات العابرة من شأنها أن تثمر عن رواج هذه العقيدة في ظروف خاصّة ولفترة مؤقّتة فحسب. وهناك احتمال قوي أيضاً ألا وهو أنّ بعض هذه النهضات الدينية الصغيرة ـ أو ربّما كلّها ـ تعدّ مصدر نجاة لبعض الناس في مرحلةٍ من مراحل التأريخ»[115].
كذلك سلّط الضوء في مباحثه عل النهضات العلمانية الكبيرة التي استلهمت مبادئها من نظريات كارل ماركس من منطلق اعتقاده بأنّ الأيديولوجيا الشيوعية رغم اختلافها بشكل أساسي مع الأديان التقليدية من خلال إنكارها فكرة الأمر المتعالي ـ الإله ـ لكنّها تشترك معها في بعض الأطروحات مثل مفاهيم الشرّ والنجاة والمعاد[116] الشائعة في النصوص المقدّسة، ومن هذه الناحية تتبلور على أرض الواقع نهضات علمانية تحت مظلّة دينية، أي أنّ هذه النهضات تتلبّس بثوبٍ ديني في ظلّ مشتركات فكرية.
وكما ذكرنا آنفاً فقد اعتبر فكرة النجاة معياراً أساسياً لتقييم الظواهر الدينية، وفي هذا السياق أكّد على أنّ الخير الأخلاقي يعدّ جزءاً من أبعاد النجاة، حيث اعتبره ذات الهدف من وراء تقديم البشر كقرابين ـ فداء ـ في العصور القديمة؛ وقد ذكر بعض الأمثلة على هذا السلوك الديني القديم ثمّ قال: في عصرنا الحاضر أيضاً نقدّم البشر كقرابين بشكل يفوق ما حدث في كلّ عصر سابق من خلال الحروب الدامية والمجازر الجماعية والجدب والمجاعة، لذا باستطاعتنا الحيلولة دون ذلك والحفاظ على أرواحهم.
كذلك تحدّث عن مسألة السحر التي اعتبرها ذات ارتباط بالطباع القبلية القديمة، وادّعى أنّها في تلك الآونة كانت على غرار ما لدينا من مبادئ وطنية وقومية في العصر الحديث، إلا أنّ الاختلاف يكمن في أنّ السحر كان سبباً في إزهاق حياة القليل من البشر بينما المبادئ المعاصرة باتت سبباً لإزهاق أرواح عددٍ أكبر بكثيرٍ؛ وضمن هذا الموضوع أيضاً ذكر أمثلةً أخرى بخصوص اختلاف الثقافات البشرية في مجال تطبيق المبادئ الأخلاقية واعتبر مسألة تعذيب المبتدعين في الدين وإعدامهم من جملة الظواهر التي شاعت في المجتمعات المسيحية في أواخر القرون الوسطى وبداية العصر الحديث، كما ادّعى أنّ الفطرة الإنسانية الأصيلة التي تنزّلت من عالم الحقيقة إلى مضمار الخطيئة والظلمة والضلال والجهل هي أساس مطالبة الناس بأن ينتهجوا سلوكيات أخلاقية.
ومن جملة الآراء التي تبنّاها تمحورت حول ما يسمّى بالقاعدة الذهبية ـ أخلاقيات التعامل ـ حيث اعتبر زخارف الدنيا سبباً في معاناة الناس بينما أكّد على أنّ الإحسان يقلّل من معاناتهم أو يحول دون حدوثها من الأساس ولو أنّه شاع في كافّة المجتمعات وبين جميع الناس دون استثناءٍ لما حدثت حرب ولا ساد ظلم ولا أمكن أن يرتكب أيّ إنسان جريمةً أو أن تحدث معاناة مؤلمة؛ لكن لا أحد يمكنه إثبات هذه الحقيقة الأساسية لكونها من الحقائق الارتكازية التي لا يمكن استنتاجها من مقدّمات أو افتراضات مسبقة[117] رغم أنّ خطابنا الأخلاقي برمّته مرهون بها. وضمن تسليطه الضوء على القاعدة الذهبية ذكر ما يترتّب عليها من آثار صريحة وضمنية في رحاب مختلف الثقافات والأديان الشائعة في المجتمعات البشرية، وقد اعتبرها أساساً ومعياراً أخلاقياً.
بعد ذلك تطرّق إلى تعريف بعض المـُثل الأخلاقية المتعارفة وذكر نماذج منها مثل المحبّة والرحمة والشفقة، وفي رحاب هذا التوضيح قارن بين المجتمعات التقليدية والحديثة وانتقد الرؤية الأخلاقية الليبرالية الحديثة، حيث قال: المبادئ الإنسانية التي كانت سائدةً في العصر الإغريقي تمّ إحياؤها من جديد في عصر النهضة، وخلال القرن الثامن عشر حينما انطلقت الحركة التنويرية ولدت الأخلاق الليبرالية المعاصرة على ضوء ما تمخّض عن التقاليد والأعراف التي كانت شائعةً في القرون الوسطى المسيحية، في حين أنّ الأخلاق الليبرالية التي اجتاحت المجتمعات الغربية الحديثة ذات طابع آخر يجب أن نحذر منها بدل أن نشعر بالبهجة والسرور لكونها مخيفةً مقارنةً مع ما هو موجود في الثقافات التقليدية القديمة، وهذا الجانب المرعب فيها يعدّ ثمرةً للتوتّر الحاصل من البيئة المدنية الحديثة والتفسّخ الاجتماعي[118] الناجم من مناهضة الواقع الإنساني[119]، وقد انعكست هذه الحالة في مظاهر عديدة مثل تزايد حالات الطلاق وكثرة الأسر الصغيرة التي تقتصر على والدين وأبنائهما فقط ورواج حالات الإجهاض المتعمّد والانتحار وتعاطي شتّى أنواع المخدّرات الفتّاكة. لذا، كلّ هذه العوامل ـ إلى جانب الشهوات والنزوات الفردية في المجتمعات الاستهلاكية التي نشأت على ضوء أسس مادّية وأغرقت حياة البشر بالمظاهر التجملية للصناعة الحديثة التي شهدت تنامياً متواصلاً ـ أسفرت عن تدمير مصادر الثروة في العالم وقضت على معظمها ليواجه البشر خسارةً كبرى لا تعويض لها.
وفي المباحث الأخيرة من الكتاب تحدّث عن مسألة تعارض آراء أتباع الأديان من جهة ادّعاء كلّ قومٍ أنّ دينهم هو الصائب القويم مؤكّداً على أنّ هذه الظاهرة تعدّ معضلةً واضحةً وصريحةً بالنسبة إلى نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها، وقد قسّم هذه الادّعاءات إلى نوعين، النوع الأوّل هو ما يمكن أن يصدق تأريخياً والنوع الثاني هو ما يمكن أن يصدق فيما وراء التأريخ ـ غير محدّد بزمان ـ ويقصد من النوع الأوّل تلك الأحداث والوقائع التي طرأت في الأزمنة القديمة والتي لا يمكن للناس في العصر الحاضر مشاهدتها كما شاهدها القدماء، فهي لو حدثت في العصر الحديث لأمكن توثيقها بواسطة أجهزة التصوير أو التسجيل، إلا أنّ هذه الوسائل لم تكن موجودة في تلك الآونة. وقد ذكر عدّة أمثلة على هذه الأحداث والوقائع، ووضّح قائلاً: أتباع أحد الأديان على سبيل المثال لديهم اعتقاد راسخ بأنّ ما تمّ تناقله في دينهم من أحداث ووقائع قد حدث على أرض الواقع فعلاً، ويعتبر حقيقة تأريخية ثابتة لا يمكن إنكارها رغم أنّها لم تذكر في المصادر التأريخية المعتبرة التي هي ليست من تدوين أتباع هذا الدين؛ كذلك هناك معتقدات دينية يعتبرها أتباع أحد الأديان بالقطعية والملزمة التي لا نقاش فيها، لكنّنا نجد أتباع دين آخر يرفضونها من أساسها.
وفي هذا السياق أشار إلى الصراعات التأريخية التي اندلعت بين أتباع مختلف المذاهب والفرق التابعة لأحد الأديان، وأوعز السبب في ذلك إلى ادّعاء كلّ قوم أنّهم على حقّ وغيرهم على باطل، أي السبب هو ادّعاء المشروعية وفق أسس تأريخية.
وأمّا النهج الصائب والقويم الذي ينبغي أن تتقوّم عليه الحياة المعاصرة المفعمة بنور العلم والثقافة والذي يجب الاعتماد عليه لمواجهة هذه المزاعم، فهو الاعتماد على أسلوب تقييم محايد[120] لمختلف الأحداث التأريخية؛ لكن رغم اقتراحه هذا النهج العقلي القويم فقد اعتبره تهرّباً[121] من الواقع؛ وضمن بيانه أهمية هذه المسائل التأريخية الخلافية في مختلف الأنظمة الاعتقادية والدينية، أكّد على أنّه توصّل إلى نتيجة فحواها اعتبار هذه المعتقدات كأصول دينية ثابتة لدى أتباع بعض الأديان بحيث لا يمكن النقاش حولها مطلقاً بحيث لا يسمحون بالقيام بأيّة دراسة أو بحث علمي بخصوصها، ناهيك عن عدم قبولهم فكرة إعادة النظر فيها بأيّ نحوٍ كان حتّى في رحاب الإنجازات العلمية القطعية الحديثة؛ وهذه الظاهرة الدينية برأيه لا تقتصر على الشريحة الأمّية من المجتمع فقط، بل شائعة بين الكثير من المتدينين المثقفين وخرّيجي الدراسات الأكاديمية. ومن هذا المنطلق أكّد على عدم إمكانية تحقّق أيّ تساهل عامّ وشامل بالنسبة إلى الاختلافات التأريخية المشار إليها لكون المتدينين المعتقدين بها غير مستعدين سيكولوجياً لذلك، فهذه المعتقدات تعتبر الركيزة الأساسية في إيمانهم بصفتها جوهرة دينهم، لذا مهما كانت الشواهد الدالّة على خلافها فهي لا يمكن أن تتغيّر في نظرهم، وبالتالي من المستحيل إقناعهم بمسألة التعدّدية الدينية.
بعد هذا التوضيح أردف بحثه بشرح وتحليل للنوع الثاني، أي المعتقدات الدينية المتعارضة الخارجة عن نطاق التأريخ، وقد وصفها بأنّها أسئلة بلا أجوبة وذلك من منطلق اعتقاده بارتكازها على أسئلة لا بدّ من طرحها حتّى لو تذكر بخصوصها إجابات صائبة، فهذه الإجابات لا تذكر بطبيعة الحال استناداً إلى شواهد تأريخية أو قرائن تجريبية، ومن أمثلتها بداية العالم ونهايته، وحقيقة الحياة بعد الموت في مختلف المعتقدات الدينية، فهذه الأمور وما شاكلها حتّى إذا تمكّن علم الكونيات الحديث من ذكر إجابات بخصوصها، من الممكن أن تتقوّم هذه الإجابات على أنموذج معرفي غير ثابت بحيث يحلّ محلّه أنموذج معرفي آخر مستقبلاً، وهذه هي طبيعة العناصر الدلالية التي تتحقّق عن طريق المشاهدة[122] المعتمدة في علم الكونيات الحديث. فعلى سبيل المثال حتّى إذا توصّل هذا العلم إلى نتيجة قطعية إزاء ما يسمّى بالانفجار العظيم، فهذا الاكتشاف سوف لا يضع حلاً لأيّة معضلة دينية ولا يغيّر من الواقع شيئاً، ومن ثمّ فالأسئلة المشار إليها لا فائدة منها على أرض الواقع ولا تأثير لها على عقيدة النجاة الشائعة في مختلف الأديان. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الاعتقاد فيما لو كان عالم الوجود أبدياً أو ليس بأبدي، فهو أيضاً لا يسهم كثيراً في تحوّل الفكر البشري من مركزية الذات إلى مركزية الحقّ في نفسه، كذلك لا يعدّ حائلاً أمام هذا التحوّل إن تقرّر أن يحدث.
هذه العقائد التي اعتبرها فيما وراء التأريخ وبمثابة حقائق ثابتة، تحدّث عنها قائلاً:
«عدم علمنا لا يقتصر فقط على ما إن كان العالم أبدي أو لا، وهذا الجهل لا يعدّ عقبةً تحول دون قدرتنا على النجاة، ناهيك عن أنّنا لو اعتبرنا عقيدة النجاة بمثابة أمرٍ يحتّم النجاة للبشر، فهي في الحقيقة تكون أشبه بالحيلولة دون النجاة…
لو طرح السؤال التالي اليوم: هل الاعتقاد بالتناسخ يعدّ ضرورياً للنجاة؟ فمن المؤكّد أنّ الإجابة هي كلا…
ينبغي لنا قبول اختلاف الآراء في هذا المضمار ونأمل دائماً باكتشاف شواهد وأدلّة جديدة تظهر الحقيقة على أساسها للناس كافّةً، وهذا الأمر يقتضي طبعاً نبذ كلّ تعصّب ودوغماتية إزاء الموضوع باعتبار أنّ التشدّد في الرأي يتعارض مع المبادئ العقلية الثابتة…
يبدو أنّ العقائد الصحيحة وغير الصحيحة التي هي فيما وراء التأريخ، على غرار الآراء العلمية والتأريخية الصائبة والخاطئة، إذ من شأنها أن تكون جزءاً متمّما للدين وعلى أساسها تتمهّد الأرضية اللازمة للاعتقاد بالنجاة وبفضلها يتحقّق ارتباط بين البشر والحقّ في نفسه».[123]
الوجهة الأخرى التي اتّبعها جون هيك إزاء العقائد التي تعتبر فيما وراء التأريخ، هو اعتبارها بمثابة مفاهيم أسطورية، وفي هذا المضمار أكّد على أنّ فكرة أسطوريتها في القرن الحاضر باتت شائعةً على نطاق واسع في المجتمعات البشرية ولا سيّما المسيحية.
كذلك يعتقد بوجود أساطير وحكايات خيالية وتصوّرات لا يمكن أن توصف بها ذات الإله ـ الحقّ في نفسه ـ بشكل كامل وبانطباق تامّ، إلا أنّها قد تكون حقيقية لكونها توقظ في نفس الإنسان رغبات فطرية ـ غريزية ـ [124] ذات ارتباط بالحقّ في نفسه.
وفي هذا السياق اعتبر بعض العقائد التي هي فيما وراء التأريخ كمصادر معرفية لتفسير الأساطير، وأمّا رأيه بهذه العقائد في رحاب نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها، قوامه أنّ بعضها غامض في الوقت الراهن بحيث لا يمكن إثباتها أو تفنيدها، إذ من الممكن أن تتّسم بالصدق والكذب بدل اعتبارها صادقةً على نحو القطع واليقين، فهي على غرار الأساطير التي يحتمل فيها الصدق والكذب؛ ومن الأمثلة التي استشهد بها على هذا الموضوع عقيدة تأليه النبي عيسى× والتي تعتبر من المعتقدات القطعية لدى أتباع الديانة المسيحية، حيث اعتبر هذه العقيدة إلى جانب الطبيعة السلطوية والعدائية لدى البشر، سبباً في ظهور شرّ باسم الاستعمار[125] ضمن حقبٍ من تأريخ البشر، كما أسفرت عن تدمير الحضارات المحلّية ومناهضة السامية وحدوث نزاعات دينية مدمّرة وإحراق السحرة وأهل البدعة في الدين.
ومن آرائه إمكانية تصوّر أنّ تجسّد الإله في شخصية النبي عيسى× مجرّد أسطورة مشرقة في تأريخ المسيحية بحيث بات تجلّي الإله في هذه الشخصية المقدّسة وازعاً لهداية ملايين البشر في القرون اللاحقة لظهور المسيحية إلى الحقيقة وغرس محبة الله في أنفسهم بفضل سيرة عيسى والتعاليم التي جاءهم بها، وممّا قاله بهذا الخصوص:
«الرؤية السطحية لنظرية تجسّم الإله الواحد في شخصية المسيح أسفرت عن حدوث تفرقة بين الناس وتنزّلت بمستوى الله إلى إله مختصّ بالقبائل الغربية، لكن فهم هذه النظرية بأسلوبٍ أسطوري من شأنه هداية الناس إلى الله بشكل دائم عن طريق هذه الشخصية المقدّسة دون أن ينفصلوا عن سائر البشر».[126]
النتيجة النهائية التي توصّل إليها من جملة ما ذكر في الكتاب فحواها ما يلي: مضمون نظرية تعدّدية الأديان ينسجم مع الواقع الذي يحكي عن وجود اختلافات بين المفاهيم والتجارب الدينية الأساسية في مختلف الأديان، واختلافات عقائدية تبلغ درجة التعارض أحياناً على الصعيد التأريخي وعلى صعيد ما وراء التأريخ، وأساطير دينية لا يمكن تقييم[127] مدى سقمها وصوابها، ومنظومات عقادئية متنوّعة تتفرّع من مختلف الأديان والمذاهب؛ فعلى أساس هذه الاختلافات الواسعة النطاق نشأت الأديان الكبيرة في العالم ضمن ثقافات بشرية عديدة ثمّ طرح كلّ واحدٍ منها استنتاجاً وفهماً مختلفاً عن غيره إزاء الحقّ في نفسه.
نقد موجز على آراء جون هيك
تقييم آراء جون هيك والحكم عليها ليس بالأمر الهيّن، بل فيه صعوبة إلى حدٍّ ما والسبب في ذلك يعود إلى غموض المواضيع والمباحث التي تطرّق إلى تحليلها وتعقيدها وعموميتها وسعة نطاقها، فعلى سبيل المثال تبنّى عنواناً كلّياً في نظريته وهو «التعدّدية الدينية»، حيث يعمّ مختلف القضايا الأنطولوجية والإبستيمولوجية والاجتماعية والسيكولوجية إلى جانب معتقدات دينية مثل عقيدة النجاة (الخلاص) والإيمان بالقيامة؛ ومن جهة أخرى اعتمد فيها بشكل عامّ على أسس تصوّرية وتصديقية كلّها محلّ شكّ ونقاش، إذ ليس منها ما هو قطعي، فضمن تسليطه الضوء على مختلف الآراء التي طرحت إزاء حقيقة الدين والتعاريف التي ذكرت له والأحكام الخاصّة به، افترض مسبقاً أنّ نظريته سوف لا تتطرّق إليها بمختلف الاستدلالات المطروحة فيها.
وحتّى الأسلوب الذي اتّبعه في تعريف المصطلحات التي تطرّق إلى بيانها وطبيعة الارتباط فيما بينها والأحكام الخاصّة بها، يعتبر في الواقع ذوقياً إلى أقصى حدٍّ ولا يتقوّم على أيّ معيار معتبر لدرجة أنّه لا يندرج ضمن أيّ رأي أو خطاب فلسفي على الرغم من كثرة النظريات والمدارس الفلسفية وتنوّعها وسعة نطاقها، لذا لا أحد يعلم في أيّ مضمار علمي يمكن إدراج هذه النظرية كي يدّعى أنّها ذات أسس بحثية معتبرة؛ ولا نبالغ لو قلنا إنّ الاحتجاج الذي يطرحه عالم فلكٍ أو عالم فيزياء كمّية إزاء الدين وكافّة المعتقدات الدينية يعدّ أكثر بساطةً وأيسر تحقّقاً ممّا ذكر في هذه النظرية.
لا شكّ في أنّ هذه الأجواء المحفوفة بالغموض والتوقّف تعتبر أرضيةً خصبةً لتبنّي فهم خاطئ وظهور مغالطات، فهي لا تساعد من الأساس على تحقيق فهم مشترك ينصبّ في خدمة الحوار المثمر والنقد البنّاء؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الأجواء سيطرت على الأوضاع في العصر الحاضر على أقلّ تقدير وبسطت نفوذها إلى حدّ كبير في المباحث التي تطرح بخصوص الدين والمسائل الدينية، لذا يجدر بهذا الفيلسوف وأمثاله أن يتعاملوا مع الواقع بإنصافٍ كي لا يتسبّبوا في ترسيخها ورواجها على نطاق أوسع، ومن المؤكّد أنّ من يرواده هاجس الدين وأحكامه بشكل جادّ من المتوقّع منه أن يبذل كلّ ما بوسعه لتقليل مستوى الغموض والتشويش الموجود ويحثّ الخطى قدماً لتوضيح الحقائق وتنقيح المواضيع التي تطرح للبحث والتحليل؛ ولا يختلف اثنان في أنّ تشويه الحقائق والتهرّب من بيانها يعد هدفاً مقصوداً في الأجواء الفكرية الهشّة التي لا تتقوّم على أسس رصينة وتشوبها إنكارية دينية وجموح فكري لا يتقيّد بأيّ مبدأ معتبر.
خلاصة الكلام هي أنّ نظرية التعدّدية الدينية التي تبنّاها جون هيك لا تتضمّن مشتركات فكرية ومعتقدات تتناسب مع ما نتبنّاه كي نستطيع أن نشير إلى مواطن الاختلاف بين آرائنا وما ذكر فيها بهدف نقدها، ولو أردنا التفكيك بين ما لدينا وما لدى هذا الفيلسوف من تصوّرات وتصديقات، وذكر تعريفنا لشتّى المواضيع التي تطرّق إليها ثمّ تعريفه لها، فهذا الأمر يتطلّب تدوين دراسة موسّعة ومسهبة التفاصيل تعمّ مختلف جزئيات الموضوع من الألف إلى الياء كي تتّصح الحقيقة للقارئ الكريم، وفي هذا المقالة طبعاً لا يسعنا المجال لذلك، لذا اكتفينا بذكر تقرير مجمل حول مضمونها ونظرة عابرة على بعض الآراء النقدية التي ذكرت إزاءها.
من الليبرالية إلى التعدّدية الدينية
بعض منتقدي نظرية التعدّدية الدينية اعتبروها شكلاً من أشكال الليبرالية الدينية في اللاهوت المسيحي، وأكّدوا على أنّها نتيجة مباشرة للمبادئ اللبرالية السياسية ومتقوّمة عليها بالكامل.
التعدّدية الدينية برأي هؤلاء لها دور في السلطة الليبرالية لكونها منطلقاً أساسياً للتهجّم على حجّية الدين الذي يتقوّم من أساسه على معرفة دينية ولا سيّما معرفة أوامر الله عزّ وجلّ، فالليبراليون ينكرون الحجّية الدينية ولا يعترفون بمصداقيتها بداعي اعتقادهم أنّ كلّ إنسان له حقوق شخصية ومن جملتها تبنّي معتقدات دينية خاصّة، لذا يجب احترام كافّة الاختلافات وبالأخصّ العقائدية وعدم الاعتراض عليها إلا إذا باتت سبباً في تدنيس حقوق الآخرين.
الفيلسوف محمد لغنهاوزن اعتبر البروتستانتية الليبرالية سبباً لظهور التعدّدية الدينية وأوعز السبب إلى العوامل التالية: [128]
- التساهل في قبول تفاسير غير متعارفة[129] للكتاب المقدّس ولبعض العقائد، ولا سيّما التفاسير المستوحاة من نظريات العلوم الطبيعية والتأريخ.
- التشكيك التامّ بالتأمّلات النظرية في علم اللاهوت.
- التأكيد على ضرورة الدعم الديني للمبادئ الأخلاقية الحديثة والعمل على إصلاح المجتمع كي يتناغم معها.
- ادّعاء أنّ جوهر الدين ليس كامناً في عقائده الثابتة أو شريعته أو المجتمع الذي يعتنقه أو المناسك الخاصّة به، بل كامن في التجربة الدينية للإنسان بذاته.
وقد تحرّى هذا الفيلسوف المسلم عن العناصر المقوّمة لنظرية التعدّدية الدينية في آراء ونظريات فريدريك شلايرماشر ورودولف أوتو وفيلهيلم ديلتاي باعتبارهم روّاد الفكر البروتستانتي الليبرالي في العالم ومن الشخصيات التي أثّرت على منظومة جون هيك الفكرية، حيث استنتج من ذلك أنّ هذا الفكر طوى مسيرةً تكامليةً اتّجهت بشكل تدريجي نحو فكرة التعدّدية الدينية.
الجدير بالذكر هنا أنّ الفيلسوف فريدريك شلايرماشر رغم ادّعائه أفضلية الديانة المسيحية على سائر الأديان، لكنّه اعتبر الدين شأناً شخصياً، وعلى هذا الأساس ادّعى أنّ التجربة الدينية الباطنية هي جوهو الأديان كافّةً؛ والدين برأيه لا ينشأ في رحاب الأخلاق والمعرفة، بل عن طريق شعور مباشر ـ بلا واسطة ـ كاستجابةٍ ذاتيةٍ للأمر المطلق، وهذا الشعور تجلّى في أديان تظهر على مرّ التأريخ ثمّ تتشوّه تعاليمها. كذلك اعتبر التعدّدية الدينية ثمرةً لمشاعر وتجارب دينية متنوّعة، ومن هذا المنطلق استنتج أنّ كافّة الأديان تتضمّن ما يحكي عن حقيقة الإله، وكلّ دين بطبيعة الحال عبارة عن انعكاس لمراحل متوالية من التطوّر الروحي لدى البشر، وأكمل إيمانٍ موجود في الديانة المسيحية لكون النبي عيسى× مثال لأعلا وأرقى نوع من التجارب الدينية وقد نقل تجربته للمسيحيين الذين اتّبعوه.[130]
الفيلسوف رودولف أوتو تأثّر إلى حدّ كبير بآراء شلايرماشر، ومن جملة الآراء التي تبنّاها اشتراك كافّة الأديان بجوهرٍ واحدٍ هو الأمر القدسي ـ الوجود المقدّس ـ؛ كذلك الفيلسوف فيلهيلم ديلتاي تأثّر بآراء شلايرماشر وممّا قاله بهذا الخصوص: «كافّة الأديان عبارة عن نتائج من تأريخ البشرية»، وعلى أساس هذا الرأي ادّعى أنّ التأريخ من الممكن أن يكشف لنا حقيقة الإنسان وليس الدين؛ وأمّا ظاهرة تطوّر مناهج دراسة التأريخ وتحليله بأسلوب حديث وإعادة تقييم النصوص المقدّسة إبّان القرن التاسع عشر، فقد اعتبرها إنجازاً وصفه بالوعي التأريخي الحديث مؤكّداً على أنّه يثبت كون كلّ مدّعى ديني وميتافيزيقي عبارة عن أمر نسبي.
الجدير بالذكر هنا أنّ الفيلسوف محمد لغنهاوزن اعتبر التعدّدية الدينية منطبقة مع الخصائص الأربعة للبروتستانتية الليبرالية وفق الشروط التالية:
- تفسير الكتاب المقدّس ومختلف التعاليم المسيحية بشكل غير متعارف في رحاب مبدأ التعدّدية الدينية كي تتسنّى النجاة للبشرية بطرق أخرى غير الديانة المسيحية.
- التشكيك بالبراهين العقلية التي يراد منها إثبات أفضلية المعتقدات المسيحية على غيرها.
- التمسّك بالمبادئ الأخلاقية الجديدة للتسامح ونبذ التعصّب.
- التأكيد إلى أقصى حدّ على عناصر إيمانية مشتركة بين مختلف الأديان ولا سيّما العقائد الباطنية، والتقليل من أهمية مظاهر الدين التي تتمثّل بالشريعة والطقوس والعقائد.[131]
هل التعدّدية الدينية تضمن النجاة؟
التعدّدية الدينية حسب تعريف جون هيك تحكي عن عقيدة نجاة وفق النمطين المسيحيين اللذين تمّ بيانهما آنفاً، حيث وصف أحدهما بالتفرّدية الدينية والثاني بالشمولية الدينية واعتبرهما متقابلين مع بعضها، وفحوى هذا الموضوع هي من يستحقّ دخول الجنّة في عالم الآخرة.
هذا الفيلسوف الغربي ادّعى أنّ فكرة التعدّدية الدينية بحدّ ذاتها تعتبر نظريةً مسيحيةً ابتدأت من رؤية شمولية ويمكن أن تترتّب عليها نتائج تفوق نطاق الديانة المسيحية، وعلى أساس هذا الكلام فمحلّ النزاع بالنسبة إلى التعدّدية الدينية يتمحور في بدايته ـ على أقلّ تقدير ـ حول كيفية فهم تعاليم هذه الديانة بخصوص مسألة النجاة (الخلاص).
جون هيك لم يكترث بالتعاليم المسيحية إلى حدّ كبير، بل إلى جانب هذه التعاليم أعار اهتماماً بما جاءت به سائر الأديان في هذا المضمار وكيفية تصويرها مسألة النجاة، وهذا الأمر جعله يشكّك بالمعتقدات الارتكازية في الديانة المسيحية بهدف إثبات أنّ علم اللاهوت المسيحي الحديث يتناغم بالكامل مع مسألة التعدّدية الدينية، لذا بدل أن يسلّط الضوء على مسألة النجاة في الديانة المسيحية فقط سعى إلى استنتاج معنى عامّ وشامل لها، وفي هذا السياق أكّد على أنّها تعني حدوث تحوّل في فكر الإنسان وعقيدته بحيث يتجاوز أنانيته ودوافعه الشخصية ليركّز اهتمامه على الحقيقة الغائية، أي الحقّ في نفسه.
من المؤكّد أنّ صياغة مفهوم عامّ وشامل ومحفوف بالغموض لعقيدة النجاة، نتيجته عدم إمكانية فهمه من قبل جميع الناس، لذا ليس من المقدور بتاتاً اقتراح نوع من هذه العقيدة يرتضي به أتباع كافّة الأديان في العالم، ومن جهة أخرى فما اقترحه هيك في نظريته بهدف بيان مسألة النجاة بأسلوب لاهوتي إضافةً إلى أنّه يزيح الفواصل بين السعداء والأشقياء من البشر ولا يمنح أيّ امتياز للمهتدين مقارنةً مع الضالّين وبغضّ النظر عن الإشكالات التي ترد على مرتكزاته الإبستيمولوجية، فهو يواجه إشكالين أساسيين هما كالتالي:
الإشكال الأوّل: لا يضمن هذا الاقتراح سعادة كافّة البشر، بل الأمر على العكس من ذلك لكونه يثمر عن ضلالهم جميعاً، فعلى ضوء ضمانه النجاة لأهل الجنّة وجهنّم على حدّ سواء، لا يزيح الفواصل الكائنة بينهم، بل يثبّتها من خلال إنكار نجاة المؤمنين فقط.
الإشكال الثاني: لم يتمكّن من وضع حلّ للمشكلة الناجمة عن عقيدة النجاة في الأديان حينما رفض حجّية كافّة التعاليم الدينية وبما فيها هذه العقيدة أيضاً، بل غاية ما في الأمر أنّه غيّر جهة البحث لكون الركيزة الأساسية لنسبية الفهم هي ما يذكره المتدينون أو علماء اللاهوت بخصوص هذه المسألة في دينهم، فالموضوع متقوّم على إدراكهم النسبي لدينهم، ومن المعلوم أنّ نسبية الفهم إزاء موضوع ما تعدّ سبباً للتشكيك بأسسه الإبستيمولوجية.[132]
انتقال المستحيل من التعدّدية الإبستيمولوجية إلى التعدّدية الاجتماعية
التعدّدية الإبستيمولوجية لا تقتصر على رفض القول بإمكانية معرفة الحقيقة ـ الحقّ في نفسه ـ في كافّة الأيديولوجيات، بل تقضي على الخطاب المنطقي المشترك والتفاهم بينها؛ ومن المؤكّد أنّ الفكر لو تدنّى إلى هذه الدرجة الهابطة سوف لا يبقى أيّ معيار معتبر يمكن الاعتماد عليه للحكم على الحقائق الثقافية والاجتماعية، وفي هذه الحالة يفرض الأمر الواقع نفسه ليسود منطق التسلّط والاقتدار في الساحة ويستحوذ على كلّ شيء بغضّ النظر عن الحقيقة، بل يحلّ محلّها ويقطع الطريق على من يريد بلوغها.[133] ومن جهة أخرى فالاقتراح الذي ذكر على أساس مبادئ التعدّدية الإبستيمولوجية ونظرية نسبية الإدراك البشري، مع أنّه طرح من منطق تسامح لكنّه في الواقع لا يثمر عن أيّ تسامح، بل عبارة عن اقتراح استبدادي يقمع كلّ ما سواه من آراء.
الجدير بالذكر هنا أنّ الإشكال السابق يرد على مسألة التلازم بين التعدّدية الإبستيمولوجية ووجوب التسامح، بينما هذا الإشكال يرد على مضمون الاقتراح المذكور.
التسامح الذي يتقوّم على مبادئ التعدّدية الإبستيمولوجية ونسبية الإدراك يقتضي من الناحية النظرية تكذيب كلّ من يدّعي أنّ عقيدته حقّ، ومن الناحية العملية فالمنظّرين للديمقراطية الليبرالية يدعون أنّ المواطنين في كلّ مجمع هم أصحاب الرأي والقول الفصل، لذا حينما يشاركون في الانتخابات على سبيل المثال، لا يمكنهم انتخاب شيء فيما وراء رغباتهم في الحياة، بل هم الذين يخلقون حقيقة كلّ شيء؛ وحتّى لو كانت هناك حقيقة ثابتة فإنّهم يعتبرونها خارجة عن نطاق علمهم وعملهم.
التسامح الذي يروّج له وفق مبادئ التعدّدية الدينية هو في الواقع متعارض مع مسمّاه من الناحيتين النظرية والعملية لكونه يقتصر على قراءة متفرّدة للدين ولا يطيق أيّة قراءة سواها، حيث ترتكز قراءته على رفض فكرة أنّ الحقيقة المتعالية في الدين ـ الحقّ في نفسه ـ فيما وراء قابليات البشر الإدراكية، وعلى هذا الأساس يؤكّد على ضرورة اقتصار كافّة العقائد الدينية على الإدراك البشري فحسب.
بالرغم من أنّ القائلين بالتعدّدية الدينية يشكّكون بكلّ تفاصيل وجزئيات المعارف الدينية الموجودة لدى البشر، لكنّهم لا يشكّكون بفكر وآراء الذين يدّعون قدرتهم على معرفة الحقيقة.
انتقال المستحيل من التعدّدية الإبستيمولوجية إلى التعدّدية الدينية
إذا تقوّمت التعدّدية الإبستيمولوجية على مبدأ نسبية الفهم ففي هذه الحالة لا يمكن أن تتمخّض عن تعدّدية دينية، بل تثمر عن تعدّدية وتنوّع يوصف بشكل خاطئ بكونه معرفةً دينيةً.
من المؤكّد أنّ المعرفة الدينية تصدق بكلّ معنى الكلمة وتحكي عن مضمونها بحقّ، عندما تحفظ قيمتها المعرفية إزاء الحقائق الدينية، لكن ما يحدث وفق مبدأ نسبية فهم الحقائق الدينية لا يمكن أن يندرج بتاتاً تحت مظلّة ما يسمّى معرفةً دينيةً، بل يمكن اعتباره شبحاً لأمرٍ يتجلّى في ظلّ معتقدات وأفكار مسبقة.
النتيجة التي تترتّب على مبدأ نسبية الفهم هي سيادة الأسس العقلية للفكر البشري على الحقائق الدينية وسائر الحقائق الخارجية، وهذه السيادة تصبح راسخةً بحيث لا يبقى أيّ سبيل لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف بين هذه الحقائق وبين الأوهام والتصوّرات الذهنية،[134] ومن ثمّ فالمفاهيم والمداليل المتعدّدة التي تنشأ في هذا المضمار تتحوّل إلى حجُب تحول دون معرفة الحقائق الدينية بدل أن تصبح نبراساً ينير طريق الإنسان لبلوغها.
الدين الذي ينشأ في رحاب مبدأ التعدّدية الإبستيمولوجية يمنح المتدينين اعتقاداً لا يتّسم بأيّة ميزة قدسية، بل هو في الواقع مجرّد مجموعة من المفاهيم المتنوّعة والمعارف المشتّتة غير المتناسقة مع بعضها والمنزوية في حجُب الفكر البشري ولا أصالة لها على الإطلاق؛ وهذه الحجُب الذهنية شاملة تعمّ كافّة جوانب الدين بحيث لا تحكي عن أيّ مفهوم أو قضية أكيدة ويقينية فيما ورائها، لذا حتّى المفهوم الذي يشير إلى وجود حقيقة قدسية هو في الواقع ليس خارجاً عن نطاق التأويل والتشكيك.
وفقاً لنظرية جون هيك ليس هناك أيّ امتياز للرؤية الدينية على غيرها، والتعدّدية التي تذكر للدين في هذا السياق عبارة عن مفاهيم متعدّدة مستوحاة من تراكمات ذهنية بشرية كائنة إلى جانب سائر أفكاره ومعتقداته ولا وجود لأيّ امتياز لبعضها على الآخر ولا وجود لمفاهيم جوهرية بينها.
الجدير بالذكر هنا أنّ التعدّدية الإبستيمولوجية بدل أن تثمر عن تعدّدية دينية، فهي تثمر عمّا يلي:
أوّلاً: الارتباط الذي يمكن أن يمتلكه الإنسان مع الحقائق الدينية عن طريق الإدراك سوف ينقطع في عدّة مراحل.
ثانياً: التعدّدية المشتّتة بالنسبة إلى المعارف والعقائد تنتج عن مسائل بشرية بحتة.[135]
الإشكال الثالث الذي يرد على نظرية جون هيك، هو أنّه لم يتحدّث عن مسألة نسبية الحقيقة لأجل الحفاظ على رأيه العقائدي، وقد افترض وجود الأمر المقدّس المتعالي في حين أنّ النتيجة المنطقية التي تترتّب على آراء الكانطيين الجدد وآراء الفيلسوف فيتجنشتاين هي نسبية الحقيقة، فلو أنّ كافّة المفاهيم التي يدركها البشر قاصرة عن بيان الحقيقة، من المؤكّد هناك مفاهيم تحكي عن وجود هذه الحقيقة فيما وراء الإدراك البشري وهي مشمولة بهذه القاعدة لكن لا اعتبار لها من حيث دلالتها على المصداق الخارجي؛ لذا كلّ ما يقوله البشر أو يدركونه بالنسبة إلى الحقيقة ـ الحقّ في نفسه ـ وكلّ ما يذكرونه بخصوص صدق أو كذب القضايا، هو في الواقع كائن في نطاق فهمهم ويعتبر نسبياً على غرار هذا الفهم.
استناداً إلى مبدأ نسبية الحقيقة، فكلّ حقيقة تعدّ صادقةً بالنسبة إلى من يدركها، أي كلّ جماعة من الناس يدركون الحقيقة بذاتها وفقاً لفهمهم وإدراكهم؛ الأمر الذي يعني عدم وجود أيّ معيار لها وبالتالي لا وجود لحقيقة ذاتية فيما وراء فهم الإنسان.
إذن، ما يترتّب على الاعتقاد بنسبية الحقيقة هو تنزّل الحقائق الدينية المتعالية إلى مستوى فهم البشر، أي أنّ هذه الحقائق المفترض وجودها في مضمار فيما وراء الحجُب الثلاثة يتدنّى مقامها إلى مستوى المفاهيم الذهنية، وهذا الأمر يسفر في نهاية المطاف عن تفنيد الحقائق الدينية.
المصادر:
– مهدي أخوان، «جان هیك: گذر از كثرت تجربه دینی به كثرت گرایی دینی»، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة نقد و نظر، العدد 47.
– جون هيك، «واقعیت غائي و کثرت گرائي دیني: مصاحبه مدرسه با جان هيك»، لقاء أجراه مع الفيلسوف جون هيك: أمیر أکرمي وسروش دباغ، ترجمه إلى الفارسية هومن بناهنده، نشر في مجلّة مدرسة الفصلية، السنة الأولى، العدد الثاني، 2005م.
– جون هيك، تفسيري از دين، ترجمه مؤلّف هذه المقالة إلى الفارسية.
– جون هيك، «سفر به تهران»، مقالة ترجمها إلى الفارسية رضا خجسته رحيمي ونشرت مجلّة مدرسة الفصلية، السنة الأولى، العدد الثاني، 2005م.
– كارين أرمسترونغ، تاریخ خدا باوری (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية بهاء الدين خرمشاهي وبهزاد سالكي، منشورات معهد دراسات العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طهران، الطبعة الأولى، 2006م.
– محمد لغنهاوزن، اسلام و کثرت گرائي دیني (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية نرجس جوان دل، منشورات مؤسّسة «طه» الثقافية، الطبعة الثانية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قم، 2005م.
– حميد بارسانيا، «تحمل اجتماعي و پلورالیزم دیني»، مقالة نشرت في مجلة کتاب نقد، العدد 23، 2002م.
-Hick, John, An Interpretation of Religion, Human Responses to the Transcendent, Palgrave Macmillan, Second Edition, 2004.
—————————————-
________________________________________
[1]- ترجمة هذه المقالة: د. أسعد مندي الكعبي. [2]*- باحث في الفكر الإسلاميّ وفلسفة الدين- إيران.**- التعدّدية الدينيّة نظريّة طرحها الفيلسوف البريطانيّ جون هيغ بهدف بيان مسألة تعدّد الأديان أو تنوّع التجارب الدينيّة للبشر – حسب تعبيره – وهي في مقابل نظريّتي التفرّديّة الدينيّة والشموليّة الدينيّة.
– عنوان الكتاب باللغة الإنكليزية:
Hick, John, An Interpretation of Religion, Human Responses to the Transcendent, Second Edition, 2004, Palgrave Macmillan.
[3]- مهدي أخوان، «جان هیك: گذر از كثرت تجربه دینی به كثرتگرایی دینی»، مقالة نشرت باللغة الفارسية في مجلة نقد و نظر، العدد 47، ص43. [4]- Cognitive . [5]- Projection. [6]- جون هيك، واقعیت غائي و کثرت گرائي دیني: مصاحبه مدرسه با جان هيك، لقاء أجراه مع الفيلسوف جون هيك: أمیر أکرمي وسروش دباغ، ترجمه إلى الفارسية هومن بناهنده، نشر في مجلّة مدرسة الفصلية، السنة الأولى، العدد الثاني، 2005م، ص60. [7]- In Toto Delusory. [8]- the Real. [9]- the Ultimate. [10]- Ultimate Reality . [11]- the One . [12]- Postulated Ground. [13]- an Sich . [14]- Purview . [15]- Dharmakaya . [16]- Divine Ineffability . [17]- Transformation . [18]- Self-Centredness . [19]- Reality-Centredness . [20]- Salvation . [21]- Liberation . [22]- Fulfilment . [23]- Hick, John, An Interpretation of Religion, Human Responses to the Transcendent, Second Edition, 2004, Palgrave Macmillan, Part4, Religious Pluralism, p240. [24]- جون هيك، سفر به تهران، مقالة ترجمها إلى الفارسية رضا خجسته رحيمي ونشرت مجلّة مدرسة الفصلية، السنة الأولى، العدد الثاني، 2005م، ص43. [25]- Phenomenal Manifestations . [26]- Moral Agency . [27]- Hick, John, 2004, p242 . [28]- a Priori. [29]- Universal . [30]- Invariable . [31]- Category-Analogues . [32]- Culture-Relative . [33]- Presence . [34]- Real . [35]- Availability . [36]- Environing . [37]- Consciousness . [38]- Real as personal . [39]-Theistic . [40]-Absolute . [41]- Real as non-Personal . [42]- Nontheistic . [43]- Personae . [44]- Impersonae . [45]- Analogous . [46]- Complementarity . [47]- I-Thou . [48]- Context . [49]- Actual . [50]- Concrete . [51]- Schematise . [52]- Hick, John, 2004, p245.. [53]- Purposive . [54]- Non-Purposive . [55]- Concrete Descriptions . [56]- Literally . [57]- Unexperiencable . [58]- Phenomenal . [59]- Conceptual . [60]- Noumenal . [61]- Entity . [62]- Postulated . [63]- Purely Formal . [64]- Hick, John, 2004, p246.. [65]- Anselm . [66]- Analogical Predication . [67]- Good . [68]- Unrelated . [69]- Limitlessly . [70]- Superior . [71]- Goodness . [72]- Simple . [73]- Hick, John, 2004, p247. [74]- Ding an Sich . [75]- a Priori . [76]- جون هيك، واقعیت غائي و کثرت گرائي دیني: مصاحبه مدرسه با جان هيك، لقاء أجراه مع الفيلسوف جون هيك: أمیر أکرمي وسروش دباغ، ترجمه إلى الفارسية هومن بناهنده، نشر في مجلّة مدرسة الفصلية، السنة الأولى، العدد الثاني، 2005م، ص61. [77]- Ultimacy . [78]- Contemplation . [79]- Veridical . [80]- Illusory . [81]- Confessional . [82]- Authenticity . [83]- Realistic . [84]- Thou . [85]- Magnitude . [86]- Definitely Limited . [87]- Indefinitely Great . [88]- Unlimited Duration . [89]- Infinite Nontemporal . [90]- Personal . [91]- Relational . [92]- Persona . [93]- Mask . [94]- Faith-Communities . [95]- Hick, John, 2004, p266. [96]- Persona . [97]- Sabellius . [98]- كارين أرمسترونغ، تاریخ خدا باوری (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية بهاء الدين خرمشاهي وبهزاد سالكي، منشورات معهد دراسات العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، طهران، الطبعة الأولى، 2006م، ص166. [99]- Ontological . [100]- Polytheism . [101]- Ultimacy . [102]- Penultimacy . [103]- Diversity in Unity . [104]- Trinity . [105]- Trikaya . [106]- Tathata . [107]- Unitive . [108]- Experiencing-as . [109]- Hick, John, 2004, p294. [110]- Salvific . [111]- Saintliness . [112]- Ego-Transcending Reality-Centredness . [113]- Politico-Economic . [114]- Contemplative . [115]- Hick, John, 2004, p307. [116]- Eschatology . [117]- Prior Premises . [118]- Permissiveness . [119]- Dehumanising . [120]- Unbiased . [121]- Elusive . [122]- Observational . [123]- Hick, John, 2004, p367. [124]- Dispositional . [125]- Colonialism . [126]- Hick, John, 2004, p372. [127]- Incommensurable . [128]- محمد لغنهاوزن، اسلام و کثرتگرائي دیني (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية نرجس جوان دل، منشورات مؤسّسة طه الثقافية، الطبعة الثانية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، قم، 2005م، ص17. [129]- Unorthodox . [130]- محمد لغنهاوزن، اسلام و کثرتگرائي دیني (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية نرجس جوان دل، ص19. [131]- المصدر السابق، ص32. [132]- حميد بارسانيا، تحمل اجتماعي و پلورالیزم دیني، مقالة نشرت في مجلة کتاب نقد، العدد 23، 2002م، ص65. [133]- المصدر السابق، ص61. [134]- حميد بارسانيا، تحمل اجتماعي و پلورالیزم دیني، مقالة نشرت في مجلة کتاب نقد، العدد 23، 2002م، ص63. [135]- حميد بارسانيا، تحمل اجتماعي و پلورالیزم دیني، مقالة نشرت في مجلة کتاب نقد، العدد 23، 2002م، ص64._______________________________
* نقلاً عن “المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية”.