الأولياء في المغرب بين سلطــة الضريــح ورمـــزيَّة المـكان
محمد القاضي
كاتب من المغرب
أجمع العديد من الباحثين المهتمين بالتراث الشعبي على أن الثقافة الشعبية هي مجموع الفكر الشائع داخل الأوساط الشعبية، ويشمل طرف الإدراك الخاصة بالمجتمع الذي يجتث في إطاره باعتباره جزءا من الإنتاج الذهني الشعبي في فترة معينة. وتنتج عن هذه الثقافة الشعبية الطقوس والأعراف وفنون القول وأشكال العمران وغيرها، وهي ليست جامدة وإنما هي قوة خلاقة للعمل والإنتاج الجماعي. وبما أن بصمات الماضي تبقى بارزة في حياتنا العمومية والاجتماعية، بل ربما شكلت اختيارا سياسيا وثقافيا وشعارا للذين يرفضون التطور مبدئيا، وهو ما نلمسه ونعايشه في المغرب، مع ظاهرة تقديس (الأولياء) أو (الصلحاء) أو (السادة) أو (المرابطون) أسماء متعددة والمعنى واحد. ثم المكانة المتميزة التي يحظى بها هؤلاء لدى طائفة كبيرة من المجتمع المغربي على مختلف مستوياته الفكرية ودرجات وعيه وإيمانه، والاعتقاد السائد أن هؤلاء (الأولياء) هم قادرون، ويتوفرون على علاقة خاصة بالله تجعلهم في موقع يمكنهم من لعب دور الوساطة، ويتوفرون على ميزة (البركة). ويشار في هذا المجال كما يقول استاذنا الدكتور عباس الجراري أنه مازال متداولا حتى الآن، من أن لكل مدينة أو قرية (ضامنها) و (حاميها) كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمولاي إدريس في فاس، وسيدي بنعيسى في مكناس. وقد يتعددون على نحو سيدي أحمد اليابوري ومولاي إبراهيم وسيدي العربي السائح في الرباط، وسبعة رجال في مراكش، وهم: يوسف بن علي الصنهاجي، والقاضي عياض، وأبو العباس السبتي ومحمد بن سليمان الجزولي، وعبد العزيز التباع، وعبد الله الغزواني، وعبد الرحمن السهيلي1. ومولاي علي بن راشد في شفشاون، وسيدي المنظري وسيدي السعيدي في تطوان ودار الضمانة (مولاي علي الشريف) بوزان، وسيدي بن عاشر وسيدي بن حسون في سلا، وسيدي بوعراقية في طنجة، وللا منانة المصباحية بالعرائش، وسيدي علي بوغالب بالقصر الكبير، وسيدي بوليوط بالدار البيضاء، وسيدي عبد الله أمغار بالجديدة، وغيرهم كثير في باقي المدن والقرى المغربية… أولياء لكل تاريخه وكراماته وطقوسه، والغريب في الأمر أن عددا كبيرا منهم ينحدرون من الفئات الاجتماعية الدنيا.
ويعتبر المغرب البلد العربي الوحيد في شمال إفريقيا، الذي يحتل فيه (الأولياء) مكانة جد متميزة في المتخيل الشعبي حيث تحظى أضرحتهم بقداسة تمزج الديني بالخرافي، وتستثمر كما يقول الباحث المغربي الدكتور الحسين بو لقطيب: «الرأسمال الرمزي للأسطورة بغاية تحقيق أهداف تجارية واضحة إلى جانب أهداف أخرى مستترة»2 فلا تخلو مدينة أو قرية من أضرحة يطلق عليهم (رجال البلاد)، والوافد إليها من الغرباء يردد (شيلاه أرجال لمكان) ظنا منه أنه بهذا يستأذن سكانه والثاوين فيه، ويتأدب معهم ويسالمونه ويعلنون أنهم لن يؤذوه.
وقد تحدث الباحث (بول باسكون) عن مائة وخمسة آلاف ضريح للأولياء في جميع جهات المغرب، يلجأ إليها الناس للتبرك أو طلب (التشفع) و(المعونة) من صاحب المقام الذي ينظر إليه الناس باعتباره (وليا من أولياء الله، وصاحب كرامات) يعالج الأمراض العقلية والنفسية. دافعه الشعور بالعجز لدى الإنسان، لانعدام وسائل المقاومة والصراع لديه. «وغير خاف أن المعتقد يتأثر بواقع البيئة ونوعية الجنس الذي يعيش فيها، وما عرفه من تطورات وما كان له خلالها من احتكاك بغيره. وما عرفه من تطورات وما كان له خلالها من احتكاك بغيره. وهو ما يكون مختلفا حين تكون البيئة منغلقة على نفسها، وغير متفتحة على غيرها، عبر ديانات وما أنتجت من حضارات وثقافات، ومن خلال ما يسبقها من مراحل كثيرة وثنية، قبل أن تتبلور في الأديان السماوية. وإذا كان الدين يؤثر بعمق في جميع المظاهر الاجتماعية ويتحكم فيها تحت نظر المجتمع والسلطة، سواء بالنسبة للحياة الخاصة أو العامة، فإنه يظل المعتقدات لتلك المراحل السابقة عليه – أي حتى حين تضعف أو تضمحل أو تنسى – حضور ما قد يكون قويا في الممارسات وفي المشاعر والأفكار والعادات والتقاليد، أي في ثقافة المجتمع. وعلى العموم، فإن المعتقد بكل ما ينتج عنه يطبع ذهن الإنسان ومزاجه وعاطفته وفكره»3. وتتجلى سلطة الضريح كمجال مقدس في طقوسه وممارسته التي يفرضها على داخله، إذ أن الزائر لا يمكنه الاقتراب من هذا المجال المقدس دون أن يضع نفسه رهن إشارة قوى ليس هو صاحبها وبالتالي فهو ضعيف كل الضعف أمامها، فعليه الامتثال لطقوسه وشعائره.
فأي سلطة كانت لهؤلاء الأولياء سواء وهم أحياء يرزقون أو بعد مماتهم وهم تحت التراب؟ إن لكل قبيلة أضرحتها، ولكل ضريح حكاية دفينة وموسمه الذي يعقد لذكراه! يرى (بول باسكون) أنه يمكن لفضائل هؤلاء الأولياء أن تكون خارقة، مثل سيدي رحال الذي كان يحوم في الهواء حول صومعة «الكتيبة» بمراكش ويمتطي أسدا في قفص سجنه فيه سلطان رهيب، كما يمكن أن تكون إفراطا في الزهد أذهل معاصري الولي، مثل سيدي إبراهيم الذي كان يقتات بتمرة في اليوم. وقد اشتهر مؤسس زاوية تاسافت بالأطلس الكبير بأنه كلي الحضور4.
يتميز كل «ولي» في المغرب بقضاء نوع معين من الحاجات: جلب الرزق، الزواج، الأولاد، منع الحسد، جلب المحبة والكراهية، إبطال السحر، إحداث الربط أو «الثقاف»! علاج الصرع، وغير ذلك من الرغبات. وخلف هذا الهدف، تكمن ظاهرة تقديم الذبائح والنذور و«الزيارات» أي مقدار من المال، يوضع في صندوق الضريح، أو يمنح لخدمه الذين يوجدون باستمرار، ويكونون رهن إشارة الزائرين.
ويبدو أن هؤلاء الخدم كان لهم الدور الكبير في إشاعة كرامات الولي صاحب الضريح، ليزداد الناس إيمانا «ببركة الولي»، وفي كثير من الأحيان تلعب الصدفة دورها في تحديد تخصص الولي وقدرته على قضاء الحاجات؛ وكما هو معروف فإن المريض المغربي لا يبوح بسره وب (عاره) إلا في فضاء الضريح الساكن الموحي بالرهبة والخشوع، بل أحيانا يخاف أن يكشف للطبيب المختص عن سر مرضه!!
إن أهم ما يميز الضريح في المغرب هو (القبة) «وهي الشكل الهندسي الأكثر ذيوعا في بناء الأضرحة، وترمز الى تلك القطيعة التي يحدثها المكان المقدس داخل إنسجام المكان العام، فهي بمثابة تلك الفتحة التي يمكن المرور بواسطتها من منطقة كونية إلى أخرى، فشكل بناء القبة المكعب، يرمز إلى قداسة المكان ولهذا تعتبر قبب الأضرحة البيضاء إحدى الصور والمظاهر التي يتم التعبير من خلالها عن اتصال العالم الأرضي الدنيوي بالعالم السماوي موطن تجريد وإطلاقية المقدس.»5 والجدير بالذكر أن كل ولي يقام له موسم سنوي احتفالا بذكراه، وعادة ما يكون بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف أو في فصل الربيع أو الصيف بعد موسم الحصاد. ويذكر الأستاذ عبد الكريم غلاب أن الاحتفال بالمواسم أو ذكريات رجال المدينة. وخاصة مولاي إدريس وسيدي علي بوغالب، كانت تشارك فيه جميع طبقات المجتمع الفاسي: الصناع والمعلمون وعمال وتجار وفلاحون وعلماء، رغم أن رجال الصناعة التقليدية يعتبرون هم القائمون على موسم مولاي إدريس مثلا، والحلاقون يعتبرون هم القائمون على موسم سيدي علي بوغالب 6. ونفس الشيء بالنسبة لموسم سيدي الهادي بنعيسى بمكناس وهكذا مع باقي المواسم في المدن الكبرى.
الأولياء وعلاج المرضى
الكثير من «الأولياء» إن لم نقل جلهم، يعتقد فيهم الناس (العلاج) من بعض الأمراض التي تصيب الإنسان في حياته، وسوف نقتصر على ذكر بعض الأولياء الذين اشتهروا – حسب الاعتقاد – بعلاج العديد من الأمراض على اختلافها، وغالبا ما تكون نفسية أو وهمية، ثم نحاول أن نقف عند بعض الطقوس التي تمارس داخل هذه الأضرحة، وهي غريبة وعجيبة يحير الإنسان في كيفية ترسيخها في الذاكرة الشعبية الى الآن. ويرى (باسكون): «أن توسط الأولياء يمكن من تشكيل الأفكار الأخلاقية وإدامتها وغالبا ما يساءل الولي من أجل تدعيم ضوابط الحياة الاجتماعية. ولذلك فإن رباط الولي رهان في أيدي القوى القائمة … ومن هنا تأتي وفرة الأولياء. وما دامت الأضرحة المتألقة الكبرى في خدمة السائدين، فإن بسطاء الناس مرغمون على التوجه إلى شخصيات أكثر غموضا وأكثر فظاظة»7، نبدأ بالجهة الشرقية (وجدة وتازة) بحيث نجد أشهرهم في مدينة وجدة بالخصوص وهو (سيدي يحيى بن يونس)، يقال عنه بأنه الولي (المخفي)، ولا أحد يعرف أين يوجد قبره بالضبط، لكن بعضهم يعتقد أنه يوجد على مسافة ثلاثة أقدام من المنبع الكبير قرابة أشجار (السدرة) ولهذه الأسباب ترى قطعا من القماش هناك تحت الشجرة مائلة جدا. ولكن من يكون يحيى هذا؟ المسلمون يعتبرونه منهم، واليهود يعتقدون أنه وليهم، وهو أندلسي هاجر إلى وجدة التي استقربها سنة 1391م!!.
واشتهر (سيدي يحيى) بعلاج العقم عند النساء، ومختلف أنواع الروماتيزم، ومس الجنون. ويلاحظ أن إسم (يحيى) متداولا بكثرة في وجدة ونواحيها تيمنا بالولي المخفي (سيدي يحيى)!!
أما (سيدي أحمد التونسي) فيوجد قبـره بحـي أولاد عمران بوجدة ويقال إنه جاء من تونس، ومازالت بعض العائلات الدكالية التي تحمل لقب التونسي. ويشتهر بقدرته على معالجة الأطفال المضطربين (الهائجين).
بينما يقوم (سيدي عاصم) المدفون بوجدة كذلك، بمعالجة المصابين بالرمد (التهاب الملتحمة). ويقال بأنه عايش القاضي سيدي إدريس والسيد التومي في القرن الرابع عشر الميلادي. أما (سيدي الشافي) الذي يوجد قبره قرب المسجد الجديد الذي بني مؤخرا قرب الولاية، ويجهل كل شيء عن هذا الولي. وكان الناس يقصدونه لطلب الشفاء من الأمراض ككل الأولياء. يقال أنه أراد بعض المحسنين بناء قبة على قبره، ولما انتهى العمال من بنائها سقط الكل دون أن يمس أحدا!
ومن الأولياء المعروفين بمدينة وجدة نذكر (سيدي إدريس) ويوجد وسط اشجار الزيتون على شمال طريق (زوج بغال)، بني على قبره قبة وبجواره مصلى ومكان صغير للعبادة جنبا إلى جنب تحت شجرتين جميلتين، (مازالتا قائمتين إلى الآن) يحظى بقدسية من طرف الساكنة، ويقصدونه بكثافة يومي الخميس والجمعة من داخل وخارج مدينة وجدة.
ويقال بأنه جاء من الصحراء واستقر بالمدينة سنة 1345م واشتغل بالقضاء. توفي أواخر القرن الرابع عشر الميلادي ولم يترك ولدا، لكنه ترك كل ما كان يملكه للحبوس من أجل صيانة بيوت الله يقصده الزوار للتبرك والعلاج من الأمراض النفسية كالحسد والحقد، وطلب الأولاد!. نكتفي بهذا عن مدينة وجدة وننتقل إلى أولياء مدينة تازة التي تشتهر هي الأخرى بالعديد من الأولياء الذين كان لهم شهرة ومازالت الى يومنا في وسط الساكنة ومحيطها، وتشد الرحال إليها حسب الطقوس التي سنها الأوائل وورثها الأحفاد. نذكر منهم ( سيدي علي بن عبد الله) الذي اشتهر بمعالجة المس من الجن، ويشترط المبيت فيه ثلاثة أيام مع تقديم الذبيحة (ديك.. أو كبش). ثم (سيدي عيسى) الذي اشتهر بعلاجه للأطفال المضطربين (الهائجين) بحيث يؤخذ الطفل المصاب إلى الضريح مع أمه أو جدته أو أخته، ويترك وحده بداخله لبضع دقائق مع دفع «الزيارة» (مقدار من النقود) دون شرط مسبق!
يوضع في صندوق الضريح أو يمنح لمقدم (خادم) الضريح. ويعالج (سيدي علي بن بري) كذلك المس من الجن، وتتم الزيارة في ثلاثة أيام خميس ليتم العلاج حسب المعتقد. أما (سيدي عزوز) «مول البلاد» فهو متعدد التخصصات فكل من له مشكل من الرجال والنساء يلجأ إليه للتبرك، وفي يده شموع يوقدها قرب الضريح أو يتركها بجانبه. و(سيدي أحمد زروق) فهو يعالج العقم (التي تلد البنات فقط وتريد إنجاب الولد!)8.
أما (سيدي محامد ابن احمد) الموجود بمنطقة غياثة / إقليم تازة. فهو بالنسبة لأهل غياثة أعظم الأولياء، وتعتبر أيام الأربعاء والخميس هي الأيام المحببة لزيارة ضريحه والتبرك منه، ويكثر زواره في فصل الصيف طلبا للاستثناء لأجل الحصول على وليد مبارك، يرتل فيه آيات من القرآن الكريم والدعاء لصاحب الطلب الذي يقدم هدية للضريح (مال + ذبيحة). يعقد موسم سنوي كبير في (باب مرزوقة) يحج إليه سكان القبائل المحيطة به، وتكثر فيه الذبائح، في مقابل الاستفادة من بركته.
تخصص موارد الضريح لأهل الواد، ودوار الجامع الكبير وبنو إيجن والطواهرية الذي يخصصون تلثا للنساء الحوامل، والثلث الثاني لإطعام المساكين، والباقي لإعالة الطلبة الذين يعيشون ويعملون بين أفراد «غياثة» أو الذين يأتون من القبائل المجاورة لحفظ القرآن ودراسة المتون تحت إشراف رجال ينتمون إلى «العرابين (آل عرابي)».
منطقة دكالة / تجمع الصلحاء
تزخر منطقة دكالة بالعديد من الأولياء والصلحاء، اشتهروا «ببركاتهم» في جميع أنحاء المغرب لدرجة أن ابن الزيات في كتابه (التشوف إلى رجال التصوف) ترجم لثمانية وأربعين فردا من دكالة الكبرى. ويوجد بها من الأضرحة والقباب والمزارات، حوالي 360 ضريحا ومزاره، بحيث لا يكاد يخلو دوار أو قبيلة أو مدينة من ضريح أو قبة لولي يحظى بتقدير سكانه وتبجيله. بل ويفد عليهم الكثير من الزوار من جهات مختلفة، وتمارس فيها طقوس غريبة وطلاسم عجيبة. كما هو الشأن بالنسبة لطقس أداء اليمين بضريح مولاي عبد الله أمغار بالجديدة، عاصمة الإقليم (هناك قرية تحمل إسمه على بعد عشرة كيلومترات) بحيث يفرض على المحكوم عليه بأداء اليمين، أن يجعل في يده اليمنى عكازا وفي يده اليسرى قدحا وعلى رأسه قبعة تسمى (كرازة) ثم يؤدي اليمين ثلاث مرات أمام عدد كبير من الناس في مكان يطلق عليه (المحلفة). أما طقس الصرع الذي يمارس في ضريح سيدي مسعود بن احساين والذي ينطلق من الإمساك بأصبع المريض الممدد على الأرض وقراءة – في نفس الوقت – الآيات القرآنية وبعض الطلاسم المحلية لطرد الجن من جسم المريض. كما قد تنتقل هذه الطقوس إلى حالات أخطر تتمثل في تقييد المريض بالسلاسل الحديدية وضربه ضربا قويا، ثم حبسه في مغارات أرضية لأيام طويلة، وتسمى هذه المغارات «بالخلوة» حيث يمنع المريض من رؤية الناس ومخالطتهم حتى يعود له هدوءه، ويمارس هذا الطقس في حالته الأولى على مرأى ومسمع من الناس، في حين يمارس في عزلة في حالته الثانية، وهناك طقوس تمارس داخل الأضرحة في جلسات مغلقة وسرية تامة ولا يحكى عن مضامينها، ومنها. (وسيدي مسعود بن احساين)، وهي لا تخلو من غموض، من حيث وظيفتها، إذ يصعب القول بوظيفة واحدة ووحيدة للطقس كما يقول الباحث الاجتماعي عبد الغني منديب9.
إن زيارة ضريح (سيدي عبد الله أمغار) تتميز بطقوس خاصة، وزواره بالآلاف يحجون إليه من جميع الأطراف طلبا للتبرك والعلاج من مرض أوفك ضيق «دواك في مولاي عبد الله»، فما أن يتقدم الزائر نحو الضريح حتى تطالعه وجوه رجال ونساء بهيئة رثة يمدون أيديهم طالبين (الصدقة)، وعلى طول الممر الذي يؤدي إلى الضريح تصطف دكاكين يستغلها البعض للإقامة والبعض الآخر للتجارة، تعرض لوازم الزيارة من شموع وبخور ومجامر طينية، ويعرف رواجا يومي الجمعة والأحد من كل أسبوع، أو في أيام (الموسم) الذي ينظم في شهر يوليوز أو غشت من السنة، يجمع ما بين هو ديني تقليدي ومراسيم الفرجة. ويوجد بداخل الضريح (المحلفة) وقد سبق الحديث عنها و(المشور) وهو مكان يقف فيه كل من أعجزته الحيلة في نيل حق مسلوب أو الاقتصاص من غريم أو عدو قاهر. والعادة المترسخة تقضي بأن تمسك الزائرة بدثار رأسها ثم تشرع في مسح أرضية (المشور) به وهي تردد الأدعية وتستمطر شتى المصائب على الغريم… وبعيدا عن فضاء الولي، وعلى جانب قريب من الشاطئ الصخري. ويوجد مكان للاستحمام خاص بالنساء يطلق عليه (المحكن)= (المستشفى السحري) الذي ينسب إلى مكانة القدرة على طرد (العكس) وجلب العرسان وشفاء الأمراض المستعصية على العلاج الطبي وغيرها من أعطاب البدن والمجتمع. والإقبال عليه يكون على مدار فصول السنة، بحيث تقوم الفتيات بالاستحمام في الهواء الطلق مع إطلاق البخور، وأحيانا في فصل الشتاء وتحت الأمطار، ويختص يوم الجمعة بامتياز خاص، هدفهن هو جلب العريس، وذهاب الضيق والنحس.
ويكتسي موسم مولاي عبد الله أمغار أهمية متميزة في وجدان ساكنة «المنطقة الدكالية» وفي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والروحية، بحيث يقوم البراح (المنادي) في الأسواق الأسبوعية معلنا عن موعد انعقاد الموسم، وعبر وسائل الإعلام كذلك، فيتهيأ الجميع لهذه التظاهرة من رجال السلطة والفرسان، وتقام الخيام لاستقبال الزوار؛ ويكون الافتتاح يوم الجمعة حيث تبدأ الطقوس والعادات المتوارثة بتقديم كسوة الضريح والذبيحة في موكب رسمي على أنغام فرق عيساوة كما تقوم (السريات) بزيارة الضريح للتبرك وطلب (التسليم) درءا لحدوث مكروه. وتقتضي عادات الموسم أن ينصرف الناس إلى قضاء مآربهم في الصباح، ويتجه الزوار نحو البحر، بينما يخصصون فترة بعد الظهر للتفرج على ألعاب «الفانتازيا»، يرتدي الفرسان ملابسهم التقليدية ويركبون جيادهم انطلاقا من خيامهم الى ميدان الفروسية وهو ما يصطلح عليه محليا (المحرك)، عشرات الفرسان تجتمع في صف واحد (السربة) وكل سربة تمثل جماعة أو قبيلة في انتظار إشارة من قائدهم (العلام) للانطلاق وحين يصيح (أهاو أهاو) ترفع البنادق عاليا ثم يردد (الحافظ الله) كإشارة يبدأ الانطلاق للعدو والركض. وبانطلاق البارود موحدا عند خط الوصول تعلو زغاريد النساء وهتاف الحناجر بالصلاة على النبيﷺ، إيذانا بنجاح السربة وحين يخطئ أحدهم بالضغط على الزناد خارج السرب يعاقب بالترجل عن فرسه وسط حنق وسخط أبناء قبيلته أو الجماعة التي ينتمي إليها. وفي الليل تكثر الفرجة، وتعرف الأزقة ازدحاما كبيرا، حيث توجد فرق عديدة تؤدي ألوانا من الفلكلور والفنون الشعبية، والسيرك، والموسيقى، والألعاب البهلوانية وغيرها 10. إنها ثقافة جديدة تؤسس لفرجة شعبية مجانية، وكل ما يحتاج إليه الموسم هو التنظيم المحكم
أبو شعيب أيوب المعروف بالسارية
يرتبط اسم أزمور بضريح مولاي بوشعيب السارية وهي إحدى المدن المغربية التي ترتبط بالتواجد البرتغالي ومازالت تحمل بعض بصمات تلك المرحلة. فقد كانت مسرحا للعديد من المعارك التي دارت بين البرتغاليين وبني مرين. وقد اشتهر هذا الولي عند معاصريه بعدة خصال منها الغيبوية عن الحس في معظم الأوقات حتى إذا قام يصلي ويقرأ لا يكاد يركع أو يجلس فدعي لذلك (بالسارية) والمكاشفة عن الخواطر. يقول عنه المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي: «إن دور مولاي بوشعيب في تصفية نفوس أهل هذا الإقليم لا يقل أهمية عن دور كبار المصلحين وكبار الدعاة، وقد كان في صدر الذين أنجزوا المهمة… وسيظل معلمة تاريخية للذين يبحثون على مراحل النضال التي عرفتها هذه المنطقة… وسيظل على رأس القائمة الطويلة لرجال الفضل ورجال الخير ورجال العمل ممن نعتز بهم… لقد كان المغاربة بارين برجالهم عندما أعطوا اسم (بوشعيب) لأبنائهم وفلذات أكبادهم، إن مولاي بوشعيب أزمور يستحق مثل ذلك التكريم من بني قومه»11. ويقال بأن صالحة عراقية تدعى عائشة كانت تتمتع بخصال مماثلة، وقد أعجبت بما عرفت من تقوى الشيخ وزهده وورعه، فكانت تناجي أباشعيب – على بعد الديار و- ويناجيها.
وتوطدت بينهما الصحبة والمحبة في الله. توفي مولاي بوشعيب حسب ما جاء في كتاب (التشوف الى رجال التصوف) للتادلي سنة 561هــ ويذكر له العديد من الكرامات أنظر (صفحة 187 إلى 191)، ويقام له موسم كبير كل سنة يحج إليه الزوار من كل أنحاء المغرب، فيختلط الرجال والنساء والأطفال في بوتقة الفرجة يوحدهم المكان بما يحمل من إرث شعبي توارثته الأجيال عبر قرون وقرون، والكل يقصده حسب نيته؛ العلاج، طلب الأولاد، والأزواج. وإذا كان يجهل الكثير عن تاريخ للا عائشة البحيرة، فإن أبا شعيب يحظى ضمن أدب المناقب بالكثير من التأليف كما تسهر ذريته على تدبير إرثه المكتوب والمروي وأيضا على شؤون ضريحه، والمخطوطات حبلى بالمعلومات عن مناقب هذا الولي الصالح عاصر نهاية الدولة المرابطية وصعود الدولة الموحدية. بينما تاريخ الولية يلفه الصمت المطبق، وكل الروايات الشفوية التي تتحدث عنها تلفها الأسطورة وأخبارها توارثت عبر الخرافة الشعبية بالرواية الشفوية الشكل الأقدم للأدب الخيالي الغير المكتوب الذي أنتجه الإنسان المغربي القديم.
والغريب أنه لا يمكن أن يذكر مولاي بوشعيب دون أن تذكر الولية (عائشة البحرية) المدفونة بأزمور، وتقول الرواية الشعبية: كان أبو شعيب يقذف إليها بالكرة قائلا: (هاكي أعائشة في بغداد) فتردها إليه قائلة: (هاك أبو شعيب في قرن الواد)، ويحظى ضريحها حتى اليوم بتقدير نساء أزمور اللائي يقمن بزيارتها في اليوم السابع من الأعياد الدينية، كما يقصدها الكثير من الزوار من كل أنحاء المغرب وخصوصا الفتيات والنساء الراغبات في الزواج، وضريحها عبارة عن غرفة صغيرة تمتد على مساحة تسعة أمتار مربعة يتقدمها من الأمام سور يتوسطه باب وخلفها غرفتان صغيرتان تستخدمان «للاغتسال»، إحداهما للنساء والأخرى للرجال، كما يوجد على مقربة منها بئر يتصل بالبحر. وللزيارة طقوس خاصة يجب اتباعها حتى «يقضى» الغرض من الزيارة.
وتبدأ الزيارة بالدخول إلى الضريح للتبرك وتقديم القربان، دجاجا كان أو شمعا أو نقودا، واقتناء بعض البخور والحناء من «البوابة» التي تجلس على رأس الضريح. اما الحناء فتمزج بماء الورد، ثم تكتب بها إسمك على حائط الضريح. بينما يستعمل البخور بعد الاستحمام بماء البئر بواسطة (مجمر) صغير يلزم كسره بعد ذلك. ولابد للزائرة أن تنهي زيارتها «للا عائشة البحرية» بزيارة الولي الصالح مولاي بوشعيب وإلا بطل مفعول تلك الطقوس، ولا تسمع سوى (الله يبيض سعدك ويلاقيك مع ولد الناس).
ولأهل مراكش نساءهن الصالحات بما يليق بهن من تعظيم وتقديس وفق معتقدات موروثة كما هو شأن (للا عويش) التي يظن البعض أنها تشفي من بعض الأمراض وتحكم الجن، وهو اعتقاد موشوم في الذاكرة الشعبية. ضريحها ينتصب وسط باقة من منازل عتيقة. جاءت من سبتة إلى مراكش بعد ما هربت من زوجها المخمر، كراماتها كثيرة في مقدمتها إشفاء المرضى الذين يأتون لزيارتها، يستحمون بماء بئرها ويظلون في الضريح ثلاثة أيام حتى يأتيهم الشفاء من عند الله… ويقام بضريحها جلسات أسبوعية للحضرة كل يوم جمعة وما زال إلى يومنا هذا، كما يقام لها موسم سنوي، أربعة أيام قبل شهر رمضان، يشارك فيه أهل مراكش ووفود من قبائل (أقريص، وتحناوت، وأيت إيمور، وتمصلوحت، وأولاد أحمد) حاملين الشموع، وينطلق الموكب من ضريح «سيدي وحلال بأسول» في الثانية عشرة ليلا، ويستمر الحفل إلى غاية الصباح. وبعد الفطور يقام ما يسمى (بالصبوحي) وهو نمط من الذكر تؤديه «الحضارات» ثم يليهن «عيساوة» وتذبح خلال الموسم ذبائح وتقام الولائم. والحضرة غناء روحي يتكون من متواليات من الأذكار التي تقوم على الصلاة على النبيﷺ والتشفع به وذكر الأولياء الصالحين أي ما يسمى بالعتوب. تكون انطلاقتها في إيقاع منخفض ثم يبدأ في التصاعد بعد تدخل البندير لتنخرط النساء معه في الجذابة إلى أن تصلن أقصى تتويج وهو الساكن فتسقطن على الأرض وعندها تقام الفاتحة وتقدم الهدايا. ومن نماذج ما يروى في الحضرة ما يلي: «باسم الله بديت (بدأت) في مديح الحرة هي بنت خيار الناس فاطمة الزهراء / وأنا عيني حاروا زينها في الحضرة ما ريت (رأيت) / يا عاتق الأنفاس جيب لي نشرب شربة من يديها / صلى الله على سيدنا محمد يا الشافع في أمتو/ أمته..»12.
سيدي شاشكال / أشقال
على بعد 43 كيلومتر شمال مدينة آسفي، وعلى مشارف شاطئ (البدوزة) يتواجد ضريح سيدي شاشكال، أو سيدي أشقال كما يؤكد عدد من زواره، وهو ضريح ليس على غرار عدد من الأضرحة المنتشرة بمختلف ربوع إقليم آسفي، إذ يشكل التميز والاستثناء من بينها، فهو يستقطب سنويا وخلال الأسبوع الذي يسبق عيد الأضحى المبارك عددا غفيرا من جموع المواطنين الذين يحجون إليه من أجل آداء ما يعتبرونه منا سكا للحج على غرار المناسك التي تجري بالحج الحقيقي، هذا الحج المزعوم يدخل في إطار ما توارثوه عن الأجداد، وفي اعتبارهم كون هذا الحج هو تخفيفي عن وطأة من لم يستطيعوا سبيلا للحج العادي، بل إنهم اهتدوا إلى تسميته بحج المسكين أو حج الفقراء؛ ويقصده الرجال والنساء والأطفال ومن كل الفئات العمرية، فمع طلوع الفجر يسارعون إلى التواجد بمحاذاة الضريح والشروع في الطواف حوله وهم حفاة الأقدام (سبعة أشواط هرولة) وهم يرددون لبيك اللهم لبيك، وبعد الانتهاء من الطواف يسارعون إلى القيام بالصلاة جماعة، ثم ينطلقون نحو بئر متواجدة هناك يطلقون عليها اسم بئر زمزم، ويقومون بعد ذلك بتقديم القرابين إلى الضريح ومصافحة بعضهم البعض، مهنئين يحجهم المبرور، وقص الشعر ثم الصعود إلى صخرة متواجدة هناك يطلقون عليها اسم جبل عرفة 13.
عبد السلام بن مشيش وحج الفقراء
ولأهل الشمال كذلك اعتقاد في الولي الصالح عبد السلام بن مشيش بأن زيارته سبع مرات يعادل القيام بأداء فريضة الحج، وهو على بعد أربعين كيلومترا من مدينة شفشاون شمال المغرب. ويعتبر عبد السلام بن مشيش كما ترجم له المرحوم عبد الله كنون «كعبة العلم المنيف، ونبعة النسب الشريف، يبد أنه لم يعتمد غبر العمل الصالح، وسلوك المنهج الواضح… وقد سأله رجل أن يوظف عليه وظائف وأورادا يعمل بها فقال: أرسول أنا؟ الفرائض مشهورة، والمحرمات معلومة، فكن للفرائض حافظا، وللمعاصي رافضا، وأحفظ نفسك من إرادة الدنيا وحب النساء وحب الجاه وإيثار الشهوات، وأقنع من ذلك بما قسم الله لك… تخرج عليه الشيخ أبو الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية المنتشرة في العالم الإسلامي فهو أحد أقطاب التصوف الذين عليهم المدار. توفي رحمه الله سنة 625هـ، ودفن في جبل العلم (إقليم العرائش)14.
وقد اشتهر هذا الولي «بالصلاة المشيشية» التي تناولها العلماء بالشرح، زيدت على (25 شرحا) منها شرح الإمام الخروبي المتوفي سنة 963هـ، سماه (مفتاح المقام لفهم ما عبر عنه في تصليته الشيخ مولانا عبد السلام).
يحظى الضريح بتقدير كبير من طرف المغاربة كقطب صوفي ويحج إليه الزوار طوال السنة، ولكن ما اشتهر به هو موسمه الذي يصادف (15 شعبان) من كل عام، حيث يتم بضريحه إحياء ليلة (النسخة) يحضرها القادمون من مدن وقرى شمال المغرب، بل وحتى من الصحراء، وذلك في نطاق الاعتقاد الشائع بأنه في مثل هذا اليوم (تنسخ الأرواح) من سيموت ومن سيحيى منها.
والأدعية في حضور الرجال والنساء من مختلف الأعمار. وهناك من يتبنى فكرة حسب ما هو متداول أنه كلما تعددت زيارة الضريح، وبلغت سبع مرات فإن ذلك يعادل القيام بآداء فريضة الحج، ويوجد بالقرب من الضريح معلمتان يحج إليهما الكثير من الناس: الأولى هي (حجرة المرضيين) وهي عبارة عن حجرتين متقاربتين من الجبل بينهما ممر ضيق، ويعتقد أن من مر بينهما بسهولة فهو في عداد من يرضى عنه والداه أما إذا استعصى عليه المرور، فيهب الفقهاء إلى قراءة القرآن عليه وعلى والدته أن ترضى عليه، فيمر ويعود من حيث أتى.
أما الثانية فهي التي يطلق عليها (العروسة المسخوطة) وهي عبارة عن مغارة في آخرها يصب ماء بطيء يشبه الدموع، ويعتقد أن هناك عروسة في المنطقة مسخت في ليلة زفافها، وانطبق عليها الجبل، ومن ثم تزورها الفتيات الراغبات في الزواج وتغردن ويصلين ويسلمن على النبيﷺ عسى أن تمنحهن (العروس المسخوطة) عريسا في أقرب وقت!! كما أن الكثير من الأسر تطلق على ابنها البكر عبد السلام تيمنا بالولي الصالح عبد السلام بن مشيش، كما أنجزت عنه العديد من الدراسات.
سيدي بوعبيد الشرقي الملقب بأبي الجعد (وسط المغرب)
إن أول ما يلفت انتباه الزائر لمدينة أبي الجعد (إقليم خريبكة) قبة الولي الصالح سيدي بوعبيد الشرقي، بحيث تتجمع حوله أغلب الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، ويكن له سكان المدينة تقديرا وتقديسا، لا يمكن وصفهما باعتباره معلمة متميزة، اشتهرت بموسمها السنوي المعروف، وهو تقليد سنوي مثله مثل بقية المواسم الأخرى حيث يهب إليها الزوار من كل حدب وصوب وقد أسس الزاوية الشرقاوية في القرن العاشر الهجري محمد الشرقي واسمه الكامل هو: أبو عبد الله محمد الشرقي ويصل نسبه إلى عمر بن الخطاب واشتهر ببوعبيد الشرقي. (ولد سنة 926هـ – وتوفي سنة 1010هـ) ويرى الأستاذ أحمد بوكاري صاحب كتاب (الزاوية الشرقاوية- وزاوية أبي الجعد – دورها الاجتماعي والسياسي): «أن رغبة الشيخ محمد الشرقي في إقامة مشروعه الديني والاجتماعي، كانت تتجاوب إلى حد بعيد مع حاجيات الوسط الذي تعاملت معه ووجدت فيه… وتسير في نفس السياق التاريخي لمغرب القرن العاشر الهجري وما بعده… إن قيام الزاوية بدور المدرسة العلمية، والعمل على نشر مبادئ الإسلام بالوعظ والإرشاد، وبث تعاليم الكتاب والسنة، وإقامة مركز إشعاع فكري يستمد حيويته من المراكز العلمية الكبرى بالبلاد.. كل هذا يعتبر من أبرز إسهامات الزاوية على المستوى الحضاري، بهدف توحيد الرؤيا وإشاعة ثقافة الجماعة والإجماع: ومناهضة «ثقافة» العرف والانحراف والفرقة»15.
حظي الضريح بعناية فائقة من طرف الدولة العلوية، فقد أمر السلطان العلوي مولاي إسماعيل بترميمه، وبنى بجانبه مسجدا وحماما لا زالا قائمين إلى يومنا هذا.
لقد تناسلت الحكايات والأساطير حول بركة الولي سيدي محمد الشرقي (بوعبيد الشرقي) وحول كراماته المتعددة التي تحكي عن شفاء المرضى (صداع الرأس – أمراض الرحم..) وإغناء الفقير «وقضاء الحوائج» وتلبية الطلبات المتأرجحة بين فك السحر، والصرع، وطلب الإغتناء، والزواج للعوانس، مقابل قربان يقدم، ويختلف باختلاف الفوارق الطبقية، (شمع أو عجل وأغطية من النوع الممتاز) ولا تسمع داخل الضريح إلا هذا الدعاء أو القولة المشهورة: «أسيدي محمد الشرقي أعطيني شي (شيء) نقرة (فضة) فين (أين) يغبر (يغيب) نحاسي…».
وينعت بأوصاف منها: «قنديل تادلا» و«سلطان الصالحين» و«صاحب الجمهور» و«مول النوبة والدور». وهي عناوين خيوطها مستمرة في الحاضر16.
واشتهرت زاوية سيدي محمد الشرقي بأدوار اجتماعية مهمة منها: إطعام الطعام، والإيواء، والتمريض والعلاج وطلب الغيث، آداء الديون على أصحابها، التوسط بين القبائل (الصلح والتحكيم)17.
يقام له موسم كبير في الأسبوع الأول من شهر شتنبر من كل سنة، تحط به أفواج هائلة من الزائرين لتتنعم ببركته (من الدار البيضاء وسطات وبرشيد وبني ملال وتادلة والفقيه بن صالح ومراكش وخريبكة وواد زم وقصبة تادلة والبوادي والقرى والدواوير المجاورة…) إضافة إلى زيارة أسبوعية. وتقام خلال الموسم مجموعة من الأنشطة كألعاب الفروسية والأغاني الشعبية المتنوعة ومختلف أنواع الرقص المتمثلة في وجود بعض الفرق الفلكلورية، فضاء يمتزج فيه ما هو روحي بالترفيهي، ورواج تجاري مهم.
ويوجد ضريح أخر يحمل نفس الاسم وهو (سيدي محمد الشرقي) بمدينة المحمدية على الشاطئ الأطلسي، إنه ضريح بحري بامتياز له واجهتان، الأولى برية يتشابه من خلالها مع باقي الأضرحة، أما الثانية فبحرية تحقق له صفة التفرد عنها… وبديهي أن يكون لهذه الطبيعة أثر على الطقوس الممارسة بالضريح. إنه رجل لا تعرف له شجرة، فقد قدم من المشرق ليستقر بالمنطقة قبل أن يحل بها «أولاد فتيح» جنود السلطان محمد بن عبد الله العلوي باني القصبة المحمدية.
وكان الولي رجلا صالحا شديد الورع قليل الاختلاط بالناس، فلما مات أقاموا له حول قبره «حوشا» وبعد مدة بني قبره قبة مزينة بالقرميد الأخضر، وأصبح مزارا تقصده وفود من النساء – وهن غالبية الزوار – طريقهن بين البيوت الشاطئية يوم الجمعة، يحملن معهن لوازم الزيارة التي تحصل عليها من باب الضريح مقابل بعض الدريهمات، ثم تدخل الضريح وتجلس بجانب الولي في خشوع وسكينة، وتضع (البركة) في الصندوق الموجود بجانب الضريح (مقدار من الدراهم قدر المستطاع). ثم تخرج منه في إتجاه (الخلوة) لأنه لا تقضي حاجة الزائر ما لم يستحم فيها بماء البحر. والخلوة هي منفذ بحري للولي على المحيط، تتشكل من مجموعة من الصخور تطل على البحر، تدخله الزائرات، وقد حملن في أيديهن (ممسحات، مجامر، بخور، حليب، ثمر،…) ليبدأ الزائر في ممارسة الطقوس الأكثر غرابة! بحيث يجلسن القرفصاء بانتظار أن تأتي تلك الموجات الصغيرة، فالعرف يقضي بأن تستحم في سبع موجات من البحر وتحمل خلال هذه العملية الماء بإناء حديدي، بينما تقوم رفيقتها بإفراغ كؤوس من الحليب، ورمي الثمر بجانبها.
وبعد أن يتم الاستحمام ترمي ما تلبسه من الملابس الداخلية قائلة «تابعتي خليتها في هاذ الشيء مشيرة إلى إسم الملبس الذي رمته، ثم تأخذ موقدا تقليديا صغيرا (مجمر) به فحم مشتعل وبعض البخور فتكسره خلفها دون أن تلتفت بعد أن تلبس ثيابها وإلا بطل كل ما قامت به!! والأمل دائما في بركة الوالي وعليهن الانتظار!!»18.
والاعتقاد السائد أن الولي يفسخ كل ما يمكن أن يكون مصنوعا من قبل السحر! «النحس، سوء الحظ، الحسد(التابعة)». ومن الأولياء كذلك نذكر سيدي عبد الرحمن، العائم وسط الأمواج على المحيط الأطلسي في الساحل الجنوبي لمدينة الدار البيضاء الممتد عبر رمال عين الذئاب، فوق مجموعة صخرية عتيقة البنية، يظهر عن بعد تجمع من البيوت الحجرية البيضاء تتوسطها قبة خضراء شامخة حيث يرقد منذ قرون جثمان الولي سيدي عبد الرحمان المشهور عند العامة بـ (بولمجامر). وزواره من الرجال والنساء، وطقوسه غريبة كذلك، فبعد إجتياز مرحلة ركوب الأمواج تبدأ رحلة الدخول إلى صحن الفضاء ليصادف الزائر ركاما منتشرا هنا وهناك من معدن (الرصاص) أمام الأبواب المفتوحة، حيث النداءات تعلو من كل مكان لنساء جاثمات (الشوافات) قارءات الفنجان، وعندما تستسلم لإحداهن تقوم بإحضار قنينة غاز أو مجمر مفحم، حسب الموجود، وتضع قطعا من المعدن المذكور على ملعقة فوق النار، وبعد أن يستكمل ذوبانه، تحضر إناء من الماء البارد بجانبها وتضعه بين رجليك، وأنت واقف، ثم ترمي فيه بقطع المعدن الملتهب، يحدث شواظا يتصاعد منه الدخان الكثيف تتبخر به، وهذه في نظرها أنجع طرق إبطال (العكس، إو إفشال مفعول) وبعد ذلك تأخذ قطعة (المعدن) التي بردت بالماء، إذ تصبح كثيرة الثقب والفجوات، وعبر هذه الأخيرة تتم قراءة الطالع والتنبؤ بالمصير المرتقب وعادة ما يكون بزواج أو وظيفة، أو رزق، أو العكس كمصيبة قد تقع؛ وبعد أن تنتهي من عملها، يناوله الباحث عن حظه، (الفتوح) مقدار من الدراهم. أو تزوده بوصفة مكملة تلزم صاحبها وهي إحضار «البركة» عن طريق شراء طبق من التمر أو الحليب يرمى به في البحر، أو ديك (بلدي) أسود اللون أو أحمر، يذبح على أعتاب حضرة الخلوة، أو تبخيرة وفق تركيبة معينة، أو إحضار للصفائح الورثة: منجل، فأس، سكة محراث…
يجتمع في الخلوة الغريب والمثير، وأغلب المتواجدين من النساء، وقد تجد بعض الرجال صحبة بناتهن والديكة في أيديهن يناولنها الرجل المختص، الذي يطالب المرأة بالالتفات إلى الأمام مع إعطاء ظهرها للبحر ويقوم هو بتمرير الديك بين مختلف أجزاء جسمها، بدءا من الرأس ثم الكتفين والإبطين والخصر والأرجل ثم يقوم بذبح (القربان) وبعد أن يترك الديك (يتركل) يناول الفتاة السكين ملطخا بالدماء، وهي على وضعيتها لا تتغير، ويطلب منها أن تمسحه بذراعها، ثم يمرره على باقي جسمها، وبعد أن تدوسه بقدميها، تمنح للسيد (الذباح) (الفتوح) مقدار من الدراهم، ثم تذهب لحالها شريطة أن لا تلتفت إلى الوراء، وهي تمشي حافية القادمين وحذاؤها في يدها.
وأحيانا قد يطلب من الزائرة الاغتسال بماء الخلوة الذي ينساب عبر قادوس نحو البحر والقصد من هذا هو: «أن التابعة داها البحر». أي أن سوء الحظ قد غاب في البحر وانتهى. «فالخلوة» ذات بركة إذا، واللاجئون إليها كثيرون، يحملون إليها مشاكلهم وهمومهم، من مختلف مناطق المغرب، ومنهم ذووا مراكز هامة في المجتمع كما يؤكد على ذلك خادم الخلوة. الدجاج المذبوح والمعلق على جدار باب الضريح أو ملقى في أحد الزوايا المهملة يجهل مصيرها؟.
سيدي أحمد وموسى ولي الجنوب المغربي الكبير
حسب ما ورد في كتاب (إيليغ قديما وحديثا) لمحمد المختار السوسي19 أن هذا الوالي السوسي ولد سنة 853هـ وتوفي سنة 971هـ. فاجئته نفحة صوفية على يد بعض صوفية عصره في بلده، فغادر مسقط رأسه، وساح في المعمور شرقا وغربا. وغامر في القفار، واقتحم الأخطار وخاض المعالم والمجاهل، فلم يدع شيخا مذكورا إلا زاره، فألقى عصاه في النهاية في سوس (جنوب المغرب) واستقر في (تازروالت ) بسوس. بصفة نهائية في زاويته المشهورة إلى الآن، إلى أن توفي ودفن قربها، وعلى مشهده قبة عظيمة تقام حولها ثلاثة مواسم في كل سنة، ويقصده الزوار بكثرة من مناطق سوس، وباقي جهات المغرب، وخصوصا في فترة المواسم، طلبا للتبرك والعلاج من الأمراض، ويحظى بتقدير وتقديس من طرف أهل سوس. ويذكر (باسكون) أن إفراطه في الزهد أذهل معاصريه حيث وصفه بولي الجنوب المغربي. بنى حظوته الرمزية لدى الناس استنادا إلى إيمانه الصادق، مثلما بناها اعتمادا على حكاية تتضمن تحقيقه لعدد لا يحصى من الكرامات، حيث إن جماعة من العلماء تحدته ببلاط بغداد أن يثبت مقدرته الروحية، فضرب بقدمه ضربة فإذا بشجرة (أركان) – ذلك الشجر الزيتي المستوطن الذي ينمو جنوب غرب المغرب – تنتصب واقفة وسط معارضيه!!. وأن تقسم باسمه معناه تقوم بعمل مرعب20.
ويعرف أتباعه (بأولاد أحمد وموسى) بالألعاب البهلوانية والذين ينتظمون في الحلقات والساحات العمومية بمختلف المدن المغربية وفي ملاعب السيرك عبر العالم حيث أحرزوا الشهرة والإعجاب.
إزاء استحالة متابعة طقوس وممارسات شعبية داخل الأضرحة وفضاءاتها الكثيرة في المغرب كما ذكرنا فإننا حاولنا في هذه الدراسة أن نركز على بعضها لما عرف عنها من معتقدات غريبة تثير فضول الإنسان. ولابد من الإشارة أن هناك أولياء وقديسو اليهود في بعض مدن وقرى المغرب وهو ما يؤكد على تعايش هذه الطائفة في المغرب منذ آلاف السنين. لعل أشهر أوليائهم (ربي عمران) بأسجن قرب مدينة وزان، يقصده الزوار اليهود من جميع أنحاء العالم ويقام موسمه (الهيلولا) وهو نوع من الطقوس الاحتفالية، دينية ودنيوية في الوقت نفسه. ومن الملاحظ أن عدد أولياء اليهود بالمغرب يصل حسب كتاب (ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب) لحاييم الزعفراني وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور أحمد شحلان) إلى (612) ولي موزعون على جميع جهات المغرب، وتختص جهة الساحل الأطلسي (طنجة – أكادير) بمائة وإثنين (102) ثم منطقة الأطلس الكبير بمائتين وأربعة عشر وليا (214) والجنوب الشرقي بإثنين وأربعين (42) والأطلس الصغير وسوس بثلاثة وأربعين (43)، وجهة درعة- صافرو بإثنين وثلاثين (32) والشمال الشرقي بثمانية وعشرين (28) المنطقة المتوسطية بإحدى عشر (11) وتضم مدينة الصويرة (جنوب المغرب) وحدها (23)، والدار البيضاء (18) وليا، وهكذا. وتبعا للتقليد اليهودي فإن عددا كبيرا من هؤلاء الأولياء حاخامات أو أحبار كانوا رسلا متجولين ينطلقون من القدس أو طبرية أو صفد أو حبرون، يجمعون العطايا الخاصة بمهامهم أو المساهمة في نشر المعارف اليهودية، خصوصا نشر الأفكار عن طريق التعليم أو الوعظ وتوزيع الكتب التي كانت تطبع في البلدة التي كانوا يمرون بها. وكانت الجماعات اليهودية المغربية تخص الحبر الرسول باحترام وتقدير كبيرين لاعتقادها في قدرته الخارقة على صنع المعجزات بالإضافة لاعتقادها أنه مفروض من الأرض المقدسة!! 21.
الهوامش
1 – انظر صحيفة (العلم) عدد: 20 نونبر 2007م / ص:5 (الحضور الديني في العادات والتقاليد المغربية).
2 – أنظر صحيفة الأحداث المغربية عدد: 26 / 27 يونيو 1999م / ص:5
3 – الدكتور عباس الجراري / مرجع سابق.
4 – انظر ما كتبه عن (الأساطير والمعتقدات بالمغرب) نقلا عن صحيفة (الأحداث المغربية) عدد: 31 أكتوبر 1998م ص:4.
5 – انظر موضوع (علاقة الطقس بالمجال المقدس) لعبد الغني منديب / في صحيفة (الأحداث المغربية) عدد: 26 – 27 يونيو 1999م / ص:4.
6 – انظر موضوعه الخرافة في المغرب: تحليل سوسيولوجي للظاهرة) / صحيفة “الأحداث المغربية” / عدد: 31 أكتوبر 1998م / ص:4.
7 – (انظر دارسته عن المجتمع التقليدي بفاس) في مجلة (المناهل) المغربية / عدد/ 12 / يوليوز 1978م / ص: 98.
8 – انظر ذلك بالتفصيل في صحيفة (الأحداث المغربية) عدد: 7 – 8 / 1998م / ص:4.
9 – مرجع سابق
10 – انظر ذلك بالتفصيل في صحيفة (العلم) عدد:22 يوليوز 2004 ص:6 (استطلاع عن موسم مولاي عبد الله أمغار) إنجاز: محمد الماطي.
11 – انظر مجلة (المناهل) المغربية / عدد= 35/ 1986م ص: 98/99 (أزمور مولاي بوشعيب.. من خلال التاريخ المحلي والدولي للمغرب).
12 – باختصار من صحيفة (الاتحاد الاشتراكي/ عدد:23 /24 يونيو 2007م.
13 – نقلا عن صحيفة (الناس) عدد: 2 يناير 2007م/ ص: 16 (استطلاع بقلم مصطفى بنسليمان)
14 – انظر كتاب (النبوع المغربي) / ص:160 / 161/ / الطبعة الثالثة / 1975م/ بيروت – لبنان.
15 – الجزء الثاني / ص:5.
16 – نفس المرجع / ص:14.
17 – نفس المرجع / ص: 15-16-17-18-19-20-21-22 ( فقد ورد ذلك مفصلا).
18 – انظر الاستطلاع الذي نشرته صحيفة (الأحداث المغربية) عدد: 7 / 8 نوفمبر 1998م / ص: 5 من إنجاز مريم جراف.
19 – ص: 19.
20 – مرجع سابق.
21 – انظر ذلك بالتفصيل في صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) عدد: 29 يناير 2000م / ص:8 (أولياء اليهود المغاربة. من هم؟ إعداد: عبد الله بلعباس.
_____________________
*نقلًا عن فصلية “الثقافة الشعبية”.