“سلطان الهند” الشيخ معين الدين الجشتي الأجميري
“سلطان الهند” الشيخ معين الدين الجشتي الأجميري
مولده ونشأته:
هو شيخ الشيوخ، ملك المشايخ، سلطان التاركين، قدوة الواصلين، وقطب الأولياء، وشيخ الإسلام، ونائب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الهند، العارف بالله، الواصل إلى مدارج السلوك والمعرفة، العابد الزاهد، السخي الكريم، معين الملة والدين، سيدنا ومرشدنا مولانا السيد الشيخ معين الدين الجشتي السجزي ثم الأجميري – رحمه الله رحمةً واسعةً، وأفاض علينا ببركاته وفيوضه دائماً أبداً .
هو أحد الأعلام النابهين من أهل السنة والجماعة، وفرد من رجال التصوف البارزين، الجشتيّ مشربا، والحنفيّ مذهبا، كما عدّه المولوي فقير محمد الجهلمي من جملة الأحناف في كتابه “حدائق الحنفية” ).
أما نسبه فقد ذكر صاحب “مرأة الأسرار” نقلا عن “أنيس الأرواح” وغيره من الكتب أنّ الشيخ من السلالة الحسنية، يتصل بسيدنا رسول الله ﷺ، وذلك على النحو التالي:
هو الشيخ الخواجة معين الدين بن السيد غياث الدين حسن بن السيد طاهر حسن بن السيد عبد العزيز بن السيد إبراهيم بن الإمام علي موسى رضا بن الإمام موسى كاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد باقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام حسين بن أمير المؤمنين علي بن طالب كرّمهم الله تعالى وجوههم الكريمة( .
وجاء في “خزينة الأصفياء” باختلاف يسير، وهو: معين الدين بن غياث الدين بن كمال الدين بن أحمد حسين، بن طاهر بن عبد العزيز ).
وُلِد في 537هـ في “سجستان” التي تطلق عليها العرب “السجز”، وإليها يُنسب الشيخ فيقال: “السجزي” ، وقد يلفظ بعض الناس “السنجري” خطأً، و”سجستان” جزء من “خراسان”، وهي التي تقع أكثرها الآن في “إيران”، وجزء منها في “أفغانستان” ( .
ولم يبلغ من عمره 15سنة حتى توفي أبوه، وترك له بستاناً ورحىً فاسترزق بهما مدة (.
ويذكر بعضُ المترجمين له قصةً لانصرافه إلى التعليم الديني والتصوف الروحاني أنه كان يوما في البستان الذي ورثه من أبيه، إذ جاءه رجلٌ من الصالحين، وهو الشيخ إبراهيم القندوزي، فرحّب به الشيخ ترحيبا حارّاً، وقدّمَ إليه عنقودةً من العنب فتناولها الضيف الوارد الشيخ القندوزي، وأخرج من جيبِه شيئا وأعطاه بعد أن مضغَه، وما أن أكلَه الشّيخ السجزي حتى تغيّرت دنياه وتجلّت له الآفاق بالأنوار الإلهية، فترك الدّنيا وما فيها من مغرياتٍ، وانقطع إلى الله عز وجل( .
يغضّ صاحب “نزهة الخواطر” عن هذا التفصيل إلا أنه يشير إلى التحوّل من مسار الدنيا إلى مسار العلم والسلوك، فيقول: (ثم أخذته الجذبة الربّانية، فترك ما له من العُروض والعَقار وسافر إلى “سمرقند”، فحفظ القرآن الكريم وقرأ العلم حيثما أمكن له، ثم سافر إلى بلاد أخرى) .
بيعته وسلوكه إلى مدارج التصوف:
خرج الشيخ السجزي من “سمرقند” واتّجه إلى العراق، وفي طريقه إليه التقى بحضرة الشيخ الخواجه عثمان الهاروني، في منطقة “هرون” من ضواحي “نيسافور”، فبايعَ على يده الشريفة، ولازمه مدةً طويلةً، يُقدِّرها بعض المترجمين له عشرين سنةً ( ).
جاء في “سير الأولياء” و”أخبار الأخيار”: أن الشيخ معين الدين الجشتي قضى عشرين سنةً في صحبة الشيخ الخواجه عثمان الهاروني، لا يفارقه في حضره ولا في سفره، يحمل على رأسه متاعه، ويقوم بخدمته دون كل وملل وبكل جهد وإخلاص حتى صبّ عليه كل ما كان لديه من علم وعرفان وشرّفه بالإجازة والخلافة) ( ).
وهذه السّلسلة الطيّبة التي اتصل بها السجزي ترتبط بالشيخ الحسن البصري، وهي التي تعرف بالجشتية نسبةً إلى الشيخ الخواجه إسحاق الشامي من سكان محافظة “جشت” التي تقع في “خراسان” على قربٍ من “هرات” .
استفاد الشيخ السجزي أثناء ملازمته للشيخ الخواجه عثمان الهاروني كثيرا في السلوك إلى مدارج التصوف، كما التقى معه بعديدٍ من المشايخ الكرام، وحصل على الفيوض والبركات في عِدّة بلادٍ من الوطن الإسلامي من سيوستان، ودمشق، وأوش، وبدخشان، وبغداد، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، فقد التقى بالشيخ صدر الدين محمد السيوستاني في “سيستان”، ومكث عنده هو وشيخه الهاروني أيّاما، كما قام بزيارة الشيخ بهاء الدين الأوشي، وغيرهما من الصالحين، يستفيد منهم ويتبرّك بهم في صحبة شيخِه الهاروني التي أوصلتْه إلى مدارج عليا في مجال المعرفة والسلوك.
ولم يكتف على هذا القدر من التشرّف بالصالحين والاستفادة منهم، بل قصد البلادَ وجالَ فيها بحثا عن الحقيقة التي أراد بغيتَها بعد أن حصل على إجازة الخلافة والخرقة المباركة من قِبل شيخِه الخواجه الهاروني، ولكن ليعلم الجميعُ أنّه لم يسح البلاد إلا ليرى فيها من نعم الله تعالى ويذكره ويلتقي بأهل الذكر وينتفع بهم، ويدرج مدارك السلوك، جاء في سير العارفين عن سياحته أنه قدم سبخان، ثم جاء إلى “جيل”، من ثمّ أتى إلى “بغداد”، وسافر منها إلى “همدان”، فتبريز، ثم خرقان، ثم استرا آباد، ثم سيردار، ثم حصار، فبلخ، فغزني، حتى ألقى عصا ترحاله في إحدى المدن الهندية بلدة “أجمير”، التي جعلها قدومُه الميمون إليها مقدّسةً وشريفةً. ويبدو من “دليل العارفين” وكتب التراجم الأخرى أنه سافر إلى “أصفهان”، و”كرمان” و”بخارا” أيضا ( .
وقد تشرّف الشيخ أثناء سفره الطويل هذا بزيارة عديدٍ من الأولياء الكبار والصّالحين الأبرار، من أمثال الشيخ نجم الدين كبرى (ت: 618هـ)، في سبخان، والشيخ عبد القادر الجيلاني (ت: 561هـ) في جيل، والشيخ شهاب الدين السهروردي (ت: 632هـ) في بغداد( .
زواجه وأولاده:
توجّه الشيخ إلى الهند فاختار “أجمير” موطنا له، وأثناء قيامه فيها تزوّج إمرأتين، إحداها السيدة عصمة الله بنت السيد وجيه الدين المشهدي، حاكم أجمير، وأخراها السيدة أمة الله بنت ملك هندوسي، التي أسلمت، ورزق الشيخ ثلاثة ذكور وبنتا واحدة، وهم: حضرة السيد فخر الدين، وحضرة السيد ضياء الدين، وحضرة السيد حسام الدين، والسيدة حافظة جمال ( .
خلفاؤه:
لقد كثر الذين أسلموا وتابوا على يده، وأخذوا بيعته، كما كثر خلفاؤه، قائمتهم طويلة، منهم مثلا: خليفته في العاصمة الهنديّة دلهي، قطب الأقطاب حضرة الشّيخ الخواجه قطب الدين بختيار الكعكي، والشّيخ حميد الدين الناغوري، والشّيخ وجيه الدّين، وغيرهم، وممّا يذكر أنه أعطى خلافته ابنَه حضرةَ السيّد فخر الدين أيضا( .
وقيل إنه أعطى خلافته ابنتَه حافظة جمال، ولا شك أنه خبر كاذب لا يصدّق؛ إذ لا يجوز للمرأة أن تتصدّر خلافة المشيخية.
من أوصافه :
كان عابدا ورعا تقيا زاهدا، لا ينام ليلا إلا قليلا، وكان يصلي الفجر من وضوء العشاء، وقد واظب على هذه العادة الميمونة نحو ستين سنة، وكان يكتفي بالقليل من الرزق، فكان يأكل خبزا مبلّلا بالماء كان قد مرّ عليه أسبوع، أما لباسه فكان متردما بالرقاع. رحمه الله( .
وكان يختم القرآن مرّتين، مرة بالنهار ومرة بالليل. قضى حياته كلّها في حبّ الله عز وجل ورسوله ﷺ جامِعاً بين العلم والعمل، سالِكاً مدراك السلوك والمعرفة، حليماً متواضعا وسخيّا كريما، يذكر أنه كان في زاويته مطبخ الخيرات للفقراء والمساكين، وكان يقول ناقلا عن شيخه الخواجه عثمان الهاروني: (مَن كان فيه ثلاث خصال يجعله الله من أوليائه: جود كالبحر، وتواضع كالأرض، وعطف كالشمس ).
انتقاله إلى رحمة الله:
كانت وفاته يوم الإثنين في السادس من رجب المرجب سنة 633هـ، وكان عمره آنذاك 97 سنة، على القول المشهور، كما ذهبَ إليه الشيخ المحقق في “أخبار الأخيار” ، وكذا استخرج صاحبُ “سير الأقطاب” تاريخَ وفاته من كلمة “آفتاب ملك هند” سنة 633هـ ( ).
وقال صاحب “خزينة الأصفياء” أنّ جميع مَن ترجموا له يتفقون على وفاته يوم الإثنين في 6 من رحب المرجب عام 633هـ ).
أمّا صاحب “بزم صوفية” فقد رجّح تاريخا آخر، فقال: إنْ وصل الشيخ إلى أجمير عام 588هـ فهذا يعني أن وفاته كانت في 627هـ، وعمره آنذاك تسعون سنةً، ومدة إقامته في أجمير 39 سنة ).
وكذلك يتفق جمعُ مَن ترجموا له أنه ظهر على جبينه بعد وفاته منقوشا: “حبيب الله ماتَ في حبّ الله” ).
ومشهده في أجمير من ولاية “راجستهان” الهندية مشهور، حيث يرتاده المسلمون وغيرهم من الملل المختلفة طيلة الأعوام للتبرك والاستذكار، ممّا يدل على مكانته العظيمة في قلوب الناس من المسلمين وغيرهم.
من آثاره العلمية والروحانية:
لملفوظاته الثمينة وكلماته القيّمة ونصائحه الغالية مجموعة منشورة ومعروفة في أوساط العلماء، تسمّى بـ “دليل العارفين”، جمعَها ورتّبها أحد أقرب خلفائه قطب الإسلام الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي، بدأها في 514هـ قبل قدومه الميمون إلى أرض الهند، وهي تشمل على 12 مجلسا، وكانت المجموعة قد ألفت باللغة الفارسية ولكنها ترجمت بالأردية وتمّ نشرها ).
وتعدّ ملفوظات الشيخ السجزي بحرا من بحار المعارف فيه اللآلي والجواهر من العلوم والحكم وأسرار الطريقة والحقيقة والسلوك والمعرفة بالله والأوراد وغير ذلك.
وكثير من ملفوظاته وردت في كتب الأعلام والتراجم، فقد جاء في “سير الأولياء” أنه كان يقول: (من علامات المعرفة بالله أن يبتعد العبد عن الخلق ويلزم الصمت دوما) .
وكان يقول إنه من علامة المحبّ الصادق أن يسلّمَ نفسه دائما لطاعة الله عز وجلّ، وعليه أن يخاف دائما من أن يُطرد من جناب الله تعالى. ومن علامة الشقاوة أن يتلبّد بالمعاصي والذنوب ثم يرجو أن يكون عبدا مقربا عند الله ).
وقال: (مَن شاءَ أن ينجوَ من عذاب يوم القيامة فليقم بأفضل العبادات، قيل وما هي؟ قال: إغاثة الملهوفين، وقضاء حاجات البائسين، وإطعام الجائعين. وقال: من كانت فيه ثلاث خصال فاعلموا أنه من أولياء الله: جود كالبحر، وعطف كالشمس، وتواضع كالأرض) .
الشيخ في معقل الهندوس أجمير الجبلية:
كانت تُعدّ “أجمير” بلدةً خطيرةً من الناحية الجعرافية والسياسيّة والدينيّة، أمّا الناحية الجغرافية فهي منطقة جبلية، تجاور دلهي عاصمة الهند، وللمجاور شأنٌ ما ليس لغيره. وأمّا من الناحية السياسيّة فهي كانت بمثابة العاصمة، أو أهم منها؛ إذ إنّ الملك “بتهورا” الذي كان يحكم دلهي وأجمير كلتيهما، كان منها، ولهذا كانت هذه البلدة تحت عنايته الخاصة، مركزاً سياسياً.
وأمّا من الناحية الدينية فكانت تُعدّ “أجمير” معقلا للهندوس؛ لأنها كانت موطنا لأغلب الطبقات العليا من “راجبوت” الذين من شأنهم أن يحكموا البلاد، حسب المعتقدات الهندوسية.
والطبقات العليا من الهندوس هي التي ترجع إليها الزعامة في المذهب الهندوسيّ لتمايز الطبقات والتفريق بينهم.
ومن العجيب أنّ هذا الشيء الذي كان فخرا للهندوسية، في نفس الوقت كان الشيء نفسه موطن ضعفٍ فيها، فقد استغلّها الدّعاة المسلمون بأنْ دعوا إلى المساواة ونبذ التمايز.
على كلٍّ اختار الشيخ هذه البلدة موطناً له مع خطورة شأنها ووعورة مسالكها، ليحوّلَها مركزا إسلاميا، ومقرّاً روحانيّاً، وقاعدةَ أمنٍ وسلامٍ ينطلق منها الإسلام لينتشر في ربوع الهند كلّها، فقد اجتاز الحدودَ الغربيّة ووصل إليها قبل أن يتمّ فتح الهند على يد الملك شهاب الدين الغوري.
هذا ما اتفق عليه المؤرخون لكنّهم اختلفوا في كيفية السفر وزمنه، فقد تضاربت الآراء، والذي أكّده أغلب المترجمين له هو أنه جاء إلى “أجمير” في زمن “بتهورا راي” ملك “أجمير”، جاء في “أخبار الأخيار” للشيخ المحقق عبد الحق المحدث الدهلوي أنّ الشيخ الجشتي قدم إلى “أجمير” في زمن “بتهورا راي”، واشتغل في العبادة.
مهما كان الأمر فإن جهود الشيخ الأجميري حوّلت الهند من ديار الكفر ومعقل الشرك إلى ديار الإسلام والمسلمين، فقد بدأ الإسلام يزحف المدن والقرى وينتشر في أرجاء الهند، وبدأت تنقطع حبال الكفر والشرك في هذا البلد شيئا فشيئا، وأصبحت كلمة الله هي العليا.
إذن لم تكن لهمّة الشيخ السجزي العالية وروحانيته القويّة دورا في فتح أجمير فحسب، بل يرجع إليه الفضل في فتح الهند كلها وترسيخ دعامة الإسلام فيها؛ فلولا إرادته القوية وإيمانه الراسخ وعزمه الثابت مثل الجبال لما رأتِ الهند نورَ الإسلام، ولما انتشر الأمن والسلام، وكانت الهند قد بقيت على عهدها القديم يحرق أهاليها من الهندوس الزوجات مع أزواجهن إذا ماتوا، إلا أن الإسلام هو الذي عمَّ البلادَ فعمَّ الحبُّ والوئام، وسادَ جوُّ الوُدّ والاحترام، وأصبح الناس إخوانا فيما بينهم، كأنّهم أسنان مشط، كما قضي على التمايز العنصري واختلاف الطبقات، ونُبِذ التطرّف وحلّ الاعتدال في الفكر والسلوك، ممّا نهضت الهند حضاريا، وتعرّفت على مظاهر التقدّم في جميع المجالات من العلوم والمعارف والعمران، وكل ذلك بفضل المسلمين الذين وفدوا إليهم بخزائن مادية ومعنوية، لم تكن الهند تراها من قبل.
بل أصبحت الهند مركزا جديدا للإسلام والمسلمين، وبدأت دلهي تهب أن تغدو عاصمةً جديدة للإسلام، وتحلّ محلّ بغداد إذا انتزعت من المسلمين، إذ بدأت العقول العربية الإسلامية النيرة تنتقل إليها من بغداد والمدن الإسلامية فرارا من هجمات التتار، فقد توجّه إليها نخبة، فيهم العلماء والمفكرون والدعاة المتصوّفون الذين إذا وفدوا إلى الهند جاؤوا بعلومهم الشريفة، وأفكارهم النيرة، وثقافاتهم الغزيرة، وأخلاقهم المثالية الفاضلة، وحضارتهم الخالدة النافعة، التي جعلت الهندَ خليفةً لبغداد، ودمشق على مدى سنوات.
وفحوى القول إنّ الشيخ الأجميري قد أدّى دوراً مثاليّاً في إشعال شموع الإسلام في ديارنا هذه، فهو من السّابقين الأوّلين الذين ارتادوا الهند، ناشرين الإسلام ونفحاته في أرجائها، ولكثرة ما أسلم الناس على يد الشيخ الأجميري لقّب ﺑ “وارث النبي ﷺ في الهند”، كما يلقّب ﺑ “سلطان الهند” أيضًا.
_____________________________
*نقلًا عن موقع ” المشاهد” على الفايسبوك- بتصرُّف.