أعلام وأقطاب

سيرة العارف الواصل السيِّد علي القاضي

سيرة العارف الواصل السيِّد علي القاضي

الميرزا علي بن الميرزا حسين بن الميرزا أحمد بن الميرزا رحيم القاضي الطباطبائي التبريزي، الملقب بــ”قاضي الطباطبائي” (1285-1366 هجرية/1868-1946ميلادية). عارف وفيلسوف ومفسِّر ومرجع، ولد في مدينة تبريز بإيران، ونشأ في أسرة علمية موسومة بالفضل والاحترام، وعاش حياته في مدينة النجف الأشرف بالعراق، وكان أستاذًا في الأخلاق، وتتلمذ عليه العديد من أعاظم العلماء والمراجع، منهم محمد البهاري وأحمد الكربلائي، وعمل بالتدريس في الحوزة العلمية، وتوفي في النجف ودفن في مقبرة وادي السلام.

دراسته وحياته في النجف

درس السيد علي المقدِّمات عند أهل الفضل في تبريز ؛ فدرس العلوم العربيّة (الصرف والنحو والبلاغة) عند الشاعر والأديب الميرزا محمد تقي التبريزي (ت: 1324هـ)، ودرس عند والده السيّد حسين القاضي (ت: 1314هـ)  تفسير الكشاف للزمخشري، كما درس السطوح عند الميرزا موسى التبريزي (صاحب الحاشية على الرسائل)، وعند السيّد محمد علي قره جه داغي (صاحب الحاشية على شرح اللمعة).
في العام 1313 هـ هاجر إلى النجف الأشرف، وحضر درس كلٍّ من الفاضل الشربياني، والشيخ محمد حسن المامقاني، وشيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ محمد كاظم الخراساني (صاحب الكفاية)، والميرزا حسين خليلي.

تهذيب النفس ودراسته للأخلاق:

ينقل السيّد محمد حسين الحسيني الطهراني عن الشيخ عبّاس هاتف القوجاني، عن آية الله السيّد علي القاضي أنّ أستاذه الأوّل في السير والسلوك هو والده السيّد حسين القاضي، وهو تلميذ إمام قلي نخجواني الذي هو تلميذ السيّد قريش القزويني، واستمرّ ذلك إلى سنة 1313 هـ وهي السنة التي هاجر فيها إلى النجف الأشرف، وقد توفي والده بعد عام من هجرته إلى النجف.  وبعد وفاة والده، صحب علمين من أعلام النجف، الأوّل: آية الله السيّد أحمد الكربلائي الطهراني، والثاني: آية الله السيّد مرتضى الكشميري، ولكنّ ذلك لم يكن على نحو التتلمذ بحسب ما نقل الشيخ عباس هاتف القوجاني، بل عنوان الصحبة والمرافقة في الطريق، وكان السيد علي القاضي يرتضي طريقة عرفان وتوحيد السيد أحمد الكربلائي ودستوراته التي كان يرويها وتتطابق مع منهج أستاذه الآخوند ملا حسين قلي همداني، وكان يعطيها لتلامذته أيضاً.  وينقل العلامة الطهراني عن أستاذه السيد محمد حسين الطباطبائي  أنّ سلسلة أساتذة في السير والسلوك هي بالنحو التالي: السيّد علي القاضي، والذي تتلمذ على يد السيد أحمد الكربلائي، والذي تتلمذ على يد الشيخ حسين قلي الهمداني، والذي تتلمذ على يد السيد علي الشوشتري. وكخلاصة فإنّ السيد علي القاضي أخذ العرفان عن سلسلتين من الأساتذة واحدة تبدأ بوالده، والأخرى تبدأ بالسيد أحمد الكربلائي.

وضعه الاجتماعي:

كان السيد علي فقيرًا جدًّا من الناحية المادية، ومع ذلك فلم يكن يبدو عليه أي قلق لذلك، ولم تأخذ الحاجة المعيشية حيّزًا في تفكيره وهمه، بل كان تفكيره وهمه في عبادة الله عز وجل فقط، وكان يقول: الأفضل لي أن أبقى فقيرًا لأن في ذلك تحسن حالتي الروحية والمعنوية. وكان فقره المدقع موضع تعجب أصدقائه والمقربين إليه، حتى أنه لم يكن يمتلك في داره غير حصير من الخوص، وكان مع عياله يقضون أكثر أوقاتهم في الليل في ظلام دامس لأنه لم يكن يمتلك مالًا يشتري به نفطًا قليلًا يضعه في الفانوس.
يروي العلَّامة الطباطبائي صاحب “تفسير الميزان” عنه فيقول: اشتدت حاجتي إلى المال فقررت الذهاب إلى أستاذي السيد القاضي لكي أقترض منه مبلغًا يسيرًا ريثما يرسلون لي المال من إيران، وعندما جلست عنده جاء أحد أولاده من الكوفة وقال له: إن امي قد وضعت مولودها ونحن بحاجة إلى شيء من المال، فمد السيد القاضي يده في جيبه فلم يجد شيئًا فقال لولده: ليس عندي شيء من المال كما ترى. فقال ولده: أعطني سجائر لكي نعطيها كإكرامية للقابلة على الاقل، فقال السيد القاضي: وليس عندي شيء من ذلك أيضًا”.

يضيف العلَّامة الطباطبائي : ومع ذلك فقد قضى السيد القاضي حياته بكل هدوء وطمأنينة بنحو يثير الدهشة والاستغراب. ومن صور فقره أن صاحب الدار التي كان يستأجرها السيد رمى بأثاثه مرة في الشارع لأنه لم يكن قادرًا على دفع الإيجار، فأخذ عائلته وسكن في إحدى غرف مسجد الكوفة المعدَّة لاستقبال الزوار.

عبادته:

كان السيد القاضي يتخفَّى بعبادته عن الأعين إلا في أداء الفرائض التي كان يأتي بها جماعة مع صفوة تلاميذه البالغين من السبعة إلى عشرة أشخاص في منزله أو في إحدى غرف المدارس الدينية ما تهيأ له ذلك، وأما اعماله العبادية الأخرى فقد كانت له غرفة في مسجد الكوفة يتعبد فيها، أو يذهب إلى مسجد السهلة، كما كانت له غرفة صغيرة في مدرسة قوام يتعبد فيها بعد الساعة الثانية عشر ليلًا حينما تهدأ العيون ويغط الطلبة الساكنون في النوم، فيبدأ السيد القاضي مناجاته ودعاءه وأذكاره وصلواته بصوته الجميل الذي يأخذ بقلوب من يصغي إليه.

في هذا السياق، يقول العلَّامة الطباطبائي: كانت هناك أيام يختفي فيها السيد عن الأنظار، ولم تكن عائلته أيضًا تعلم بمحل إقامته، ومهما بحث عنه تلاميذه في البيت أو المساجد لا يجدون له أثرًا، إلى أن يأتي فجأة ويزاول نشاطه التوجيهي والإرشادي بنحو طبيعي. وكان برنامجه في شهر رمضان في العشرة الأولى والثانية هو إقامة مجالس التعليم والإرشاد لتلاميذه بعد أربع ساعات من الغروب، ويستمر هذا المجلس لمدة ساعتين، ثم يتفرغ للعبادة إلى الصباح، وأما في العشرة الثالثة فإنه كان يختفي عن الأنظار، ويتفرغ للعبادة في مكان لا يعلم به إلا الله، وقد استمر على هذا البرنامج إلى حين وفاته. كان يتجنب الحضور في الاجتماعات العامة، كما كان كثير الصمت، يحيي ليله بالتهجد والعبادة ونهاره بالتفكير والمطالعة، ويزور المرقد الطاهر لملوى الموحدين بعد الساعة الثانية من الظهر حيث يهرع الناس إلى بيوتهم بسبب الحر الشديد ويبقى الحرم خاليًا إلا من عدد قليل من الزوار. وكانت له سجدات طويلة في كل يوم لا يشغله عن الاتيان بها شاغل.

يقول السيد عبد الكريم الكشميري: كنت أزور أستاذنا السيد القاضي في داره بين الفينة والأخرى فأجده ساجدًا، فأنتظر طويلًا لعله يرفع رأسه من السجود ولكن دون جدوى، فأخرج من الدار وهو لا يزال في سجوده. وكان يواظب أيضًا على قراءة سور المسبحات قبل النوم، وهي السور التي تبتدئ بـ (سبح) و(يسبح) وهي خمسة: الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن. وكان يواظب أيضًا على زيارة مقبرة وادي السلام يوميًّا بين الطلوعين وتستغرق زيارته ساعتين إلى أربع ساعات حيث يجلس صامتًا في زاوية من الزوايا. وكان يصحبه أحيانًا بعض التلاميذ الذين سرعان ما ينتابهم الضجر من هذا الصمت المحير فيتركونه وحده ويذهبون.
 

ضريح السيد القاضي في مقبرة وادي السلام

 

بعض كلمات السيد علي القاضي وتوصياته النورانية:

 *”يقول السيد علي القاضي قدس سره : “مَن عثر على الاستاذ، طوى نصف الطريق”.

*ويقول: “وأكثر الذين وُفِّقُوا لنفي الخواطر، واستطاعوا أن يُطَهِّروا أنفسهم ويصفّوها حتّى ظهر فيها سلطان المعرفة، إنَّما كان ذلك منهم في إحدى حالتين: حين تلاوة القرآن المجيد، والتوسّل بمقام أبي عبد الله عليه ‏السلام  “.

*ويقول: “إنّ على الإنسان أن لا ييأس أبداً، وأن لا يكفّ عن السير والسلوك إن تأخّر وصوله إلى النتيجة. فقد يحفر المرء الأرض بظفره شيئاً فشيئاً فينبع من تحت أصابعه فجأة ماء زلال فوّار بضخامة عنق‏ الناقة”.

*ومن توصياته المهمة قوله: «وإذا حفظت صلاتك فكل أمورك ستكون محفوظة”.

*وقد أوصى رضوان الله علیه  تلامذته بزيارة أهل القبور، وأن يجلسوا بعد قراءة الفاتحة في زاويةٍ وأن يمضوا ساعةً من الوقت بالصمت والخلوة والتفكّر في المآل وفي عاقبة الأمر وفي الموت، وكان يقول: “لهذا الأسلوب تأثيرٌ جيّدٌ في قطع التعلّقات، والتفات النفس إلى مبدأ الوجود، ويمنع من الالتفات إلى الكثرات”.

____________________

 

نقلًا عن موقع “wikimapia” – بتصرُّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى