الدراسات والبحوث

الرؤية الكونيَّة عند العرفاء

د. فادي ناصر

الرؤية الكونيَّة عند العرفاء

د. فادي ناصر

أستاذ الفلسفة والدراسات الإسلامية في جامعة المعارف- لبنان.

الوجود عند العارف:

الحق هو الوجود المطلق:

حقيقة الوجود( ) تختلف باختلاف المدارس الفكرية والمناهج المتّبعة. فالوجود عند المتكلّم غيره عند الفيلسوف، وعند الفيلسوف غيره عند العارف. عند العارف الوجود مساوق للحقّ تعالى حيث يعرّفه قائلاً “الوجود وأنه الحقّ”( ). فالوجود الحقيقي عنده ليس سوى وجود الحقّ وحده من حيث ذاته وعينه. بمعنى أن الوجود من حيث هو وجود- أي الوجود الصرف المحض المسمّى عندهم بالوجود المطلق- هو الحقّ جلّ جلاله لا غيره، و ليس لغيره وجود أصلاً.
وهذا الوجود المطلق واحد حقيقي من جميع الجهات، ليس فيه كثرة بوجه من الوجوه لا ذهناً ولا خارجاً، وهو منزّه عن جميع النّسب والإضافات وعن التعيين والإطلاق، الوصف والإسم وغيرها من الاعتبارات. لأنّ الشي‏ء من حيث هو هو، لا يراد به إلا ذلك الشي‏ء من حيث ذاته فقط. وعن هذا التنزيه أخبر جلّ جلاله في قوله‏: ﴿ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِين﴾( ). ولذا قالوا أنّه الوجود المحض من حيث هو هو، لا بشرط الشي‏ء، ولا بشرط اللاشي‏ء.
يقول السيد حيدر الآملي:”إنّ الوجود من حيث هو وجود هو الحقّ تعالى لا غير، وأنه واحد حقيقي من جميع الجهات، ليس فيه كثرة بوجه من الوجوه، لا ذهناً ولا خارجاً ولا عقلاً ولا وهماً ولا حقيقةً ولا مجازاً، وهو غنيّ عن جميع ذلك، منزّه، مقدّس عن التعريف والتعيين والإطلاق والتقييد والتشبيه والتعطيل، وغير ذلك من الاعتبارات، ليس في الوجود غيره، له الوجود الكلي الحقيقي، ولغيره الوجود الاعتباري المجازي، وهو واجب الوجود لذاته، وممتنع العدم لذاته”( ).
ويقول ابن فنار في صاحب مصباح الأنس :
“الحقّ هو الوجود المحض الذي لا اختلاف فيه، أي وجود الحق هو الوجود المحض وهو الذي فسره الشيخ (قده).. فقال: وهو كونه وجوداً فحسب بحيث لا يعتبر فيه كثرة ولا تركّب ولا صفة ولا نعت ولا اسم ولا رسم ولا نسبة ولا حكم، بل وجود بحت…
(و) معنى الوجود البحت، الوجود المطلق، أعني ما لا يعتبر فيه قيد أصلاً وإن احتمل أن يُؤخذ مع القيود وعدمها، وهو المأخوذ بلا شرط، لا ما قيّد بالإطلاق، أعني المجرّد عن القيود المأخوذ بشرط، لأن المحض هو الخالص من كل شي‏ء وهذا الوجود خالص من كل اعتبار وقيد”( ).
والمراد بـ “المطلق” هو الذات المطلقة المنزّهة عن جميع الاعتبارات. وليس إطلاق لفظ “المطلق” على الوجود البحت، إلا من هذه الحيثيّة، لا من جهة المطلق الذي هو بإزاء المقيّد. لأنّ الوجود المحض من حيث هو هو، غني عن إطلاق أي شي‏ء عليه، إطلاقاً كان أو تقييداً، عاماً كان أو خاصاً، إسماً كان أو صفةً… نعم في مقام تنزّله عن الإطلاق وتلبّسه بلباس المظاهر فأنه يتّصف بهذه الصفات. أما من حيث إطلاقه الذاتي فلا يصحّ أن يحكم عليه بحكم، أو يعرّف بوصف، أو تضاف اليه نسبة ما، من وحدة أو وجوب أو إيجاد وغيره، لأنّ كلّ ذلك يقتضي التعيّن والتقيّد.
فهو منزّه عن الكلّ، حتّى عن الإطلاق وعدم الإطلاق، لانّ الإطلاق هو بنفسه تقييد يقيّد الإطلاق، كما أنّ اللاإطلاق قيد بعدم الإطلاق، ولأنّه تعالى بنفسه ومن حيث إطلاقه الذاتي لا يحتاج الى صفة يوصف بها، فإنّه غنيّ عنها.
وإلى هذا التنزيه أشار أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ” وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه”( ).
فهو إشارة الى الوجود المطلق المحض الذي لا يمكن وصفه بشي‏ء أصلاً ولا الإشارة إليه أبداً، كما قال عليه السلام في موضع آخر: «الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة»( ). وعليه فإن تسميته بالمطلق ليس إلا من باب سلب التقييد عنه كما يقول السيد حيدر الآملي في النصوص:
“…وتسميته بالمطلق ليس إلا لسلب تقييده، وإلا فبالنسبة إليه لا إطلاق ولا تقييد، لأنّ كل شي‏ء يعتبر من حيث هو هو، لا يجوز تقييده بشي‏ء أصلا، ولا إطلاقه عنه. ومن هذا قلنا في تعريف الوجود: الوجود هو المطلق المحض والذات الصرف، لتحقق اعتباره من حيث هو هو، لا من‏ حيث الإطلاق ولا التقييد ولا السلب ولا الإثبات، لأنّ التقييد كما أنّه قيد، كذلك الإطلاق، فإنّه أيضاً قيد. وكذلك السلب والإثبات، فإن السلب كما أنّه قيد، الإثبات أيضاً هو قيد. فالأصلح تصوّره من حيث هو هو، أعني تصوّر الوجود من حيث هو هو، لا بشرط الشي‏ء ولا بشرط اللاشي‏ء، ليرتفع الإشكال. وهذا دقيق يحتاج الى دقّة فهم وجودة ذهن. رزقنا الله تعالى وإياكم (ذلك) بفضله وكرمه!
فالوجود، من هذه الحيثيّة، لا مطلق ولا مقيّد، ولا كلّي ولا جزئي، ولا عامّ ولا خاصّ، ولا ذهنىي ولا خارجي، ولا واجب ولا ممكن، ولا كثير ولا قليل، ولا جوهر ولا عرض، ولا لطيف ولا كثيف. بل (هو) يتصف بهذه الصفات عند تنزّله عن الإطلاق، وتلبّسه بصور المظاهر والأنفس والآفاق. وفي هذا المقام (مقام تنزّله) يُقال إنّه الكل، وليس في الخارج ولا في الذهن إلا هو، لقولهم: «ليس في الوجود سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله. فالكل هو وبه ومنه وإليه» ولقولهم: «أحد بالذات، كلّ بالأسماء» ولقوله تعالى بنفسه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ﴾. وإلا ففي المقام الأوّل (أي الحقّ من حيث هو هو) منزّه عن جميع ذلك، ومن هنا قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ﴾ بالنسبة الى المقام الأوّل. وقال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ بالنسبة الى المقام الثاني”( ).
وينبغي أن نلفت النظر الى أنّ هذا التقسيم للوجود الى مطلق ومقيّد، لا بشرط وبشرط لا وغيرها من التقسيمات إنما هو بلحاظ العقل والتحليل الذهني، أما الوجود من حيث هو هو فلا ينقسم ولا يتجزء بل هو كما قال الرسول (ص):”كان الله ولم يكن معه شيئ والآن كما كان”( ).
وعلّة هذا التقسيم للوجود هو أنّ:”كل شي‏ء يُتصور أو يُعقل، له ثلاثة اعتبارات:اعتبار الذات والحقيقة، واعتبار الصفات، واعتبار سلب الصفات. فالوجود -أو الحق تعالى- من حيث الذات والحقيقة، لا يوصف بشي‏ء أصلا، ومن هذه الحيثية، لا يُعرَّف ولا يُعرَف ولا يحكم عليه بشي‏ء، لأنّ الحكم لا يصحّ إلا على المعلوم أو المعرّف الموصوف، فالذي لا يكون معلوماً ولا موصوفاً بهما، لا يقبل الحكم ولا يجوز الحكم عليه… وكذلك (الأمر) هاهنا، فإنّ الوجود إذا وصف بحيث هو هو، لا يقال له: هو كثير أو واحد، موجود أو معدوم، كلي أو جزئي أو غير ذلك.
هذا بحسب الاعتبار الأوّل (أي الوجود من حيث الذات والحقيقة). فأمّا باعتبار الآخر- أعني باعتبار الصفات أو سلبها- فيجوز أن يوصف (الوجود) بكل شي‏ء من الأسماء والصفات والظهور والبطون وأمثالها، كما سيجي‏ء مفصّلا عند بحث الظهور ان شاء الله تعالى… والحاصل أنّ المراد بإطلاقه، تنزيهه وتقديسه، لا الإطلاق الذي بإزاء المقيّد. و(المراد) بالتقييد اتصافه بكل شي‏ء من صفات الكمال على طريق الإضافة- أي إضافة المطلق الى المقيد، لا التقييد الذي هو بإزاء المطلق- على الوجه الذي قررناه. وهذا بأيّ وجه يحصل، هو المقصود من طريق القوم‏”( ).
إذاً فالذات الإلهية يمكن النظر إليها من وجهين: الأوّل من حيث هي ذات بسيطة مجرّدة عن النسب والإضافات، وبهذا اللحاظ تكون منزّهة عن جميع الاعتبارات بل حتى عن المعرفة. والذات بهذا الوجه هي وجود مطلق. والثاني من حيث هي ذات متّصفة بصفات، وهي على هذا الوجه وجود مقيّد ونسبي. والوجود المطلق عند العارف بديهي، لأن كل من يشك في الوجود المطلقٍ فسوف يشك في وجوده، ومن المحال أن يشك أحد في وجوده، إذاً من المحال أن يشك في الوجود المطلق. ولٍذلك قالوا أن الوجود غني عن التعريف، وما عرّفه أحد بشيئ يوجب الاطمئنان والإيقان، لأن هذا هو حال أكثر البديهيات.
يقول السيد حيدر الآملي:
“لا شكّ ولا خفاء أنّه ما شكّ أحد، من العقلاء وأرباب العلم، في الوجود مطلقاً، ولا من أرباب الكشف وأهل الشهود أيضاً، وإن اختلفوا في تعريفه وتحقيقه، وعجزوا عن تعيينه والتعبير عنه. فإنّ كل من يشكّ في الوجود مطلقاً، يشكّ في وجوده الذي هو جزؤه. ومحال ان يشكّ أحد في وجوده، فمحال أن يشكّ أحد في الوجود مطلقا… والمراد أنّ الوجود المطلق بديهى لبداهة مقيّداته، وضروري التصور لضروريات أجزائه التي هي المقيّدات. ومن هذا صار الوجود غنياً عن التعريف، لأنّ البديهيات كلّها هي كذلك، أعني ليست محتاجة إلى تعريف كالذوقيات. فثبت أنّ تصوّر الوجود المطلق هو ذوقي، بديهي، ضروري”( ).
وهذا التفسير الذي يقدمه العارف للوجود يخوّله أكثر من غيره سبر أغوار الكثير من الآيات والروايات وكشف اسرارها، والإجابة عن الاسئلة الكثيرة التي تدور حولها. كما ويمكّنه من ادراك وفهم حقيقة التوحيد الذي هم شغل العارف الشاغل.
يقول القيصري في مقدمة شرح الفصوص:
“وإذا علمت أن الوجود هو الحقّ علمت سرّ قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾، ﴿وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾، ﴿وَهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وَفي الْأَرْضِ إِلهٌ﴾. وقوله: ﴿الله نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾، ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ﴾ و”كنت سمعه وبصره”. وسرّ قوله عليه السلام: “لو دلّيتم بحبل لهبط على الله”، وأمثال ذلك من الأسرار المنبّهة للتوحيد بلسان الإشارة”( ).
والوجود عند العارف واحدٌ لا شريك له، بمعنى أنّه ليس فيه كثرة بأيّ وجه من الوجوه، وأنّه ليس لغيره وجود، وهذا ما يسمّونه بالوحدة الشخصيّة للوجود. فالحقيقة الوجوديّة عنده واحدة بالذات، لا تعدّد فيها إلا بالنسب والاعتبارات والإضافات. فالوحدة عنده حقيقية والكثرة اعتبارية، وليس المقصود بالاعتبارية أنها سراب ووهم من قبيل أنياب الأغوال، بل المقصود أنها اعتبارية نفس أَمرِيَّة، بمعنى أنّ لها منشأ انتزاع من الخارج.
مثال على ذلك الماهية فهي بناء على أصالة الوجود اعتبارية وليس لها وجود في الخارج، نعم هي منتزعة من الموجود الموجود في الخارج. فالإنسانية أمر اعتباري ولكن ليس من قبيل أنياب الأغوال، بل بمعنى أنّ لها منشأ انتزاع من الخارج، فهي تنتزع من وجود خاص في الخارج، وهذا هو حال الكثرة بالنسبة للوجود الواحد.
وقد استدلوا على مدعاهم بأدلّة لم نذكرها منعاً للإطالة والخروج عن أصل البحث، ولمن يرغب في التعرّف عليها فليراجع كتاب “المقدمات من كتاب نص النصوص”، و”رسالة نقد النقود في معرفة الوجود” للسيد حيدر الآملي.

العالم وفق النظرة العرفانية:

العالم ظهور الحق:

إذا كان الوجود الموسوم بالمطلق هو الحق، وأنّه ليس في وجود غيره، وهو واحد لا ندّ له ولا شريك، وهو ما يصطلح عليه العارف بوحدة الوجود، فكيف إذاً يفسّر لنا هذه الكثرة، وهذه التعيّنات الموجودة في العالم؟!
وكيف ينفي الوجود لغيره تعالى مع أنّنا نرى أموراً ممكنة وتعينات أخرى موجودة في الخارج ؟!
إن للعارف منظومته وتفسيره الخاص للوجود وللكثرة أيضاً الموجودة في هذا العالم، فهو وإن كان يؤمن بالوحدة الشخصية للوجود إلا إن هذه الوحدة عنده تنفي الكثرة الوجودية لا الكثرة الاعتبارية. فالكثرة عنده اعتبارية ولكن حقيقيّة أيضاً، بمعنى أنها ليست وهماً وسراباً، بل لها منشأ انتزاع من الخارج، ومنشأ انتزاعها هو الموجود الحقيقي. فهي من شؤونات الحق وأحواله، يعني أنها بذاتها لا تستحقّ الوجود والعدم ولكن عند مقارنة الوجود إياها تصبح موجودة، فالكثرة والتعيّنات الوجودية ليست موجودة بإزاء وجود الحقّ بل وجودها إنما هو بوجود الحق تعالى.
بمعنى آخر إن التعيّنات إنما تكون معدومة من حيث هي تعيّنات، أما إذا اعتبرت من حيث هي أحوال للوجود، ومظاهر يظهر من خلالها فلا تكون معدومة. فالحق في هذه المرتبة يظهر بهذا الوجود وفي تلك المرتبة يظهر بوجود آخر. لذا قالوا أنّه هو الظاهر والعالم مَظهَرُه، فهذه التعيّنات ليست سوى مظاهِرُه التي ظَهَر من خلالها في هذا العالم.
يقول السيد حيدر الاملي:
“العالم ليس (هو) إلا وجود الحق الظاهر بصور الممكنات كلّها. فلظهوره تعالى بتعيّناتها (أي الممكنات) سُمّي باسم «السوى» و«الغير» (أي) باعتبار إضافته الى الممكنات، إذ لا وجود للممكن إلا بمجرّد هذه النسبة. وإلا فالوجود عين الحق، والممكنات ثابتة على عدمها في علم الحق، وهي شؤونه الذاتية. فالعالم صورة الحق، والحق هويّة العالم وروحه. وهذه التعيّنات في الوجود الواحد (هي) أحكام اسمه «الظاهر» الذي هو مجلى لاسمه «الباطن». والحق هو الظاهر والباطن والأوّل والآخر، وليس لغيره وجود أصلا. وحيث أنّ العالم عند التحقيق لم يكن إلا كذلك، وليس له وجود حقيقي، قال الشيخ (ابن العربي) في المقام نكتة هي في غاية اللطف، وهي قوله:«العالم غيب لم يظهر قطّ، والحق تعالى هو الظاهر ما غاب قطّ. والناس في هذه المسألة على عكس الصواب، فيقولون: العالم ظاهر والحق تعالى غيب»”( ).
ويقول ابن تركه في تمهيد القواعد مبيّناً حقيقة الكثرة والتعيّنات وأنها أمور اعتبارية :
“إن تلك التعيُّنات -التي هي المعلومات- إنَّما هي أحوال الوجود وصفاته التي لا يدرك الوجود إلا بحسبها، إذ الإدراك إنّما وقع من الوجود على صفاته وأحواله اللاحقة له في مراتبه المستهلكة أحكامُ إطلاقه ووحدتهِ فيها، ولا شك إنها من حيث هي أحوال وأعراض وعوارض للوجود تستدعي المقارنة، فكيف يقال: أنّها غير قابلة للوجود مطلقا؟ فإنها عند مقارنتها للوجود ومقارنة الوجود ايّاها ضروريَّة الوجود.
نعم إنها من حيث أنفسها بقطع النظر عن معروضها ومقارنتها له، لا تستحق الوجود، ولا العدم أيضاً، بل إنما تقتضي بهذا الاعتبار عدم الاستحقاق لشي‏ء منهما، وهذا هو مفهوم الإمكان. فالتعيُّنات النسبيَّة التي هي موضوعات بالطبع لهذا المفهوم، لا نسلّم انّها غير قابلة للوجود، فإنَّ مقتضى طبائعها عدم استحقاقيَّة الوجود لا استحقاقيَّة العدم. وذلك لأنّ تلك الأحوال عند مقارنة الوجود إيّاها ومقارنتها للوجود، تصير موجودة بالضرورة، فلو كان استحقاقيَّة العدم مطلقا مقتضى طبائعها، للزم صيرورة الممتنع الذاتي موجوداً بضرورة الوصف، وذلك بَيِّن الإستحالة، فظهر أنّ عدم استحقاقيَّة الوجود والعدم، هو مقتضى طبائع التعيُّنات”( ).
إذاً فالوجود وإن كان أمراً واحداً لا تعدّد فيه وما عداه عدم محض إلا أن لهذا الوجود أحوال عندما يقع الإدراك العقلي عليها فإن هذا الإدراك يكون سبباً لهذه التعيًنات والماهيات، ولا يقع الإدراك إلا على تلك الأحوال، أما الوجود الواحد من حيث هو واحد فلا يعقل ولا يدرك. والقيصري يؤكد في شرح الفصوص على أنّ الوجود واحد لا شريك له ولا تعدد فيه وأنّ التغاير منشؤه فقط الاعتبار العقلي ليس إلا:
“الوجود، من حيث هو واحد، لا يمكن أن يتحقّق في مقابله وجود آخر، وبه يتحقّق الضدان ويتقوّم المثلان، بل هو الذي يظهر بصورة الضدين وغيرهما ويلزم منه الجمع بين النقيضين إذ كل منهما يستلزم سلب الآخر. واختلاف الجهتين إنما هو باعتبار العقل وأما في الوجود فتتّحد الجهات كلّها، فإن الظهور والبطون وجميع الصفات الوجودية المتقابلة مستهلكة في عين الوجود فلا مغايرة إلا في اعتبار العقل”( ).
والتعيّنات الممكنة عنده لا تعدم بل تدخل في الباطن بعد الخضوع لحيطة الإسم الباطن وبعد زوال الإضافات التي تعرض الوجود والتي هي أمور اعتبارية:
“وفي الحقيقة الممكن أيضاً لا ينعدم بل يختفي ويدخل في الباطن الذي ظهر منه، والمحجوب يزعم أنّه ينعدم. وتوهم انعدام وجود الممكن أيضاً، إنّما ينشأ من فرض الأفراد للوجود كأفراد الخارجية التي للإنسان، مثلًا، وليس كذلك. فإن الوجود حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وأفرادها باعتبار إضافتها إلى الماهيّات، والإضافة أمر اعتباري، فليس لها أفراد موجودة ليعدم ويزول، بل الزائل إضافتها إليها، ولا يلزم من زوالها انعدام الوجود وزواله ليلزم انقلاب حقيقة الوجود بحقيقة العدم، إذ زوال الوجود بالأصالة هو العدم ضرورة وبطلانه ظاهر”( ).

 

معنى الظهور:

إنّ كنه الذات الإلهية، والتي يصطلح عليها العارف بالهوية الغيبية، غير معروفة لأحد، ولا مشاهدة من قبل أحد، ولا ظاهرة لأحد، ولا معبودة من أحد، ولا مقصودة من قبل أحد،لأنها بطون وخفاء مطلق، فلا إسم ولا رسم لها حتى تُعرف أو تظهر، كما يقول الإمام الخميني(قده) :
“إنّ الهويّة الغيبيّة الأحديّة والعنقاء المغرب المستكنّ في غيب الهويّة والحقيقة الكامنة تحت السرادقات النوريّة والحجب الظلمانيّة في «عماء» وبطون وغيب وكمون لا إسم لها في عوالم الذكر الحكيم، ولا رسم، ولا أثر لحقيقتها المقدّسة في الملك والملكوت ولا وسم، منقطع عنها آمال العارفين، تزلّ لدى سرادقات جلالها أقدام السالكين، محجوب عن ساحة قدسها قلوب الأولياء الكاملين، غير معروفة لأحد من الأنبياء والمرسلين، ولا معبودة لأحد من العابدين والسالكين الراشدين، ولا مقصودة لأصحاب المعرفة من المكاشفين، حتّى قال أشرف الخليقة أجمعين: «ما عرفناك حقّ معرفتك، وما عبدناك حقّ عبادتك».
(و)هذه الحقيقة الغيبيّة لا تنظر نظر لطف أو قهر ولا تتوجّه توجّه رحمة أو غضب إلى العوالم الغيبيّة، والشهادتيّة، من الروحانيّين القاطنين في الحضرة الملكوت والملائكة المقرّبين الساكنين في عالم الجبروت بل هي بذاتها بلا توسّط شي‏ء، لا تنظر إلى الأسماء والصفات ولا تتجلّى في صورة أو مرآة غيب مصون من الظهور، مستور غير مكشوف عن وجهها حجاب النور فهو الباطن المطلق والغيب الغير المبدأ للمشتق…
(و)هذه الحقيقة الغيبيّة غير مربوطة بالخلق، متباينة الحقيقة عنهم، ولا سنخيّة بينها وبينهم أصلاً ولا اشتراك أبداً. فإذا قرع سمعك في مطاوي كلمات الأولياء الكاملين نفي الارتباط وعدم الاشتراك والتباين بالذات، فكلامهم محمول على ذلك. وإذا سمعت الحكم بالاشتراك والارتباط، بل رفع التغاير والغيريّة من العرفاء المكاشفين، فمحمول على غير تلك المرتبة الأحديّة الغيبيّة”( ).
وينبّه الامام (قده) الى أن البطون المطلق الذي هو سمة الهوية الغيبية، لا يقابله شيء حتى الظهور والبطون اللذين هما في الحقيقة من صفات مقام الواحدية والأحدية التي هي من تجليات ذلك البطون المطلق، فكنه الذات عندما تتنزّل عن مقام إطلاقها وخفائها تظهر في مقام الأحدية التي هي تجلي اسم الباطن، والواحدية التي هي تجلي اسم الظاهر. إذاً هناك نوعان من البطون، بطون يقابله ظهور وهو مقام الأحدية، وبطون لا يقابله ظهور وهو كنه الذات الإلهية وغيب الهوية.
يقول (قده):
“البطون والغيب اللّذان نسبناهما إلى هذه الحقيقة الغيبيّة ليسا مقابلين للظهور الّذي (هو) من الصفات في مقام الواحديّة والحضرة الجمعيّة، ولا الباطن الّذي هو من الأسماء الإلهيّة… وهما متأخّران عن تلك الحضرة (الهوية الغيبية والبطون المطلق). بل التعبير بمثل هذه الأوصاف والأسماء لضيق المجال في المقال”( ).
والذات الإلهية لما أرادت أن تخرج من مقام الغيب والبطون وحضرة الخفاء والكمون، قامت وتنزّلت عن مقام إطلاقها الذاتي، وهذا التنزّل هو ما يصطلحون عليه بالظهور. حيث عرّفوا الظهور أنّه:”صيرورة المطلق متعينا بشيء من التعيّنات”( ).
وأنّه:” توجّه الذات من كُنه غيب هويَّتها وعدم تناهيها إلى حضرة الإحاطة والتناهي، وهو الظهور والتجلّي المعبّر بالنسبة العلميَّة”( ).
ومقصودهم أنّ الهويّة المطلقة لما كانت غير قابلة للنّسب والإضافات لأنّها غير قابلة للتعيّن بسبب إطلاقها وبطونها والنّسب إنّما تأتي بعد التّعين، لذا كان لا بد ان تتنزّل الذات المقدسة أولاً عن مقام إطلاقها حتى تتعيّن، وإذا تعيّنت فقد ظهرت. وليس مرادهم بالظهور أنّ الشيء يكون معدوماً ثم يوجد، أو أن يكون مخفياً ثم يظهر، بل مقصودهم أنّ:
“ظهورها إنما يكون بتنزُّلها عن صرافة إطلاقها ووحدتها، إلى الانتساب بالتقييدات والانصباغ بكثرة تعيُّناتها، فإن الحقائق إنّما تظهر بمقابلاتها وذلك لأن الظهور عند التحقيق هو أن يتصوَّر الظاهر بصورة أثره، فلا بدَّ هاهنا من متأثِّر قابل في مقابلته حتى يؤثر فيه ويتأثر منه، فيظهر بصورته ويجعله مظهراً له”( ).
ثمَّ إنّ التعيُّنات وإن كانت من حيث نسبتها الى ذاتها معدومة وغير موجودة فلا تصلح لأن تكون في مقابل الوجود المطلق حتى تتأثر منه وتظهر بصورتها، إلا أنها من حيث أنها أحوال الوجود ومظاهره التي يظهر من خلالها لا تتصف بأنها معدومة، وعندها يصحّ أن ينسب إليها الظهور كما يقول صاحب تمهيد القواعد:
“إنّما تكون(التعيّنات) كذلك(معدومة)، لو اعتبرت التعيُّنات من حيث أنّها هي تعيّنات فقط، وأما إذا اعتبرت من حيث أنها أحوال للوجود مقارنة له ومظاهر يظهر بها فلا، فإن تلك التعيُّنات مأخوذة تارة من حيث إنها كثرة حقيقيَّة وحينئذ تكون معدومات صرفة، ومعتبرةٌ أخرى من حيث أنّها معروضة للوحدة وبهذا الاعتبار موجودة، وحينئذ تصلح لأن ينسب إليها الظهور وغيره من المعاني الوجوديَّة المقتضية لأن يكون لها محالّ موجودة، كالإيجاب والاقتضاء وغيرهما”( ).

ظهور الحق ضروري:

الظهور والتعيّن أمران ضروريان لأنّ الذات الإلهية لو لم تتعيّن لبقيت على إطلاقها ووحدتها الصرفة، ولبقيت في مقام الغيب والخفاء، ولما تحققت بذلك الألوهية والربوبية التي هي من شؤون الحق الذاتية. والألوهيّة والربوبيّة لا تتحققان إلا بالمألوه والمربوب، فلا بدّ إذاً من الظهور لتحقيق المألوه والمربوب.
وليس المألوه والمربوب، الا الأعيان الثابتة والماهيات غير المجعولة، المحتاجة إلى الوجود والظهور في الخارج، لأنّها معلومات الحق الذاتية، الطالبة للوجود من‏ الموجد أزلاً وأبداً، على قدر القابلية والاستعداد والاستحقاق. فوجب حينئذ ظهور الحق تعالى بصورهم، لاعطاء كل ذى حقّ حقّه، كظهور النواة بالصورة الشجرية وإعطاء كل غصن من أغصانها ما تستوجبه من ثمار.
ومن هنا يقول ابن عربي:” فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً… ومعناه: نحن أظهرنا بعبوديتنا معبوديته، وبأعياننا إلهيته، إذ لو لم يوجد موجود قطُّ، ما كان يظهر أنه تعالى إله. بل العلة الغائية من إيجادنا ظهور إلهيته، كما نطق به:(كنت كنزاً مخفياً(…”( ).

ولأجل ذلك قال ابن عربي :”فلا يُعرف(الحق) حتى نَعرِف، قال عليه السلام: «من عرف نفسه، فقد عرف ربه». أي فلا يُعرف الحق من حيث أنّه إله حتى نَعرف، لتوقّف تعقّل هذه الحيثيّة التي هي النسبة إلى تعقّل المنتسبين…أي أوقف معرفة الربّ على معرفة النفس التي هي المربوب. فإن الربّ من حيث هو ربّ يقتضي المربوب”( ).
ويشير السيد حيدر الآملي إلى مسألة توقّف تحقّق الألوهية والربوبية على المظاهر أي على المألوه والمربوب فيقول:
“الألوهيّة والربوبيّة لا يمكن ولا تتصوّر إلا بوجود المألوه والمربوب. وإليه أشاروا أيضاً بقولهم: «إنّ للربوبيّة سرّا، لو ظهر لبطلت الربوبيّة» ومعناه : أنّ الربوبيّة موقوفة على المربوب الذي هو (كناية عن) المظاهر الإلهيّة مطلقا.
أعني أنّ الفاعليّة موقوفة على القابليّة، لأنّ الفاعل ما لم يكن له قابل لم يكن له أيّ أثر ولا فعل. فلو ظهر هذا السرّ، أي لو بطل وارتفع، لبطلت الربوبيّة. وإبطال المظاهر وإزالتها عن الوجود مستحيل ممتنع، لأنّها شؤون ذاتيّة وخصوصيّات إلهيّة. فإبطال الربوبيّة وإزالتها يكون مستحيلاً ممتنعاً. فيكون كلّ واحد منهما، أي من الربّ والمربوب، والظاهر والمظاهر، مربوطا بالآخر…
وبالحقيقة عن هذا السرّ أخبر (الحقّ) بنفسه في قوله (بالحديث القدسي) المذكور: «كنت كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق» لأنّ معناه هو أنّه: كنت ذاتاً أو وجوداً باطناً مجرّداً مخفيّاً، بلا مألوه ولا مربوب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: « ربّ إذ لا مربوب، وخالق إذ لا مخلوق، وقادر إذ لا مقدور». «فأحببت أن أُعرَف» أي أردت أن أكون ظاهراً، بمقتضى ذاتي وكمالاتي، في مظاهر أسمائي وصفاتي، حتّى لا يكون كمال في الوجود إلا لي. «فخلقت الخلق» أي ظهرت بصورهم وتعيّناتهم، بل بأعيانهم وماهيّاتهم، وليس في الوجود إلا أنا وأسمائي وصفاتي وكمالاتي. وليس من هذا في ذاتي نقصٌ، ولا في وحدتي قدحٌ، بل هذا عين كمالي ومحض عظمتي وجلالي”( ).
هذا ولا يوجب ظهور الحق واحتياجه إلى المظاهر أي نقص في ذاته، فالعارف يشبّه ظهور الحق بصور الموجودات بظهور العدد “واحد” في صور الأعداد. فكما أنّ العدد “واحد” من حيث ذاته غنيٌ عن وجود الأعداد الأخرى وعن ظهوره بصورها، كذلك الحقّ تعالى هو غني عن الموجودات من حيث ذاته وعن ظهوره بصورها.
لكن ظهور الحقّ والعدد “واحد” إنما يكون من حيث كمالاتهما المندرجة في ذاتهما. فكما أنّ العدد “واحد” محتاج من حيث كمالاته لا ذاته إلى الأعداد ومظاهرها غير المتناهية لكي يظهر من خلالها كمالاته غير المتناهية، كذلك الحقّ تعالى محتاج بحسب كمالاته لا ذاته إلى الموجودات ومظاهرها غير المتناهية، ليظهر من خلالها كمالاته غير المتناهية.
ويقول السيد حيدر الآملي نافياً هذا النقص:
“وهذا الاحتياج ليس موجباً للنقص في ذاته المقدّسة، لأنّ الاحتياج إذا لم يكن ذاتيّاً، لم يكن نقصاً، لأنّ الاحتياج الذي هو سبب النقص، هو الاحتياج الذاتي وهذا ليس بذلك فلا يكون نقصاً.
فحينئذ كما لا يلزم النقص والكمال من وجود الأعداد وعدمها في ذات الواحد، فكذلك لا يلزم النقص والكمال من وجود الموجودات وعدمها في ذات الحقّ. وكما أنّ كمال الأعداد ونقصها يكون راجعاً إليها لا إلى الواحد الظاهر بصورها ومراتبها، فكذلك كمال الموجودات ونقصها يكون راجعاً إليها، لا الى الحقّ الظاهر بصورها ومراتبها”( ).
كما أن ظهور الحق في صور المظاهر لا ينافي وحدته ولا يوجب التَكَثُّر في ذاته،لأن الوحدة نوعان: وحدة لا يقابلها كثرة وهي الوحدة الحقّة الحقيقية التي لا يقابلها شيء، ووحدة أخرى يقابلها كثرة وهي الوحدة الأسمائية التي ترجع إليها جميع الكثرات.
والحق إذا كان واحداً لا مقابل له، فيكون تعيّنه إذا وتميّزه بنفس ذاته لا بتعيّن آخر زائد عليه، لأنه لا ثاني له حتى يتميّز عنه. والمراد بالتميّز هنا التشخّص لأنه بلحاظ هذه الوحدة الحقيقية لا مقابل له حتى يتميّز عنه. ولكن هذا لا ينافي ظهور الحقيقة الواحدة في مراتبها المتعيّنة، والمراد بالتعيّن هنا التميّز لا التشخّص لأنه مرتبط بمقام الظهور.
إذا فالتعيّن نوعان: تعيّن شخصي مرتبط بمقام الواحد الشخصي، وتعيّن بمعنى التميّز وهو مرتبط بمقام الظهور والمراتب التي له. وعليه يكون الحق من جهة عين هذه التعيّنات والأمور المتكثّرة ومن جهة أخرى غيرها. فهو عينها من ناحية الوجود والحقيقة وغيرها من ناحية التقييد والتعيّن. بمعنى آخر هو عين الأشياء بظهوره فيها بملابس أسمائه وصفاته، وغيرها من خلال احتجابه عنها بذاته ووجوده المطلق. يقول القيصري في مقدمة الفصوص :
“وهو حقيقة واحدة لا تكثّر فيها، وكثرة ظهوراتها وصورها لا تقدح في وحدة ذاتها، وتعيّنها (أي تشخّصها) وامتيازها بذاتها لا بتعيّن زايد، عليها إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شي‏ء ويتميّز عنه بشي‏ء، وذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعيّنة، بل هو أصل جميع التعيّنات الصفاتية والأسمائية والمظاهر العلمية والعينيّة.
ولها وحدة لا تقابل الكثرة هي أصل الوحدة المقابلة لها، وهي عين ذاتها الأحدية، والوحدة الأسمائية المقابلة للكثرة -التي هي ظل تلك الوحدة الأصلية الذاتية- أيضاً عينها من وجه”( ).
ويضيف: “فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه وصفاته في عالمي العلم والعين، وكونه غيرها باختفائه في ذاته واستعلائه بصفاته عما يوجب النقص والشين، وتنزّهه عن الحصر والتعيين، وتقدُّسه عن سمات الحدوث والتكوين”( ).
ويقول أيضا في مكان آخر: “والقول باستحالة أن تكون ذاته تعالى وعلمه -الذي هو عين ذاته- محلاًّ للأمور المتكثّرة إنما يصحّ إذا كانت غيره تعالى، كما عند المحجوبين عن الحق، أما إذا كانت عينه من حيث الوجود والحقيقة، وغيره باعتبار التعيّن والتقيّد فلا يلزم ذلك. وفي الحقيقة ليس حالاً ولا محلاًّ بل شي‏ء واحد، ظهر بصورة المحلّية تارة، والحاليّة أخرى. فنفس الأمر عبارة عن العلم الذاتي الحاوي لصور الأشياء كلها، كلّيّها وجزئيّها، صغيرها وكبيرها، جمعاً وتفصيلاً، عينيّة كانت أو علميّة: ﴿ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء﴾”( ).
ومن هنا يقول العارف إن ظهور الحق إنما كان من حيث كلّيّته لا من حيث وحدته وذاته. لأن مقام الذات ليس له اسم ولا رسم، وليس قابلاً للظهور كما ذكرنا بل هو في كمون وخفاء مطلق. وعليه فلا تكون الكثرة والأمور المتعيّنة قادحة في وحدته كما يقول السيد حيدر الآملي في جامع الأسرار:
” فظهوره تعالى في الكلّ أو بصورة الكلّ، (هو) من حيث كلّيّته ومجموعيّته، لا من حيث وحدته وذاته، لأنّ الكلّ من حيث الكلّ لا يظهر إلا في الكلّ. والكلّ (هو) اسم له باعتبار الحضرة الواحديّة الأسمائيّة، لا باعتبار الحضرة الأحديّة الذاتيّة، كما قيل «أحد بالذات، كلّ بالأسماء». وإذا كان كذلك فلا يلزم من ظهوره تعالى بصورة الكلّ كثرة في ذاته‏ ووجوده أصلاً. ويكون تعالى هو الكلّ من غير تغيير فيه، ويكون العارف صادقاً في قوله «ليس في الوجود سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله». فالكلّ هو وبه ومنه وإليه. وأيضا لا يصدق من هذا على كلّ واحد من مظاهره أنّه هو، كما لا يصدق على كلّ واحد من أفراد الكلّ أنّه الكلّ”( ).
إذا فللحق تعالى الذي ثبت إطلاقه ووحدته، ظهور وكثرة في صور المظاهر، من حيث أسمائه وكمالاته وشؤونات ذاته، وإن كان تعالى من حيث ذاته، منزّه عن ذلك لغناه الذاتي كما يقول السيد حيدر الآملي في نقد النقود:
“اعلم أنّ هذا الوجود أو الحقّ تعالى الذي ثبت إطلاقه وبداهته ووجوبه ووحدته، نقلاً وعقلاً وكشفاً، له ظهور وكثرة في صور المظاهر والمجالي، اعتباراً وحقيقةً، اجمالاً وتفصيلاً، وإن كان لا كثرة له لا اعتباراً ولا حقيقةً، لا اجمالاً ولا تفصيلاً، لانّه تعالى من حيث ذاته، منزّه عن جميع ذلك، مستغنٍ عمّا عداه وإن كان، من حيث صفاته وأسمائه وكمالاته وخصوصيّاته، عين كلّ واحد منها، غير مستغن عنها”( ).

 

شواهد وأمثلة على ظهور الحق :

من كلام أمير المؤمنين (ع):
“إلى مجموع ظهوره وبطونه وكثرته ووحدته والجمع بينهما، والظهور بصور التضادّ والقيام بالمتباينات والأضداد، وغير ذلك من الغرائب والعجائب في ظهوره بصور المظاهر المختلفة مع اتّحاده بها أشار قطب أقطاب أرباب التوحيد سلطان الأولياء والوصيّين وارث علوم الأنبياء والمرسلين علي بن أبى طالب -عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيّات- في مواضع شتّى، منها قوله: «وَلَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ، قَرُبَ فَنَأَى، وَعَلَا فَدَنَا، وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ وَلَمْ يُدَن‏…»( ).
فمعنى قوله الأوّل: « وَلَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ» هو أنّه ليس هناك شيئان متغايران، حتّى يمنعه الأوّل عن الثاني كما لغيره، لأنّ غيره بالضرورة ظهوره يمنعه عن البطون، وبطونه عن الظهور، بل ليس هناك في الحقيقة إلا شي‏ء واحد وهو وجوده. فإذا اعتبرته إلى الظهور فهو ظاهرٌ، وإذا اعتبرته إلى البطون فهو باطنٌ. وكذلك (الشأن) بالنسبة إلى”الأوّل” و”الآخر” وبالنسبة إلى جميع الصفات أيضا كذلك. فيكون (الحقّ تعالى) أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بلا تغيير شي‏ء في ذاته ووجوده.
وأكّد ذلك بقوله عقيبه «وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ وَلَمْ يُدَن»
ليعلم أنّ ذلك من كمالاته المذكورة ومن خصوصيّاته المعلومة، أي ظهوره في نفس بطونه، وبطونه في نفس ظهوره، ودنوّه في عين علوّه، وعلوّه في عين دنوّه. وكذلك (الأمر) بالنسبة إلى جميع الاعتبارات المختلفة والمراتب المتضادّة.
ومنها قوله «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً وَيَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيل‏-إلى قوله- وكلّ ظاهر غيره غير باطن. وكلّ باطن غيره غير ظاهر» الى قوله «لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن »( ).
ومعنى قوله الثاني «الذي لم يسبق له حال حالا» الى آخره، هو أنّه يشير الى عدم الزمان واعتباره في أوّليّته وآخريّته وظاهريّته وباطنيّته، وعدم التكيّف في ذاته ووجوده، وعدم تقدّم كلّ واحد من هذه الاعتبارات على الآخر بالزمان. و(يشير هذا القول أيضا) الى أنّه تعالى واحد في عين الكثرة، كثير في عين الوحدة، لقوله«وكلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل» الى آخره، لانّ كلّ مسمّى غيره بأنّه واحد، يكون قليلا، لانّه لا يكون الا واحدا من العدد، أي‏ فردا من الافراد، لانّه إذا تعدّى الوحدة دخل في الاثنينيّة، فلا يكون واحدا بل يكون اثنين، والواحد قليل لانّه أقلّ العدد. فيكون تقديره:
أنّ كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل الا هو تعالى، فانّه واحد كثير، لقوله أيضا «الأحد لا بتأويل عدد». وأكّد هذا القول بقوله «وكلّ ظاهر غيره غير باطن، وكلّ باطن غيره غير ظاهر» ليعلم أيضا أنّه تعالى في جميع الاعتبارات كذلك، لا في الوحدة والكثرة فقط.
وأكّد هذا القول بقول آخر «لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو فيها بائن» ليعلم أنّه ليس هذا بحلوله في الأشياء ولا بتباعده عنها حقيقة، بل بأنّه ظهر بصور كمالاته وخصوصيّاته المسمّاة بالمظاهر، وليس غيره فيها حقيقة واعتبارا. فحينئذ يكون هو الاوّل والآخر والظاهر والباطن والواحد والكثير والقريب والبعيد. أي (هو) الاوّل من حيث الذات، الآخر من حيث الأسماء والصفات، الظاهر من حيث الكمالات والخصوصيّات الباطن من حيث الوجود والذات. وكذلك الواحد والكثير والقريب والبعيد”( ).

1. مثال الشجرة والنواة:
“انّ مثال الحق أو الوجود، مثال شجرة كاملة في ظهورها ، لقوله تعالى: ﴿ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾( ). فكما أنّ الشجرة بأغصانها وأوراقها وأثمارها وأزهارها، وما يتعلّق بها من الكمالات الشجرية، هي هي لا غيرها، مع أنّها بأجمعها كانت في النواة كالكمالات الإلهية في الذات، فكما أنّ الكمالات ليست هي الذات ولا الذات هي الكمالات، مع أنّ كل واحدة منهما هي عين الاخرى، فكذلك الشجرة فانّها ليست هي النواة ولا النواة هي الشجرة، مع أنّ كل واحدة منهما عين الاخرى. فقس على هذا الحق تعالى والوجود، فانّ العالم وما فيه من العوالم المعبّر عنها بالمظاهر، هي كالاغصان والأوراق والازهار والاثمار بالنسبة الى الحق والوجود المطلق، مع أن هذه المظاهر ليست هي الحق ولا الوجود، كالنواة بالنسبة الى الشجرة، و من‏ هذا اتصف الوجود بالشجرة التي هي ﴿لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ﴾ اعني لا روحانية ولا جسمانية، ولا كلية ولا جزئيّة، ولا مطلقة ولا مقيّدة، بل جامعة للطرفين وحاوية للصفتين.
فكما أنّ ظهور الشجرة بالصورة الشجرية لا يخرجها عن الشجرية مطلقا، فكذلك ظهور الحق تعالى بصور العالم والإنسان لا يخرجه عن الحقية مطلقا. فان العالم والإنسان والحق، في هذا المقام، عند التحقيق، في حكم واحد، لقولهم: «العالم انسان كبير، والإنسان عالم كبير» ولقولهم: وليس على الله بمستنكر ان يجمع العالم في واحد.
(وقولهم) «احد بالذات، كلّ بالأسماء» يحلّ عقدة هذه الشبهة عند العارف، فيصحّ حينئذ قول من قال: «خلق الله تعالى آدم على صورته» بالنسبة الى الصورتين، اعني صورة الإنسان الكبير وصورة الإنسان الصغير…
وبالجملة فالذات في هذا المثال هي كالنواة بالنسبة الى الشجرة، والمظاهر هي كالاغصان والأوراق والازهار والاثمار بالنسبة إليها. فكما انّه لا يقال: انّ في صورة الشجرة الحسّيّة (يوجد شي‏ء) غير الشجرة، كذلك لا يقال: انّ في صورة الشجرة العالمية الآدمية (يوجد شي‏ء) غير الحق او غير الذات، فانّه ليس هناك غيره. فظهوره تعالى في صورة كمالاته، وظهور كمالاته في صورة ذاته، لا يخرجه عن الوحدة الذاتية والكمالات الوجوبية الوجودية، فانّه ليس في الوجود الا ذاته وكمالاته ومظاهره ومجاليه. فانّ شئت، هذه الصورة سمّها بالخلق، وان شئت سمّها بالحقّ، وان شئت (سمّها) بالجمع بينهما، اعني بالخلق والحق، والظاهر والمظهر، والعبد والربّ، وامثال ذلك…”( ).

2. مثال النفس الإنسانية والعالم:
“انّ ظهور الحق تعالى في مظاهره، او الوجود المطلق في مقيداته، ليس يوجب الكثرة في ذاته، ولا القدح في إطلاقه. فإنه واحد بوجه، كثير بوجه آخر، (وهو) مطلق بوجه، مقيّد بوجه آخر، كالعالم والإنسان مثلا، فانّ كل واحد منهما واحد بالحقيقة، كثير بالاعتبار. امّا العالم فانّه حقيقة واحدة، وهي النفس المخصوصة به، المعبّر عنها بالنفس الكلية، وامّا الإنسان فلأنّ حقيقته ايضا واحدة، وهي نفسه المخصوصة به، المعبّر عنها بالنفس الجزئية. وليس للخلق غير هذين المظهرين اجمالا، المعبّر عنهما بالآفاق والأنفس، والإنسان الكبير والإنسان الصغير. فكما انّ ظهور هذين المظهرين، بمظاهرهما الآفاقية والانفسية، لا يقدح في وحدتهما الذاتية، فكذلك ظهور الحق تعالى بصورهما وصور ما يتعلق بهما من الموجودات والمخلوقات، فانّه لا يقدح في وحدته الذاتية، لانّه باق على صرافة وحدته الذاتيّة كما كان، لقوله(ص): “كان الله و لم يكن معه شي‏ء” و لقولهم: “الآن كما كان”…
و قد اتفق الأنبياء والأولياء والمشايخ بأجمعهم (على) انّ معية الحق تعالى مع العالم هي معية روح الإنسان مع بدنه، وانّ ارتباط الحق تعالى بالعالم هو ارتباط روح الإنسان بجسده. فمن أراد مشاهدة الحق تعالى على ما هو عليه، فعليه بمشاهدة الآفاق والأنفس”( ).

 

علة ظهور الحق ومراتبه:

عرفنا مما سبق أن ظهور الحق ضروري ولكن ظهوره ليس من حيث ذاته المقدسة ووجوده المطلق وهويته الغيبية، لأنه من حيث ذاته غني عن الظهور والبطون. فالذات الإلهية من حيث وجودها المطلق في خفاء وكمون ولا يقع أي بحث بشأنها وهي باطنة بطونا مطلقا، وهو بطون ليس في مقابله ظهور وهو الذي يشار اليه بضمير “هو” في القران الكريم والاحاديث الشريفة.
وعليه فإن الذات لا يمكن أن تكون مبدأ لأي ظهور وتعين لأنه لا توجد فيها حيثية غالبة واخرى مغلوبة حتى يكون هناك مبدأ للظهور، فلا يوجد في مقام الذات اسم غالب واخر مغلوب بل كل الاسماء موجودة بوجود واحد من غير غلبة اسم على اخر. ففي مقام الذات تكون الذات عالمة وقادرة ورازقة وموجدة و… في وقت واحد وعلى نحو الأندماج والبساطة، وهذا معنى أن الأسماء في مقام الذات موجودة على السوية أي لا توجد فيها حيثية غالبة واخرى مغلوبة، لأنه إذا صار هناك هناك حيثية غالبة واخرى مغلوبة فهذا يعني ان هناك تعيّن، والمفروض ان الذات وغيب الهوية مقام اللاتعين.
فما الذي حصل حتى صارت الذات الإلهية التي هي مقام اللاتعين منشأ للتعين؟ هنا يجمع العرفاء على الحاجة الى الواسطة لأجل الانتقال من مقام الذات الى ما وراء الذات وهو مقام التعين. وقالوا أن هذا الوسيط هو العلم، أي علم الحق بذاته في ذاته لذاته، فعلمه بنفسه هو الذي أوجد التعين الأول، والصفة التي اوجدت هذا التعين هي الوحدة الحقيقية، فمن خلال علم الذات بالوحدة الحقيقية يحصل التعين الأول.
بمعنى أخر ان الذات الإلهية من حيث إتصافها بالوحدة الحقيقية تكون منشأ للتعين الأول، ومن ثم سببا لحصول التعين الثاني. ففي مقام الذات لا يوجد صفة غالبة أما في مقام التعين الأول فنجد أن هناك صفة غالبة وهي صفة الوحدة الحقيقية. كما يقول ابن تركه في تمهيد القواعد:
“اعلم أن تلك الهوية المطلقة الواحدة بالوحدة الحقيقية تلزمها النسبة العلمية أولا بحصول نفسها في نفسها لنفسها (وهو التعين الأول)، وتلزمها بتوسط هذا اللازم(النسبة العلمية) الواجبية بالذات والموجبية والمفيضية وغيرها من الصفات المترتبة وغير المترتبة اللازمة لذاتها (وهو التعين الثاني)”( ).

ويقول السيد حيدر الآملي في نص النصوص:
“انّ ظهوره تعالى وبروزه كان في الحقيقة من علمه بذاته، لانّه إذ صار عالما بذاته صارت ذاته معلومة له، وكل معلوم معيّن، فيكون اول تعيّن له من علمه بذاته والتعيّن بعد اللاتعيّن ظهور”( ).
ويقول السيد حيدر ايضا في نقد النقود:
“أوّل تعيّن تعيّنت به الذات كان من علمه تعالى بذاته، لانّه إذا صار عالما بذاته صارت ذاته معلومة له. وكلّ معلوم لا بدّ أن يكون معيّنا، فيكون أوّل تعيّنه علمه بذاته. وإذا صارت ذاته تعالى معلومة له، وصار هو عالما بها، فلا بدّ أن يكون العلم واسطة بينهما (أي بين الله من حيث هو عالم، وبين ذاته المقدّسة من حيث هي معلومة له). فيكون هناك ثلاثة اعتبارات: اعتبار العلم واعتبار المعلوم واعتبار العالم، وهذا عين الكثرة. وإذا كان كذلك، فيكون علمه تعالى بذاته سبب تعيّنه، وسبب تعيّن كلّ واحد من معلوماته التي هي الأعيان والحقائق المسمّاة بالشؤون الذاتيّة. ويكون تعالى هو الفاعل والقابل حقيقة واعتبارا لا غيره”( ).
وإذا تحقق التعين الأول يصبح عندنا ظهور وبطون اما قبل هذا التعين أي في مقام الذات والهوية الغيبية المطلقة فلا يوجد إلا البطون المحض الذي لا مقابل له على الإطلاق. ويطلق العرفاء على باطن التعين الأول اسم الاحدية وعلى ظاهر التعين الأول الواحدية. فالتعين الأول عندهم له بطون وظهور باطنه هو مقام الأحدية وظاهره هو مقام الواحدية. والفرق بينهما ان العلم في مقام الأحدية علم إجمالي وفي مقام الواحدية علم تفصيلي، وفي مقام الأحدية لا يوجد الا وصف واحد وهو الوحدة الحقيقية أما في مقام الواحدية فيوجد أسماء وصفات متعددة ومتمايزة، وان مقام الأحدية هو مقام اسقاط النسب والإضافات اما مقام الواحدية فهو مقام اثبات النسب والإضافات. ففي مقام الاحدية لا توجد كثرة على الإطلاق اما في مقام الواحدية فيوجد كثرة وهي كثرة اسمائية.
يقول ابن تركه في تمهيد القواعد:
“ان الذات باعتبار اللاتعيُّن المسمّاة بغيب الغيب، تارة والهويَّة المطلقة اخرى، يمتنع ان يعتبر فيها امر يستلزم التعين والتقيد ويستدعي التكثُّر والتعدُّد، فأول ما اعتبر فيها من المعاني الوصفيَّة هي الوحدة الحقيقيَّة التي لا يتصور اعتبار الكثرة والمغايرة فيها بوجه من الوجوه حتى ان الكثرة لا تغاير الوحدة بالنسبة إليها وكذلك الوحدة لا تغاير الذات.
وتحقيق هذا الكلام انّ الوحدة تطلق باعتبارين: أحدهما وهو الوحدة الذاتيّة المطلقة التي لا يعتبر في مفهومها ما يشعر بتعدَّد الوجوه والاثنينيَّة أصلاً حتى ان عدم اعتبار الكثرة -لما فيه من الاشعار بمقابلتها للكثرة المستلزمة للاثنينيَّة- غير معتبر في مفهومها.
والثاني الوحدة الإضافيَّة النسبيَّة التي هي عبارة عن كون الشي‏ء بحيث لا ينقسم إلى الأمور المشاركة من حيث هو كذلك وهذا هو الذي يقابله الكثرة بالعرض أو بالذات.
والمعتبر ها هنا هو الوحدة بالمعنى الأول، والهويَّة المطلقة عبارة عن الواحد بها(الوحدة الذاتية)، فتكون الذات بهذا الاعتبار، لها الاحاطة العامة التي لا يشذُّ عنها شي‏ء من المراتب حتى المحسوسات، فتلزمها بهذا الاعتبار النسبة العلميَّة بحصول نفسها في نفسها.
ثمَّ ان هاهنا نكتة تتضمّن فوائد لا بدَّ من الوقوف عليها، وهي انَّ للوحدة (الحقيقية) المعتبرة هاهنا اعتبارين: أحدهما متعلّقه طرف بطون الذات‏ وخفائها وهو اعتبار اسقاط ساير النسب والإضافات عنها، ويسمّى الذات به احداً. وثانيهما متعلِّقه طرف ظهور الذّات وانبساطها واعتبار إثبات النسب والإضافات كلّها، ويسمّى الذات به واحداً، وبهذا الاعتبار يصير الذات منشأ الأسماء والصفات”( ).
إذا الوحدة بالنسبة الى مقام الذات لا تمايز بين اعتباريها فلا يتميز مسمى الواحد فيها عن الأحد، نعم الذات بإعتبار إتصافها بالوحدة الحقيقية تستلزم تعينا يسمى بإصطلاح القوم التعين الأول، والموجد للتعين الأول هو العلم أي علم الحق بذاته، وعلم الحق بذاته واحد ولكنه في مقام الأحدية علم إجمالي وفي مقام الواحدية تفصيلي.
وعلم الحق بذاته يستلزم ايضا العلم بسائر كمالات ذاته المقدسة وشؤوناتها من أسماء وصفات، وبلوازم هذه الاسماء والصفات ايضا. كما يقول الامام الخميني (قده) في شرح دعاء السحر:
“ان علمه بذاته هو العلم بكمالات ذاته ولوازم أسمائه وصفاته لا بعلم متأخر أو علم آخر بل بالعلم المتعلق بالذات في حضرة الذات. ولولا هذا العلم البسيط في حضرة الذات لم تتحقق الحضرة الواحدية الأسمائية والصفاتية ولا الأعيان الثابتة المتحققة في الحضرة العلمية بالمحبّة الذاتية ولا الأعيان الموجودة”( ).
وهذا الشعور والعلم بكمالات الذات وشؤوناتها تارة يكون على نحو اجمالي واخر على نحو تفصيلي. ويسمي العرفاء العلم والشعور بكمالات الذات على نحو الإجمالي بالكمال الذاتي وعلى نحو التفصيلي بالكمال الأسمائي. فعلم الحق بذاته الجامعة لكل الكمالات والشؤونات إذا كان بنحو كلي واجمالي ومن غير ملاحظة هذه الكمالات على وجه التفصيل فهذا العلم عندهم يسمى بالكمال الذاتي وهو الذي تغلب عليه احكام إطلاق الذات وبطونها. واما إذا كان علم الحق بذاته الجامعة من حيث ملاحظة هذه الكمالات على نحو تفصيلي فيسمى هذا العلم عندهم بالكمال الأسمائي وهو الذي تغلب عليه احكام تعينات الاسماء وظهورها كما يقول ابن تركه الأصفهاني في تمهيد القواعد:
“ان الظهورالمذكور لمّا كان مستلزماً للشعور بسائر الشؤون والأحوال والاعتبارات للذات بمراتبها وأحوالها وأحكامها ولوازمها كلّها حتى المحسوسات على وجه كلي جملي، فمتعلّق الشعور المذكور:
– اما ان يكون الذات في بطونها بحيث يكون الكلّ ثابتاً مشاهداً كثبوت سائر المراتب العدديَّة في الواحد مثلاً فحينئذ يسمى هذا الشعور في عرفهم بالكمال الذاتي المستلزم للغنى المطلق الذي هو عبارة عن ظهور الذات في بطونها على نفسها بالوجه المذكور بدون الاحتياج إلى التّطوُّر بالاطوار الغيريَّة والأدوار السوائيَّة أصلاً.
– وامّا ان يكون متعلّق الشعور المذكور، نفس الشؤون الذاتيَّة باظهار ذواتها لأنفسها أو باظهار بعضها للبعض في المراتب، وحينئذ يسمى هذا الشعور بالكمال الأسمائي”( ).
ويقسم ابن فنار في مصباح الأنس الكمال الى قسمين:
“كمال ذاتي هنا يكون في مبدأ الرتبة الثانية حيوة يلازمه الغنى الذاتي، وهو شهود الذات نفسه من حيث وحدته بجميع شؤونها-نزولا وعروجاً دنياً وآخرةً- شهود مُفصَّل في مُجمَل دفعة واحدة، كشهود المكاشف في النواة نخلاً وثماراً لا يحصى.
ثم كمال أسمائي، هو ظهور الذات لنفسها من حيث تفصيل اعتباراتها، اما ظهوراً مفصلا أو مجملا بعد التفصيل من حيث مظهر شأن كلي جامع هو الإنسان الكامل الحقيقي، والفرق بينهما ان هذا (الكمال الأسمائي) بشرط شي‏ء بل أشياء، وتحقق الكمال الذاتي بلا شرط أصلاً”( ).
أي بشرط الكثرة في الكمال الأسمائي ولا بشرط الكثرة اصلا في الكمال الذاتي.
وهذا الشعور والعلم بكمالات الذات يستلزم تعين هذه الكمالات ايضا كما ان علم الذات بنفسها يستلزم تعينها كما ذكرنا سابقا، فكل معلوم متعين والظهورهو نفس العلم. وتعين كمالات الذات وشؤوناتها مرة يكون من خلال الكمال الذاتي اي في مقام البطون والإجمال فتظهر بذلك الاعيان الثابتة (أي الكثرة العلمية) في حضرة العلم من خلال التجلي بالفيض الأقدس بسبب الحركة الحبية والعشقية وهذه هي مرتبة الجلاء عندهم، واخرى من خلال الكمال الاسمائي أي في مقام الظهور والتفصيل فتظهر بذلك الاعيان الخارجية(أي الكثرة الخلقية) في حضرة الشهادة من خلال الفيض المقدس، وتسمى هذه المرتبة عندهم بالإستجلاء، ومن هنا يبدأ التعين الثاني لانه مرتبط بالمظاهر الخلقية اما ما قبل هذا التعين فكله مرتبط بالتعين الاول وبالتحديد بظاهر التعين الاول اي مقام الواحدية لأنه لا تمايز ولا تغاير في مقام الأحدية.يقول الميرزا الأصفهاني في الحاشية على تمهيد القواعد:
“ان الكثرات كانت بوحداتها الحقيقيَّة مندمجة ومستجنّة في غيب الهوية واحدية الجمع المشار إليها في قوله تعالى:﴿الله الصَّمَدُ﴾ وفي ذلك الموطن لم يكن لها تمايز وتكاثر أصلاً، بل كانت عين ذاته الأحدية…
ثمَّ بحكم «كنت كنزاً مخفياً، فأحببت ان اعرف» تحركت بالحركة الغيبيَّة الحُبِّية العشقيَّة، فان غاية المحبة العشق، وصفاته تعالى في غاية الكمال والتمام، وتنزّلت من موطن الإجمال ومرتبة الاستجنان إلى مرتبة الظهور والبروز والتكاثر والتمايز العلمي، من غير تغيير في ذاته تعالى، بل بالتجلي والفيضان، المسمى بالفيض الأقدس، فتكثَّرت وتمايزت بعضها عن بعض في علمه تعالى، وهذا مرتبة الجلاء عندهم لظهورها مفصَّلة متمايزة، وليس ذلك على الله بعزيز، فان العلوم الكثيرة والمعلومات المختلفة مندمجة ومستجنّة بوحدتها الحقيقيَّة في عقلك الإجمال إلى موطن التفصيل، متكثِّرة متمايزة بعضها عن بعض، منجلية بذلك في كمال الانجلاء، من غير تغيُّر في عقلك الإجمالي. فإذا كان حالك هكذا، فما ظنُّك بربك العليم القدير.
ثم تطلب ظهورها لنفسها وبعضها لبعض، واستدعاء ترتب آثارها عليها، وسعة رحمة بارئها تنزّلت من ذلك الموطن الغيبي بالحركة الغيبيَّة ايضاً إلى موطن العين والشهادة، و ذلك بنزول الفيض الأقدس من الأقدسيَّة عن السوائيَّة إلى المقدسيَّة المستلزمة للسوائية، لظهور احكام الإِمكان، وترتُّب آثار الممكنات عليها. وهذا مرتبة الاستجلاء في عرفهم، وإلى ذلك النزول أشير في قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ فإن الظلَّ هو الفيض، ومدّه نزوله وانبساطه طولاً وعرضاً، علما وعيناً، في الغيب والشهادة”( ).
الفيض الإلهي عند العارف ينقسم إذا الى قسمين: الفيض الأقدس وهو التجلي بحسب باطن الذات وبه تظهر الأعيان الثابتة وإستعداداتها في حضرة العلم، والفيض المقدس وهو التجلي بحسب ظاهر الذات وبه تظهر الأعيان الخارجية والمظاهر الخلقية في حضرة العين والشهادة. فالفيض المقدّس مترتّب على الفيض الأقدس والأقدس مترتّب على الأسماء الإلهيّة والأسماء الإلهيّة مرتتّبة على الكمالات الذاتيّة الازليّة القدسية. والمراد بالأقدس أي الأقدس من شوائب الكثرة الأسمائية والنقائص الإمكانية.
يقول القيصري في مقدمة الفصوص:
“إن الفيض الإلهي ينقسم بالفيض الأقدس والفيض المقدس وبالأول: تحصل الأعيان الثابتة وإستعداداتها الأصلية في العلم، وبالثاني تحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها … فبالفيض الأقدس-الذي هو التجلي بحسب أولية الذات وباطنيتها- يصل الفيض من حضرة الذات إليها والى الأعيان دائما. ثم بالفيض المقدس- الذي هو التجلي بحسب ظاهريتها وآخريتها وقابلية الأعيان واستعداداتها- يصل الفيض من الحضرة الإلهية الى الأعيان الخارجية”( ).
وسر ظهورالكمالات الذاتية للحق بشكل عام والمعّبر عنها بالشؤون هو طلب هذه الشؤون الظهور في الخارج على قدر استعداداتها وقابليتها، وطلب هذه الكمالات الذاتية للظهور هو من إقتضاء ذات الحق تعالى ووجوده، لذا وجب عليه تعالى ان يظهر هذه الكمالات الطالبة للوجود بلسان حالها واستعدادها كما يقول السيد حيدر الآملي في جامع الاسرار:
“ان لهذا الوجود، أو الحقّ تعالى، الذي ثبتت وحدته وإطلاقه وبداهته، كمالات وخصوصيّات ذاتيّة لا الى نهاية، (وهي) المسمّاة بلسان القوم بالشؤون الذاتيّة، وهي دائما تطلب منه بلسان الحال الظهور في الخارج بحكم اسمه «الظاهر»، كما أنّ ذاته دائما تطلب منه الخفاء بلسان الحال بحكم اسمه «الباطن». فظهوره وكثرته وتقييده من اقتضاء اسمه «الظاهر»، وخفاؤه ووحدته وإطلاقه من اقتضاء اسمه «الباطن»، وهو «الاوّل» بحسب «الباطن»، و«الآخر» بحسب «الظاهر»…
وأنّ طلب كمالاته وخصوصيّاته الظهور في الخارج بلسان الحال ازلا وأبدا، هو من اقتضاء ذاته ووجوده. واقتضاء الذات لا ينفكّ عن الذات‏ أزلا وأبدا. وكذلك ظهوره بصور الكثرة الخلقيّة، فانّه أيضا من كمالاته الذاتيّة وخصوصيّاته الغير المتناهية الوجوديّة الازليّة الغير القادحة في كمال وحدته وصرافة ذاته. وليس في هذا نقص أصلا، كما تصوّر المحجوب عنه، بل هو كمال في كمال وشرف في شرف. والذي أشار اليه تعالى في قوله :«كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق»”( ).
واما سر ظهور التعين الثاني بشكل خاص وهو التعين الحاصل بالمرتبة الإستجلائية والكمال الأسمائي، فمرجعه الى ان الذات الإلهية لما كانت ترى ذاتها وكمالاتها في ذاتها ومن خلال ذاتها بالعلم الذاتي على نحو كلي وإندماجي(وهو الجلاء)، ارادت ان ترى ذاتها وكمالاتها ولكن هذه المرة من خلال الغير وعلى نحو تفصيلي كرؤية الإنسان نفسه من خلال المرآة، وهذا الغير ليس سوى مظاهره وتعيناته. لأنه وكما يقول القيصري في الفصوص:
“ليس رؤية الشيئ نفسه بنفسه في نفسه كرؤية نفسه في شيء آخر يكون له ذلك الشيئ مثل المرآة”( ).
فالتعين الثاني او ما يسميه العرفاء بالنفس الرحماني يظهر بالتجلي بالفيض المقدس المترتب على الفيض الأقدس كما ذكرنا والذي هو بدوره مرتّب على الأسماء الإلهيّة، والأسماء الإلهيّة مرتّبة على الكمالات الذاتيّة ، فتظهر بذلك التعينات في حضرة الشهادة المعبر عنها بالعين والخارج، بمقتضى الحركة الحبية للذات بان تظهر في الاعيان الخارجية على قدر استعداد هذه الاعيان وقابليتها وعلى قدر سؤالها وطلبها، بعد ان كانت باطنة ومختفية في التعين الأول الذي تغلب فيه احكام الوحدة والبطون على احكام الكثرة والظهور، والكثرة وان وجدت فيه فهي لا تخرج عن الكثرة المفهومية بخلاف التعين الثاني حيث الكثرة فيه عينية. يقول ابن تركة في التمهيد:
“لما كان التعين الاول -الجامع يبن الواحدية والاحدية والمعبرعنه بالوحدة الذاتيَّة، تارة وبالهويَّة المطلقة اخرى- لغلبة احكام البطون والوجود على احكام الظهور والأظهار، لا تمايز بين ما يعبَّر فيه من المعاني الأسمائيَّة والتعيُّنات، إذ لا تغاير هاهنا أصلاً، حتى ان الكثرة المعتبرة فيها(التعين الاول) هي عين الوحدة. فلا مجال فيه حينئذ ان تظهر تلك التعيُّنات على ما هو مقتضى الكمال الأسمائي، بان تظهر تلك الهويَّة في التعيُّنات الأسمائيَّة بحسبها، لأنَّ المراتب -التي هي محال ظهورها ومجالى تفاصيلها- مخفيَّة مندمجة هاهنا، مستهلكة الحكم استهلاك اعيان الحروف واندماجها في نفس المتنفِّس ما دام في مبدأ صدورها وباطن صدره وقبضة قلبه قبل بروزها في مراتب المخارج وظهورها بتعيُّنات أحكامها المتكثرة. فحينئذ اقتضت تلك الهويَّة الظهور والبروز، لكن لا من حيث ذاتها، بل من حيث اعتباراتها وشئونها، على مقتضى أسئلتهم بألسنة الاستعدادات والقابليّات الاقدسيَّة، فانبعث من ذلك التجلي وكنه بطونه، ميل إرادي وحركة حُبيَّة وشوق عشقي بحسبه تجلى بتعيُّن آخر وبنوع اظهر على مثال نفس منبثّ يصلح لأن تحصل به تلك الصفات والأعيان متمايزة بالفعل تمايز الحروف في النَفَس، عند انبثاثه إلى المخارج. فيمكن تعقُّلها على سبيل التفصيل حسبما ذكر في مراتب الكمال الأسمائى، ويسمى هذا التجلي باصطلاحهم «النفس الرحمانى»”( ).
ولهذا التعين الثاني او النفس الرحماني مراتب وتجليات مختلفة، فالحق يتجلى بالفيض المقدس وهو التجلي بحسب ظاهرية الذات فيصل الفيض من الحضرة الإلهية الجامعة للاحدية والواحدية الى الاعيان الخارجية وحضرة الشهادة، فتظهر تلك الاعيان في الخارج. والمقصود من الخارج عالم المظاهر الخلقية، حيث يقسّم العرفاء العالم الى عالمين: عالم الصقع الربوبي وهو مقام الاحدية والواحدية او التعين الاول، وعالم المظاهر الخلقية وهو عالم الشهادة والظاهر، حيث تظهر فيه التعينات الخلقية على قدر استعداداتها. ولهذا النفس الرحماني مراتب مختلفة في عالم الظاهر والشهادة:
اولها:عالم العقل.
ثانيها:عالم الخيال.
ثالثها:عالم الطبيعة والأجسام.
فهذه ثلاثة عوالم اذا اضفنا اليها عالم الغيب او ما يسمى بالتعين الاول الجامع للأحدية والواحدية فيصبح عندنا اربعة عوالم او حضرات، والعرفاء يضيفون اليها حضرة الانسان الكامل الجامع لكل الحضرات وهو الكون الجامع لكل المراتب فيتطابق عندهم العالم الكبير(وهو عالم الكوني او ما يسمى بعوالم الوجود) مع العالم الصغير الانساني(وهو عالم الانسان الكامل) فتصبح بذلك الحضرات خمسة. يقول الامام الخميني (قده) في شرح دعاء السحر:
“اعلم يا حبيبي أن العوالم الكلية الخمسة ظل الحضرات الخمس الإلهية، فتجلى اللّه تعالى باسمه الجامع للحضرات، فظهر في مرآت الإنسان، فإن اللّه خلق آدم على صورته… وهو الإسم الأعظم والظل الأرفع وخليفة اللّه في العالمين. وتجلى بفيضه الأقدس وظله الأرفع، فظهر في ملابس الأعيان الثابتة من الغيب المطلق والحضرة العمائية، ثم تجلى بالفيض المقدس والرحمة الواسعة والنفس الرحماني من الغيب المضاف والكنز المخفي والمرتبة العمائية على طريقة شيخنا العارف مد ظله في مظاهر الأرواح الجبروتية والملكوتية أي عالم العقول المجردة والنفوس الكلية، ثم في مرائي عالم المثال والخيال المطلق أي عالم المُثل المعلّقة ثم في عالم الشهادة المطلقة أي عالم الملك والطبيعة”( ).
ويقول ابن تركة في تمهيد القواعد:
“ان الموجودات التي في العوالم أقربها نسبة وابسطها ذاتا انما هو العقل الأول، إذ له ضرب واحد من التركيب لا غير، وهو أنّ له ماهيَّة متّصفة بالوجود، وهو أول مراتب الإمكان، وهو من عالم الأرواح. فاقرب العوالم نسبة إلى المرتبة الإلهيَّة انما هو عالم الأرواح، فأول الموجودات المبدعة هو عالم الأرواح دون عالم المعاني، لإستقلاله في الوجود وظهوره بحسب تعيُّنه، وما يلزمه من افاضة الأحكام وصدور الآثار دون العالم المعاني…
ثم عالم المثال لظهور المعاني فيه بصور الأشكال، وذلك معنى زائد حصل به ضرب آخر من التركيب.
ثمَّ عالم الأجسام لعروض هذا كلّه مع لحوقه التمكُّن وشغله للحيِّز، وهذا انهى الغاية في التركيب، و به تمَّ ظهور الوجود، إذ لا مرتبة في الظهور اشدَّ من المحسوسات…
فهذه ثلاثة عوالم، والمرتبة الجلائيَّة المشتملة على التعيّنين المذكورين، فيكون المراتب حينئذ أربعاً، وخامسها هو الجامع للكلِّ، وهو المرتبة الانسانيَّة”( ).
قصة الظهور:
ينقل الامام الخميني(قده) في مصباح الهداية عن القاضي سعيد القمي ملخصا يذكر فيه كيفية ظهور الاعيان وتجليها في الخارج بأسلوب جميل، حيث يشير الى ان حقيقة الظهور مردّها الى العلم الإلهي الأزلي بهذه الأعيان الطالبة للوجود والتي افاض عليها الحق الوجود بحسب قابلياتها واستعداداها الذاتية، يقول (قده):
“بالحري أن نذكر ما لخّصه الشيخ العارف الكامل القاضي سعيد الشريف القمي رضي الله عنه ممّا فصّله بعض أهل المعرفة، قال في البوارق الملكوتية:
إنّ الحقائق الخارجية في حال غيبتها تحت أستار الأسماء الّتي وسائط مشهودها، سألت تلك الأسماء سؤال افتقار وقالت: إنّ العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضا، وعن معرفة ما يجب لكم من الحقّ علينا. فلو أنّكم أظهرتم أعياننا، لكنتم أنعمتم علينا، وأمكن لنا أن نقوم بحقوقكم ولكانت سلطنتكم متحقّقة واليوم أنتم سلاطين علينا بالقوّة من دون جنود ولا عدّة، فهذا الّذي نطلبه منكم أكثر نفعا لكم ممّا في حقّنا.
فلمّا سمعت الأسماء الإلهيّة مقالة الحقائق الغيبيّة، نظرت في ذوات أنفسها، وصدقت الممكنات وطلبت ظهور أحكامها حتّى يتميّز أعيانها بآثارها. فإنّ “الخلاّق” و”المدبّر”وغيرهما نظروا في ذواتهم، فلم يروا خلاّقاً ولا مدبّرا ولا غير ذلك.
فجاءت تلك الأسماء إلى حضرة الاسم “الباري” فقالوا له: عسى أن توجد أنت هذه الأحكام الّتي اقتضت حقائقها. فقال “البارئ”: ذلك راجع إلى الاسم”القادر” فإنّي تحت حيطته فالتجئوا إليه. فقال “القادر”: أنا تحت حكم “المريد” فلا أوجد عينا منكم إلا باختصاص وليس ذلك إلا بتخصّصه وأن يأتيه أمر من ربّه، فحينئذ أتعلّق أنا بالإيجاد.
ففزعوا إلى “المريد” وذكروا له مقالة “القادر”. فقال “المريد”:
صدق “القادر” ولكنّي أنظر إلى أنّه هل سبق العلم من الاسم “العليم” بظهور آثاركم، فأخصّص أنا ما شاء الله من أحكامكم فإنّي تحت حكمه. فصاروا إلى الاسم “العليم”. فقال “العالم”: قد سبق العلم بإيجادكم، ولكنّ الأدب أولى ليس الأمر هنا بمحض الافتقار، بل لا بدّ من الإذن مرّة بعد أخرى، وإنّ لنا كلّنا حضرة مهيمنة علينا وهي الاسم “الله”.
فاجتمعت الأسماء إلى الحضرة الإلهيّة، فذكروا له قصّتهم، وأظهروا له ما اقتضت حقائقهم. فقال: حقّا أقول أنا اسم جامع لحقائقكم،
مشتمل على مراتبكم، وإنّي دليل على ذات المقدّسة وحضرة الأحديّة. فمكانكم أنتم ورفقائكم حتّى أعرض عليه مقاصدكم فقال: يا من هو، يا من لا هو إلّا هو، قد اختصم الملأ الأعلى وقالت الأعيان هكذا. فنودي من سرّه أن: أخرج عليهم، وقل لكلّ واحد من الأسماء ما يتعلّق بما يقتضيه حقائقها. فخرج الاسم “الله”، ومعه الاسم “المتكلّم” يترجم عنه الممكنات والأسماء الإلهيّة، وذكر لهم ما أمره المسمّى. فتعلّق “العالم” بظهور الممكن الأوّل و”القادر” بظهور الممكن الثاني و”المريد” بسائر الأعيان. فظهرت الأدبار والأكوان.
وأدّى الأمر إلى المنازعة والمخالفة كما هو مقتضى الأسماء الجماليّة والجلاليّة. فقالت الأعيان: إنّا نخاف أن يفسد نظامنا، أو يطغى بعضنا على بعضنا، ونلحق بالعدم الّذي كنّا فيه. فالتجئوا تارة أخرى، إلى الأسماء بتعليم الأسم “العليم” و”المدبّر”، وقالوا: أيّها الأسماء التي لكم السلطنة علينا، إن كان أمركم على ميزان معلوم وحدّ مرسوم بأن يكون فيكم إمام يخفضنا ويخفض تأثيراتكم فينا، لكان أصلح لنا ولكم. فسمعوا ذلك والتجئوا إلى الاسم “المدبّر”.
فدخل “المدبّر” إلى المسمّى، وخرج بأمر الحقّ إلى الاسم “الربّ” فقال له: صدر الأمر بأن تفعل أنت ما يقتضيه المصلحة في بقاء الممكنات. فقال: سمعا وطاعة. وأخذ وزيرين يعينانه على مصالحه، وهما “المدبّر” و”المفصّل”. قال الله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أي ربّكم الّذي هو الإمام. فانظر ما أحكم كلام الله و أتقن صنع الله”( ).
الإنسان الكامل عند العرفاء:
الحقيقة الإنسانية في المدرسة العرفانية:
تبيّن من البحوث السابقة ان ظهور الحق وتعيّنه على قسمين: تعيّن تغلب عليه احكام الوحدة والبطون وهو التعين الأول، وتعين تغلب عليه احكام الكثرة والظهور وهو المسمى بالتعين الثاني.
ولما كانت الوحدة غالبة على الكثرة في التعين الاول بسبب ظهور القاهرية الاحدية والواحدية ، وكانت الكثرة غالبة على الوحدة في التعين الثاني بسبب ظهور النفس الرحماني وتجليه في المراتب الخلقية من العقل والخيال والجسم، اراد الحق تعالى ان يظهر في مظهر جامع للكثرة والوحدة معا ليكون على صورته كما في الحديث:”ان الله خلق آدم على صورته”( ). وليكون مظهرا كاملا وتاما وخليفة حقيقيا له كما في قوله تعالى :﴿اني جاعل في الأرض خليفة﴾( )، مظهرا يكون جامعا للحقائق الالهية والامكانية، اي جامعا لمرتبتي الجمع والتفصيل والوجوب والامكان، ليغدو بحق مظهرا للإسم الأعظم، وهذا الذي يصطلح عليه العرفاء بالحق المقيد الذي هو تجلي الحق المطلق، والانسان الكامل، والحقيقة المحمدية، وآدم، والكون الجامع…
يقول ابن تركة الأصفهاني في تمهيد القواعد:
“ان الوحدة الذاتية والهوية المطلقة لغلبة حكم الإطلاق فيها، لا يمكن أن يكون للتفصيل الأسمائي فيها مجال أصلا. وكذلك المظاهر التفصيلية التي هي أجزاء العالم الكبير أيضا لغلبة حكم القيود الكونية والكثرة الأمكانية فيها لا يمكن ان يكون للجمعية الإلهية التي هي صورة الوحدة الحقيقية فيها ظهور، فإقتضى الأمر الإلهي أن تكون صورة إعتدالية ليس للوحدة الذاتية فيها غلبة، ولا للكثرة الإمكانية عليها سلطنة، حتى تصلح لأن تكون مظهرا للحق من حيث تفاصيله الأسمائية، وأحدية جمعيته الذاتية، بسعة قابليتها وعموم عدالتها، وذلك هو النشأة العنصرية الإنسانية، إذ ليس في الإمكان أجمع من الإنسان لإحاطته بالمرتبة الإطلاقية الإلهية والقيدية العبدية.”( ).
وسمي هذا الموجود بالكون الجامع لانه جامع لمظهرية الذات في حضرة الأحدية، ومظهرية الأسماء والصفات في حضرة الواحدية، ومظهرية الأفعال في حضرة الشهادة. وبذلك كان حاصرا لكل المراتب ومحيطا بسائر الموجودات لانه آخر التنزلات والتجليات الإلهية وعندهم قاعدة تقول:”كل سافل محيط بالعالي”( ). بمعنى انه كلما تنزلنا في مراتب والوجود اشتملت هذه المرتبة النازلة على ما هو موجود في المرتبة العالية بالإضافة الى مختصات مرتبتها. فمرتبة المثال مثلا مشتملة على ما في العقل والمثال معا، ومرتبة الجسد مشتملة على مختصات الطبيعة بالإضافة الى عالمي المثال والعقل. فالشيء كلما ازداد قيودا ازداد كثرة وكلما ازداد كثرة ازداد ظهورا وكلما ازداد ظهورا ازداد ادراكا، كما يقول صاحب التمهيد:
“فكل مرتبة أنزل بحسب رتبة الوجود، لا بد وأن تكون تلك القيود فيه اكثر، إذ النازل مشتمل على ما اشتمل على العالي من تلك القيود مع ما اختص به في تنزلاته، وكل ما كان انزل لا بد وأن يكون للخواص والأحكام أشمل، وكل ما كان أشمل كان أكمل، ضرورة أن الكمال هو الجامعية الى تستتبع الخلافة الإلهية”( ).
ولجامعيته بين الوحدة والكثرة، وبين المراتب العلوية والسفلية (من العقلية والمثالية والطبيعية)، ولكونه اخر التنزلات والتجليات، صار اكمل الموجودات وبسبب أكمليته صار المظهر التام للحق والذي لا يصلح لهذه المظهرية التامة غيره. لان المظهر الكامل للحق يجب ان يكون جامعا لخواص كل المراتب ومحتو على نماذمج منها، وبذلك يستحق المظهرية التامة لإسم الله الأعظم:
“ان المظهر الكامل، عبارة عن الكون الجامع الحاصر لجميع المظاهر التي في سائر المراتب الموجودة فيه وهذا هو النشأة العنصرية الانسانيَّة لا غير، فانّها آخر تنزُّلات المظاهر الواقعة في آخر تنزلات المراتب. وقد عرفت ان كل مظهر سافل شامل للعالي وكل مرتبة سافلة شاملة لعلياها بما فيها من المظاهر، فيكون الإنسان العنصري هو الحائز لسائر المراتب والمظاهر، فلا يصلح للمظهريَّة المذكورة الا هو لأن المظهر الكامل الذي هو عبارة عمّا يصلح لأن يكون مرآة جامعة لجميع الحضرات الإلهيَّة والعوالم الكيانيَّة، يجب ان يكون له بحسب كل مرتبة من المراتب الكليَّة المذكورة انموذج خاص به يكون ذلك عنده كالنسخة الجامعة لسائر جزئيّات تلك المرتبة(الهيَّة كانت أو كونيَّة) … وذلك مختص بالنشأة العنصريَّة الانسانيَّة. فإنها لما كانت آخر تنزُّلات الوجود، فقد حصل لها من كل مرتبة عند وصولها إليها في مرورها عليها انموذج، ونسخة شاملة يظهر فيها جميع ما في تلك المرتبة، صالحة لأن تكون مرآة لما فيها عندها، فيكون نشأته هذه، عبارة عن مجموع مشتمل على هذه النسخ والأنموذجات والمرايا مع احديَّة جمع الجمع”( ).
ويعلل القيصري في فصوص الحكم سبب كونه آخر المراتب والتنزلات:
“لأنه لما جعلت حقيقته متصفة بجميع الكمالات، جامعة لحقائقها، وجب أن توجد الحقائق كلها في الخارج قبل وجوده، حتى يمر عند تنزلاته عليها، فيتصف بمعانيها طورا بعد طور من أطوار الروحانيات والسماويات والعنصريات، إلى أن تظهر في صورته النوعية الحسية، والمعاني النازلة عليه من الحضرات الأسمائية، لا بد أن تمر على هذه الوسائط أيضا الى أن تصل اليه وتكمله. وذلك المرور إنما هو لتهيئة استعداده للكمالات اللائقة به، ولإجتماع ما فصل من مقام جمعه من الحقائق والخصائص فيه، وللإشهاد والإطلاع على ما اريد ان يكون خليفة عليه”( ).
“وأيضا: لما كان الإنسان مقصودا أوليا، ووجوده الخارجي يستدعي وجود حقائق العالم، أوجد أجزاء العالم أولاً ليوجد الإنسان آخراً لذلك جاء في الخبر: «لولاك لما خلقت الأفلاك»”( ).
وبذلك استحق الإنسان أن يكون المظهر التام للحق ولإسمه الأعظم. ولما كان اسم “الله” الأعظم مشتملا على جميع الأسماء ومقدم بالذات عليها ومتجل فيها بحسب المراتب الإلهية ومظاهرها، فإن مظهره التام ايضا الذي هو الإنسان الكامل يجب ان يكون مقدّما على جميع المظاهر ومتجل فيها ايضا بحسب مراتبه، ولهذا صارت حقائق العالم في حضرة العلم والشهادة كلها مظاهر الحقيقة الانسانية ايضا والتي هي بدورها مظهر الاسم الاعظم “الله”، وصار لهذه الحقيقة الإنسانية مظاهر في كل العوالم. ففي الحضرة العلمية ظهرت أولاً بصورة كلية اجمالية فكانت الحقيقة المحمدية التي هي حقيقة النوع الإنساني، ومن ثم بصورة تفصيلية فكانت العين الثابتة للإنسان الكامل الجامعة لجميع الأعيان الثابتة، ثم ظهرت في حضرة العين والشهادة فكانت في عالم الجبروت (وهو عالم الارواح والعقول) العقل الأول وهو اول موجود في نشأة الخلق والذي قال عنه رسول الله(ص):”«اول ما خلق الله العقل»”( ).
ثم ظهرت هذه الحقيقة الإنسانية في عالم الملكوت وهو عالم النفوس فكانت النفس الكلية التي تتولد منها النفوس الجزئية، وفي النهاية ظهرت في عالم الملك والطبيعة فكان آدم ابو البشر.
يقول القيصري في شرح الفصوص:
“الحق تعالى لما تجل لذاته بذاته، وشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته، واراد أن يشاهدها في حقيقة تكون له كالمرآة، أوجد الحقيقة المحمدية التي هي حقيقة هذا النوع الإنساني في الحضرة العلمية، فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها وجودا أجماليا لإشتمالها عليها من حيث مضاهاتها للمرتبة الإلهية الجامعة للأسماء كلها، ثم أوجدها فيها وجودا تفصيليا، فصارت أعيانا ثابتة. وأما في العين…فمظهره الأول في عالم الجبروت هو الروح الكلي المسمى بالعقل الأول…وفي عالم الملكوت هو النفس الكلية…وفي عالم الملك هو آدم أبو البشر”( ).
وهكذا طابق العالم الكبير الكوني العالم الصغير الإنساني، وصار الإنسان الكامل خليفة الحق، والمظهر الأتم لأسمائه وصفاته، والواسطة بينه وبين خلقه، والوسيلة التي من خلالها يحفظهم، ولذلك كله اختصه تعالى بخزائن علمه وودائع اسراره كما قال تعالى في كتابه: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾( ).
يقول القيصري في شرح الفصوص:
“الحق يحفظ خلقه بالإنسان الكامل عند إستتاره بمظاهر أسمائه وصفاته وكان هو الحافظ لها قبل الإستتار والإختفاء وإظهار الخلق، فحفظ الإنسان لها بالخلافة فتسمى بـ”الخليفة” لذلك.
فما دام هذا الإنسان موجودا في العالم، يكون محفوظا بوجوده وتصرفه في عوالمه العلوية والسفلية فلا يجسر أحد من حقائق العالم وأرواحها على فتح الخزائن الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل، لأنه هو صاحب الإسم الأعظم، الذي به يربي العالم كله، فلا يخرج من الباطن الى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شيئ إلا بأمره، إن كان يجهله عند غلبة البشرية عليه، فهو البرزخ بين البحرين، والحاجز بين العالمين، وإليه الإشارة بقوله: ﴿مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان﴾”( ).

المنهج العرفاني في البحث عن الحقيقة:
منهج العارف في البحث عن الحقيقة:
عند العارف لا وجود لغير الله في عالم الوجود، وكل ما سواه انما هو آية ومظهر له. ومظاهره سواء الافاقية منها او الانفسية ليست سوى ايات دالة على وجوده المقدس. ولذا قال عز اسمه في كتابه الكريم:
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق﴾( )، فمشاهدة الايات الإلهية يفضي الى نتيجة واحدة هي: ان هذه الايات ليست سوى الحق المتجلي فيها كلٌ بحسبها، وهي المرايا التي تُري جمال الذات المقدسة للحق جل وعلا. ومن هنا صار بالإمكان رؤية الحق ومعرفته من خلال آياته ومظاهره، اما ذاته فهي غير قابلة للإدراك والمشاهدة اصلا.
من هنا صار همّ العارف الوصول الى هذه الرؤية والمعرفة التي قال عنها رسول الله(ص):”اللهم ارني الأشياء كما هي”( ).اي كما هي عليه من المظهرية والآياتية له. فهمّ العارف وحرصه الدائم هو رؤية الحق والوصول اليه، بمعنى الوصول الى اسمائه وصفاته والفناء فيه في نهاية المطاف بعد حصول التقوى الكاملة والتوجه التام نحو الحق وحده، ليكون مصداقا لقوله تعالى ﴿يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه﴾( )، ولكن العارف حريص على ان يكون لقاؤه بالحق من خلال تجلي الحق له باسمائه الجمالية التي تعني النعيم والسعادة، دون الاسماء الجلالية التي تعني العذاب والنقمة.
ويحول دون تحقق هذا الهدف موانع تمنع من بلوغ هذه الغاية الشريفة يختصرها العرفاء بكلمة هي: “حب النفس” و”الأنا” . فالانانية وحب النفس يمثلان العائق الاكبر امام رؤية تجليات الحق والفناء فيه لأنها بإختصار تثبت مبدئ الغير الذي يقابل الحق وتجعل للانسان قبلة ووجهة اخرى غير الحق، مع ان العارف الحقيقي وجهته دائما الحق الذي لا يرى ولا يشاهد غيره حيث لسان حاله قوله تعالى:
﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ومسلما وما أنا من المشركين ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين،لا شريك له بذلك أمرت وأنا من المسلمين﴾( ).
اما المحبّ لنفسه فانه ليس فقط يرى نفسه ويتعلق بها بل ينسب اليها التأثير والكمال ايضا. وهذا الحب هو منشأ حب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة كما في الحديث عن الإمام الصادق(ع) انه قال:”حب الدنيا رأس كل خطيئة”( ).
وكما يقول الامام الخميني (قده) :
“إن ما هو مذموم وأساس جميع الوان الشقاء والعذاب والمهالك ورأس جميع ألوان الخطايا والذنوب إنما هو حب الدنيا الناشئ من حب النفس”( ). فالذنوب والمعاصي اذا مردها الى حب الدنيا والتعلق بها، وحب الدنيا منشؤه حب النفس كما ذكرنا.
ويبين الإمام الخمنيي(قده) المراد الحقيقي من لقاء الله فيقول:
“إعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء الله صراحة أو كناية وإشارة، كثيرة…ولا بد أن تعرف بأنه ليس مقصودُ من أجاز فتح الطريق على لقاء الله ومشاهدة جمال الحق وجلاله، جواز اكتناه التعرف -على الحقيقة والذات- ذاته المقدس، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاهدة العينية الروحانية، على ذاته المحيط بكل شيء على الإطلاق، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي -الفلسفة- وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان، من الأمور البرهانية، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء، وأرباب القلوب والمعارف.
بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو: أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة، وانصراف القلب نهائياً عن جميع العوالم، ورفض التوجه نحو النشأتين -المُلك والملكوت- ووطأ الأنانية والإنيّة، والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته، والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه، وتحمّل جهد وترويض القلب، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته، وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات من جهة أخرى، والفناء في الأسماء والصفات، والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته. وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات.
ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضاً، وينال التجليات الذاتية الغيبية، ويرى نفسه متدلياً ومتعلقاً بالذات المقدس، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات، ظلاًّ للحق المتعالي.
وكما قامت البراهين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه وتعالى والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد والتعلقات، بل البرهان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام، فكذلك لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي يبلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتازها ووطئ بأقدامه على رؤوسها، وبين الحق المتعالي. كما في الحديث الشريف المنقول عن (الكافي) و(التوحيد): “إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمش بها”( ).
من هنا يجمع العرفاء على مبدأ اساسي يمكن من خلاله ان ينطلق السالك في رحلته نحو الحق والذي من دونه لا سفر اصلا ولا سلوك، وهو مبدأ تهذيب النفس وتصفيتها، حتى تتمكن من خرق الحجب الظلمانية والنورانية لتصل بعدها الى لقاء الحق والى معدن العظمة كما في المناجاة الشعبانية:
“إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً”( ).
فتهذيب النفس وتزكيتها من الأهواء والأخلاق الرذيلة وتنزيهها عن الذنوب الكبيرة والصغيرة، هو الأصل الذي يبني عليه العرفاء منهجهم العملي في السلوك الى الله. ويعرفه القاساني في شرح منازل السائرين انه:”التخليص من دنس الطبائع ولوث العلائق”( ).
ويعرفه الإمام الخميني انه:”عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية، وجعلها تأتمر بأمر الخالق، وتطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده”( ). ولقد قرن الحق تعالى في كتابه الكريم الفوز والفلاح بتهذيب النفس وتزكيتها حيث قال: ﴿ونفس وما سواها،فألهمها فجورها وتقواها،قد أفلح من زكاها،وقد خاب من دساها﴾( ). فالعارف الحقيقي في هذه الدنيا في حالة سلوك وسفر نحو الحق للفوز بلقائه، وزاد هذا السفر كما يقول العلامة الطهراني في رسالة لب اللباب:
“هو المجاهدة والرياضة النفسانية، ولأن قطع علائق المادة صعب جدا، (فإنه) يتم التخلص من وشائج عالم الكثرة بالتدريج حتى يتم السفر من عالم الطبع”( ).
اما البرنامج العملي لتهذيب النفس عند العارف فهو فيكمن في مخالفة أهواء النفس والعمل على خلاف ما تطلبه وتريده، لأن النفس بطبيعتها امارة بالسوء، ميّالة الى اللهو والجري وراء زينة الحياة الدنيا، مما يصرفها عن الوجهة الحقيقية التي خلقت لاجلها. يقول ابن تركة في تمهيد القواعد:”لا شك أن معالجة الأمراض النفسانية، وتخليص النفس من الأخلاق الردية المهلكة، وتجريدها عن العادات الخبيثة المظلمة لا يمكن بدون أتصافها بملكات مرضية وعادات حسنة تقابل الأخلاق الذميمة والصفات الخبيثة، فإن دفع أحد الضدين لا يمكن إلا بالضد الآخر”( ).
ويقول الامام الخميني (قده) في كيفية معالجة المفاسد الاخلاقية:”وأفضل علاج لدفع المفاسد الأخلاقية، هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كل واحدة من الملكات القبيحة التى تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة النفس الى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة”( ).
ومخالفة النفس لا تتم بشكل عشوائي وبحسب رغبة النفس، والا فان السالك سيعود ليقع في نفس المشكلة التى هرب منها. بل ان مخالفة النفس لا بد ان تخضع لبرنامج واضح عنوانه التقوى والطاعة لله. فالطريق السليم لمخالفة النفس هو من خلال اتباع الشريعة التي وضعها خالق هذا الإنسان العارف بشؤون وأحاوله. فالسالك عندما يلتزم باحكام الله فسوف يكون في حالة طاعة وعبودية للرب ومخالفة للنفس وأهوائها، اما اذا كان مطيعا لنفسه ومخالفا لربه فسيكون مصداقا لقوله تعالى: ﴿أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾( ).
يقول الإمام الخميني ايضا في هذا المجال:
“الإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفّق بحاله، إذا تنبّه أن وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين:
الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة.
والآخر: هو الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أي شيء، ومقدمة على كل هدف، وممهدة للتطور إلى ما هو أحسن.
إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث أن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات”( ).
ولكن هذه التقوى ليست على مرتبة واحدة بل تختلف احكامها بإختلاف مقامات السالكين كما يقول (قده) ايضا:
“لا بُدَّ أن نعرف أن التقوى، وإن لم تكن من مدراج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام… فتقوى العامة إذاً تكون من المحرمات، وتقوى الخاصة تكون من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا، والمخلصين من حب الذات، والمنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، والفانين من كثرة الأسماء، والواصلين من التوجه إلى الفناء، والمتمكنن من التلوينات ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾”( ).
اما الايات والروايات التي تتحدث عن اهمية الطاعة والتقوى لله وتاثيرها على سلوك الفرد ومصيره كثيرة نكتفي بذكر بعضها.
من الآيات قوله تعالى:
﴿وآتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيئ عليم﴾( ).
﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا﴾( ).
﴿ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا﴾( ).
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة﴾( ).
﴿واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب﴾( ).
﴿إن اولياؤه الا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾( ).
أما الروايات :
فعن أمير المؤمنين علي(ع) قال:
“انه لا يدرك ما عند الله الا بطاعته”( ).
وعن الإمام الباقر(ع) قال:
“يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه…
الى أن قال: فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله ولا بين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته.
يا جابر والله ما نتقرب الى الله تعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع”( ).
وقال (ع) في حديث آخر:
“لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله”( ).
وعن الإمام الكاظم(ع) قال:
“يا هشام، نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة”( ).
وفي الحديث القدسي المشهور:
“عبدي اطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون”( ).

هوامش:

1- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، مناجاة العارفين.
2- سورة النجم: الآية 11.
3- داود القيصري: شرح فصوص الحكم، تحقيق آية الله حسن زادة الآملي، بوستان كتاب، قم 1384،ج2، ص867.
4- السيد حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، تحقيق هنري كربين وعثمان يحيي، شركت انتشارات علمى وفرهنكى، الطبعة الثانية،1368 ش، ص 152.
5- راجع جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص 198.
6- شرح فصوص الحكم : ج 2 ، ص868.
7- المصدر السابق : ج 2 ، ص869.
8- صدر الدين القونوي: النفحات الإلهية، تصحيح محمد خواجوي، انتشارات مولى، طهران، الطبعة الأولى 1375 ش ص 81.
9- الإمام الخميني : الأربعون حديثاً، ترجمة محمد الغروي، دار التعارف، بيروت، الطبعة السادسة،1998 ، ص 721.
10- صائن الدين ابن تركه الأصفهاني: تمهيد القواعد، تقديم وتصحيح السيد جلال الآشتياني، بوستان كتاب، قم، الطبعة الثالثة،1381ش، ص306.
11- المصدر السابق.
12- الأربعون حديثاً: ص32.
13- أي مصداق الوجود.
14- شرح فصوص الحكم: ج 1،ص 21.
15- سورة آل عمران: الآية97.
16- السيد حيدر الآملي: المقدمات من كتاب نص النصوص، تصحيح وتقديم هنري كربين وعثمان يحيي، انتشارات توس، الطبعة الثانية،1367ش، ص407.
17- محمد بن حمزة الفناري: مصباح الأنس، تصحيح محمد خواجوي، انتشارات مولى، تهران، الطبعة الأولى،1374ش، ص 150.
18- العلامة المجلسي: بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت،1404 ه ق،ج4،ح5،ص 247.
19- راجع كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص 29.
20- المقدمات من كتاب نص النصوص، ص 408.
21- راجع كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص 303.
22- المقدمات من كتاب نص النصوص، ص 408.
23- نفس المصدر السابق، ص 410.ٍ
24- شرح فصوص الحكم: ج 1، ص 36.
25- المقدمات من كتاب نص النصوص، ص361
26- تمهيد القواعد: ص 301.
27- شرح فصوص الحكم: ج 1، ص 26.
28- المصدر السابق، ص 42.
29- الإمام الخميني(قده): مصباح الهداية الى الخلافة والولاية، مقدمة السيد جلال الدين الأشتياني، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني، الطبعة الثالثة، ص 13 و 14.
30- المصدر السابق:ص 14.
31- تمهيد القواعد: ص 304.
32- المصدر السابق: ص 272.
33- المصدر السابق: ص 304.
34- المصدر السابق: ص 306.
35- شرح فصوص الحكم:ج1، ص 526.
36- المصدر السابق.
37- السيد حيدر الآملي :رسالة نقد النقود في معرفة الوجود(المطبوعة مع جامع الأسرار)، تحقيق هنري كربين وعثمان يحيي، شركت انتشارات علمى وفرهنكى، الطبعة الثانية،1368 ش، ص665.
38- جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص 191.
39- شرح فصوص الحكم:ج1، ص31.
40- المصدر السابق:ج1، ص34.
41- المصدر السابق:ج1، ص 78.
42- جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص195.
43- رسالة نقد النقود في معرفة الوجود: ص 659.
44- نهج البلاغة: نسخة المعجم المفهرس، قم، خطبة 195.
45- نهج البلاغة: خطبة 65.
46- راجع كتاب جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص 167.
47- سورة النور: الآية 35.
48- راجع المقدمات من كتاب نص النصوص: ص 448.
49- مقتطف من كتاب المقدمات من كتاب نص النصوص، ص 457 و461.
50- تمهيد القواعد: ص 269.
51- المقدمات من كتاب نص النصوص: ص 454.
52- رسالة نقد النقود في معرفة الوجود: ص685.
53- تمهيد القواعد : ص 270.
54- الإمام الخميني: شرح دعاء السحر، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الأولى، رمضان 1416، ص 119.
55- تمهيد القواعد : ص 273.
56- مصباح الأنس: ص 321.
57- تمهيد القواعد: ص 283.
58- شرح فصوص الحکم:ج1، ص 89.
59- جامع الأسرار ومنبع الأنوار: ص158.
60- شرح فصوص الحكم:ج1، ص 217.
61- تمهيد القواعد: ص 288.
62- شرح دعاء السحر: ص 120.
63- تمهيد القواعد: ص 292.
64- مصباح الهداية الى الخلافة والولاية: ص 84.
65- بحار الأنوار:ج4،ح1، ص11.
66- سورة البقرة: الآية 30.
67- تمهيد القواعد: ص 322.
68- تمهيد القواعد: ص 326.
69- المصدر السابق: ص 313.
70- المصدر السابق:ص 360.
71- شرح فصوص الحكم: ج 1، ص 244.
72- المصدر السابق: ج 1، ص 241.
73- بحار الأنوار: ج1،ح9،ص 97.
74- شرح فصوص الحكم: ج 1،ص 240 و 306.
75- سورة البقرة: الآية 31.
76- شرح فصوص الحكم: ج 1، ص 248.
77- سورة فصلت: الآية 53.
78- مصباح الأنس: ص220.
79- سورة الانشقاق: الآية 6.
80- سورة الأنعام: الآية 79.
81- بحار الأنوار:ج70ح62، ص90.
82- الإمام الخميني: وصايا عرفانية، إعداد السيد عباس نورالدين، مركز بقية الله الاعظم، بيروت، الطبعة الأولى،1998م، ص 22.
83- الأربعون حديثاً: ص504.
84- أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(ع): المناجاة الشعبانية.
85- عبد الرزاق القاساني: شرح منازل السائرين، دار المجتبى، بيروت،1995م،ص 95.
86- الأربعون حديثاً: ص32.
87- سورة الشمس: الآيات 7-10.
88- العلاَّمة السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني: رسالة “لب اللباب في سير وسلوك أولي الألباب”، ترجمة السيد عباس نورالدين، دار المحجة البيضاء، بيروت،1417ق، ص 19.
89- تمهيد القواعد: ص388.
90- الأربعون حديث: ص 53.
91- سورة الجاثية: الآية 23.
92- الأربعون حديثاً: ص 254.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى