غير مصنف

دور الزاوية المعينية في تعزيز الوحدة الوطنية

دور الزاوية المعينية في تعزيز الوحدة الوطنية

بقلم: الدكتورة النجاة ماء العينين

 

تقديم عام:

سننطلق بداية من واقع حياتنا من يومياتنا من عاداتنا مما نلمسه واقعا معاشا، يتمثل في عادات وتقاليد ترسخت كلها تدور دائرتها على كثير من القيم والسلوكيات الرفيعة مما يثير لدينا فضول السؤال. إذ نجد الانسان الصحراوي يعيش قيما سلوكية عالية جدا يراها ويعيشها كل من عايشه أو جاوره فما مردها وماهي خلفيتها؟؟

للباحث في هذا المجال أن يستنتج خلفيات هذه السلوكيات ليجدها نابعة من خلفية دينية لها نهجها الخاص إذ تراها في أغلبها -ولو أنها تبحث عن مجدد ينفض عنها غبار الشوائب لكن يبقى الأصل غالب- تنتمي إلى مدارس صوفية متعددة، فقد كان رجال التصوف في هذه البقاع جامعات متحركة قائمة الذات أخذت لون الطبيعة وتماشت مع ظروفها كي تخرج من هذا الواقع شموسا أضاءت محيطها وأنار إشعاعها مجالات ومحيطات أوسع بكثير من محيطها الخاص.

من هذه الشخصيات البارزة في المجتمع الصحراوي شخصية شيخن الشيخ ماء العينين إذ يعد من كبار الشيوخ الذين عرفتهم الصحراء المغربية في أواسط القرن الثالث عشر الهجري. لذلك سأحاول تسليط الضوء على الدور الذي لعبته الزاوية المعينية في تعزيز الوحدة الوطنية.

وستنطوي هذه الورقة على مبحثين:

أولهما يتعلق بالتعريف بصاحب الزاوية المعينية ومنهجها

ثانيهما انتشار الزاويةالمعنية في المغرب

  1. التعريف بشخصية شيخنا الشيخ ماء العينين

هو محمد المصطفى بن الشيخ محمد فاضل بن مامين حيث يتصل نسبه الشريف بإدريس الأكبر ثم بابنه إدريس الأزهر فاتح المغرب ثم بعبد الله الكامل فالحسن المثنى، فالحسن السبط بن علي وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد الشيخ ماء العينين في رحاب بيت اشتهر بالعلم والصلاح والورع والمآثر المتوارثة عن أسلافه، فوالده الشيخ محمد فاضل كان إماما من أئمة المسلمين وعلما من العلماء العاملين ذائع الصيت، محل تقدير عند العامة والخاصة وكان من أقطاب الصوفية في زمنه ومن العارفين بالله وإليه تنسب الطريقة الفاضلية في موريتانيا والمغرب وسينغال وغيرها. في كنف هذا الشيخ الجليل وتحت عنايته تربى ولده الشيخ ماء العينين كانت ولادته في أقصى بلاد الجنوب المغربي بعاصمة الحوض من بلاد شنقيط وذلك يوم الثلاثاء شعبان 1246ه موافق للحادي عشر من شهر فبراير من سنة 1831م.

نشأ الشيخ ماء العينين وتربى في كفالة والده بين إخوته وعشيرته، وتتلمذ على أبيه في السلوك والعلوم الشرعية فلازمه واجتهد في الأخذ عنه والاستضاءة بنور مشكاته ونهل من علومه ومعارفه.

حفظ القرآن برواية ورش وهو ابن عشر سنين على السيد عبد الباقي بن أحمد بن علي مولود المسومي، الذي كان معلما للقرآن في محلة الشيخ محمد فاضل، ثم أعاد حفظه تجويدا بالقراءات السبع عليه، وأخذ الاجازة في القرآن ولما يبلغ الحلم، ثم جد في طلب العلم على والده، وعلى أستاذه الثاني محمد فاضل بن لحبيب اليعقوبي الذي أخذ عنه بعض الأبواب من مختصر خليل، وبعض النصوص الفقهية، ثم صرف وقته في تحصيل العلم حتى صار من الراسخين فيه ومن جهابذة أهل النظر والتبصر، وأتقن دراسة العلوم المتداولة في زمنه إتقانا أهله لمرتبة الإمامة فيها، ثم تصدر للتدريس والافتاء في مدرسة والده برهة من الزمن بعد أن استبطن دخائل العلم وغاص في أسراره واستجلى غامضه، واستخرج مخبأه، وأحاط بأصوله وفروعه، وشهد له العلماء بذلك وهو لايزال مع والده.

يقول مريده الشيخ محمد العاقب بن مايابى :” ولما قرأ جميع المتون وتفنن في العلم، انتصب للإقراء والتعليم بحضرة أبيه.

وقد ساعده على التبحر في العلم ذكاء حاد، وذهن موقد وذاكرة قوية، فقد كان رحمه الله حديد الفهم سريع الحفظ ملتهب الذكاء، يقول عنه مريد والده العلامة محمد فاضل بن الحبيب اليعقوبي ما نصه: “ومما شاهدته فيه-يعني الشيخ ماء العينين- من سرعة الحفظ وجودة الفهم ووعي العلم ما شاء الله لا قوة إلا بالله رأيته كتب عشرين قفا من ابتداء ثمن المختصر الأخيرإلى منتهى أحكام الحدود عند ابتداء أحكام العتق وحفظه في يوم واحد، وكتب من الغد آخر الكتاب وحفظه أيضا ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

عقب الشيخ محمد العاقب بن مايابى على ما ذكر محمد فاضل بن الحبيب اليعقوبي قائلا:” فعلى هذا يصح أن يستكمل المختصر في مقدار ستة عشر يوما، فتبارك لله وأحسن الخالقين، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذه هي الأذن الواعية الحافظة لما تسمع.

ومن المعلوم عند طلبة العلم أن أسلوب مختصر خليل معقد صعب الحفظ. فالأذكياء النجباء من أجاود الطلبة في بلادنايحفظون متنه خلال سنة، أما غيرهم من المتوسطين فلا يمكنهم حفظه إلا خلال أربع سنوات.

وعن سرعة حفظ الشيخ ماء العينين يقول مريده العلامة الفقيه الشيخ محمد عبد الله بن تكرورالموسوي اليعقوبي:” أنه قرأ تفسير نظم سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم “مراقي السعود” و”الجوهر المكنون” كليهما في بعض يوم ويوم كامل وبعض ليلة، وذلك أنه ابتدأ في قراءة هذه الكتب بعد عصر يوم الأربعاء ومكث آخر النهار ويوم الخميس وبعض ليلة الجمعة فأتمها حفظا ليلة الجمعة. ويقول تلميذه السالف الذكر وكانت تخرق له العادة في حال تعلمه خرقا عجيبا.

وهناك شواهد كثيرة تثبت تميز الشيخ ماء العينين وسرعة حفظه وسعته… يرجع إليها في مظانها لمن أراد الاستزادة من ذلك

 

منهج الزاوية المعينية

خرج شيخن الشيخ ماء العينين بعد أن أتم تكوينه العلمي والروحي، الشيء الذي دفع بوالده إلى فك الحجر عنه على طريقة الصوفية فأرسله قائلا: يا بني، لم يبق لك حق علي.

ففارق والده وهو شيخه الوحيد في العلوم والتربية سنة 1274ه قاصدا الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، وأثناء هذه الرحلة زار العديد من المدن المغربية الكبرى، فحز في نفسه ما لاحظ من تنافر واختلاف بين الطرق الصوفية السنية، هذا لكونه أثناء تلقيه للطريقة الفاضلية عن والده لم يكن يرى عيبا في تعدد الأدعية وتنوع الأوراد والعبادات التي تقوم عليها الطرق مادام مصدرها الكتاب والسنة، بل وكان يعتقد أن هذه الطرق واحدة، ولا غرابة في هذا ما دام هذا المعتقد من بين المبادئ الأساسية التي تنبني عليها الطريقة الفاضلية. ولهذا لم يدرك خلاف ذلك إلا بعد مفارقة شيخه، ولهذا يقول:” فوالله ماكنت أظن إلا أن طرق أهل الله شيء واحد…..حتى خرجت من عنده، وأتيت البلاد غير بلده، إذ بالناس كأنها- أعوذ بالله- أهل ملل متفرقة، وأهل طرق مختلفة”[1].

وشعورا منه بالخطر الذي يجره هذا الخلاف الموجود بين الطرق الصوفية السنية، لأن كل واحدة منها يدعي أصحابها أنها هي الطريق الموصل إلى الله جل جلاله، أراد أن يوضح لهم موقفه الديني من الطرق بصفة عامة، وأن الطريق إلى الله تجمع كل المسلمين وتوحدهم وتنبذ تفرقهم، وأنها ليست في سلوك فلان وأصحابه، أو ذلك وأتباعه إنما هي بالورع والصدق والتصديق والزهد في الدنيا وترك الاشتغال بها حتى لا تصده عن عبادة الله، فاستغل الشيخ ماء العينين جميع وسائل الاقناع في حث مشايخ الطرق على نبذ الخلافات التي أنهكت جسم المجتمع الإسلامي آنذاك وأثناء هذه المحاولات ما ناصب أحدهم عداءان ولا وجه إليه لوما بل حاول إرجاع كثير من تصرفاتهم للكتاب والسنة ليبين لهم وبنفس تلك النصوص أيضا أن الاختلاف لا يرضي الله و رسوله فإذا كان هدف هذه الطرق هو تطبيق شرع الله على عباده فأول واجبات ذلك هو توحيد جماعة المسلمين في كل مكان وأن يتركوا عنهم التعصب لشيخ دون شيخ، ثم إذا كانت الطرق ستجر إلى خلاف شريعة الله، وتفريق صف المسلمين، فحربها حينئذ أكد من أتباعها.

أما عن المنهج الذي سلكه الشيخ ماء العينين في معالجة هذا المشكل أي مشكل الخلافات بين الطرق فقد استطاع أن يصل إليه بفضل التربية الروحية والعلمية التي تلقاها عن والده مؤسس الطريقة الفاضلية، والتي انخرط فيها منذ صباه، والتي أثرت في تكوينه الفكري والروحي تأثيرا كبيرا جعلت منه مصلحا ذو مميزات خاصة، ولهذا فمبادئه الوحدوية مستوحات من هذه الطريقة التي يمكن إجمالها في ما يلي:

النقطة الأولى

  • عدم جواز التفريق بين الطرق الصوفية السنية

لم يكن شيخ هذه الطريقة -أي الشيخ محمد فاضل- يفرق بين الطرق الصوفية السنية، فلم ينسب إلى طائفته أي تعصب مذهبي، أو تحجر طرقي، ولم يشع عنها أي عداء لغيرها من الطوائف المزامنة لها، بل تميزت بالتسامح والمرونة الصوفية، فكان شيوخها يعترفون بفضل جميع الطرق، ويحترمون شيوخها وآدابها وطقوسها، ويعتمدونها في تربية أتباعهم وتكوين مريديهم.

ولهذا تربى الشيخ ماء العينين في حجر والده تربية صوفية، وهو يعتقد أن الطرق الصوفية واحدة، ولا تناقض ولا اختلاف بينها.

النقطة الثانية:

  • إعطاء أوراد جميع الطرق السنية

إذا كانت الفاضلية تجمع بين طرق الأولياء، فإن شيوخها كانوا يمنحون مريديهم كل ما يطلبون من أوراد، ويرغبون فيه من أذكار، دون أن يلزموهم باتباع طريقة محددة، أو يفرضوا عليهم التقوقع داخل طائفة معينة، وهم ينطلقون من تصورات تربوية واضحة، ووعي صوفي شامل يقوم على الإلمام بأصول جميع الطرق، ومعرفة أسانيدها وآدابها، وأورادها وشيوخها وكيفية التربية بواسطتها، وغير ذلك مما يساعدهم في إصلاح المجتمع وتهذيب أفراده كيفما كانت ميولهم الصوفية وتوجهاتهم الطرقية[2].

ولهذا نجد الشيخ ماء العينين يضع من بين شروط الولي الكامل قبل أن يتولى إرشاد الخلق، أن يكون جامع بين الحقيقة والشريعة، ثم لا يصح له أن يكون مرشدا إلا بعد “أن يعلم الطرق الموصلة إلى الله كلها، ويكون عارفا بأصولها وقواعدها المبنية عليها الفروع، ليكون كلما جاءه فرع عرف منشأه من الأصل، ورده إليه ليعلم ما يصلح بصاحبه وما يصلحه، وإلا فهو ناقص…إذ الكامل حقيقة هو النائب عنه صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يكون إلا إذا كان نائبا عنه في جميع أحوال الأمة وأقوالها وأفعالها بعلمه ما عند أولياءها وعلماءها واقتداءه بمن يقتدى به من رجالها”[3].

ثم يقرر الشيخ ماء العينين بعد ذلك أن على الولي أن يقتدي بجميع الأولياء فيما كانوا فيه من الأوصاف والأذكار وأنواع العبادات حتى يصير نائبا عنهم جميعا. فمن وجده يستغني به عن غيره، ولن يتأتى له ذلك حتى تكون عنده أورادهم جميعا “أما الاقتصار على ورد واحد مثلا، أو خاصية واحدة لا تكون أبد”[4]

ونلمس تطبيق هذا المبدأ -أي إعطائهم لأوراد طرق مختلفة لمريدهم في قول الشيخ ماء العينين: “إني لما تفضل الله علي بأوراد الأولياء المروية عن خير الأنبياء، عن شيخي أبي قرة عين الأصفياء، وأعطاني الإذن في إعطائها لمن شاءها من أولياءها، صار من لم تكن له خبرة باتحاد طرق أهل الله يتعجب من ذلك ويقول: سبحان الله فلان يعطي الطريقة الفلانية ويعطي الطريقة الفلانية، أهذا يمكن؟ مستفهما. وبعضهم يقول: هذا لا يمكن منكرا.[5]

والأوراد التي يلقنونها هي الأوراد القادرية والناصرية والشاذلية والتيجانية، ثم إن كل الطرق ينتهي سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه رضي الله عنه أن قال: خذ عن فلان ولا تأخذ عن فلان[6]. وهذا يبين أن لا تحجير شرعي على أحد في أن يأخذ أي ذكر شاء من أي شخص شاء، والتحجير الذي يمارسه بعض شيوخ التصوف في منعهم أخذ ذكر على ذكر آخر، أو إعطاء شخص لأوراد مختلفة لا أساس له من الشرع، لأنه لو أعطى الله لشخص قوة على استعمال جميع الأوراد، فلا دليل شرعي لأحد على منعه منها[7].

فما دام الأمر هكذا، فالشيخ ماء العينين يرى أن الجمع بين هذه الطرق أو لنقل توحيدها واجب لأسباب عدة من بينها:

  1. أن هدف هذه الطرق وكذا أصلها واحد

يرى الشيخ ماء العينين أن طرق الصوفية واحدة، وليس فيها طريقة أولى من طريقة، أو شيخ أفضل من شيخ، أو ذكر أفضل من ذكر، ماداممنطلقها واحد، وهدفها واحد، وفي هذا يقول:

وانظر لمبدا طرق والمنتهى          تعلم لما قلت بما قد يشتهى

وقال أيضا: “الطرق وإن تعددت واختلفت مرجعها كلها لأمر واحد: هو الفناء في مشاهدة الله، والنظر إليه عن كل ماسواه”[8]. وفي هذا يقول صاحب الضياء المستبين في معرض حديثه عن الصوفية: “ولهذه الطائفة طرق مختلفة كلها موصلة إلى الله تعالى، وإنما الاتحاد بينهم في المقصد والمبدأ والمنتهى، فالقصد الوصول إلى الله تعالى لا غير، والمبدأ التوجه إليه بالعزم التام والهمة النافذة، والصدق في الطلب، بأن يكون مقصده أعز عليه من الدنيا والآخرة وأهليهما، يُبيد في جنب مقصده نفسه وماله وأهله. وأما المنتهى فهو الفناء في شهود ذات الله تعالى عن شهود غيرها، وبعبارة: هو الاطمئنان المعبر عنه بترك النفس لطبعها الشهواني، ونسيانها لحكم أصلها، مع عمارة الباطن بالشهود الإلهي”[9]

  • اختلاف النفوس في طبائعها ووسائل تربيتها

إن ما يبدو من خلاف بين الطرق فمرجعه إلى اجتهاد المربين، وطريقة كل واحد منهم في التربية، واختلاف نفوس المريدين وتعدد مستوياتهم ومراتبهم في السير والسلوك[10].

وقد بين الشيخ ماء العينين ذلك في قوله:” الأوراد منها ما هو كثير ومنها ما هو قليل، ومنها ما هو متوسط، بين الكثرة والقلة، إلا أنه ربما كان كثيرا في حق شخص، قليلا في حق آخر، ومنها ما هو في وقت واحد. ومنها ما هو في وقتين، ومنها ما هو في الأوقات كلها، والأشياخ رضي الله عنهم كل واحد منهم عمل على ما اقتضاه رأيه وما سنح له مما يليق بمن تبعه، وربما أعطى الواحد منهم للمريد أولا قليلا من الأوراد، ثم بعد ذلك يصير يزيده شيئا فشيئا حتى يعطيه أكثر بحسب قوته، ولم يبلغنا أن أحدا منهم قال لمريده: خذ هذا الذكر أو هذا العدد لا تزد عليه غيره من العبادات، بل كانوا يأمرونهم بكثرة ذكر الله وكثرة نوافل الخير”[11]

  • اتفاق شيوخ الطرق على الطاعات التي أمر بها صلى الله عليه وسلم

قال الشيخ ماء العينين:

وهو عليه الله صلى أمرا         بالذكر والتقى وإخلاص جرى

يشير الشيخ هنا إلى كون النبي صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث النبوية أمر بذكر الله والتقوى والإخلاص في جميع الطاعات، إلا أنه عليه أفضل الصلاة والسلام لم يأمر بأن يكون الذكر بطريقة معينة، أو إتباع شخص معين في طريقته، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن هذه الأمور الثلاثة- الذكر والإخلاص والتقوى- أمور تتفق عليها جميع الطرق، فمادام الأمر كذلك فهذا دليل على أن الطرق واحدة.

  • كمال الولاية في اتباع الشريعة الاسلامية

جميع الأولياء بدون استثناء يأمرون مريديهم باتباع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وفي هذا يقول ماء العينين ابن العتيق:” واعلم أن طرق الأولياء كلها لا تخرج عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خرج عنها فهو ضلال وزندقة”[12]. وهذا يبين -كما يقول الشيخ ماء العينين- أن طريقهم طريق واحدة في المبدأ والمنتهى، ومن قال أنهم يقولون غير ذلك فقد افترى عليهم الكذب، ونسبهم لغير ما تكون  به الولاية وهو الطاعة، والطاعة لا تكون إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، لأن الولي من والى الطاعات، ولم يخللها بمعصية”[13].

فإذا ثبت أن طريق الأولياء لا تخرج عن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من المستحيل وجود ولي يحاول تجزيء أقوال النبي صلى الله عليه وسلم أو أفعاله أو تقريراته، فيأمر مريديه باتباع البعض منها وينهاهم عن اتباع البعض الآخر، لأن حال من يفعل ذلك أشد ممن يفرق بين الرسل، وفي هذا قال الشيخ ماء العينين:

ومستحيل أن يقول اتبعا    منه لذا وذا له لا تتبعا

وذا الذي يقول ذا أشد من    تفرقه الرسل فافهم يا فطن

لأن ذاك بين قوم فرقا     ورام ذا تفريق شخص حققا

ومن خلال ما سبق تبين لنا أن الشيخ ماء العينين حاول جهده الجمع بين الطرق بعد أن بين أن طرق الأولياء كلها وإن تعددت إنما هي في الأصل طريقة واحدة، وهي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فطريقته هي كما يقول صاحب سحر البيان: “اعلم أن طريق شيخنا رضي الله عنه في التصوف هي طريقة أبيه الشيخ محمد فاضل بن مامين، وتلك هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ورد بها الكتاب والسنة”[14]

وفي كل ذلك كتب رضي الله عنه:

إني مخاو لجميع الطرق       أخوة الإيمان عند المتقي

ولا أفرق للأولياء         كمن يفرق للأنبياء

قال تعالى: المؤمنون إخوة         وعدم التفريق فيهم أسوة

انتشار الزاوية المعنية في المغرب

لا يخفى على أحد الحظوة الفائقة التي نالها الشيخ ماء العينين من لدن سلاطين المغرب، وكبار رجالات الدولة، ودور المخزن في نشر الأفكار الصوفية التي نادى بها الشيخ، في سائر نواحي البلاد. ومما نستهل به حديثنا في هذا الموضوع الاتصالات المكثفة بين الطرفين، والتي لم تنقطع أبدا، وفي هذا الصدد يذكر أن أول اتصال لهذا الرجل بالسلاطين العلويين كان قبل نزوله بالسمارة، وذلك أثناء رحلته الحجية، وعمره لم يتعد 28 ربيعا.

وخلال تلك الرحلة تلقاه سلطان المغرب يومئذ مولاي عبد الرحمن بن هشام، وخليفته في مراكش الأمير سيدي محمد بن عبد الرحمن، بإجلال عظيم وإكرام لا نهاية له، ومنحاه منحا عظيما، سهلت عليه مهمة السفر إلى المشرق في الذهاب، وإلى الصحراء في الإياب[15]، علما أن الشيخ ماء العينين لم يكن مقيما في الساقية الحمراء، لأن ذلك لم يحدث إلا في عهد مولاي الحسن الأول.

وعندما انتقل الشيخ إلى أرض الساقية حقق شعبية واسعة في أوساط الصحراويين، واهتم به سلاطين المغرب اهتماما بالغا. وفي هذا الصدد كتب مختار السوسي:” فقد كان السلطان مولاي الحسن، منذ لفت وجهته السياسية إلى الصحراء يوالي عليه الإعانات التي لا انقطاع لها، ويقصد بذلك ما يقصد السياسيون في مثل تلك الاحترامات.

وفي العهد العزيزي كان للشيخ عدة أسفار إلى الحكومة، بلغت سبعة. وقد وصلت درجة احترام الشيخ ماء العينين في العهد العزيزي، ولاسيما في أيام أحمد بن موسى مقاما لا مزيد عليه….

ولم يقتصر اهتمام رجالات المخزن العلوي بالشيخ ماء العينين، على حفاوة الاستقبال، وكرم الضيافة وبذل الصلة وإنما تعدى ذلك كله إلى الانخراط في واتباع الشيخ في طريقته وأوراده. وفي هذا الاطار يقول المختار السوسي حدثنا الحاجب السيد محمد الحسن بن إدريس بن يعيش، الذي هو من أتباع الشيخ قال: “إن والدي القائد إدريس بن يعيش أخذ عن الشيخ ماء العينين في وفدته الأولى على الملك مولاي الحسن 1304ه وذلك في مراكش”[16].

وتتميما لذلك أمر السلاطين ببناء زوايا للشيخ ماء العينين، وعينوا لذلك أهم المدن المغربية وأكبرها. وفي هذا الصدد يقول الكاتب السلطاني الحسن بن الطيب بن اليماني بو عشرين مؤلف التنبيه: “كان للشيخ ماء العينين زاوية كبيرة بهية بمراكش في حومة القنارية، كان وعده بها أمير المؤمنين مولاي الحسن الأول رحمه الله ولم تتيسر على يده، ثم تيسرت على يد نجله أمير المؤمنين مولاي عبد العزيز، بواسطة الوزير أحمد بن موسى. وأقام السلطان للشيخ زاوية أخرى في حومة الطالعة بمدينة فاس كما أقام له المخزن زاوية أخرى برياض الزيتون، وهناك أخرى بمكناس ردتها حكومة الاحتلال الفرنسية مركزا للبريد.

وإلى جانب هذه الزوايا معلوم أن مولاي عبد العزيز هو الذي بنى للشيخ ماء العينين زاويته الكبرى بالسمارة، فوجه العملة والمعلمين والياجور والخشب عبر صويرة ثم الطرفاية (بالإضافة إلى زوايا عديدة بناها مريدوه في شتى أنحاء المغرب لازالت ناطقة إلى اليوم).

كل هذه المعطيات تحيلنا إلى المكانة التي حظي بها الشيخ ماء العينين من لدن أولي الأمر في البلاد والمغاربة بشكل عام، ولا أقف هنا على الدور الذي لعبه الشيخ في دفاعه المستميت ضد الأطماع الاستعمارية فحسب فكل هذا التمكين كان عن طريق سن الشيخ لطريقة صوفية تحمل من الخصائص ما جعلها قريبة من أهداف السلطة، مقبولة من لدن العلماء والصوفية باختلاف طرقهم وتياراتهم، محبوبة من لدن المتشوفين إلى التصوف بشتى نزعاته، -ولقد أسلفنا الذكر عن خصائص طريقته.

فإذا كانت السمة المميزة في دعوة المؤاخاة هي الإلحاح على احترام كافة النزعات الصوفية، فإن القصد من تلك الدعوة لم يكن محصورا في تحقيق الأخوة بين الصوفية بقدر ما كانت لها أبعاد وحدوية أكبر، الهدف منها تجاوز الخلافات الهامشية بين شيوخ التصوف، وهم من كبار المؤطرين للشعب يومئذ، وتوحيد الجبهة الداخلية وراء العرش العلوي لمواجهة الخطر الإمبريالي.

في الختام لابأس من الوقوف على واقع عاشه الشيخ ماء العينين من حسد المعاصرين وهذا سأظهره من خلال هذه الواقعة.

يقول ول محمد خوية في مديح الشيخ ماء العينين وكان ذلك إبان غزي لركاب سنة 1905 الذي قاده الشيخ ماء العينين ومعه زعماء قبائل المنتبذ القصي وقبائل الصحراء طالبين العدة والعتاد من سلطان المغرب المولى عبد العزيز بن الحسن الأول وفدوا عليه في فاس وكان الوفد كبيرا يناهز الألف وفيه محمد خوية وقال:

هذان كاعد بين أيديك==حجبل يا الشيخ علية

من لحجاب لنعرف فيك==عن ذاك لتعرف فية

الناس التل تكول السلطان ==يهديلكبنواع الحيوان

وأنك ذاك مركبلك شان==كذبت ذي الناس التلية

السلطان عطاك القرآن==عطاك خليل وللفية

عطاك المنطق والبيان == دار فكلبك زين النية

وساك تكسم مية عنان == وساك أولى من لوليا

هذا يعطيه اللا سلطان == حك وسلطان العطية

مانك من لشياخ لي يزل == يا الشيخ ولفظك ماينثل

ولا نك من لشياخ لي يمل == مرة وتجرو نفسية

مساوي عندك مية يبل == فالمعطة هي ووكية

ودل على السترة ودل == زاد على المحمدية

يا خاتم لوليا ياول == ملي خاتم لنبيا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

[1]مفيد الراوي على أني مخاوي للشيخ ماء العينين 43/44

[2] الحركة الصوفية وأثرها في أدب الصحراء المغربية، محمد الظريف ص117

[3] مفيد الراوي على أني مخاوي66

[4] المصدر السابق

[5] مفيد الراوي ص42

[6] الشيخ ماء العينين وجهاده ص106

[7]مفيد الراوي60-63

[8] نعت البدايات وتوصيف النهايات لشيخن الشيخ ماء العينين ص 12

[9] الضياء المستبين بكرامات الشيخ محمد فاضل بن مامين لشيخ محمد فاضل بن لحبيب اليعقوبي ص125-126

[10] مفيد الراوي مقدمة المحقق ص 12-13

[11] المصدر السابق

[12]سحر البيان في شمائل الشيخ ماء العينين الحسان لماء العينين ابن العتيق ص86

[13] مفيد الراوي ص55

[14]سحر البيان ص 84

[15] المعسول للمختار السوسي الجزء 4/ص96

[16] المصدر نفسه ج5/ص93.

_____________________

*نقلًا عن موقع “الشيخ ماء العينين”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى