الشيخ أحمدو بمبا، مؤسس الطريقة الموريدية
مراد حاج
تنتشر في السنغال وفي عموم دول غرب أفريقيا، أربع طرق صوفية، هي التيجانية والقادرية واللاينينية والموريدية. ويتبع حوالي نصف السنغاليين الطريقة الموريدية، التي تأسست في أواخر القرن التاسع عشر من قبل الشيخ أحمدو بمبا أمباكي، الذي أرعب الاستعمار الفرنسي بسلميته، بحيث اعتمد على الحرب الاقتصادية بدل العسكرية، وطالب أتباعه بجهاد النفس بدل الجهاد المسلح لطرد الغزاة من بلاده المحتلة.
تلقى تعليمه على يد والدته قبل والده
وُلد الشيخ أحمدو بمبا أمباكي عام 1853 بقرية “مباكي باول” بوسط السنغال، على بُعد 190 كلم شرق داكار، العاصمة الحالية للبلاد، حيث نشأ وسط عائلة دينية وكان والده، الشيخ محمد حبيب الله بوسوم مباكي، عالماً وقاضياً ومُرابطاً ينتمي إلى الطريقة القادرية، أقدم الطرق الصوفية بالمنطقة، ووالدته مارياما ديارا بوسو إحدى المثقفات المتعلمات، والتي أشرفت شخصياً على تدريس أحمدو بمبا وأشقائه، وتعتبر المرأة الوحيدة بالسنغال التي بُني لها ضريح، والموجود بمدينة بوروخان، حيث يزور قبرها سنوياً الآلاف من المريدين.
وإضافة لوالدته، فقد تلقى الشيخ أحمدو بمبا تعليمه الروحي على يد جده وأحد أعمامه وحفظ القرآن في سن مبكرة، ثم سعى لتوسيع معارفه، على يد والده في بداية الأمر، ثم من طرف العلماء الذين وضع نفسه في خدمتهم، ليتلقى منهم العلم الديني عن قرب والذين كان يتعرف عليهم من خلال مرافقته لأبيه في رحلاته الكثيرة والطويلة بصفته قاضياً كبيراً يحظى باحترام المحاكم الملكية في عصره، بحسب ما جاء في موقع senego السنغالي، المتخصص بالشؤون الإفريقية.
وخلال فترة تتلمذه، كتب أحمدو بمبا، مخطوطات كثيرة عن التوحيد، وبالخصوص شرحه لكتاب “أم البراهين للشيخ عبد الله السنوسي، في كتاب سماه “مواهب القدوس”، ما جعل والده يدرج هذا المخطوط ضمن برنامجه التعليمي في المدرسة التي كان يشرف عليها.
كما ألف كتباً أخرى مثل “تزود الصغار” و الجوهر النفيس” و”ملين الصدور” وهو عبارة عن ملخص صغير لكتاب “بداية النهاية” للإمام أبو حامد الغزالي.
انخرط في القادرية ثم أسس طريقته الخاصة
توفيت والدة الشيخ أحمدو عام 1863، أي لما كان يبلغ من العمر 10 سنوات، ثم توفي والده في سنة 1883، وحينها أراد ملك “كايور” أن يعين أحمدو مكان والده إماماً وقاضياً على مدينة امباكي وهو في سن الـ30 ، لكنه رفض هذا التعيين بسبب رغبته في إكمال رحلته التعليمية، فرحل إلى مدينة “سانت لويس” ودرس على يد الشيخ الحاج كمارا شيخ الطريقة القادرية، وهناك انخرط في طريقته وأخذ أوراده، بحسب ما جاء في كتاب “أضواء على الطرق الصوفية في القارة الإفريقية“ لمؤلفه المصري للدكتور عبد الله عبد الرازق إبراهيم.
ثم أراد الشيخ أحمدو التعمق في الطريقة القادرية، فعبر نهر السنغال نحو موريتانيا لأخذ العلم عن الشيخ سيديا، كبير مشايخ الطريقة في ذلك الوقت، ثم عاد بعد ذلك إلى “سانت لويس” وأدخل مبادئ جديدة على “القادرية”، مؤسساً بذلك طريقة صوفية جديدة سماها “الموريدية”، والتي تعني “الذين يريدون الوصول إلى الله”.
وسرعان ما كسب الشيخ أحمدو أتباعاً لطريقته المعتمدة على مبدأين أساسيين، هما: “العمل الجاد” و”الحياة النظيفة”، وقد كان أكثر أتباعه من شعب “الولوف”، الذي كان ولا يزال يشكل حوالي 40% من سكان السنغال.
وفي سنة 1888، اختلى أحمدو بمبا بنفسه في غابة موحشة، تُسمى ” أمبافار”، ثم بنى قرية سماها “طوبى”، نسبة إلى اسم شجرة بالجنة.
وسكن “طوبى” في البداية، الشيخ أحمدو بمبا وعائلته الكبيرة، ثم التحق به تلامذته ومن بعدهم العبيد المتحررون حديثاً وأصحاب المهن الحرفية وحتى بعض قطَّاع الطرق السابقين.
واتخذ الشيخ بمبا من “طوبى” مركزاً لنشر الإسلام في المنطقة، وأقنع بعض ملوكها وأمرائها باعتناق الديانة السمحة..
قبل مجيء الاستعمار الأوروبي إلى غرب إفريقيا لم تكن هناك دولة اسمها السنغال، وكانت المنطقة عبارة عن ممالك وإمارات صغيرة، وأشهرها وأكبرها إمبراطورية جولوف التي سادت على أجزاء واسعة من دولتي السنغال وغامبيا الحالية من 1350 إلى 1449، ثم تقزمت لتصبح مملكة صغيرة على غرار فوتا تورو ووالو و كايور.
وبدأ احتلال فرنسا للسنغال الحالية، من سواحلها، وذلك في عام 1659، حيث أنشأ الفرنسيون مدينة سانت لويس، ثم استولوا على جزيرة غوري، وبنوا مدينتي داكار وروفيسك.
وكما سبق أن ذكرنا، فقد ولد الشيخ أحمدو بمبا وعاش صغره بمملكة كايور، أي بعيداً عن الاستعمار الفرنسي الذي لم يعرفه إلّا في بداية ستينيات القرن التاسع عشر، لما بدأ ملك كايور، “لات ديور” محاربة الغزاة، وقد اشتدت الحرب عام 1882، لما قررت فرنسا ربط مدينتي سانت لويس وداكار بالسكة الحديدية، حيث رأى الملك في المشروع تهديداً لاستقلال منطقته، وواصل كفاحه حتى وفاته خلال معركة “ديخيلي” يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 1886، لتعلن فرنسا بعدها ضم كايور، واعتبارها “محمية” جديدة.
وأعلنت فرنسا في 1895، إنشاء “فيدرالية إفريقيا الغربية الفرنسية، التي كانت تتشكل في البداية من 4 مستعمرات هي: السنغال ومالي وكوت ديفوار وغينيا، قبل أن تضم إليها فيما بعد موريتانيا و داهومي (البنين حالياً) والنيجر وفولتا العليا (بوركينا فاسو حالياً) وتوغو.
لم يحمل الشيخ أحمدو بمبا السلاح في وجه المستعمر الأوروبي، كما لم ينادِ للجهاد لطرده من البلاد، ولكنه كان ينادي بعدم التعامل مع المحتل الفرنسي من خلال مقاطعة منتجاته وتشجيع الشعب على العمل في المهن الحرة والحرفية وفي الزراعة، كما سعى لتوعية الشعب بضرورة المحافظة على هويته الإفريقية ونبذ التفرقة بين مختلف قبائله واثنياته.
وعمل الشيخ على نشر الإسلام في المناطق التي كانت ترتد عنه، أو التي لم تكن تعرفه من قبل، وذلك في جميع أنحاء إفريقيا الغربية وليس في السنغال فقط، من خلال تلاميذه الذين كانوا يقصدونه من كل المناطق التي تُسمى إفريقيا جنوب الصحراء.
وقد أزعجت مواقف الشيخ بمبا فرنسا ورأت فيه “خطراً على المجتمع”، فطلبت منه التوقف عن جمع أتباعه الذين كانوا يقصدونه بالآلاف بقرية طوبى، إذ خشيت أن يكون وراء تلك التجمعات خططاً سرية لانتفاضة مسلحة.
ولما رفض الشيخ أحمدو بمبا طلب فرنسا التخلي عن نشاطه التوعوي واجتماعاته “المشبوهة” من وجهة نظر الفرنسيين، تم القبض عليه بقرية ديوفول في شهر أغسطس/آب 1895، ونقله إلى مكتب الحاكم العام للإدارة الاستعمارية بسانت لويس بهدف محاكمته.
“يوم الركعتين” ذكرى خالدة بالنسبة إلى أتباع الموريدية
وفي مكتب الحاكم العام الفرنسي وقعت حادثة يوم 5 سبتمبر/أيلول من العام نفسه.
وتتمثل تلك الواقعة التاريخية في أنه لما دخل الشيخ أحمدو بمبا على الحاكم الفرنسي وبدلاً من الاقتراب منه لمصافحته، فإنه افترش ثوبه وصلى ركعتين لله، وسط ذهول الحاكم ومن معه، وما إن أنهى الشيخ صلاته، حتى خاطبه المستعمر بلغة مستفزة :”كيف تتجاهلني وأنا الحاكم هنا ووقفت من أجلك لتصافحني؟.. فما الذي تفعله في مكتبي؟”..
فأجابه الشيخ بمبا بكل هدوء وثقة: “لقد كان لديّ موعد مع من هو أكبر منك، أكبر منك ومن بلدك، وعظمته لا تدانيها عظمة… موعدي كان مع الله ربي.. فما قيمتك أنت؟”.
وبعد مثوله أمام مجلس الدولة بسانت لويس، الذي يعتبر بمثابة محكمة مدنية، تم إصدار الحكم على الشيخ أحمدو بمبا بالنفي إلى الغابون، وذلك “إلى حين انتهاء الفوضى التي أثارتها تحركاته بالسنغال”، بحسب ما جاء في نص النطق بالحكم ونقله موقع senego.
وقضى الشيخ بمبا 7 سنوات منفياً بالغابون، وبعد عودته إلى السنغال تم نفيه مرة أخرى لمدة أربع سنوات بموريتانيا، من 1903 إلى 1907، ثم قرر المستعمر الفرنسي وضعه تحت الإقامة الجبرية بمدينة “ثيين” حتى عام 1912، ثم بمدينة “ديوربل”، حيث بقي هناك حتى وفاته عام 1927، وتم نقل رفاته، فيما بعد، من طرف خليفته الأول مصطفى مبكي إلى مدينة طوبى، حيث دُفن بجانب المسجد الذي بناه هو، ثم قام أتباعه بتوسعته بإسهام من الدولة السنغالية بعد الاستقلال حتى أصبح يتسع لقرابة 7 آلاف مصلٍّ، وبات واحداً من أكبر المساجد في غرب إفريقيا.
يُذكر أن حادثة يوم 5 سبتمبر/أيلول لا يوجد لها أي أثر في الأرشيف الاستعماري، ولكن أتباع الشيخ بمبا، خلدوها من خلال الحكايات الشفوية، وواظبوا على زيارة قبره كل عام في مثل ذلك اليوم؛ لإحياء ذكرى باتت تعرف باسم “يوم الركعتين”، كما يقومون، مساء ذاك اليوم، بأداء ركعتين أمام المكتب القديم لممثل الإدارة الاستعمارية بمدينة سانت لويس.
____________________
*نقلًا عن موقع “عربي بوست”.