مشاهد ومراقد

دور الأزهر الشريف الجهادي والتنويري والتقريبي

د. علي أبو الخير

دور الأزهر الشريف الجهادي والتنويري والتقريبي

د. علي أبو الخير

تقديم

قبل أكثر من ألف عام تمّ تأسيس وافتتاح الجامع الأزهر بالقاهرة، واسمه مشتق من اسم سيدتنا الزهراء (ع)، فقد تمّ الافتتاح عام361هـ| 972م، ويرجع الفضل في تأسيس الجامع الأزهر إلى الفاطميين، الذين فتحوا مصر في عهد الخليفة المعز لدين الله، الذي أرسل قائده جوهر الصقلي لفتح مصر، فسار بحملته حتى دخل الفسطاط في يوم 11 من شعبان سنة 358 هـ /تموز/يوليو 969م.

وُضع أساس مدينة القاهرة في يوم 17 من شعبان سنة 358 هـ، كما وضع أساس قصر للخليفة المعز لدين اللَّه، ثم وضع أساس الجامع الأزهر في يوم 14 من شعبان سنة 359هـ / 970م، واستغرق بناؤه قرابة سنتين.

وأقيمت أول صلاة جمعة فيه في السابع من رمضان سنة 361هـ/ 972م، ولم يلبث الأزهر أن أصبح جامعة علوم، لمختلف المعارف والفنون، ففي سنة 378هـ / 988م أشار البعض على الخليفة العزيز بالله بتحويل الأزهر إلى جامعة عامة تدرس كل العلوم، ووافق الخليفة، ثم تحول الأزهر الشريف إلى جامعة  تدرس فيها العلوم الدينية والعقلية حرصًا على جذب طلاب العلم إليه من كافة الأقطار.

إن التسامح الفاطمي جعل الفاطميين لا يضطهدون أصحاب المذاهب الأخرى، فهم عندما بنوا الجامع الأزهر للدعوة الإسماعيلية ومعها باقي العلوم العلمية والفقهية، فإنهم تركوا مسجد الفسطاط لأهل مصر من المذاهب السنية الأخرى، ثم أصبحت القاهرة ملجأ للعلماء والمفكرين يفرون إليها من الاضطهاد والفقر.

ولقد تحولت القاهرة ومصر كلها إلى دولة مركزية تحرس الفضاء الإسلامي عسكريًّا ودينيًّا.

هذا، وقد مر الأزهر بعصر ازدهار فاطمي، ولكنه تم إغلاقه في العصر الأيوبي لمدة تقارب القرن من الزمان، ثم أعيد افتتاحه في العصر المملوكي، وكان يوجد منصب شيخ الإسلام وهو من علماء الأزهر، هذا وقد تم منع تدريس المذهب الإسماعيلي، ولكن ظل المصريون على ولائهم التاريخي في حب أهل بيت النبي الكريم.

ولا نكتب عن تاريخ الأزهر بقدر ما نكتب عن أدواره الجهادية والتنويرية والتقريبية، عندما نكتب عن الأزهر الشريف فكأننا نكتب عن أهل السنة والجماعة، أو العالم السني الإسلامي بمدارسه المختلفة، وما به من تصوف متعدد الشيوخ والطرق، ولكنها تتشابه في الميول الدينية والتسامح وحب أهل البيت(ع)، فمعظم، إن لم يكن كل، رجال الأزهر من أهل التصوف.

تاريخ مشيخة والأئمة الكبار للأزهر

شيخ الإسلام في العصر المملوكي كان بالقاهرة، وهو الشيخ الأكبر لكل المسلمين في الدولة المملوكية، وعندما احتلت الدولة العثمانية انتقل منصب شيخ الإسلام في عاصمة دولة الخلافة، فيكون هو المفتي في الأستانة.

وبسبب عدم الرضا الشعبي المصري على نقل مركز شيخ الإسلام، قام العثمانيون بإنشاء منصب الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وذلك عام 1090 هـ / 1679 ميلادي، ويُنتخب من هيئة كبار العلماء.

وأول من تقلّد هذا المنصب هو الشيخ “محمد بن عبد الله الخراشي” المالكي المتوفى سنة 1101 هـ/ 1690م، واشتهر الشيخ الخراشي بوقوفه ضد أي حاكم يظلم أيًّا من الرعية، وتوجد كلمة شعبية مشهورة في مصر حتى اليوم “يا خراااااشي”، بمد الألف، وهو استنجاد مستمد من الاستغاثة التي كان يستغيث بها المصريون عندما كان الشيخ الخراشي إمامًا أكبر وعلى قيد الحياة، وتوارث هذا النداء حتى اليوم، فمن يستغيث أو يستنجد أو يتعجب يقول “يا خرااااشي”، رغم عدم معرفة الناس مصدره.

وقد تولى منصب المشيخة خمسون عالمًا من المذاهب الثلاثة التي كان يُعترف بها، من دون المذهب الحنبلي، ثم توارت المذاهب السنية، وصار منصب الإمام الأكبر بدون مذهب، والإمام الحالي الدكتور أحمد الطيب هو رقم 48، ومصطلح “الإمام الأكبر”؛ لأن منصب شيخ الأزهر يكون إمامًا لكل الأئمة ولكل الجوامع في مصر، وما يلحق بالأزهر من تعاون إن لم يكن دمجًا، كل من دار الإفتاء ووزارة الأوقاف.

مع العلم أن دار الإفتاء تم إنشائها عام 1895، ومنذ ذاك الوقت، صارت مصر دولة سنية بدون مذهب محدد، وتأخذ من كل مذهب أيسره، فالزواج على مذهب أبي حنيفة النعمان، لأنه يجيز للمرأة أن تزوج نفسها بدون ولي، بخلاف المذاهب الأخرى التي تنص على أن الفتاة التي تزوجت بدون ولي فقد زنت، أما الصلاة فعلى مذهب الإمام الشافعي، وهكذا في باقي الأمور الفقهية، أما في العقدية فهي تأخذ بالمذهب الأشعري، صاحب مذهب التأويل المشهور، وهو رغم بعض عيوبه، لكنه أفضل من كل التيارات السلفية التي أنتجت الإرهاب.

دور الأزهر الجهادي

تمحور دور الأزهر التاريخي في مكافحة الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية، وحراسة علوم الدين واللغة العربية، التي كادت تتآكل في العصر العثماني.

وخاض الأزهر ثورات ضد الاستعمار الفرنسي، عندما جاء نابليون بونابرت لاحتلال مصر عام 1798، وتحت الضغط الشعبي انسحب الفرنسيون بعد ثلاث سنوات فقط لا غير.

وساعد الأزهر ثورة أحمد عرابي عام 1882 ضد الخديوي توفيق والإنجليز، وكان له دور في الثورة الشعبية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني عام 1919، وصعد الرئيس جمال عبد الناصر على منبره وخطب فألهب الشعوب ضد العدوان الثلاثي عام 1956.

وساعد الأزهر ثورة الليبيين بقيادة عمر المختار ضد الإيطاليين، وفتح باب التطوع للشباب المجاهد من كافة الدول الإسلامية.

كما كان للأزهر دور في الثورة الجزائرية، خاصة في تعليم أبناء الشعب الجزائري اللغة العربية والتصدي للهيمنة الفرنسية، التي جعلت من الجزائر ولاية فرنسية، فكان كبار شيوخ الثورة الجزائرية الممتدة مثل عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومحي الدين عميمور من الذين تخرجوا في الأزهر الشريف، ولا ننسى الشيخ الأزهر الفلسطيني الشهيد عز الدين القسّام وغيره هنا وهناك.

دور الأزهر في القضية الفلسطينية

إن الأزهر الشريف لم يتوان ولم يقف لحظة بقلب علمائه ووجدانهم وألسنتهم، بل وأنفسهم  من أجل فلسطين، مثلًا في سنة 1929، ومع حادثة البراق خرج الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر وعلمائه وطلابه يتنادون بنصرة الشعب الفلسطيني، ويحذرون بريطانيا من سياستها المؤيدة للصهاينة، وذلك عندما قام الصهاينة بمظاهرات يطوفون فيها مدينة تل أبيب رافعين الأعلام الصهيونية، ويهتفون: الحائط حائطنا؛ يقصدون بذلك حائط البراق، وبلغت المظاهرات إساءتها للعرب.

وبعدها قام المسلمون إلى زيارة البراق بعد صلاة الجمعة فوجدوه مليئًا باليهود، فوقع الصدام بين المسلمين واليهود، وانتصر المجاهدون أضاعه فيما بعد السياسيون، ونحن نكتب في الدين والتاريخ، أما السياسة فلها محللوها ومقالاتها المستقلة التي تخصّها.

وفي سنة 1936 فتحت السلطات البريطانية البلاد لهجرة يهودية إلى فلسطين، وسهلت ذلك كما سهلت انتقال الأراضي من أيدي العرب إلى الصهاينة، وذلك فجر ثورة فلسطين التي استمرت من سنة 1936 حتى 1939، وعندما أعلنت اللجنة الملكية البريطانية عن مشروع لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود أعلن الأزهر الشريف بكل فئاته واتحاد طلابه استنكاره لهذا المشروع، وقام الطلاب بتظاهرات ضخمة من صحن الجامع الأزهر هاتفة: للعرب لا لليهود، وفي أكتوبر سنة 1938 عقد مؤتمر برلماني عربي إسلامي ألقى فيه الشيخ المراغي خطابًا في أعضاء المؤتمر دعا فيه إلى نصرة القضية الفلسطينية وضرورة التعاون والوحدة.

وخلال ما بعد عام 1948 وحتى اليوم، والأزهر الشريف يدافع عن القضية الفلسطينية بكل ما أوتي من قدرة دينية روحية وعلمية دراسية، قد يُحسب عليه انضمامه بصورة غير رسمية إلى جانب محور الاعتدال في مقابل محور المقاومة، ولكن نؤكد أن الأزهر وكل الشعب يعتبرون الصهيونية العدو الأول والأخير للمسلمين، وهو ما يتمثل في فتاوى لجان الأزهر في كل عواصم المحافظات المصرية، ومواقعه الإلكترونية تستقبل الفتاوى من المسلمين في العالم، وتحيي في فتاويها الجهاد ضد العنصرية الصهيونية.

دور الأزهر التنويري

لم يقتصر دور الأزهر العلمي والثقافي على العلوم الدينية واللغوية، ولكن كان الأزهر يستمد ثقافته من ثقافة الإسلام، التي لا تفرّق بين شتى المعارف والعلوم التي تخدم البشرية في شتى المجالات، ولهذا كان علماء الأزهر يدرسون جميع أنواع العلوم والفنون، فكان منهم الفقيه والطبيب والمهندس والفلكي والكيميائي والجغرافي والرحّالة…. إلخ.

وحينما بدأت النهضة العلمية في مستهل العصر الحديث لم تجد لها منبعًا إلا في رحاب الأزهر، فكان كل المبعوثين إلى أوروبا من رجاله، من أمثال رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، ثم قاسم أمين، وطه حسين، وسعد زغلول، وطلعت حرب، وعبد المتعال الصعيد، وغيرهم كثيرون، وامتد أثرهم في الأجيال اللاحقة.

ولا يزال للأزهر دور روحي خالد في مقاومة شتى تيارات الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدامة.

يبقى أن نقول: إن الأزهر الشريف وسطي المنهج، هو أشعري المذهب في العقيدة، ورغم أخطاء أبي الحسن الأشعري والمنهج الأشعري كله، ولكنه يقوم على التأويل، وهو التأويل الذي يرفضه التكفيريون، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب(ع) عن معاوية وأصحابه: “اليوم أقاتلهم على تأويله كما قاتلتهم على تنزيله”، فأثر فكر الإمام علي عند المعتزلة معروف، وقد تأثّر الأشعري بالمعتزلة حتى أنشأ مذهبه المنتسب إليه، فيه أثر من الشيعة، وأحلى ما في التسنن بما فيه من تصوف أيضًا.

وجدير بالذكر بأن الأزهر لم تصدر منه طوال تاريخه فتوى تكفير ضد المخالف في الذهب أو الدين، يمنعه تراثه الإسماعيلي من ذلك، وفي المقابل توجد بعض فتاوى كردود أفعال على أقوال الملحدين والعلمانيين، ولكنها لم تصدر فيها فتوى تكفير أو قتل، وهو أمر يُحسب للأزهر.

دور الأزهر التقريبي

والدور الأهم في مسيرة الأزهر يكمن في تقريبه بين المذاهب الإسلامية، فأنشأ بعض شيوخه دار التقريب بين المذاهب الإسلامية عام 1946، مثل الشيوخ الكبار محمود شلتوت، وعبد العزيز عيسى، ومحمد المدني، ومعهم الشيخ الحوزوي العلّامة الشيخ محمد تقي الدين القمّي، وما زال الأزهر يدرّس المذاهب الإسلامية المختلفة في الجامعة الأزهرية.

ونذكر هنا عام  2012، عندما كانت جماعة الإسلام السياسي في الحكم، ومعهم السلفيون الوهابيون، جاء بعض شيوخ السعودية، وعلى رأسهم الشيخان الوهابيان محمد العريفي ومحمد الغامدي، وقابلوا الشيخ الدكتور أحمد الطيب الإمام الأكبر، وطلبوا منه صراحة وقف تدريس المذهب الإمامي الجعفري في الأزهر، ولكن الدكتور أحمد الطيب رفض هذا الطلب بشدة، وقال لهم نحن في مصر نأخذ من الفقه الجعفري في المواريث والإشهاد في الطلاق والمفقود وخلافه، فكيف نمنع تدريس مذهب إسلامي معروف ومشهور.

وقد فسّر السلفيون في ذاك الوقت المادة الثانية من دستور 2012 التي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”، فسّرها السلفيون بأن تلك المبادئ هي المذاهب الأربعة فقط، واستبعاد باقي المذاهب، وهو أمر أثار رجال الأزهر، وكادت تحدث فتنة، لولا سقوط الإسلام السيسي والسلفي.

زيارات تقريبية

بناءً على النظرة الأزهرية لكافة المذاهب، وخاصة المذهب الإمامي الجعفري، فقد كان علماء الأزهر والنجف نبراسًا في حاضر الأمة الإسلامية، وكان من نتيجة ذلك حضور علماء النجف للقاهرة، وعلماء من الأزهر زاروا النجف وكربلاء وقم، وكانت تلك الزيارات مؤثرة في مسيرة الأمة، منهم السيد محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد مرتضى الرضوي.

وفي عام 1971 زار الشيخ محمد محمد الفحام شيخ الجامع الأزهر مدينة قم المقدسة في إيران بناءً على دعوة من مدير مصلحة الأوقاف، وكانت فرصة لزيارة كثير من مدنها الشهيرة كطهران العاصمة وأصفهان ومشهد ومدينة قم وهي مقر الجامعات الإسلامية العظيمة، وكانت الفرصة عظيمة للقاء المسلمين الشيعة الذين أظهروا اهتمامًا بالغًا بهذه الزيارة التي كانت تهدف إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية، والدكتور محمد الفحام هو أول شيخ أكبر للأزهر يزور إيران، ولقد استقبل الإمام الأكبر الشيخ الفحام استقبالًا حافلًا من كل علماء وطلاب الحوزة في مدينة قم المقدسة، حيث تعالت أصداء التكبير والتهليل والصلاة على محمد وآل محمد، وأُلقيت الخطب والكلمات الجيّاشة له وللوفد المرافق.

ومن علماء الأزهر الذين زاروا الحوزات العلمية الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي وهو طالب بالدكتوراه، وتلقى العلم عن الإمام أبي القاسم الخوئي، وزار مفتي مصر الأسبق نصر فريد واصل مدينة قم المقدسة، وكذلك الشيخ محمود عاشور وكيل شيخ الأزهر الأسبق، والمرحوم الدكتور أحمد السايح، والدكتور محمد الدسوقي، والشيخ الدكتور أحمد عمر هاشم، والدكتور محمد سليم العوا، والأستاذ المفكر فهمي هويدي، وغيرهم كثيرون أضاؤوا الطريق لأبناء الأمة من أجل الوحدة.

وزار كثيرون من علماء أهل البيت مصر خلال مشاركاتهم في فعاليات مؤتمرات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف، فقد زارها الشيخ محمد علي التسخيري والشيخ أحمد جنتي وغيرهما.

يمكن القول: إن كلًّا من الأزهر ميراث التسامح، والحوزرات العلمية الشيعية ميراث الوحدة، والأزهر والحوزة في حالة تواصل مستمر، وهو تواصل حضاري متعدد الصور والوجوه..

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى