الدراسات والبحوث

رحلة في عالم التصوف البوسني

محمد يسري

رحلة في عالم التصوف البوسني

محمد يسري

تقع جمهورية البوسنة والهرسك في منطقة البلقان، في جنوب شرق القارة الأوروبية، وتنحدر أصول أغلبية سكانها من أصول سلافية موغلة في القدم. في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، تمكن سلاطين بني عثمان من ضم الأراضي البوسنية إلى أملاكهم الواسعة، وشيئاً فشيئاً تحوّل البوسنيون إلى الإسلام، وتزامن ذلك مع انتشار التصوّف بشكل واسع في تلك المنطقة، حيث تماهى كثيراً مع مجموعة من العقائد البوسنية القديمة، الأمر الذي مكن التصوّف من لعب أدواراً مؤثرة في التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي عند البوسنيين.

في هذا السياق، قدمت الباحثة البوسنية مريم توليتش، دراستها المعنونة بـ “رحلة في غمار صوفية البوسنة والهرسك”، وذلك ضمن أعمال مؤتمر “الصوفية اليوم: قراءات معاصرة في مجتمع التصوف ونماذجه”، والذي نظمته مؤسسة فريدريش إيبرت في العاصمة الأردنية عمان، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول السابق، وهي الدراسة التي سنسلط الضوء عليها في تلك المقالة.

كيف انتشر التصوف في البوسنة؟

من النقاط الرئيسة التي استحوذت على قدر كبير من الاهتمام من جانب الباحثين، تلك المتعلقة بشرح سبب وكيفية انتشار التصوّف الإسلامي في بلاد البوسنة والهرسك، وطريقة تأثير جوانبه الروحانية في معتقدات وأفكار البوشناق.

في ورقتها البحثية، تطرقت توليتش إلى تلك النقطة، فذكرت أن الكثير من المؤرخين البوسنيين قد اتفقوا على أن تكيّة عيسى بك إسحاقوفيتش كانت أول ما بُني في سراييفو -عاصمة البوسنة- بعد دخول العثمانيين إليها، وسرعان ما نشأت المدينة حول التكيّة وبقية العمائر التي أقامها عيسى بك اسحاقوفيتش، ومنها السراي الذي استمدت سراييفو اسمها منه.

تتابع توليتش بعد ذلك، فتقول: “في القرنين التاليين وبشكل تدريجي، تزايد عدد المعتنقين للإسلام من أهل البوسنة، فبعد مئة وخمسين سنة، أصبح ثلثا سكان البوسنة من المسلمين، ورافقه انتماء للطرق الصوفية في كثير من الأحيان، ذلك ما يدلّ عليه عدد التكايا الذي تزايد بسرعة كبيرة، حيث ذكر الرحالة أوليا تشلبي في وصف سراييفو في منتصف القرن السابع عشر، أن مجموع التكايا فيها سبعة وأربعين تكية”.

أحد أهم الأدلة والشواهد على انتشار التصوّف في البوسنة منذ مرحلة مبكرة، يتمثل باهتمام أهل البوسنة بكتب الصوفية جمعاً ودراسة وتصنيفاً، حتى “صارت كتبهم هي الأكثر نسبة بين ما حوته المكتبات العامة والخاصة من مخطوطات، وكذلك غصّت التكايا الصوفية بالكتب والمخطوطات، مثلاً تكية سنان باشا في سراييفو، كان يوجد بها مئتان واثنتان وعشرون مخطوطاً.

وأقدم ما في مكتبة الغازي خسروف بك، كبرى المكتبات العثمانية، من المخطوطات هو نسخة من كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام أبي حامد الغزالي، نسخت عام 1131م، أي بعد وفاة المؤلف بعشرين سنة، وهو بذلك يُعدّ من أقدم الكتب المستنسخة في العالم، ناهيك عن انتشار نظم الشعر الصوفي وقصائد الحبّ الإلهي بشكل واسع وتأثّر حتى السكان غير المسلمين به”.

أما عن تفسير سبب انتشار التصوّف بتلك السرعة في البوسنة، فقد أرجعته توليتش إلى مجموعة من العوامل المهمة، منها أن الكثير من الدراويش المتصوفة الذين قدموا مع الجيش العثماني قد تفرغوا للدعوة لمبادئهم الروحانية في المناطق البوسنية الريفية، ومنها أن العديد من الولاة والقادة العثمانيين قد خصصوا الأوقاف للإنفاق على الدراويش والمتصوفة، ما أتاح الفرصة لتزايد الإقبال على الانضمام للطرق الصوفية.

التدين البوسني الشعبي: من البوغميل إلى التصوف

تجادل مريم توليتش في أطروحتها بأن أحد أهم أسباب الانتقال البوشناقي السلس إلى التصوف الإسلامي، كان بسبب قربه وتشابهه نوعاً ما مع الإرث البوسني الفلكلوري القديم، والذي تمثّل في مذهب البوغوميل.

كما هو معروف، إن طائفة البوغوميل هي طائفة مسيحية غنوصية، ظهرت للمرة الأولى في بلغاريا في القرن العاشر الميلادي، وتأثرت كثيراً بالعقائد المانوية الفارسية القديمة، ونجحت في الانتشار على نطاق واسع بين السلاف في منطقة البلقان، رغم اتهامها بالهرطقة من قبل البابوية الكاثوليكية.

قطاع عريض من البوسنيين كانوا قد اعتنقوا العقائد البوغوميلية في الفترة الواقعة ما بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديين، إذ دخلت تلك العقائد في بنية التدين الشعبي البوسني. بحسب ما تذكره توليتش في دراستها، فأن البوسنيين الذين تحولوا للإسلام، قد حافظوا على مضامين تدينهم الشعبي من خلال تغيير مظاهرها الخارجية من البوغوميلية إلى التصوف.

ومن الأدلة التي تدعم ذلك الرأي “أن عبادات البوغوميل كانت تقام في الخلاء وفي المغارات، وهذه الأماكن نفسها تحوّلت لتكايا وزوايا فيما بعد، بل إن بعضها حافظ على رمزيّته المقدّسة فتحوّل لمكان يقصده الدّراويش وطالبو الحاجات والمتديّنون تديّناً شعبياً للذكر والتبرّك والدعاء، ويقصده غيرهم بدافع العادة أو حتى لمجرّد النزهة والتسوّق من الأسواق التي تقام في الخلاء، وهناك أيضاً مكان مخصوص يقصده الناس ويقومون بالصلاة والدعاء طلباً للمطر في أوقات محددة من كل عام، ولا شك أن هذا الطقس له علاقة ربما بوثنيّة سبقت حتى البوغوميل.

وكذلك هناك رواية شعبية مشهورة تتحدث عن تسليم الكاهن البوغوميلي الأخير عصاه المقدسة لشيخ الطّريقة المولويّة، كنوع من الاعتراف والتّرحيب بالدين الجديد. ويقال إنه تم الاحتفاظ بالعصا في تكيّة المولويّة في منطقة بنتباشي بسراييفو حتى تم هدمها، وحينها فقد أي أثر للعصا”.

هناك رواية شعبية مشهورة تتحدث عن تسليم الكاهن البوغوميلي الأخير عصاه المقدسة لشيخ الطّريقة المولويّة، كنوع من الاعتراف والتّرحيب بالدين الجديد.

وفي هذا السياق، أبرزت توليتش رأي المؤرّخ نويل مالكولم في كتابه “تاريخ البوسنة”، والذي ذهب إلى أن العلاقة بين التصوّف والبوغوميل كانت وطيدة ووثيقة “فالانتقال من المسيحية الشعبية إلى الإسلام الشعبي ليس صعباً، فبالإمكان الاستمرار في الممارسات نفسها تحت كلمات وأسماء مختلفة”.

التصوف البوسني والسياسة

مر التصوف البوسني بمراحل متمايزة، وكان في أغلبها مؤثراً في المجال السياسي، ومشاركاً في السلطة بشكل أو بآخر.

تبين مريم توليتش في ورقتها السمات الأهم في العلاقة بين التصوف والسياسة في البوسنة، فتقول: “على خلاف الصورة المنتشرة في الأذهان في المشرق العربي عن الصوفية، كممارسة تميل بصاحبها نحو المسالمة والابتعاد عن شؤون الدنيا، اقترنت في البوسنة بالثورة والجهاد، وانعكس هذا على صورة الدرويش مثلاً، فبينما يقترن في الأذهان بالشخص الهائم في الملكوت وضعيف التأثير في الواقع، اقترن في الذهن البوسني بالشخص المحارب المدافع عن أرضه ودينه، وهناك أسماء شهيرة في التراث وشخصيات تاريخية صوفية كانت فعّالة في المجال العام، وقادت ثورات أو حملات إصلاح.

وارتبط تقديس بعض الأضرحة بتاريخ بطولي لصاحب الضريح، كالمشاركة الفعّالة في الجهاد، أو ثورة ضد الوالي بدعوى ظلمه، مثل ضريح عبد الوهاب إلهامي في مدينة ترافنيك، وهو شيخ صوفي من أشهر شعراء البوسنة، عاش في القرن الثامن عاشر، وقتل في العقد الثاني للقرن التاسع عشر، بأمر والي البوسنة لشعره المعارض للحكومة. أو كمقاومة المحتلّ النّمساوي، مثل ضريح الفتاة، واسمها غير معروف، لكن يقال إنها ضربت أحد قادة الجيش النمساوي فأمر بقطع رأسها، فأخذت رأسها ومشت به إلى أن وصلت إلى المكان الذي دفنت فيه”.

هذه السمة الإيجابية للتصوف البوسني، ظهرت بشكل واضح في الطريقة الحمزوية، وهي طريقة صوفية بوسنية محلية الطابع، تُنسب لحمزة بالي أورلوفيتش، مؤسسها وأحد أشهر رموزها التاريخية. بحسب ما تذكره أوليتش في ورقتها، فأن الحمزوية قد قاموا باغتيال الصدر الأعظم، محمد باشا سوكولوفيتش، ودخلوا بذلك في صراع محتدم مع الدولة العثمانية.

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت مرحلة جديدة من العلاقة بين التصوف البوسني والسياسة، وذلك بالتزامن مع خضوع البلقان برمته للأيديولوجيا الشيوعية التي فرضها الإتحاد السوفياتي حينذاك. في تلك المرحلة تحديداً، برزت أسماء مجموعة من الإصلاحيين والعلماء البوسنيين الذين هاجموا الصوفية وطقوسها والعادات الشعبية المرتبطة بها.

وبرز في الوقت ذاته علماء مسلمون في “المشيخة الإسلامية”، درسوا بالأزهر وكانوا متأثرين بفكر محمد عبده ورشيد رضا،  هاجموا التصوف والطرق الصوفية باعتبارها لا تمثّل حقيقة الإسلام النقي، وحاولوا بواسطة كتاباتهم ومحاضراتهم  التّركيز على العودة للأصل، الكتاب والسنّة، ودعوة الناس للتخلي عن الفهم التقليدي للإسلام المليء بالخزعبلات والتأثيرات غير الإسلامية.

من الأمثلة على هؤلاء، حسين جوزو، أحد كبار العلماء في البوسنة بين الحرب العالمية الثّانية وحتى بداية ثمانينات القرن المنصرم، والذي درس الشريعة بالأزهر، والمفكّر علي عزّت بيغوفتش، الذي كتب مهاجماً التصوف: “لقد انشطرت وحدة الإسلام على يد أناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرّد، فأهدروا وحدته وهي خاصيته التي يتفرّد بها عن سائر الأديان. لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية، فتدهورت أحوال المسلمين.

ذلك أن المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون دورهم في هذا العالم ويتوقفون عن التفاعل معه تصبح الدولة الإسلامية كأي دولة أخرى، وتصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها. ويشكل الملوك والعلماء الملحدون وفرق الدراويش والصوفية الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام، وهنا نعود للمعادلة المسيحية: (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله). إن الفلسفة الصوفية تمثل نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً، ولذلك يمكن أن نطلق عليها (نصرنة الإسلام). إنها انتكاس بالإسلام من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عيسى عليه السلام”.

كيف ظهرت تأثيرات الصوفية في المجتمع البوسني المعاصر؟

على الرغم من كثرة طرق الصوفية التي انتشرت في بلاد البوسنة والهرسك عبر القرون المنصرمة، فيمكن القول إن الطريقتين الصوفيتين الوحيدتين اللتين استطاعتا البقاء والصمود حتى الآن في المجتمع البوسني، هما على الترتيب، الطريقة القادرية التي تشكل ما يقرب من ثمانين في المائة من إجمالي المنتسبين للخط الصوفي، والطريقة الرفاعية التي يشكل أتباعها ما يقرب من خمسة عشر بالمائة، هذا فضلاً عن مجموعات صغيرة العدد تتبع الطرق المولوية والقادرية والشاذلية.

تأثيرات الصوفية في البوسنة واضحة في الكثير من المظاهر الاجتماعية، بحسب ما تذكر أوليتش في دراستها، ومن أهمها على الإطلاق الاحتفالات الشعبية.

بحسب أوليتش، فإن الاحتفالات الشعبية المتأثرة بالتراث والطقوس الصوفية كثيرة في البوسنة، وتقام سنوياً في تواريخ محدّدة تحت تغطية إعلامية واسعة، وبتشجيع كبير من المشيخة الإسلامية، رئاسة العلماء والسلطات الرسمية في البلاد، وتختلط فيها المشاعر القومية والدينية لدى البشناق، “فبينما يشهد بعضهم هذه المناسبة باعتبارها موسماً من مواسم الخير، ومن مظان البركة والقبول والتقرب لله، يستغل الساسة ورجال الحكم تجمع الناس لإثراء الانتماء القومي البشناقي، والحفاظ على وحدة الشعب”.

من هذه الاحتفالات ما يقام في مختلف دول العالم الإسلامي، مثل احتفالات ببداية السنة الهجرية، المولد النبوي، ليلة الإسراء والمعراج، غزوة بدر، يوم عاشوراء وليلة القدر، وبعضها خاصّ بالبشناق، أوسعها انتشاراً في البوسنة والهرسك ما يُعرف باسم ايفاتوفيتسا (Ajvatovica) التي يطلق عليها بعض الصوفية “الحجّ الأصغر”.

تتحدث أوليتش عن بعض التفاصيل الخاصة بتلك المناسبة، فتقول إنه، وبحسب عادات البوشناق، في السابع والعشرين من يونيو كل عام، يؤمُّ البشناق بمختلف طبقاتهم الاجتماعية بلدة بروساتس، والتي تمتاز بوجود صخرتين هائلتين بينهما ممر ضيّق، وتنسب قصة متوارثة لأحد الأولياء واسمه آيفاز ديدو، اذ استجاب الله لدعائه بجلب الماء للبلدة الصغيرة رغم استحالة الأمر، فانشقّت الصخرة الهائلة وجرى من داخلها الماء. وتخليداً لهذا الحدث، يمرّ القادمون للاحتفال بين الصخرتين، ويقفون للدعاء وقراءة سورة الفتحة ويزورون قبر آيفاز ديدو.

أيضاً، هناك الاحتفال الكبير عند ضريح حسن كايمي في مدينة زفورنيك، المعروفة باسم “أيام حسن كايمي”، وفي تلك المناسبة يحتفل الصوفية البوسنيون لمدة أربعة أيام كاملة، في منتصف يونيو، لتعظيم ضريح حسن كايمي، ويشارك في هذا الاحتفال كبار الشخصيات الإسلامية في البوسنة، كما يحضر دراويش من تركيا وبلاد مجاورة، ويقوم بعض الناس بذبح الذبائح ويوزعون اللحم على الفقراء.

من النقاط المهمة التي تشير إليها أوليتش في ورقتها البحثية، أن النساء قد اعتدن المشاركة بحرية كاملة في تلك الاحتفالات وما يتصل بها من حلقات الذكر الجماعي في التكايا، فربما شاركت بعضهن في تلك الطقوس دون الالتزام بارتداء الحجاب، وهو أمر قد يبدو غريباً نوعاً ما، إذا ما جرت مقارنته بأشكال ممارسة المرأة العربية لطقوس التصوف المشرقي.

________________________

*نقلًا عن موقع ” رصيف 22″.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى