أعلام وأقطاب

النفّري “كلما اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة”

النفّري 

“كلما اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة”

محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري الملقب بالنفري،  ولد ببلدة نفر في العراق وإليها ينسب. كان من كبار الصوفية وتنقل كثيراً بين العراق ومصر، ومن أشهر كتبه “المواقف والمخاطبات. ومن فرط تواضعه لم يكتب ما كان يقول، إنما كان يؤلف كتابه شفهياً لمريديه، ويكتفى بذلك. من أشهر ما ذكر عنه أنَّه قال “كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة.”

 

حياته:

للنّفري شخصية غامضة منتهى الغموض في تاريخ التصوف الإسلامي، ويبدو أنه ارتفع نجمه في النصف الأول من القرن الرابع الهجري. وقد توفي، استناداً إلى ما يقوله حاجي خليفة، في سنة 354 هـ. ويحظى هذا التاريخ لوفاته ببعض التأكيد من بيانات ترد في مخطوطة (غوطة) ومخطوطة القاهرة، عن مخلفاته الأدبية، فتشير بعض الكتابات إلى سنتي 352           و 353هـ، لكن هذا سرعان ما يبطل بذكر سنوات أخرى هي 359 و 360 و 361هـ فيما يخص أجزاء أخرى.

 

اسمه:

محمد بن عبد الجبار بن الحسن، على هذا تتفق جميع المصادر. لكن نسبته موضع خلاف، ومن المرجح أن مصدر هذا الخلاف وقوع تحريف وخطأ ارتكبه بعض النساخ، فنقل هذا التحريف، وظل ينسخ حتى أخذ به بعضهم.

وهذه هي صيغ كتابة نسبة المؤلف: النّفري، النّفزي، النّفزي. ويكشف الفحص الدقيق لصفحة عنوان مخطوطة (غوطة) عن احتمال أن تكون الحركة أو النقطة الموضوعة على الحرف الأخير من النسبة مجرد علامة تزويق وتجميل للخط، في الأصل، فهي نقطة أصغر بكثير وأخفى، مثلا، من النقطة الموضوعة على الحرف الذي قبله. ولعل صفحة هذا العنوان هي مصدر جميع الأخطاء اللاحقة. فقد وقع ناسخ مخطوطة (ب) ]في مكتبة بودليان ضحية هذا الخطأ في عنوانه. وواصل، هو وناسخ مخطوطة (ت) ]في مكتبة بودليان أيضا [ هذا الخطأ في النص، ولكن في مناسبة واحدة فقط. وتقرأ مخطوطتا الهند والقاهرة أيضا نسبته على أنها:

النّفزي، أما المخطوطتان الأخريان، وهما (ل) في لايدن و(م) في بودليان فليس فيهما عنوان، وهما تكتبان في العادة: النّفري، في داخل النص.

يذكر محيي الدين بن العربي اسم المؤلف أربع مرات في كتابه «الفتوحات المكية» ويرد فيه دائماً بصيغة: النّفري. وعلى هذه الصيغة يتابعه كتاب عرب كثيرون، مثل الشعراني وحاجي خليفة والقاشاني والذهبي والزبيدي. ولم يتحدث أحد عن النّفزي سوى كاتب مخطوطة برلين (321، وليس من شك في أن السبب في ذلك لا يخرج عن السبب لدى ناسخي المخطوطات (ب) و(أ) و(ق) و(ت).

ومن بين الدارسين الغربيين، كان «بروكلمان» أو ل من آثر الاستقرار على صيغة النّفري، وإن كان يذكر صيغة النّفزي كبديل محتمل. وقد حذا حذوه «مرگليوت»، الذي رجع إلى مخطوطات أكسفورد، ولم يعترض «نكلسون» على ذلك. لكن «ماسنيون» أحيا صيغة النّفزي.

ليس من شك في أن نسبة النّفري تشير إلى قرية «نفّر» في العراق. هذا ما ينص عليه الجغرافي ياقوت الحموي، والمعجمي الزبيدي، ويعتمد هذا الأخير في هذه النقطة على ابن يعقوب مصدرا له. وعن هذه القرية يقول ياقوت الحموي ما يلي:

نفّر: بكسر أوله، وتشديد ثانيه، وراء: بلد أو قرية على نهر النرس من بلاد الفرس، عن الخطيب، فإن كان عنى إنه من بلاد الفرس قديما جاز، فأما الآن فهو من نواحي بابل بأرض الكوفة. قال أبو المنذر: إنما سمي نفّر نفرأ لأن نمرود بن كنعان، صاحب النسور، حين أراد أن يصعد إلى الجبال فلم يقدر على ذلك هبطت النسور به على ن ف ر، فنفرت منه الجبال، وهي جبال كانت بها، فسقط بعضها بفارس فرقا من الله، فظنت أن ها أمر من السماء نزل بها. فلذلك قوله عز وجل: «و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال» (ابراهيم: 46). وقال أبو سعد السمعاني: نفر: من أعمال البصرة. ولا يصح قول الوليد بن هشام الفخذمي، وكان من أبناء العجم: حدثني أبي عن جدي قال: نفر: مدينة بابل، وطيسفون: مدينة المدائن العتيقة، والأبلة من أعمال الهند. وذكر أحمد بن محمد الهمذاني، قال: نفر: كانت من أعمال كسكر، ثم دخلت في أعمال البصرة. والصحيح أنها من أعمال الكوفة. وقد نسب إليها قوم من الكتاب الأجلاء وغيرهم.

لقد أعيد اكتشاف نفر في الأزمنة الحديثة. وأفلحت بعثة استكشافية أرسلتها جامعة بنسلفانيا بالقيام بتنقيبات مهمة في الموقع الذي عي ن فيه المكان تقليديا، ونشر تقرير عن عمل البعثة عام 1897 بقلم ج. ب. بيترز. وقدم لنا التقرير وصفا ممتازا للحالة الحاضرة لنفر.

يبقى إذن أن نستخلص أن نفر هي المدينة البابلية المهمة «نيبر» بعينها، التي سقطت في أزمنة النحس، وكان قد حكمها حكام متتابعون، وظلت مكانتها تتناقص بالتدريج، حتى اختفت، سواء أكان ذلك نتيجة الجدب وحده أم نتيجة كارثة طبيعية، من ذاكرة الناس، ليستعيدها بعد قرون متطاولة مغامرون جاءوا من المحيط الأطلسي. وهكذا هي مصائر الناس والامبراطوريات، ترتبط ارتباطا حميما وتتشرذم تشرذما مطلقا.

هذه هي نفر إذن. ولابد أن النفري، إذا سل منا أنه كان من أهلها أو اتصل بها على نحو ما، قد استلهم من وحي تاريخها الغريب، المنقسم بين مجدها الغابر ووحشتها الحاضرة، إذ لم تعد توجد سهولها التي كانت تضج بالمسير المنضبط للجيوش الشبحية ولم تعد معابدها المهدمة مسرحا لرقصات لا يتذكرها الآن أحد، ولم تعد صيحات أهل أسواقها وخفة سكانها تعكر صفو شوارعها الصامتة.وحين كانت النجوم تسطع خفيضة في الليل، ويعيد «حزام أوريون» الوهاج إلى البال أساطير العملاق الذي أوغل في طموحه، كان هذا السائح المتوحد يجد القوة والعزاء في رؤية الله الواحد الحق الذي يعوض حبه عن كل محبوب فان يضمه هذا العالم. فإلى ذكرى تقواه وإخلاصه الذي مازال حيا، نحن الذين عشنا بعد مرور ألف سنة على وفاته، بعد أن بحثنا في مكتبات أوروبا وأفريقيا نهدي الآن هذه الطبعة من كتاباته وترجماتها.

 

كتاباته:

استناداً إلى شارحه التلمساني الذي أتينا على ذكر أقواله كاملة، لم يكن النفري هو المسؤول عن ترتيب «المواقف» ووضعها بهذا التأليف. وقد كرر التلمساني هذا التأكيد ثلاث مرات في سياق شرحه: وبرغم أن هذا الحكم يصدر في الحالات الثلاث لتوضيح وجهة نظر الشارح بأن المقاطع هناك منتزعة من سياقاتها الصحيحة، فإن تكراره يدل بالتأكيد على صدق حكمه. وفي الحقيقة حتى لو لم يصدر هذا القول عن التلمساني، فإننا نجد أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد بأن العمل، كما وصل إلينا، لا ينتمي إلى النفري على نحو تام، بل إن شكله الأدبي يدل على تدخل يد أخرى فيه. ولم يكن من النادر أن يتدخل أتباع الشيوخ المميزين لتحرير كتابات أشياخهم بعد وفاتهم. ومن المستحيل البت ما إذا كان ابن النفري أو حفيده هو المسؤول في هذه الحالة عن تحرير كتاباته من دون دليل آخر، ولكن من المهم أن نتذكر دائما أن النفري لم يكلف نفسه عناء جمع كتاباته.

وبالإضافة إلى «المواقف»، لدينا كتابات أخرى منسوبة إلى النفري. ومن بين هذه الكتابات، فإن أكبرها وأهمها هو كتاب «المخاطبات» الذي يرد في ثلاث مخطوطات فقط، هي: (ج) و(ق) و (م). وتتكون هذه الكتابات من سلسلة من الإستلهامات والتنزلات المشابهة في مادتها ل-؛المواقف»، ولكنها تبدأ بعبارة: «يا عبدي»، بدلاً من عبارة: «أوقفني وقال لي». ولا يحيط الشك بصحة نسبتها له، إذ يشير إليها النفري نفسه في الموقفين: 63، الفقرة 11، و66 الفقرة 1. ولا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذه المادة الإضافية. فإذا كانت «المواقف» تحمل آثاراً واضحة على بصمة تنقيح أدبي، فإن لـ «المخاطبات» مظهرا لا تخطئه العين من صحة الإسناد والبدائية. ولم تتم محاولة وضع ترتيب لهما، بالرغم من أن العناوين في مخطوطة (م) قد أعطيت بصورة: «مخاطبات الأولياء»، وهذا ما يذكرنا بـ «المواقف».

المخطوطات على العموم تسميه «كتاب المواقف» فقط، باستثناء مخطوطة (م) التي تسميه «كتاب المواقف مع الحق على التصوف». ويميل الكتاب العرب على العموم إلى إطلاق هذه التسمية الوجيزة عليه، باستثناء ابن عربي الذي يسميه في موضع: «كتاب المواقف والقول». ونحن نؤثر أن نتابع ما درج عليه كثرة الكتاب العرب ونسميه: «كتاب المواقف».

 

شهادة ابن عربي بالنفري:

جاء ذكر النفري أو أحيل إليه خمس مر ات في «الفتوحات المكية» كالآتي:

1- «أم الاعتبار الآن الفاصل بين الوقتين، فهو المعنى الفاصل بين الاسمين، اللذين لا ي فهم من كل واحد منهما اشتراك، فظهر حكم كل اسم منهما على الانفراد. وهو حد الواقف عندنا: فإن الإنسان السالك إذا انتقل من مقام قد احتكمه وحصله تخلقا وخلقا وذوقا، إلى مقام آخر يريد تحصيله أيضا يوقف بين المقامين: عن حكم المقام الذي انتقل عنه، وعن حكم المقام الذي يريد الانتقال إليه، يعرف في تلك الوقفة بين المقامين، وهو كالآن بين الزمانين، آداب المقام الذي ينتقل إليه، وما ينبغي أن يعام ل به الحق. فإذا أ بين له عنه، دخل في حكم المقام الذي انتقل إليه على علم… وقد بين ذلك محمد بن عبد الجبار النفري في كتابه الذي سماه بـ- «المواقف والقول» وقفت على أكثره. وهو كتاب شريف يحوي على علوم آداب المقامات. يقول في ترجمة الموقف اسم الموقف. يقول في انتقاله إلى «موقف العلم» _ مثلا _ وهو من جملة مواقفه في ذلك الكتاب، فقال: موقف العلم، ثم قال: أوقفني في موقف العلم، وقال لي: يا عبدي، لا تأتمر للعلم، ولا خلقتك لتدل على سواي…إلى أن ينتهي إلى جميع ما يوقفه الحق عليه. فإذا عرف حينئذ، يدخل إلى ذلك المقام، وهو يعرف كيف يتأدب مع الحق في ذلك المقام…فهذا هو الآن الذي بين الصلاتين».

(طبعة القاهرة، 1293،ج1، ص505، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص486).

2- «وأما من اعتبر المرض بالميل، فهو المذهب الذي ينطلق عليه اسم مرض، وهو مذهب محمد بن عبد الجبّار النفري، صاحب المواقف من رجال الله» (طبعة. بولاق، ج1،ص771،ط بيروت،ج1، ص739).

3- «والواقفية أرباب المواقف، مثل محمّد بن عبد الجبار النفّري، وأبي يزيد البسطامي. قال (واصفاً التوبة): هي غيبية، آثارها حسية» (ط. بولاق، ج2، ص187، ط إحياء، ج2، ص139).

4- «واعلم أنه ما من منزل من المنازل، ولا منازلة من المنازلات، ولا مقام من المقامات، ولا حال من الحالات، إلا وبينهما برزخ يقف العبد فيه يسمى: الموقف. وهو الذي تكلم فيه صاحب «المواقف» محمد بن عبد الجبار النفّري – رحمه الله – في كتابه المسمى بـ «المواقف»، الذي يقول فيه: أوقفني الحق في موقف كذا. فذلك الاسم الذي يضيفه إليه هو المنزل الذي ينتقل إليه أو الحال أو المنازلة، إلا قوله: أوقفني في موقف وراء المواقف.فذلك الموقف مسمى بغير اسم ما ينتقل إليه. وهو الموقف الذي لا يكون بعده ما يناسب الأول. وهو عندما يريد الحق أن ينقله من المقام إلى الحال، ومن الحال إلى المقام، ومن المقام إلى المنزل، ومن المنزل إلى المنازلات، أو من المنازلات إلى المقام.

وفائدة هذه المواقف أن العبد إذا أراد الحق أن ينقله من شيء إلى شيء يوقفه ما بين ما ينتقل عنه وبين ما ينتقل إليه، فيعطيه آداب ما ينتقل إليه، ويعلمه كيف يتأدب بما يستحقه من ذلك الأمر الذي يستقبله. (ط. بولاق، ج- 2، ص 805، ط بيروت، ج- 2، ص 599).

5- في هذه الفقرة يشير ابن عربي إلى «صاحب المواقف» في موضوع قول الصوفي «قال لي، وقلت له»، إذا «لم يروا في الوجود غير الله» (ط. بولاق، ج- 2، ص 827، ط بيروت، ج- 2، ص 614).

______________________________________

*نقلًا عن موقع ” معرفة “- بتصرُّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى