أعلام وأقطاب

جورج بركلي والفلسفة المثاليَّة الذاتيَّة

جورج بركلي والفلسفة المثاليَّة الذاتيَّة

 

جورج بركلي (1685–1753) هو الفيلسوف الإيرلندي الذي يعتبر من أبرز ممثلي الفلسفة المثالية الذاتية. فلسفته تُمثل رداً على ميتافيزيقا المادة والعقلانية الميكانيكية التي كانت سائدة في الفكر الفلسفي والعلمي في عصره. على الرغم من أنه تأثر ببعض أفكار الفلاسفة التجريبيين مثل جون لوك، إلا أنه تبنى موقفًا فريدًا يرفض الوجود المستقل للمادة، ليصل إلى مفهوم مناقض تمامًا للمادية التي كان يروج لها الفلاسفة مثل نيوتن ولوك.

 

  1. – مفهوم المثالية الذاتية

المثالية الذاتية التي طورها بركلي تقوم على فكرة أن المادة لا وجود لها إلا في أذهاننا. بمعنى آخر، لا توجد “أشياء مادية” مستقلة عن الإدراك البشري. في نظره، لا يوجد شيء في العالم يمكن أن يُعتبر موجودًا إذا لم يكن هناك من يدركه. بكلمات أخرى: “أن تكون هو أن تُدرك” (Esse est percipi). هذه العبارة تلخص الفكرة المركزية في فلسفته، حيث يرى أن الأشياء لا توجد بشكل مستقل عن الوعي أو العقل الذي يدركها.

 

  1. – نقده لتمييز لوك بين الكيفيات الأولية والثانوية

جون لوك، الذي تأثر به بركلي في البداية، فرق بين “الصفات الأولية” للأشياء مثل الامتداد والشكل والصلابة، وبين “الصفات الثانوية” مثل اللون والحرارة والصوت. في نظر لوك، كانت الصفات الأولى هي التي تعكس خصائص الأشياء كما هي في الواقع، بينما كانت الصفات الثانية تعتمد على الحس البشري ووعيه.

لكن بركلي رفض هذا التمييز بين الكيفيات الأولية والثانوية، وأكد أن جميع الصفات التي نلاحظها في الأشياء هي تجارب حسية تتواجد في أذهاننا فقط، وليس في الأشياء ذاتها. بعبارة أخرى، لا يمكن فصل هذه الصفات عن إدراكنا، بل هي ملازمة لهذا الإدراك. وبالتالي، لم يعد هناك فرق جوهري بين الصفات الأولية والثانوية. على هذا الأساس، لا يمكن للإنسان أن يتصور مادة مستقلة عن الذهن، لأن كل ما نعرفه عن العالم هو مجرد مجموعات من الأحاسيس التي تُنقل إلى ذهننا.

 

  1. – نقده للمادة

بركلي كان يشكك في وجود “المادة” كمفهوم مادي مستقل. في نظره، لا توجد مادة كما يراها الفلاسفة الماديون؛ بل توجد أحاسيس فقط، وهذه الأحاسيس هي ما تشكل عالمنا. فإذا كانت الأشياء المادية لا يمكن إدراكها إلا عن طريق الحواس، فإن هذا يعني أن هذه الأشياء لا يمكن أن تكون موجودة بدون أن تُدرَك. وهكذا، تصبح المادة مفهومًا غير ضروري أو مجرد وهم.

 

  1. – الإدراك والحس المشترك

في فكر بركلي، الإدراك هو الأساس الوحيد للمعرفة. بينما كان فلاسفة مثل هيوم يؤكدون على التجربة الحسية كمصدر للمعرفة، كان بركلي يتجه نحو تطوير نظرية في المعرفة تقوم على فكرة أن الوجود هو الإدراك. وهذا لا يعني أن بركلي يرفض وجود الأشياء عند غياب الإدراك البشري فحسب، بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول إن الله هو الذي يدرك الأشياء باستمرار، وبالتالي فإن العالم يستمر في الوجود بفضل الإدراك الإلهي. الله في فلسفة بركلي هو “الذهن الأبدي” الذي يضمن استمرارية وجود الأشياء حتى عندما لا يدركها البشر.

 

  1. – المعادلة بين المثالية والتجريبية

يعتبر بركلي حالة فريدة من الجمع بين المثالية والتجريبية. فبينما اعترف بأهمية التجربة الحسية في معرفة العالم، إلا أنه فسر هذه التجربة بطريقة مثالية، حيث أن الأشياء لا تكون موجودة إلا إذا تم إدراكها. إذن، على الرغم من أن بركلي كان يعترف بأن الإحساس هو المصدر الرئيسي للمعرفة، إلا أنه أكد أن هذا الإحساس ليس إلا نتاجًا لفعل عقلاني، أو روحاني (الإدراك الإلهي).

 

  1. – نقده للميتافيزيقا الميكانيكية

بركلي عارض العديد من الآراء الفلسفية السائدة في عصره. على سبيل المثال:

نظرية نيوتن: التي تصف المكان والحركة والجاذبية بقوانين ميكانيكية ثابتة، وجدها بركلي غير مقبولة لأن نيوتن كان يعتمد على فكرة “المادة المستقلة” التي توجد في المكان، وهو ما يتعارض مع وجهة نظره بأن كل شيء موجود في الذهن.

نظرية ليبتنز: التي تربط حركة الأجسام بقوى غير مرئية وقابلة للقياس (مثل قوة الجذب)، كانت بالنسبة لبركلي تفسيرات ميكانيكية مفرطة، بينما كان هو يعتقد أن الحركات يجب أن تفسر بوصفها أعمالًا تنبع من الروح أو الإرادة الإلهية.

 

  1. – موقفه من الفلسفة الطبيعية

عبر بركلي عن رفضه للمفهوم الميكانيكي للعالم الذي كان سائدًا في الفلسفة الطبيعية. كان يعتقد أن تفسير الظواهر الطبيعية بناءً على قوانين مادية فيزيائية، مثل قوانين نيوتن، لا يعكس الحقيقة الفلسفية العميقة. بدلاً من ذلك، أكد على أهمية الإرادة الإلهية كقوة فاعلة وراء كل شيء في الكون، وأنه لا يمكن فصل العالم عن وجود الله الذي يدركه.

 

  1. – الخلاصة

فلسفة بركلي تتمحور حول مفهوم المثالية الذاتية، التي تنكر وجود المادة المستقلة عن الإدراك. فبدلاً من التفكير في العالم ككائنات مادية مستقلة عننا، يرى بركلي أن كل شيء موجود فقط في أذهاننا، ولا “يكون” الشيء إلا عندما يتم إدراكه. عالمنا، إذن، هو مجرد مجموعة من الانطباعات الحسية التي يشكلها عقل الإنسان، وكل ما يتجاوز ذلك هو عمل الله الذي يستمر في إدراك الأشياء ويعطيها وجودًا مستمرًا.

هذا الموقف أثار الكثير من الجدل في وقته، لأنه كان يتناقض مع الفكر السائد في العصر الذي كان يعتقد بوجود عالم مادي مستقل عن الإدراك البشري.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى