في حضرة الشيخ الأكبر
المرقد وخواص المكان والمكانة
أ.د. جعفر نجم نصر
على سفح جبل قاسيون يقع مرقد الشيخ محي الدين بن عربي في صالحية /دمشق الذي يضم جثمانه الطاهر وجثمان ولديه (سعد الدين وعماد الدين )رضوان الله عليهما..فالشيخ بعد رحلاته وأسفاره الكثيرة أستقر به المقام في دمشق،وتحدث كثير من الباحثين والمؤرخين عن ذلك فكلود عداس تقول :لقد قرر ابن عربي بعد ان جاب الشرق خلال مدة تمتد على عشرين سنة ، وعمره الان ستون عاما ان يستقر في سوريا .ولايقدم لنا ابن عربي اية اجابة عن السبب الذي جعله يفضل الشام على مصر التي اختار الاستقرار فيها عدد كبير من المغاربة ومن بينهم متصوفة..!!؟.
مما ينبغي التركيز عليه هنا أن ابن عربي قد مكث في دمشق اكثر من ثمانية عشر سنة اي منذ ٦٢٠هجرية الى سنة ٦٣٨هجرية اي الى يوم رحيله..وهذا الامر غريب للغاية لشخص مثل بن عربي الذي استمرت رحلاته بين المغرب والمشرق وخارجهما سنيين طوال ..!!.
لعله ليس بالامر الجديد الكتابة عن اسباب ذلك من خارج تجربة بن عربي نفسه..اي اعتماد تفسيرات اجتماعية على اعتبار ان الاتباع والمريدين لديه هنا(في الشام ) هم بعدد هائل وضم فقهاء وقضاة من شتى المذاهب الاسلامية انذاك ،.. وسياسية لان الامراء الايوبيين كانوا على صلة وطيدة بالشيخ الاكبر ..بل كان الملك المظفر ابن الملك العادل مريدا واجازه الرواية عنه.. وبيئية (لطيب مناخ دمشق)..ولاسباب ذاتية تتصل ببنية جسد الشيخ الاكبر التي تعبت وبدت تظهر عليه علامات الشيخوخة ونحو ذلك..يضاف الى ذلك ان المناخ الديني انذاك كان متسامحا وهذا ما انعكس على سلوك الناس عامة انذاك ..فضلا عن الاسباب الدينية التي تتصل اتصالا وثيقا بقدسية ارض الشام وهذا ما اتفقت عليه مرويات كثيرة جمعها بالتفصيل تاريخ ابن عساكر ..وغيره الكثير من المصادر…
ولعل كل هذه الاسباب ممكن ان تكون مقبولة ونحن نتحدث عن فقهيا معينا او مؤرخا ما يطيب له المكوث والمقام في ارضا معينة لكل هذه الاسباب مجتمعة…ولكن ان تنطبق على شخص الشيخ الاكبر هذا امر محل نظر .ولعل هذه المسوغات التي اتفق على ايرادها الكثير من المؤرخين القدامى والباحثين المحدثين أسين بلاثيوس وكلود عداس ومحمود الغراب ومحمد علي الحاج يوسف وغيرهم الكثيرون..ممكن ان تكون تحت مظلة النقاش لا تصمد كثيرا مادامت ارض المغرب بوجه عام عامرة انذاك ..بل وكانت ارض المتصوفة والعرفاء في عصر استقرار بن عربي بالشام..بل ان قونيا وملطية كانتا مكانين يمكن له الاستقرار والمكوث في احدهما ..وحتى ارض بغداد التي مر بها في احدى اسفاره وقبلها الموصل التي عبرها قادما من ارض الترك..
واما بالنسبة للمرويات الدينية عن قدسية ارض الشام فقد ردت من قبل كثيرين من الباحثين ..فهذا الشيخ الازهري محمود ابو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)..تحدث عن الاسرائيليات وعن دور بني أمية ابان عصر معاوية ومن تلاه في الحكم ..والذين بالغوا وزيفوا ووضعوا مرويات لايقبلها العقل في مدح هذه الارض..ودعم ابو رية في مراجعاته وانتقاداته تلك الدكتور محمد حسين الذهبي الشيخ الازهري ووزير الاوقاف الاسبق عندما قدم رؤيته النقدية المماثلة في كتابه(الاسرائيليات في التفسير والحديث)..
ولكن وعلى الرغم من ذلك الا اننا نضع معيارا لقبول بعض الاحاديث الخاصة بقدسية ارض الشام مكون من عدة مركبات تتمثل في:
اولا: ان الرواية التي تذكر بمصادر متعددة وتقترن بالذاكرة الدينية قبل معاوية والامويين..امثال الاحاديث الموثقة عن قدسية جبل قاسيون وما فيها من مقامات لاغلب الانبياء..لاسيما ما يتصل بمغارة الدم موضع قتل قابيل لهابيل وموضع تعبد نبي الله ابراهيم (عليه السلام )..ومقام الخضر (عليه السلام)..يضاف الى ذلك بعض المقامات المثبت قدسيتها من قبل محئ الامويين واستيلائهم على الشام تعد روايات مقبولة بنظرنا..
ثانيا: ان هنالك اتفاق بين المذاهب الاسلامية الخمسة على ان ارض دمشق هي محل نزول نبي الله عيسى(عليه السلام) ضمن خارطة العالم الديني الجديد..وهذا يبين مصادقية بعض تلك الروايات لاتفاق المذاهب كافة حول ذلك ..
ثالثا:قدسية ارض الشام امر ساري فعلى وفق اشارات بن عربي ..انه لا تخلو اي بقعة من الملائكة المكرمين او الجن الصادقين فضلا عن وجود الانبياء وكبار الصلحاء ممن يعمرون المكان بدوام تعبدهم ..وهذا ما اشار له في كتابه الفتوحات المكية بقوله(…ان ذلك من اجل من يعمر ذلك الموضع،اما في الحال من الملائكة المكرمين او من الجن الصادقين ،واما من همة من كان يعمره..).
رابعا: ورد عن الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) انه قال:الابدال في الشام ..وذلك بعد ان سب بعض الاصحاب اهل الشام اثناء قتاله مع معاوية ..ولقد اتفق السنة والشيعة على ان الابدال في الشام ..بل واكد هذا الحديث الاستاذ رشيد رضا(صاحب تفسير المنار)الذي يرفض في بقية متنه المبالغات الواردة..والابدال مصطلح يطلق على اشخاص صلحاء اذا مات احدهم استبدل به شخص اخر ..ولو راجعنا الاصل اللغوي لوجدنا انه من البدل والاستبدال ..وهذا حسبما نعتقد يرتبط بالايات القرانية الخاصة بالاستبدال منها الاية الكريمة(الا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير )(التوبة:٣٩)..ونعتقد ان هولاء الابدال هم على قسمين ..القسم الاول هم المحبون لال البيت من سائر المتصوفة والعرفاء ..من استوطن منهم الشام او هاجر اليها ..والابدال فيهم الطبقة الارفع بطبيعة الحال..اي في سائر متصوفة الشام..والقسم الثاني هم المحبون لال البيت الذين قتلوا في ارض الشام ايام الحكم الاموي وفي طليعتهم الصحابي الجليل حجر بن عدي واصحابه الذين قتلهم معاوية بن ابي سفيان ..ومن التوافق العجيب في الاحداث اذا علمنا ان حجرا رضوان الله عليه كان اكثر سبا للامويين .وهو المخاطب بعدم السب .كما اورد كامل مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع)..ولقد قتل حجر الذي رفض شتم الامام علي والتبرؤ منه كما طلب معاوية..في ارض مرج العذراء(في غوطة الشام ).وهو ما اشار له النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم ):يقتل بمرج العذراء نفر يغضب لهم اهل السماء ..ولقد قال الطوسي في كتابه (رجالات الطوسي ): ان حجرا كان من الابدال ..وبذلك نعرف مدى قدسية هذه الارض التي اصبحت شاهدا مستمرا لارث الموالين لاهل البيت (عليهم السلام)..أذ ان مكان الشام قد تم تأنيثه بوجود مرقدين مهمين هما (السيدة زينب بنت الامام علي بن ابي طالب)و(السيدة رقية بنت الامام الحسين )عليهم السلام ..وبذلك (المكان )اصبح (مكانة)..استنادا الى رأي الشيخ الاكبر ..(كل مالايؤنث لا يعول عليه )..ولهذا ثبت عنه قوله:(المكان الذي لايؤنث لايعول عليه..)..فأي سر في هذه الارض التي اصبحت ارضا للابدال (الموالون لال محمد صلوات الله عليهم اجمعين)..وبين ان تؤنث بقدسية السيدات الطاهرات.؟..
ولهذا كانت هذه الارض على وفق المعيار المركب(الرباعي)اعلاه تمثل لابن عربي ارضا قدسية
ومن ثم وجد فيها تحقق التوازن التام بين المكان والمكانة والتي ستتمخض لاحقا عنها ..ولكن النظر من الداخل بعيون الشيخ الاكبر نفسه لنجد ان الامر اوسع واكبر دلالة وبرهنة دقيقة للغاية لاختياره ارض الشام موطنا ومدفنا..يقول في الفتوحات المكية (ومن شرط العالم المشاهد صاحب المقامات الغيبية والمشاهد ،ان يعلم ان للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرا.ولو وجد القلب في أي موضع كان الوجود الاعم ، فوجوده بمكة أسنى وأتم .فكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية ).فوجود القلب وحضوره وتوجهه نحو الحق سبحانه انما المكان عنده هو المسوؤل عن يقظته تلك..
ودمشق في وقتها وحين محط رحاله فيها كانت فيها هذه المنازل الروحانية العالية ولهذا قال(فرق كثير بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات ،وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الايات البينات)..
والمدار الدائم لدى الشيخ الاكبر هو حضور القلب ،والقلب لدى المتصوفة والعرفاء كما هو معلوم يحظى بمكانة مركزية فهو موضع التقوى وتفردها ومدار المعرفة ومصدرها ومهبط الحقائق وصورها ولهذا قال(ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب،لا في تضاعف الآجر .فقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد .وذلك ليس للتراب ولكن لمجالسة الأتراب أو هممهم ، ومن لايجد الفرق بين في وجود قلبه بين السوق والمساجد ،فهو صاحب حال ،لا صاحب مقام )فهو يعول كثيرا على همة العباد والصلحاء في المكان اذ فبهم يحضر القلب..فأي الصالحين كانوا في صالحية الشام انذاك في عصره واي همة تركت على جبل قاسيون موضع مرقده؟..
بل ان المكان القدسي كان عند الشيخ الاكبر مسوؤلا عن الزيادة والنقص يحسها العابد في نفسه..ولهذا قال( ولاشك عندنا أن معرفة هذا الفن،أعني معرفة الأماكن والاحساس بالزيادة والنقص من تمام تمكن معرفة العارف وعلو مقامه وشرفه على الأشياء )..وبالتأكيد شعر بن عربي وهو في دمشق بهذه الزيادة عند دخوله الشام ومقامه فيها..بل انها افضت الى امرين مهمين بالنسبة لتجربته الروحية ..فبها اي بأرض الشام جاءه الامر الالهي عبر الرؤيا بالنصح للعباد(وما الدين الا النصيحة)..ومثلما قال(والله قد أمرني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم …ثم خاطبني على الخصوص من غير واسطة غيرة مرة بمكة ودمشق فقال لي:انصح عبادي)..والامر الاخر الذي حدث معه في بداية دخوله دمشق هو شعوره بحالة الوجد العالية ودخوله في مقام المحبة بنحو شديد تركت اثارها على بدنه اذ كان لايستطيب طعاما ابدا ..ونحن هنا عن العشق الالهي نتحدث وقال عن ذلك(ولنا في هذا المعنى ذوقا في أول دخولي الى الشام وجدت ميلا مجهولا مدة طويلة في قصة طويلة إلهية متخيلة في صورة جسدية..
ولما دخلت الشام خولطت في عقلي
فلم أر قبلي في الهوى عاشقا مثلي
وفي الشام اكمل كتابه الاهم والابرز (الفتوحات المكية)..وكتب اخرى..كان اهمها كذلك واشهرها(فصوص الحكم)..وهو عبارة عن رسالة من النبي الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم)امره بنشرها .وبذل في الشام النصح الديني والسياسي بنحو مكثف لم يعرف مثله في مكان اخر..
بعبارة اخيرة نقول ان ما تحدث به الشيخ الاكبر عما اسماه (فن الإمكنة) بالمعنى الصوفي والعرفاني انما كان هو المعيار الاشمل والادق عن قدسية تلك الارض التي اختارها بن عربي موطنا ومدفنا.(وهذا هو الملخص العام لدراسة أنثروبولوجية اشمل وأوسع مسندة بالمراجع)..والحمد لله اولا واخرا.