فنون و آداب

اللسان العرفاني استراتيجيَّة اللُّغة الصوفيَّة

شريف هزاع شريف

اللسان العرفاني استراتيجيَّة اللُّغة الصوفيَّة

شريف هزاع شريف

تعتبر اللغة الصوفية لغة رمزية / مجازية ذات دلالات كثيرة قابلة لأكثر من تأويل تتميز بالتخيل والتمثيل والتشبيه، لهذا فهي عينة بلاغية خصبة، وإذا كانت اللغة عند سوسر نظامًا من الإشارات التي تعبر عن الأفكار فإن المتصوفة استخدموا في لغتهم واستعاراتهم إشارات ودلالات تختلف عن استعارات ودلالات الأدب، الفلسفة، السياسة …إلخ، وتشكل هذه الاستعارات في تركيبها وتكوينها سياقًا خاصًّا فيه مفرادت وجمل متميزة فتصبح لكل مفردة دلالة ولكل جملة حجة كما يقول أمبرتو إيكو. ولا يمكن دراسة النص /اللغة الصوفية إلا بعد دراسة آلية تكون المفردة والجملة المكونة للنص، بمعنى آخر الرجوع إلى التجربة الصوفية المكونة للغة التصوف، لأن اللغة هنا تكونت من منظور صوفي خاضع لسلسلة من الاستعدادات والممارسات الخاصة، فالنص لا يتكون بعد إجهاد عقلاني وتخطيط إنشائي مسبق بل من اجهاد / استعداد روحي وراء النظر العقلي، كما يقول ابن عربي، على ضوءه نحتاج إلى فهم التجربة الصوفي لأن الكلمة أو الشيء عندهم ” لا يماثلان الدال والمدلول … بل هما يستمدان معناهما من خلال التمثيل الثقافي ” وهذا التمثيل هو الذي يطابق الدال والمدلول بالكلمة والجملة، ولا نتفق مع الدكتورة سعاد الحكيم بضرورة التمييز بين التجربة الصوفية وبين التعبير عنها  لأن التعبير عن التجربة هنا هو نقل التجربة تلك من عالمها الذاتي /الحسي إلى التمثيل اللغوي /التعبيري أي تطابق الذات مع اللغة والحس مع التعبير، أو كما قالت هي: العودة من الأعماق إلى الآفاق فمسيرة العودة هذه هي المجال الذي تنشأ فيه اللغة /النص، وإذا لم تكن هناك مطابقة وعلاقة بين التجربة الصوفية وبين التعبير عنها، لما ظهرت لغة خاصة بالمتصوفة التي جاءت لتمثيل واحتواء التجربة في إطار لغوي /نصي، لأنه لو كانت التجربة الصوفية خارج نطاق التعبير عنها لما تحققت إمكانية القراءة ” فلا تتحقق الكتابة إلا لأنها تحمل في داخلها إمكانية القراءة “.

فكان رد الفعل الديني منصبًّا على هذا المحور أكثر من انصبابه على التجربة الصوفية كون الثانية استمدت شرعيتها من منظومة إسناد ديني / تأويلي (من القرآن والسنَّة) وتعليق الدكتورة أعلاه نسف التراث الصوفي اللغوي؛ فعلى ضوء فرضيتها تعتبر النصوص الصوفية التي بين يدينا مجرد سطور تملاء فراغا في التاريخ !؟ وإذ نقوم بدراسة الردود والانتقادات التي وجهت للمتصوفة نجد انها ترتكز أولاً على اساس (اللغة /التعبير /الأسلوب /الغموض / الترميز…الخ) لان اللغة التي يتكلمها ويكتبها المتصوفة تختلف عن لغة وكتابات غيرهم. فالاخر يطبق تمثيل ثقافي معجمي او لغوي خارج التصوف على اللغة الصوفية وهنا تولد الفجوة ! فالجوع كلمة عربية ومفهوم اقتصادي له اسباب ومصطلح سياسي ويمكن ان يكون مجازاً ادبياً، أما عند المتصوفة (مصطلح) له أركان وأسلوب وغايه، فهم يأخذون نتيجة (الكلمة) لينطلقوا بها إلى مجال اخر فالجوع عندهم وسيلة للتقرب من الله ‍ ‍‍‍‍‍‍‍وهو احد اركان المجاهدة له ثمار الوصول وهو من ينابيع الحكمة …الخ، فلاحظ الاختلاف في معنى الكلمة، ولهذا السبب نبه الفقهاء إلى ” الاحتياط منهم واعتزال مجالسهم “. اما الحياديين فقد اعتبروا ان للمتصوفة حالتين مختلفتين (كرد فعل على لغتهم) حالة الصحو وحالة الغيبوبة؛ أما الأولى فهي الحالة التي يكون فيها المتصوف مسؤولا عما يقوله، اما الثانية فلا يكون فيها مسؤولا كونها (الحالة) لاحد عليها يوجب المحاسبة فادرجوا لغة الشطح ضمن حالات الغيبوبة، وعبر المتصوفة باصطلاحاتهم على مثل هذه الحالات بـ (الذوق، الشراب، الري، ….الخ) ” فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشراب سكران، وصاحب الري صاحي… ومن قوى حبه تسرمد شربه “، ولهذا كان هناك تعليلات إيجابية لشطحات المتصوفة ومنهم الحلاج بقوله (انا الحق) فلم توجب قتله رغم طلب بعض الفقهاء لاعتراض احدهم باعتبار ان مقولته صادرة عن حالة (روحية) اجتازت حدود العقل !.

تتكون اللغة الصوفية /النص بعد استعدادات مسبقة هي (أذكار، أوراد، مجاهدات، رياضات، خلوات …الخ) تؤدي هذه الاستعدادات إلى تكون (الذوق الصوفي) وهو مصطلح خاص بهم لا يخضع لمنطق العلم يدرجه المتصوفة ضمن (علم الأحوال) ويفهم من سياق المصطلح في مؤلفاتهم أنه يعني (المعرفة، الإدراك، الفهم /الحدسي) ” فهو نور عرفاني يقذفه الحق في قلوب أوليائه ” والذوق هو القاسم المشترك عند المتصوفة وبالنتيجة هو القاسم المشترك في تكوين اللغة /النص، وينبه المتصوفون قراءهم إلى فهم هذه المسألة والدخول في التجربة كي لا يحجبوا عنه كنه مرادهم. والذوق عندهم أول درجات الشرب، فيكون الأخير أول درجات التلقي /الاستقبال، والسكر نتاج الشرب فيصبح السكر أول درجات الإرسـال /الانفعال، وهذه الحالة تؤدي إلى درجة أعلى من الذوق تسمى (المعراج الصوفي) “وهو عودة إلى البطون، يقوم المتصوف من خلاله بتحليل الأركان” والمقصود منه رحلة داخل النفس لاستلام نتائج الذوق، الشرب، السكر لأنه استشراف للعالم تليه حالات أخرى متقدمة هي (المحاضرة تليها المكاشفة تليها المشاهدة)، ونجمع نحن هذه الحالات بمصطلح (المخاطبة) التي تكون وصفيية أو تحليلية تنتج اللغة الصوفية /النص.

اذا كانت ” اللغة هي التي تنشئ مفاهيمنا عن العالم ” على حد تعبير دريدا فالمعراج الصوفي هو الذي ينشئ مفاهيم المتصوف عن العالم وتتغير هذه المفاهيم (حسب درجة الذوق)  .

_______________

*عن موقع الطريقة الكسنزانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى