أعلام وأقطاب

بهاء الدين نقشبند مؤسِّس الطريقة الصوفيَّة في وسط آسيا

بهاء الدين نقشبند مؤسِّس الطريقة الصوفيَّة في وسط آسيا

تعتبر الطريقة الصوفية “النقشبندية”، من الطرق الضخمة التي تأسست في وسط آسيا بالقرن الرابع عشر الميلادي، وانتشرت وارتبطت باسم مؤسسها الشيخ محمد بن برهان الدين البخاري أو بهاء الدين نقشبند (1318-1389).

 

ولا يتفق العالم بهاء الدين نقشبند مع الآراء التي تتحدث عن مكان ظهور الصوفية. لأن عدد منها يؤكد على أنها تشكلت في شبه الجزيرة العربية (القرن التاسع الميلادي)، بينما غيرها تعتبر أنها بدأت من العراق (القرن الثامن الميلادي)، وبعدها إنتشرت في إيران، ومن ثم في ماوراء النهر وغيرها من الدول.

والصوفيون هم أشخاص ساروا على طريق التقرب الروحي مع الحي الباقي، وكانت نظرتهم للأملاك الخاصة، والغنى، والرفاهية، ماهي إلا نتيجة لإنعدام العدالة. واتبع الصوفيون أسلوب حياة خاصة بهم، وارتدوا ملابس خشنة صنعت من الأقمشة الصوفية “من الصوف”، ومنها أخذت الطريقة تسميتها (الصوفية). والمبدأ الرئيسي للطريقة كان الإعتراف بأن ما هو موجود في الطبيعة هو من صنع القوة الإلهية وحدها.

وأخذت الصوفية بالإنتشار في وسط آسيا منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وبداية القرن الثاني عشر الميلادي، وغدت عاملاً من عوامل تغيير الحياة الروحية لشعوب المنطقة. حيث ظهرت فيها وتطورت ثلاث طرق صوفية وكانت من بين الأكثر إعترافاً بها من غيرها، طرق: اليسوية، التي إرتبطت باسم أحمد يسوي. والكوبراوية، التي إرتبطت بإسم نجم الدين كوبرو. والنقشبندية، التي إرتبطت بإسم بهاء الدين نقشبند. وكلها ساعدت على إقامة أسس ظهرت على أثرها وإنتشرت طرق صوفية عدة.

وبهاء الدين نقشبند ولد في قرية قصري هيندوان، الواقعة على بعد 12 كيلو متر من مدينة بخارى في عام 1318م. وتغير إسم هذه القرية على شرفه وغدت تسمى بالنتيجة قصر العرفان. والده سيد جلال الدين، وأمه بيبي عارفه، وهما من نفس المكان. وكان والده حرفياً نقاشاً (“نقشبند” نقاش) ونساج. وأمه إشتهرت بمعارفها الكبيرة. وكلاهما كانا من أتباع الديانة الإسلامية وتعاليمها.

وسرت اقوال كثيرة تؤكد على أن العالم الصوفي الحاج محمد بوبي ساموسي، تنبأ بولادته في هذه القرية، والذي على ما يبدوا أكدته الأوضاع التي ترتبت بعد ولادته، لأنه تبناه وكان أول معلم له. وقبل وفاة هذا العالم أعطى تلميذه بهاء الدين نقشبند للشيخ المعروف في ذلك الوقت سعيد أمير قولول، حيث تابع عملية تعليم الشاب بهاء الدين، الذي تعلم ودرس أسس الصوفية بإهتمام وعمق.

وكان لتعاليم النقشبندية أهمية كبيرة خلال كفاح الأمير تيمور (تيمورلانك) ضد الغزو المغولي، ومساعيه لبناء دولة مستقلة، وفي تطور الأسس الثقافية، والأخلاقية، والمعنوية، للمجتمع آنذاك. وفي هذا المجال تجب الإشارة إلى أن أكثرية العلماء، ورجال الدولة، وعلماء الفنون في القرن الخامس عشر ميلادي تعاملوا بشكل إيجابي مع هذه الطريقة واستخدموا تعاليمها بشكل واسع.

وهذه العملية حصلت على إنتشار واسع أثناء حكم ظهير الدين محمد بابور (1483م-1530م) وخلال القرنين السادس عشر ميلادي، والسابع عشر ميلادي. وقدم العالم الصوفي المعروف خوجه محمد البوكي قابولي خدمات كبيرة لها، وهو الذي أثناء وجه جهوداً كبيرة أثناء وجوده في الهند وأفغانستان لجذب أتباعاً كثيرين للطريقة من السكان المحليين. وقيمت شعوب تلك البلدان جهوده بإيجابية كبيرة وأعطته إسم خوجه بوقيبوللا، وتعني “خوجه الأمين لله”. وسار على طريقته تلميذه خوجه أحمد فاروق سرهندي (1563م-1624م)، الذي دعا أيضاً من تجمع حوله في الهند للإنضمام إلى الطريقة النقشبندية.

وعلى هذا الشكل يبدو أن هذه الطريقة التي وضع أسسها جد الأوزبك بهاء الدين نقشبند، لعبت دوراً كبيراً في الحياة الإجتماعية والسياسية والروحية والثقافية والأخلاقية لشعوب وسط آسيا، والشرقين الأوسط والأدنى. وكانت غريبة عنها المظاهر السلبية مثل: العنف الإجتماعي، والتطفل، والتسرع. ومبدأها الرئيسي كان الطهارة الروحية، وحب العمل، والعدالة، والإبتعاد عن الرفاهية، وشراء الممتلكات، وتحقيق المكاسب الشخصية، والغنى الفاحش. ووفقاً لهذه التعاليم كان على المتصوف التمسك بتعاليم السنة الشريفة، والتقيد بكل تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة. وحدد بهاء الدين نقشبند رؤيته في البيتين التاليين:

«Дил ба Ёру, даст ба кор» ، “على الروح أن تكون مع الله، واليد في العمل”.

وأشار العالم المعروف والمستشرق والباحث في الطرق الصوفية البروفيسور يي. بيرتيلس إلى أن أسس التعاليم النقشبندية هي في السعي التلقائي للحياة البسيطة، والكفاية، والتخلي عن كل ما هو غير لازم، وممارسة الأعمال الجسدية والسعي نحو المعرفة. وحتى أن نقشبند مارس عملاً صغيراً، وزرع القمح والفاصولياء والفول، واقتسم المحصول مع المحتاجين.

ودعى أتباع النقشبندية أنصارهم أيضاً للأمانة، وممارسة التجارة الشريفة، والأعمال الزراعية، والحرفية، والآداب، والعلوم، والتعليم، والكتابة، والنقش على الجدران، والحفر على الخشب والمعادن والحجارة، والموسيقى، والفنون التشكيلية والتطبيقية. ولهذا كان أبرز ممثلي العلوم، والثقافة، والأدب، في ذلك الوقت، أمثال: عبد الرحمن جامعي، وعلي شير نوائي، وخوشخولخون خاتاك، وأحمد شاه دورراني، ومخدومقولي فيراغي، وغيرهم من الشعراء والمفكرين التقدميين، من المعبرين عن النظرات الإنسانية، وساروا على الطريقة النقشبندية، وعكسوا في أعمالهم هذه الأفكار والمبادئ، مثل: طهارة القلب، والصدق، والأمانة، والطهر، وحب العمل، والعدالة، والوطنية، والتسامح، والإحساس بالمعاناة، وحب الإنسان، والغفران، التي هي اليوم ظاهرة من مظاهر وقتنا الحاضر، ومهمة من المهام الهامة لمجتمعاتنا المعاصرة.

والمعروف عن سيرة حياة العالم الديني الكبير بهاء الدين نقشبند عملياً قليل جداً، لأنه منع أتباعه في أيامه الكتابة عن أعماله وعن حياته.

 

 

ولكن الدراسات والبحوث الجارية عن تاريخ ظهور وإنتشار مثل هذه الطرق، كـ: اليسوية، والكوبراوية، والنقشبندية، يعار لها اليوم إهتمام خاص في أوزبكستان. وكرست لها جملة كبيرة من الأعمال والأطروحات في مؤسسات التعليم العالي، وكتبت عنها المؤلفات، ويجري الإحتفال بالمناسبات التاريخية لذكراهم. ومن بينها أحتفل في أوزبكستان عام 1993 بمناسبة مرور 675 عاماً على ميلاد بهاء الدين نقشبند، وبهذه المناسبة نظم مؤتمر علمي دولي. كما جرت أعمال ترميم لكل الآثار المرتبطة بإسم الإمام بهاء الدين نقشبند، ومن بينها: تشييد مجمع بهاء الدين نقشبند المعماري، الواقع في قرية “قصر العرفان”. الذي شيد فيه ضريح وسور تذكاري مزود بالنقوش عام 1544م على شرف نقشبند، يزوره سنوياً آلاف الحجاج من كل أنحاء العالم.

 

 

**********

*بحث أعدَّه أ.د. محمد البخاري في طشقند، بتصرُّف نقلاً عن: بهاء الدين نقشبند (1318م-1389م).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى