ياقوت العرش : الحبشي الذي صار سيِّد أولياء عصره
بلال مؤمن
لم تكن بشارة أبي الحسن الشاذلي بقدوم أبي العباس المرسي هي البشارة الأخيرة في مدرسة الإسكندرية في التصوُّف، التي صارت الأهم في تاريخ التصوف الإسلامي. فقد استيقظ المريدون ذات صباح على شيخهم وقد تهللت أساريره، وغمرت السعادة وجهه وأعد عصيدة لعموم الفقراء والمساكين، فقيل له: يا شيخنا إن العصيدة لا تكون إلا بالشتاء ونحن بالصيف. أجاب.. هذه عصيدة ابننا ياقوت، وُلد اليوم ببلاد الحبشة.
من الحبشة إلى الإسكندرية
أما كيف انتقل ياقوت بن عبدالله الحبشي من بلاد الحبشة إلى الاسكندرية؟ فتلك حكاية أخرى سكتت عنها كثير من كتب التراجم، بينما نقلتها بعض الروايات. فقد قيل إنه بعد مرور بضع سنوات اشترى أحد تجار الرقيق العرب ياقوتاً ومعه عبيد آخرون. ولما اقتربت سفينته من ساحل الاسكندرية هاج البحر وأوشكت السفينة على الغرق، فنذر التاجر إن نجا أن يمنح هذا الغلام لسيد الإسكندرية ووليها الأكبر أبي العباس المرسي. وحين أراد التاجر أن يفي بنذره وجد الطفل مصاباً بطفح جلدي فاستحى أن يقدم هدية على تلك الهيئة واستبدله بغلام آخر، فلما ذهب به إلى الشيخ أبي العباس رفض استلامه وقال (العبد الذي عينته غير هذا)، فأحضر التاجر ياقوتاً وقال ما تركته إلا لما ترى، فأجابه أبو العباس هذا هو الذي وعدتنا به القدرة، فأخذه ورباه وأعتقه حتى كمل حاله في الطريق وأُذن له في تربية المريدين وسمُاه «ياقوت العرشي» لأن قلبه كان معلقا بعرش الرحمن، وقيل لأنه كان يسمع أذان حملة العرش من الملائكة.
صحب ياقوت العرش الشيخ أبي العباس المرسي، وتزوج من ابنته وقد ترقى في مقام الولاية حتى حاز مقام (الغوثية)، وهو المقام الذي انتقل من أبى الحسن إلى أبي العباس ثم إلى ياقوت، حتى صار كما أورد السيوطي في (حسن المحاضرة) مقصداً للدعاء والتبرك، ذا هيبة ووقار، «تسلَك على أبي العباس ولم يخلف بناحيته مثله”.
أما ابن الملقن في «طبقات الأولياء» فيقول إن الشيخ أبا العباس المرسي كان يثني عليه ويقول (هذا هو الياقوت البهرمان)، وقال عنه الشيح مكين الدين الأسمر (أحد تلامذة أبي الحسن الشاذلي)- رأيت نور الولاية عليه. وُيحكي أنه دخل وبصحبته ابن عطاء الله السكندري، والإمام البوصيري صاحب البردة ،على الإمام أبي العباس المرسي، فقال لهم أبى العباس اسألوا ما شئتم يحققه الله لكم، فقال البوصيري أريد ان أمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يمدحه أحد من قبل ولا من بعد، فأجابه: لك ذلك، فقال ابن عطاء الله: أريد أن تنفتح ينابيع الحكمة من قلبي فأعبر عنها بأوجز عبارة وألطف إشارة، فقال له:لك ذلك، أما ياقوت العرش فقال: أما أنا فأريد أن أكون أنت.. فقال له المرسي: لك ذلك، وفي هذا إشارة إلى تلك الوراثة المنتقلة من أبي الحسن إلى تلميذه أبي العباس، ومنه إلى تلميذه ياقوت.
وقد تحقق وعد أبي العباس المرسي، إذ صنّف ابن عطاء الله “الحكم العطائية” التي بلغت حد الإعجاز في دقة معانيها وجزالة لفظها وإيجاز عباراتها، وصار البوصيري صاحب أشهر مديح نبوي في التاريخ الإسلامي بقصيدته «البردة» التي نظم على غرارها أحمد شوقي قصيدته “نهج البردة”، بينما حظي ياقوت العرش بما اختص به السيد أبو العباس من مقام ولايته الخاصة في عالم الباطن وفقاً للأدبيات الصوفية.
معلومات شحيحة.. وروايات متعددة
وعلى الرغم من ندرة المعلومات التي تناولت حياة ياقوت الذي لم يترك مؤلفاً مكتوباً شأنه في ذلك شأن أساتذته الذين قالوا في ذلك (كتبي أصحابي)، فإننا لا نعدم بعض الروايات الشفهية التي تناقلها عنه تلاميذه من أبناء مدرسة الإسكندرية، منها تلك الرواية التي يثبتها محمد بن عجيبة في شرحه على حكم ابن عطاء الله السكندري من أن أحد الأشراف (المنتسبين لآل بيت النبي) شاهد موكباً لياقوت العرش وقد التف الناس من حوله يسارعون إلى تقبيل يديه، فقال في نفسه (أيحظى العبد الحبشي بكل هذا التقدير ويتجاهلون من ينتسب لآل بيت النبي، فإذا بياقوت يترجل من فوق حصانه ويقبل يديه، ثم يجيبه اتباعي لجدك قربني منه، ومخالفتك له أبعدتك عنه”.
وهي رواية شبيهة بتلك التي نقلها البعض من أن أحد المنتسبين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان رث الثياب، دخل عليه مجلسه، فوجد ياقوت يرتدي ثياباً غالية، فحدثته نفسه بقول (يا مٌقلب الشفاتر يا مشقق الحفائر هكذا أنت، وأنا على تلك الهيئة). فأجابه ياقوت لعلك نهجت نهج آبائي فحسبوك منهم، فأنزلوك منزلتهم، وأنا نهجت نهج أبائك فحسبوني منهم وأنزلوني منزلتهم.
أما الرواية الأخرى التي تناقلها الرواة من أتباع الطريقة الشاذلية، فتقول إن السلطان حسن قدم إليه من القاهرة زائراً فلما رأه وسط أصحابه قال في دخيلته (عبد أسود أعطي كل هذا)، فلما قاربه ليصافحه ضربه الشيخ على رأسه وقال له يا حسن (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) في الإشارة إلى الآية 59 من سورة “الزخرف” «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ» وهي رواية غير دقيقة تاريخياً. فقد توفي ياقوت العرش في عام 732 هجرياً وفي رواية الشعراني في الطبقات 707هجرياً، بينما ولد السلطان حسن صاحب المسجد الشهير عام 735هجريا، أي بعد وفاة الأول بعامين – إذا صدقت رواية الوفاة الأولى.
وعلى الرغم من أن لقاء جمع ما بين الشيخ ياقوت والرحالة الشهير ابن بطوطة، إلا أن ابن بطوطه لم ينقل من أخباره شيئاً، وإنما نقل على لسانه قصة وفاة الشيخ أبي الحسن الشاذلي ودفنه في حميثرة، واكتفى بقوله ( ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي من أفراد الرجال وهو تلميذ أبي العباس المرسي وأبي العباس تلميذ ولي الله تعالى أبى الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية).
وهناك تفسير لهذا الغياب عن سيرة ياقوت الحبشي في مؤلف ابن بطوطه، وهوا امتناع ياقوت عن ذكر شيء من كراماته وفضله، وإنما جعل الحديث بينهما تواضعاً وأدباً عن مشايخه أبي العباس والشاذلي، وهو أمر يتناسب مع ما نقل من أنه كان قد تزوج ببنت الشيخ أبى العباس فكان يعظمها أكبر تعظيم، وكان إذا داخل أحد الأكابر فتحدث إليها لم يقاطعها حتى تنتهي .فيقول .. بنت شيخي فاعذروني، وكان يقول لمريديه على الفقير أن يعظم الناس بحسب دينهم لا بحسب ثيابهم) .
وقد أورد ابن الملقن ترجمة له في كتابه طبقات الأولياء فقال عنه (ياقوت بن عبدالله الحبشي تلميذ الشيخ أبو العباس المرسي مات سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، انتفع به خلق كثير منهم الشيخ شمس الدين بن اللباّن، وكان أبو العباس يقول في حقه: هذا هو الياقوت البهرمان، اعتقته امرأة تدعى بزوجة الشريفي، ولما استئذن على الشيخ أبو الحسن في الاقتداء به قال له.. وجدت اسمك في أصحاب أصحابي).
وثمة حكاية يرويها الشعراني في طبقاته الكبرى جمعت ما بين الشيخ ياقوت والشيخ شمس الدين اللبّان، حين أنكر الأخير على السيد أحمد البدوي حاله فسُلب علمه، فتوسل بكثير من الأولياء عند السيد البدوي فلم يقبل شفاعتهم، حتى شفع له ياقوت عند السيد البدوي فقبل شفاعته، وقد تزوج شمس الدين اللبّان من ابنة ياقوت، ولما مات أوصى أن يدفن عند قدمها إجلالا لوالدها. وقد تتلمذ على ياقوت عدد كبير من رموز المدرسة الشاذلية، من بينهم ابن عطاء الله السكندري، و محمد بن سعيد البوصيري صاحب «البردة» وشمس الدين اللبان.
*مصادر:
-الشعراني .. الطبقات الكبرى.
-ابن الملقن .. طبقات الأولياء.
-ابن بطوطه .. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة.
-ابن عجيبة .. إيقاظ الهمم في شرح الحكم.
*نقلًا عن موقع “أصوات أونلاين”.