مشاهد ومراقد

التكايا الصوفيَّة..ملاذ المتنسِّكين ومجالس علم وأذكار

غازي كشميم

التكايا الصوفيَّة..ملاذ المتنسِّكين ومجالس علم وأذكار

غازي كشميم

كان درويشاً يتنقل من مدينة إلى أخرى، لم ينم في مكان واحد أكثر من مرة ولم يتناول طعاماً من الصحفة ذاتها مرتين متتاليتين.

طاف شمس الدين التبريزي أرجاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً “بحثاً عن الله في كل مكان”، فمن سواحل البحر الأسود إلى مدن فارس، ومن بوادي آسيا الوسطى المترامية إلى حواضر العالم العربي، يبيت في خانات ونزل مختلفة، ويحطّ رحاله في تكايا وزوايا مختلفة يناقش شيوخها ويذكر الله مع الذاكرين.

لكن تكية من تلك التكايا كانت ملجأ لعابري السبيل والعبّاد من المتصوفة، وجّهت دروبه الجغرافية والروحية لاحقاً، وعرفته على توأم روحه ورفيق دربه الشاعر والصوفي الكبير جلال الدين الرومي.

فمن رؤيا رآها أو “نداء روحاني جاءه” وهو في تجواله الدائم حول المدن، أمّ التبريزي “تكية بغداد”، والتقى شيخها -كما تروي صاحبة “قواعد العشق الأربعين” أليف شفق- ومكث بها مدة من الزمن حتى أرشده إلى الرومي المقيم في قونيا.

ومن تلك التكية، انطلق شمس وراح يبحث عن رفيق له يورّثه معارفه، ويحكي له تجارب رحلاته الممتدة التي حفرت في روحه مبادئ “الصوفيين المتجولين”.

غادر “الصوفي الجوال” تكية بغداد متوجهاً إلى قونيا (وسط الأناضول) ليلتقي بعدئذ بـ”مولانا” جلال الدين الرومي، ويكتبا “دستور العشق الإلهي” أو قواعد العشق الأربعين”، كما يترنم بها الصوفيون، وأنشئت إثر ذلك التكية المولوية في قونيا وامتدت فروعها في العالم الإسلامي، حتى وصلت إلى إسطنبول وطرابلس لبنان والقاهرة ودمشق.

لم تكن تلك التكية الوحيدة في العالم الإسلامي، فقد انتشرت التكايا في العصر السلجوقي وازدهرت أيام العثمانيين، وكانت من أهم المعالم والمدارس الدينية التي تؤوي الدراويش من أتباع الطرق الصوفية ومريديها.

 

بداية التكايا

ويرجع بعض الباحثين لفظ “التكية” إلى الاتكاء والراحة من الأسفار أو اتكاء الصوفية ومنتسبي تلك الأماكن على الله بعد أن توكلوا عليه، فيجدوا فيها رزقهم ومعاشهم وسكنهم، حتى ارتبط مفهومها لدى الناس بدخول كل فقير وغريب ومضطر ليجد فيها راحته وطعامه ومنامه بيسر وسهولة، إلى جانب نفحات روحانية تهبّ عليه من العبّاد والمنقطعين للذكر.

تعدّ التكايا النسخة المزدهرة من الطرق الصوفية التي تعزى نشأتها إلى العالم عبد القادر الجيلاني، صاحب الطريقة القادرية الجيلانية (471ـ561هـ)، تلتها أخواتها كالرفاعية والشاذلية والمولوية وغيرها من الطرق التي تعددت وتكاثرت.

ويرجع متخصصون في العمارة الإسلامية أصول التكايا إلى ما كان يعرف في العصر الأيوبي والمملوكي بـ”الخانقاه” وهي مدارس نظامية كان يتولى مشيختها كبار العلماء والفقهاء وتمنح الدارسين إجازات علمية، ثم أقيمت التكايا التي كانت زاخرة بمحاضرات الوعظ والإرشاد وحلقات الذكر من غير التزام على المقيمين فيها.

وعندما بدأ حكم العثمانيين، اعتمد سلاطينهم على دعم دراويش التكايا عسكريا أثناء محاولتهم بسط سيطرتهم على مناطق مختلفة من بقايا حكم السلاجقة، في مقابل استقطاع أراضٍ وهبات تخصص للتكايا حتى تأسست فكرة رعاية التكايا وحمايتها من قبل السلاطين العثمانيين.

وقد شرع السلطان محمد الفاتح -الذي كان أحد أتباع الطريقة البيرمية- وابنه بايزيد كل الأبواب في إقامة التكايا، وأصبحت بشيوخها ودراويشها مكملة للمدارس ومعلميها، حتى بلغ عدد الطرق الصوفية في ذلك الوقت 37 طريقة يتمركز نحو 20 منها في اسطنبول، تمثلها نحو 300 تكية موزعة في أنحاء المدينة وضواحيها.

تبع ذلك ازدهار للصوفية وأتباعها، فتعددت طرقها وانتشرت تكياتها، وكان كثير من المسلمين مرتبطين بالتكايا إما دراويش فيها أو محبين لها.

 

أشهر التكايا

تنتصب تكية “خان غلطة” أو “خان المولوية” في إسطنبول باقية آثارها حتى اليوم، وهي أقدم تكية أُنشئت في المدينة عام 1491، شُيّدت لتكون تجمعاً للمولوية (نسبة إلى مولانا جلال الدين كما يطلق عليه الأتراك)، ومركزاً لإحياء احتفالاتهم وفعالياتهم الدينية، ثم أصبحت بعد ذلك متحفا للأدب العثماني.

يعيدك المتحف إلى زمن الدراويش حيث تعرض فيه ملابسهم وأدواتهم الموسيقية التي استخدموها في عزف الأناشيد والابتهالات الصوفية، وتُنظم فيه باستمرار رقصة “السما” التي تنسب إلى الرومي ويقول آخرون إنها من ابتكار أتباعه.

ولا تزال التكية أو الزاوية النقشبندية من أهم معالم القدس العثمانية، ويطلق عليها أيضاً الزاوية الأوزبكية أو البخارية نسبة إلى القائمين عليها، وكانت تستضيف أسبوعياً أهالي القدس والزائرين للمدينة على موائد مجانية، كما كان يتوافد عليها زائرون من تركيا وأوزبكستان وأفغانستان، إلى أن اضمحلّ عدد الزائرين بعد نكسة 67 بسبب إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، واتخاذ الأوقاف الإسلامية الزاوية وقفاً خيرياً عاماً.

كما تبرز تكية “خاصكي سلطان”، بالبلدة القديمة شرقي القدس، كتكية ما زالت تقوم بدور من أدوراها إلى اليوم، بعد أن بنيت في بداية العهد العثماني لتوزيع الطعام على الفقراء والمساكين وطلاب العلم والزائرين للقدس.

وقديما كانت التكية تقسم إلى مطبخ وصالة لتقديم الطعام ومكان لمبيت الحجاج وطلاب العلم ومدرسة لتعلم العلوم الشرعية، أما الآن فهي مكان لتوزيع الطعام فقط.

وفي دمشق تبرز التكية السليمانية التي أمر ببنائها السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1554، وأشرف على بنائها المهندس الشهير معمار سنان، إلى جانب المهندس الدمشقي شهاب الدين بن العطار.

ويروى أن بناءها ارتبط ببناء جامع السليمانية في إسطنبول الذي أمر ببنائه القانوني بعد رؤيا رآها للنبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام؛ يشير إليه ببناء مسجد في المكان الذي شيد فيه الجامع، وعمّر إلى جانبها مدارس ومستشفى ودكاكين.

وفي قاهرة المعز تتعدد التكايا والزوايا مثل التكية السليمانية والتكية الرفاعية، وتعد التكية المولوية وسط القاهرة من أهمها، وقد أقامها أتباع الرومي الذين قدموا من قونيا إلى القاهرة.

واشتهرت في بغداد الرشيد التكية الخالدية نسبة إلى الشيخ خالد النقشبندي التي أسسها في القرن الـ19، وكانت قبلة للطلاب والعلماء حتى بلغت صيتاً واسعاً.

 

وصف التكية

تتألف عادة التكية ذات الطراز العثماني من حرم للصلاة، وباحة واسعة لتأدية الرقص الصوفي، تحيط بها أروقة وغرف للمريدين والأتباع وأخرى لتحضير الطعام، وقد تضم في جنباتها مقامات وأضرحة لأبرز شيوخها.

لم يقتصر دور التكايا على العبادة وإيواء الهائمين وعابري السبيل، بل امتد دورها إلى الأدب والشعر، وكانت ساحات للتباري في المدائح النبوية والقصائد الدينية، كما ضمت بين جنبات بعضها خزائن للكتب والمخطوطات.

وكانت تعقد في عدد من تلك التكايا والزوايا مجالس لمناقشات علمية وتبادل للآراء خاصة حين يزورها علماء من بلاد مختلفة.

وإلى جانب التزود العلمي، كان للتكايا دور في تهذيب نفوس مريديها وربطهم بالأوراد والأذكار والترقي الروحي.

وكانت التكايا ملتقى مشايخ التصوف وعموم الناس من مختلف الشرائح، ونقل هؤلاء إلى ذويهم ما سمعوه وشاهدوه في هذه التكايا من عبادة وأذكار ووعظ وغيره، وبذلك استطاع التصوف التغلغل في المجتمعات بكفاءة عالية، وهو ما بسط سلطة شيوخ التصوف الروحية.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن للتكايا دورا في مواجهة تحديات الحياة حين كان يلجأ إليها من يصابون بعاهات نفسية وعصبية وعقلية نتيجة ما أصابهم من بلايا ورزايا أو كوارث طبيعية، فكانت تلك التكايا كالمستشفيات والمارستانات للتداوي والعلاج الروحي والنفسي.

وهكذا كانت تلك التكايا صدى لأصوات الذاكرين ومنارا لدروب السائرين؛ سواء لمن ضاقت عليهم الأرض فافتقروا أو ضاقت عليهم أنفسهم فاضطربوا، ولاذوا بتلك التكايا يستريحون من رهق الحياة ويتخففون من وعثائها أو يغسلون عنهم أدرانها التي علقت بهم وهم في طريقهم “للبحث عن الله”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى