العرفان السياسي: منظور جديد لتجربة العارف سعيد النورسي
جعفر نجم نصر
لعل العنوان أو المصطلح المركب (العرفان السياسي) يبدو متناقضاً بين العرفان الذي هو تجربة ذوقية روحية باطنية فردية خارج دائرة المجتمع وانشغالاته ومصطلح السياسة الذي يشير إلى عملية بشرية أداتيه لإدارة السلطة وشؤون الدولة عموماً، وهو أمرٌ دنيوي صرف ولا شأن له بعالم الباطن أو عالم الاخرويات.
ان سبب هذه الصدمة أو التناقض الظاهري بين العرفان والسياسة هو السياق التاريخي الثقافي لكلا المسارين العرفان والسياسة في العالم الاسلامي، فلقد ترسخ على مدى قرون خلت أن هنالك انفصالا كليا بين التجربة الصوفية والعرفانية وبين شؤون الدولة أو العمل السياسي، ولعل هذا الامر يعزى إلى اعتقاد الكثير من الباحثين ان العرفاء والمتصوفة هم مشغولون بعالم الباطن الروحي وبالتالي فهم منصرفون كلياً عن الشأن السياسي، أو بعبارة أخرى ان العارف أو المتصوف هو زاهد في الدنيا برمتها وبذلك فهو غير معنى بالسياسة ومفاتنها وشهواتها وسياقاتها السلطوية على الناس.
وهذا الأمر مناف لكثير من الحقائق التاريخية والاصول الثقافية التي تبين لنا أن ظهور المتصوفة والعرفاء في داخل الاسلام انما جاء بوصفه رد فعل ضد السياسة واهلها من الخلفاء والامراء والوزراء وقادة جيشهم، بل ان فعل المعارضة بحد ذاته هو فعل المتصوفة والعرفاء على طول الخط إلّا بحالات شاذة هنا وهناك، إذ قال الكاتب هادي العلوي عن تلك المعارضة عندهم لم يستعمل مشايخنا (يقصد المتصوفة والعرفاء) هذا المصطلح الذي هو من مستحدثات جيلنا لكنهم مارسوه بوصف انه مسلك للخروج من قيد الاغيار، وتعني المعارضة قطع العلاقة مع الدولة وأربابها والدعوة إلى – أو العمل على تغييرها، والدولة شيطان تتألف من شياطين وفعلها شيطاني وسلوك أربابها شيطاني، وشيطان من يعاملها ويتعامل معها، وتتألف منهم جملة الاغيار المقيمين في دار الضد والحس والشهوة، وهم عماد الظلم ومنشأ الظلمة والخلق منهم في بوار(1).
وهذهِ المعارضة تجسدت بمظاهر اجتماعية وثقافية بل وسياسية متعددة على مدى العصور، ولهذا وجدنا كبار العرفاء من اوائل المقتولين على ايدي السلطة (الحلاج، السهروردي، عين القضاة الهمذاني) وغيرهم الكثير، وإذ كان هؤلاء يناؤون السلاطين في العالم الاسلامي، فإن الكثير من المتصوفة في عصور لاحقة دخلوا في صراع مع السلطات السياسية الاستعمارية في عدد من البلدان لاسيما في شمال افريقيا.
وفي هذا السياق ينبغي التذكير بما قاله الكثير من الباحثين حول عصر ظهور التصوف والعرفان، والذي ظهر بوصفه أتجاه معارضة صامتة للوهلة الاولى ازاء عالم الاسراف والبذخ ومظاهر الفسق والفجور التي سادت العالم الاسلامي بعد تزاحم الفتوحات وتضخم بنية الدولة الاسلامية من جهة مواردها المالية (الخراج) الذي بلغ حد التخمة.
إذ يذهب الباحث علي سامي النشار إلى ان الزهد ومظاهر التقوى كانت موجودة في القرن الاول الهجري، وان الكثير من هؤلاء الزهاد ظهروا معارضين لبعض الخلفاء أمثال ابو ذر الغفاري والحسن البصري وغيرهم الكثير، ولكن لم تظهر اللغة الاصطلاحية وتقعيد القواعد الصوفية والعرفانية إلّا في القرن الثاني الهجري، والامر الجوهري هو ان هنالك روحا للمعارضة كانت تسري في هذين القرنين ازاء ترف السلطة ومفاسدها ([2]).
ولا يخرج كامل مصطفى الشيبي عن ذلك الامر كثيراً ويزيد عليه بالحديث المفصل عن خصوصية المجتمع الكوفي وبداية تشكل حركة للزهد على نطاق واسع، أذ يقول: أما ميادين الزهد الكوفي فقد تعددت، فقد وجدنا فيها الزهد الاسلامي الاصيل القائم على التواضع في الملبس والمأكل والتزام تلاوة القرآن والخوف من عذاب الاخرة، ووجدنا في الكوفة الزهد المنبعث من عذاب الاخرة، والزهد الاتي من الاحداث التي تناوبت عليها من قتل ذريع ومن خيانة ومن نصرة للباطل ومن حسرة على العجز عن رد الظلم. وسنرى أن الكوفة ستكون مثابة للبس الصوف في العالم الاسلامي كله وسيتبين لنا ان ذلك كان مقصوراً عليها، وكان تعبيراً عن معارضة سلبية، وفوق هذا كان في الكوفة أول من تسمى صوفياً وأول من قال بالولاية الصوفية ([3]).
يعلل الشيبي هذا السلوك ويربطه بما جرى في عصر الفتنة أبان الخليفة الثالث وثم تصارع معاوية بن أبي سفيان والامام علي بن ابي طالب وثورة الامام الحسين ونكص اهل الكوفة على عقبيهما، ومن ثم شعورهم بالندم الشديد ومحاسبة النفس، مما دفعهم إلى ذلك، ولكنهُ رغم ذلك يعد هذا الامر معارضة سلبية لأنهم لم ينصروا الحق وأهله آنذاك.
وتأسيساً على هذا العصر واعتماداً على أنموذج سعد بن أبي وقاص يرى الباحث السنغالي الاصل الفرنسي الجنسية سليمان بشير ديان ان المتصوفة كانوا انسحابيين من الحياة السياسية من جهة، وغير مدركين لتمامية وجود دولة اسلامية يوالونها أو يسعون دائماً لأقامتها من جهة اخرى!؟
إذ يقول: يقف سعد بوصفه نموذجا مثاليا في عيون المسلمين لما يعنيه (القتال في سبيل الله بالأموال والانفس) خاصة الصوفيين منهم، عندما أصبح في نهاية حياته رمز التوجه الواضح الذي يقف أمام الدولة وجهاً لوجه. وخلال الفتنة والحروب الطاحنة التي شقت المجتمع المسلم، بدءاً من السنوات الاخيرة من حكم الخليفة الثالث عثمان (ت656م) إلى ان بلغت ذروتها في المعارك بين علي الخليفة الرابع، ومعاوية الذي تمرد عليه (بدءاً من عام 656م وحتى وفاة علي عام 661م) انسحب سعد بن أبي وقاص، ببساطة من المجال العام، رافضاً الانحياز وتأييد احد الطرفين في مسألة الخلافة السياسية – الدينية وعندما تم الضغط عليه ليفعل ذلك، نقل عنه انه قال : لن اشارك في القتال حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر. يستدعي هذا الموقف ملاحظتين اثنتين، الأولى وثيقة الصلة بما يسمى الدولة الاسلامية، والثانية معنية بما يمكن تسميته بالنزعة الصوفية للانسحاب([4]).
ثم يستمر ليقول: كان للطريقة التي انحسب بها سعد بن أبي وقاص من الميدان العام، حيث كان وجوده قد يعني الاجابة عن السؤال الصعب حول من يجب ان يكون الخليفة، إرث غني، وقد تبناها عدد من الفلاسفة والصوفيين ونظروا لها، وكان ابو نصر الفارابي (874-905م) الذي يمكن اعتباره مؤسس التراث الاسلامي للفلسفة السياسية المتجذرة في تعليمات أفلاطون احد هؤلاء، وتبعه في ذلك فيلسوف مثل ابن باجة (1085-1138م)، الذي اعتبر ان الدرس الرئيس الذي يمكن أخذه من فلسفة افلاطون هو أن: (المدينة الفاضلة) يوتوبيا مستحيلة، ولذلك فقد رفض مجرد فكرة تدخل ((محب الحكمة Lover of Wisdom)) في شؤون الدولة ([5]).
ان الباحث ديان هنا يمظهر مديات الانسحاب الصوفي من المجال السياسي ويجعله يأخذ منطقاً فلسفياً كذلك عاداً تجربة ابي وقاص انموذجاً متكرراً احتذى بهِ الفلاسفة والمتصوفة على حدٍ سواء، على اعتبار ان اليوتوبيا السياسية أمر مستحيل ومن ثم الانخراط في أي ممارسة سياسية هي أمرٌ عبثي، بل ليسهم في تلويث صاحبه واعاقته عن القيام بالعمل المثمر الخادم لشؤون المجتمع واعضائه.
ثم يستمر قائلاً: تقليد تقدير الانسحاب بالطريقة التي قام بها سعد بن أبي وقاص بوصفها رد فعل على حالة الشؤون العامة تم استحضارها كثيراً من فلاسفة حديثين، اعتبر محمد إقبال ان واحداً من الاسباب المبكرة لحالة التحجر التي وجد فيها الفكر الديني للإسلام نفسه بعد القرن الثالث عشر هو حقيقة أن أفضل العقول المسلمة انسحبت من حالة الوهن التي انتابت الشؤون العامة واختاروا مسار الانسحاب في تصور نيو- أفلاطوني يقدر الحياة التأميلة ”Viata Contempativa” قبل كل شيء. يقول إقبال إن: الروح الغيبية الكلية في الصوفية المتأخرة حجبت رؤية الناس عن مفهوم مهم جداً في الاسلام كأدب اجتماعي، وبتقديمه امكانية التفكير المتحرر بجانبه التأملي، فقد جذب وأخيراً امتص أفضل العقول في الاسلام ولذلك، فقد تُركت الدولة المسلمة بشكل عام بأيدي متوسطي القدرة فكرياً، والاغلبية غير المفكرة في الاسلام، بلا شخصيات ذات معايير عليا لتقودهم، ووجدوا الامن فقط بالاتباع الاعمى للمدارس ([6]).
لا أعتقد ان اختيار شخصية مثل ابن ابي وقاص كان أمراً دقيقاً وملائماً بالنسبة لذلك العصر، وكان الاولى اختيار شخصية أكثر ورعاً وزهداً من قبل الاستاذ ديان، وكان جيل وعصر بن ابي وقاص يضم شخصيات مشهورة بالميل الصوفي والعرفاني الواضح امثال: عمار بن ياسر وابي ذر الغفاري وأضرابهم، إذ كان الانموذج هذا من كبار اصحاب الاقطاعيات والثروات بعد فتح العراق وعاش حياة ترف كبيرة ([7]).
ولربما كان الكاتب نفسه (ديان) لا يعرف الحق وأهله في ذلك العصر، فوجد ان ابي وقاص يمثل ذاته، أي انه اختاره، كأسقاط نفسي وذلك لعدم اتضاح الرؤية أمامه، ان انسحاب المتصوفة والكثير من الفلاسفة يرتبط بأمر جوهري لم يلتفت له (ديان) مطلقاً وهو (شرعية السلطة) هل كانت موجودة أم ان الحاكم والنظام هو منطق المغالبة المسند إلى (العصبية) بالمعنى الخلدوني؟ ان هذا الامر هو ما استشعره هؤلاء وليست مسألة علمانية الدولة آنذاك التي وجدوا فيها مبرراً للانسحاب ولعدم نصرة طرف على آخر!؟.
ولعل محمد اقبال أدرك هذا الامر وزاد عليه ان الاسلام الطرقي هو الخطر الماحق لتجارب المتصوفة والعرفاء، لأن التنظيمات الصوفية أياً كانت (أخوانيات أو هياكل طرقية) أو نحو ذلك ستكون مبعثاً للبحث عن مصالحها المادية ومن ثم تدخل في هدنة مع الوضع السياسي القائم، وهذا ما جرى في المشرق والمغرب على مدى قرون إلّا حالات محدودة دخلت في صراع سياسي.
يقول الباحث بومدين بوزيد بهذا السياق: ظلت ظاهرة التحالف مع السلطة أو التمرد عليها ملازمة للطرقية الصوفية التي هي شبيهة ما ننعته اليوم بالإسلام السياسي، ولعل الصورة تتضح حين نعلم ان بعض الطرقيين كانوا مباركين للمستعمر الفرنسي، وهذا لا يطعن فيها كطريقة صوفية ولكن علينا ان ندرك التفاوت والاختلاف بين مرحلة وأخرى… ([8]).
وقد تزامنت مواقف بعض المتصوفة وأحكامهم الفقهية-الباطنية مع قيام بعض الانتفاضات وأستغلها المستعمر، كمنشور محمد الموسوم (3 فيفري 1883) الذي يحرم على أتباعه الثورة ويلغي من يتدخل في السياسة، كما استعمل الفرنسيون سمعة الشاذلية وطلبوا تأييدها في حربهم سنة 1914 فقد اصدر شيخ زاوية قصر البخاري فتوى مضمونها طاعة الفرنسيين لأنهم (أولو الامر) وهنا فسر أولي الامر بأنهم الحكام الفرنسيون، وقد كان اول الخارجين عن ثورة بوعمامة عام 1881 أتباع الزيانيين والتيجانية ([9]).
فلهذا كان المتصوفة والعرفاء الاوائل كأفراد هم أكثر مواجهة للأمر السياسي من التنظيمات أو الاسلام الطرقي، ولهذا الامر دلالة واضحة من جهة ان نفي المصالح بوجود الجماعة صعب بالنسبة للطرق ولزعمائها وليس لجميعها لأن بعضهم دخل في مواجهة مع المد الاستعماري كما نعلم أمثال (السنوسية) وغيرهم، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن صلة تجربة الباطن بالنسبة للعارف مع عالم الظاهر (الدنيا وشؤونها) ستكون تجربة فردية ذوقية خاصة، لا تؤثر فيها الضغوط الحياتية التي ممكن مصادفتها في الطرق التي اصبحت مرتبطة اقتصادياً بحسب اتساع عدد أسر المريدين والذين لم تكتمل لديهم عملية السير والسلوك كما لدى كبار العرفاء، فلهذا كانوا يتأثرون سريعاً بالضغوط السياسية ويخضعون لها إلّا بعضا منهم وهم عدد ضئيل بطبيعة الحال.
ان المسألة معقدة للغاية، ولا يمكن اختزالها بسببين أو علتين وينتهي الامر، وذلك لأن الكثير من الامور متداخلة ضمن سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية فرضت نفسها على الكثير من الطرق الصوفية والعرفاء، ونحن هنا ليس بصدد الدفاع بقدر ما نبحث عن مشهدية سياسية متعددة الاوجه لممارسة العرفاء والمتصوفة في عصور متفاوتة.
في قبالة ذلك كله نجد ان هنالك دولة أو سلطة روحية تسيّر شؤونهم ان كان ضمن مديات علاقة العرفاء ببعضهم البعض أو من خلال علاقة المريدين المخلصين بوليهم أو شيخهم الروحي (شيخ الطريقة) ولقد تحدث الباحث حسن محمد الشرقاوي عن هذا الامر والذي أطلق عن عالم السياسة الباطنية هذا ومتعلقاته اسم (الحكومة الباطنية).
إذ قال لهؤلاء الصالحين، دولة وحكومة، ونظام رئاسة، وطاعة واخلاص، واحكام، واتصالات، ومجالس واجتماعات، وأوامر وتعليمات، وسلطات واختصاصات، وليس كما نراها في الحكومات المدنية، أو في القوانين الوضعية، أو في الدساتير والقواعد القانونية، وانما دستورهم لم يضعه من البشر أحد، وقانونهم لم يضعه احد من الناس، وانما خصهُ رب الناس، وخالق الموجودات، الحق تعالى إله العباد ([10]).
والاولياء يتصل بعضهم ببعض عن طريق المبشرات، وهي رؤى يراها المؤمن فتتحقق له، ويتقابلون بطريق التوجه رغم بعد الزمان والمكان ويلهمون الهاماً بالمغيبات، وحلول المشكلات، ودولتهم تقوم على مصادر ثلاثة: الرؤيا، والطاعة، والاخلاص،…، ويتأكد للدولة الباطنية وجودها بما يفيض الله على اعضائها من كشوفات وانتصارات وفتوحات، وفيوضات، وما يمن عليهم من نعم، ومنن وعطايا ومشاهدات، وتجليات، وما يتولاهم الله برعايته من رحمات، فيفتح عليهم، فيصبحون في عباده المخلصين، إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا انجزوا، لهم فراسات وتوسمات ، ورؤى وكرامات، وحكم ومعارف ،وعلوم اشراقية عجز عنها الوصف ويقف امامها العقل حائراً ([11]).
بطبيعة الحال ان الحديث هنا عن حكومة روحية خاصة لا تسري سلطاتها الروحية على افراد المجتمع كافة، إذ هي مخصوصة بأبناء الطرق الصوفية وجملة العرفاء الموجودين، ولكن السؤال المحوري الذي يطرح هنا هو : هل لهذهِ الحكومة الباطنية تأثير على الدولة وسلطتها السياسية وسائر المؤسسات المرتبطة بها؟: وهل هؤلاء اعضاء هذهِ الحكومة الباطنية لهم أدوار أو وظائف سياسية، ومن ثم لديهم مواقف سياسية واضحة؟
لا يمكن ان يكون لها اثر سياسي أو نشاط سياسي مباشر وواضح ولكن انعزالها وانسحابها عن المشهد السياسي بالضرورة سيكون ذا صيغة معارضة بطبيعة الحال، ولعل السلطات السياسية في الكثير من البلاد تسعى إلى ارضائها، لما لها من دور كبير في العملية الانتخابية كما في مصر والمغرب والجزائر على وجه الخصوص، ومن ثم فإن دورهم سلبي بنحوٍ ما، ولكن احدى ايجابياتهم هي ترشيد سلوك اعضائها أو مريديها الذين ينتشرون بين المدن والارياف بنحوٍ كبير، ولعل السلبية السياسية هي الطاغية عليهم عموماً.
ولكن المعوّل دائماً منذُ القرن الثالث الهجري إلى القرن المعاصر على العرفاء المتفرقين هنا وهناك في العالم الاسلامي، وهذا الامر هو الذي أشار اليه وأكده العارف الاكبر الشيخ محي الدين بن عربي، من خلال حديثه الدائم عن الولاية المطلقة لـ(الولي) العارف. وهذا ما فصلَ في وظائفه ومن جملته الوظائف السياسية في كتابه المبرّز في هذا الشأن (التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية) والذي يقابل فيه بين العوالم المادية والاجتماعية والباطنية، وقال عنه ابن العربي واصفاً: وهو مشتمل على مقدمة وتمهيد وأحدٍ وعشرين باباً من دقائق التوحيد في تدبير الملك الذي لا يبيد على الترتيب الحكمي والنظام الالهي، وجاء غريباً في شأنه ممزوجاً رمزه ببيانه، يقرأه الخاص والعام ومن كان في الحضيض الاوهد ومستوى الجلال والاكرام. (قد علم كل اناس مشربهم) ففيه للخواص اشارة لائحة وللعوام طريقة واضحة، وهو لباب التصوف، وسبيل التعرف بحضرة الترؤف والتعطف، يلهج به الواصل والسالك، ويأخذ منه حظه منه المملوك والمالك، يُعرب عن حقيقة الانسان وعُلو منصبه على سائر الحيوان، وانه مختصر من العالم المحيط مركب من كثيف وبسيط لم يبق في الأماكن شيء إلّا أودع فيه اول منشئه ومبانيه، حتى برز على غاية الكمال وظهر في البرازخ بين الجلال والجمال ([12]).
وهو يقابل بين الممالك الثلاث عالم الافلاك والاجرام وعالم الطبيعة (النبات والحيوان) وعالم الانسان كيما يصل بين تداخلهن وتمازجهن وتشابهن، ولكنه يولي لعالم الانسان أو المملكة الانسانية الحصة الاوفر لمقام الانسان (خليفة الله) وهنا تظهر ملامح الرؤية السياسية لديه والتي تتمظهر بحسب المنطق العرفاني والعالم الباطني للإنسان الكامل أو الساعي للكمال ضمن كافة شؤونه ومن ضمنها (الشأن السياسي) الذي لا يغيب عن أبن عربي.
إذ يقول: ولما أردنا ان نأخذ في مقابلة النسختين العالم الاكبر والاصغر على الاطلاق في جميع الاسرار العامة والخاصة، رأينا ان ذلك يطول وغرضنا من العلوم ما يوصل إلى النجاة في الآخرة، إذ الدنيا فانية داثرة، فعدلنا إلى امرٍ يكون فيه النجاة ويتمشى معهُ المراد الذي بنينا عليه كتابنا وهو: أنا نظرنا الانسان فوجدناه مكلفاً مسخراً بين وعدٍ ووعيدٍ، فسعينا في نجاته مما توعد بهِ وتخليصه لما وعد الله فأضطرنا الحال في اقامة القسطاس عليه من العالم الاكبر، فقلنا: أين ظهرت الحكمة من الخطاب والوعد والوعيد من العالم الاكبر؟ فرأنيا ذلك في حضرة الامر والنهي وحضرة الامامة ومقر الخلافة، فوجدنا الخليفة شاهداً، فيه ظهرت الحكمة وأثر الاسماء وعلى يديه تنفعل أكثر المكونات المخلوقة للباري تعالى. فتقصينا الاثر وأمعنا النظر في حظ الانسان من هذه الحضرة الامامية، فوجدنا في الانسان خليفة ووزيراً وقاضياً وكاتباً، وقابض خراجٍ وجبايات، وأعواناً ومقابلة اعداء، وقتلاً وأسراً إلى إمثال هذا مما يليق بحضرة الخلافة التي هي محل الارث، وفي الانبياء انتشرت راياتها ولاحت علامتها، وأذعن الكل لسلطانها ([13]).
هي مقابلة تامة بين الدولة بالمعنى الخاص بأدواتها أو مؤسساتها باختلاف العصور وبين الانسان الحاوي لذات تلك الادوات، فالخليفة عنده هو الروح، والذي يضع لها واجبات ومشاغل خاصة، والوزير عنده هو العقل، والقاضي هو العدل، وهكذا يستمر ابن العربي في بيان معالم تلك الدولة أو الحكومة الباطنية التي تقابل عالم الظاهر والحس في الدنيا، وما مراده إلّا ليبين ان اصلاح الباطن كفيل بأصلاح الظاهر والتي في مقدمتها ( السلطة) ومؤسساتها الراعية لها، ونحيل القارئ إلى الكتاب للمراجعة والبحث عن المماثلة والمطابقة بين ما قاله ابن العربي وبين الدولة في صيغتها الواقعية.
لعل أحدهم يتساءل: هل ان المتصوفة مشغولون ومنهمون بمدوناتهم بحكومة الباطن اكثر من حكومة الظاهر؟ ام ان للأمر وجهة نظر أخرى؟ او توجد مواقف اخرى عن مواجهة العرفاء أو التصدي للشؤون السياسية وتحولاتها ان كانت لحاكم من أبناء البلد أو كان غازياً؟ بطبيعة الحال نحن نوهنا عن ألوان وصيغ التعاطي مع الشأن السياسي وعلى عدة مراحل تاريخية متباينة، ولعلنا سنجعل من سيرة ومواقف وتنظيرات العارف التركي سعيد النورسي (1877-1960) الملقب بـ(بديع الزمان) خير انموذج واجه أعتى وأبشع اشكال إنهاء الحياة الروحية واقصاء الدين عن الدولة والمجتمع إلّا وهي سياسات (العلمنة) التي أعتمدها كمال أتاتورك وأسلافه ( 1881-1938 )، لأجل الوقوف عن معاني ودلالات (عرفان سياسي) مارسهُ الاستاذ النورسي إلى ساعة رحيله، وهو يتحدى ويقارع تلك السياسات التي أستدعت منهُ نهضة روحية بثها في مشروعه الفكري والروحي والاخلاقي (رسائل النور).
لعل في حدود المواجهة المباشرة كان النورسي ضد علمنة الدولة العثمانية بعد سقوط الخلافة وتولي أتاتورك الحكم كرئيس جمهورية، ولكن في حقيقة الامر ان المواجهة التي أقامها النورسي ازاء العلمانية كانت تنتمي إلى حدود وفضاءات أوسع لأنه جعل من مركزية القرآن الكريم مواجهة للمركزية الغربية وفي شتى القضايا، وهذا الامر ظل يعمل عليه إلى حين وفاته، وهذا ما أكدته (رسائل النور).
وذلك أنه لجدير بالاهمية والتأمل، ان مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة 1899م (1316ه) إذ كان يهعتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التاريخ لأجل استيعاب العلوم والاستنارة بها، أما بعده فقد علم من الوالي المرحوم (طاهر باشا) ان أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، إذ سمع منهُ ان وزير المستعمرات البريطاني قد قال: (ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً، فلنسع إلى نزعه منهم)، فثارت ثائرته واحتد وغضب… وغير اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه… جاعلاً جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى ادراك معاني القرآن الكريم واثبات حقائقه، ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته، واصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً واستاذاً له حتى انه اعلن لمن حوله: (لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن اطفاء نورها) ([14]).
العرفان السياسي وسعيد النورسي
والنشاط السياسي للنورسي مر بأطوار مختلفة ينبغي الاشارة اليها، لأنها تبين لنا كيف تحول من رجل كان على المحك بالشؤون السياسية بنحوٍ مباشر، وكيف تحول النشاط السياسي لديه عبر انتقاله الى (العرفان السياسي) وبطريقة مغايرة ولما أسماه هو في مذكراته بين (سعيد القديم) و(سعيد الجديد)، ولهذا الامر مغزى جوهري من جهة أن تركيزه على القرآن الكريم وتلمذة اتباعه في اجواء الفهم الجديد للقرآن أو استخراج جواهره المتنوعة، استدعى منه فهماً جديداً لمعنى ان يكون مواجهاً السلطات آنذاك.
مرحلة (سعيد القديم) تبدأ من السنوات المبكرة لشبابه حتى نفيه إلى (بارلا) سنة (1926م) وخلال هذهِ المرحلة حاول النورسي خدمة الاسلام عبر الانخراط في الحياة السياسية ومحاولة التأثير فيها، وعبر دعوته للإصلاح السياسي والتعليمي في عهد السلطان عبد الحميد، والقائه الخطب في الجوامع والساحات، ونشره للمقالات السياسية العنيفة في جريدة (وولقان) ومحاولته استمالة رجال الاتحاد والترقي وتسخيرهم لخدمة الاسلام، وتصديه للتيارات المُعادية للدين([15]).
فلقد كان ينظر بعين الريبة والشك في رجال الاتحاد والترقي وكان يتهمهم بالتغريب وسحق الهوية الاسلامية، وهذا ما عبرت عنه مواقفه ابان أعلان المشروطية التي أيد دلالاتها وأهميتها في ادارة الدولة، ولكن كان يخشى من سطوة الحرية المنفلتة، التي يتزعمها رجال الاتحاد والترقي، ولهذا قال: ان اصحاب الافكار الفاسدة يريدون الاستبداد والمظالم تحت شعار الحرية، فلأجل إلّا نشاهد مرة اخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان،…، إن هذا الانقلاب لو أعطى الحرية التي ولدّها لأحضان الشورى الشرعية لتربيها فتُبعث أمجاد الماضي لهذهِ الامة قوية حاكمة، بينما لو صادفت تلك الحرية الاغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها، يا أبناء الوطن، لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً، كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر. وذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الاحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة([16]).
والمركزية الغربية لا تغيب ناظريه حتى لو كان الشأن داخليا وخاصا للغاية، إذ ينوه عنها قائلاً: ان اوروبا تظن ان الشريعة هي التي تمد الاستبداد بالقوة وتعينه، حاش وكلا.. ان الجهل والتعصب المتفشيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعني الاستبداد، لذا تألمتُ كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة…. ([17]).
النورسي بعد ذلك اتخذ موقفا مغايرا من السياسة، ولعل الامر يبدو كمفارقة للوهلة الاولى، ولكن من يتمعن يدرك ان ممارسة الموقف من السياسة والسياسيين بطريقة جديدة نلاحظها بوضوح شديد بعد مجيء أتاتورك لسدة الحكم، ولعل هذهِ المفارقة تظهر لمن يرى جوابه عن السؤال الآتي: لم انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟ قال مجيباً: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته ادراج الرياح، إذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها، وان التدخل فيها فضول- بالنسبة إليَّ، فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة، وأن أغلبها خداع واكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الاجنبي دون ان يشعر، وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يغنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة، فإن كان التدخل فكرياً فليس هنالك حاجة إليَّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يُبتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد، فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد… ([18]).
ان الهاجس الدائم عند النورسي ليس اسقاط النظام السياسي، بل كل اعماله قبل موقفه انف الذكر وبعده، انما يقوم على ضرورة الاصلاح الدائم وبذل النصح، لكنه كان يدرك ببصريته الثاقبة ان المعارضة المسلحة وتغيير النظام بالقوة يقود إلى الفوضى وأسالة الدماء، وهذا ما رفضه بشكل قاطع، ولهذا لم يشارك بالثورة التي تزعمها سعيد بيران 13/2/1925([19])، فعرفانهُ السياسي كان يدور في فلك اصلاح الباطن كمقدمة لأصلاح الظاهر عبر انشاء واعداد جيل كامل تحت تربيته على المعاني الكلية في القرآن الكريم.
ان التحولات الهائلة التي حدثت بعد انهاء الخلافة وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، دفعت النورسي إلى اتخاذ مواقف سياسية متعددة، لاسيما بعد القرارات التي أقصت الدين من الدولة والمجتمع على حدٍ سواء، إذ قام أتاتورك إلى حين وفاته عام 1938 بكل ما ملكت يداه وما من شأنه انهاء الحضور الاسلامي في مختلف مجالات الحياة، ألغى الخلافة والمحاكم الشرعية، وعدل الدستور لإلغاء الدين من نصوصه، وحظر نشاط كل الفرق والطرق الدينية، وقام بتغييرات تطمس حتى بعض المظاهر الدالّة على ماضي إسلامي، مثل إلغاء الطربوش والحجاب، والابجدية العربية، والتقويم الهجري، وعطلة يوم الجمعة… مقراً، بدلاً منها، مظاهر غربية مثل: القبعة والحرف اللاتيني والتقويم الميلادي والتعطيل يومي السبت والاحد، ومضى أتاتورك أبعد من ذلك عندما فرض مبدأ العلمانية في الدستور وانشأ مؤسسات تابعة للدولة تشرف على الشؤون الدينية و(تضبط) حركة الائمة والوعاظ الذين تحولوا موظفين عند الدولة، كما ألغى الدروس الدينية من المدارس بموجب قانون (توحيد التدريس) أي بأختصار، وضع أتاتورك تركيا على سكة (العلمنة والتغريب) ([20]).
بوجهٍ عام حاربت السلطة الجديدة الدين، وطال اضطهادها كل من رأت منه عدم الامتثال لها، فأعدمت عدداً كبيراً من علماء الاسلام، وأصدرت بحقهم قانون الخيانة الوطنية، وهو القانون نفسه الذي تم بموجبه اعدام (الشيخ سعيد بيران) وسجنت أربعين عالماً من أصحابه بحجة قيامهم بحركة مقاومة كردية مدعومة من قبل الانجليز، على حين كانت في حقيقتها حركة إسلامية ضد النظام العلماني، كما أُعدم كثيرون غيرهم، وسجن وعذب آخر في محاكم الاستقلال التي أنشئت لتصفية الخصوم([21]).
ان الاستبداد السياسي العلماني الجديد ذو القبضة الحديدة والعنيفة فرض على الاستاذ النورسي ممارسة تقية سياسية لأجل تمرير خطابه الروحي والنقدي ضمن سياقات خاصة، إذ بعد فشل ثورة الشيخ بيران اتهم النورسي بدعمها مما دفع السلطات إلى نفيه إلى قرية نائية في غربي الاناضول من أعمال (إسبارطة) أسمها (بارلا)، وكان تحت المراقبة الدائمة والمستمر’، وكما قال كاتب السيرة :كانت عيون السلطة تترصد الاستاذ وتراقب حركاته وسكناته لذا كان الاهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي اكثر قوته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل وجام، ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الاشجار متأملاً ومتعبداً([22]).
ولكن رويداً رويداً بدأت الناس تتجمع حوله بعدما بنى مسجداً في هذهِ القرية وبدأ في مشروعه العاكف على تجريد فهم آيات القرآن واستخراج المعاني والدلالات الكونية والروحية والاخلاقية والاجتماعية منها، وعن ذلك الامر قال النورسي: أخذتني الاقدار نفياً من مدينة إلى اخرى… وفي هذهِ الاثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم… أمليتها على من حولي من الاشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم (رسائل النور) إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذهِ الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وانما هي إلهام إلهي ([23]).
ولكن هذهِ الرسائل لا يمكن ان تستمر دون هذهِ التقية السياسية التي مارسها الاستاذ وعبّر عنها بمبادئ معينة قائلاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن انقاذ البلاد وانقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام، وهذه المبادئ هي: 1- الاحترام المتبادل 2- الشفقة والرحمة
3- الابتعاد عن الحرام 4-الحفاظ على الامن 5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخدول في الطاعة ([24]).
وهو كان يتوخى نشر فكره وكسب الاتباع والمريدين عبر هذه الرسائل التي لا يمكن نشرها على نطاق واسع من دون الاعتماد على هذهِ المبادئ، ولهذا قال: والدليل على ان رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تُبث وتُحكم هذهِ الأسس الخمسة وتحترمها احتراماً جاداً محافظة بذلك على الحجر الاساس لأمن البلاد، وهو ان رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاماً ان تجعل اكثر من مائة الف رجل اعضاء نافعين للبلاد والعباد دون ان يتأذى أو يتضرر بهم احد من الناس، ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول ([25]).
من يتمعن جيداً برسائل النور وبجملة المواضيع التي غطتها منذُ انطلاقها واهتمام الناس بها ومن كل الفئات والطبقات، انما يؤكد لنا ان الاستاذ النورسي أراد لتلك الرسائل ان تعبر عن مضامين القرآن الكريم المتعددة والتي تغطي كافة شؤون الحياة والوجود بشكلٍ عام كيما تكون هي (المعادل الموضوعي) لسياسات العلمنة وثقافتها التي ابتلعت كل جوانب الحياة آنذاك في تركيا.
ولعل الامر اللافت للنظر هنا أن علمنة الدولة التركية أسست جيلا واسعا من الشباب اللادينيين الذين كانوا يناصبون الاستاذ النورسي العداء، قبالة جيل روحي/ أخلاقي عمل الاستاذ على أعداده وتهذيبه، ولهذا كانت هنالك حرب مجتمعية خفية بني هذين الجيلين، جيل (العلمنة) وجيل (رسائل النور).
ولهذا قدم الجيل العلماني ومن خلفه السلطات السياسية والامنية المراقبة لنشاطات الاستاذ وجليه (القرآني الجديد) تهمة تشكيل جمعية سرية، والقيام بأعمال ضد النظام الحاكم وما يهدم أسسه… وأمثالها من التهم. وعلى إثر هذا أخذ الاستاذ النورسي وطلابه في 25/4/1935 وسيقوا مكبلي الايدي إلى (أسكي شهر) لمحاكمتهم، وكانت هنالك خشية من السلطات لحدوث ثورة واسعة فلهذا كانت الاجهزة الامنية وبرئاسة رئيس الوزراء آنذاك (عصمت إينونو) تراقب خطورة الموقف([26]).
وهكذا اقتيد الاستاذ النورسي ومائة وعشرون من طلابه إلى سجن أسكي شهر ووضعوا في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وبدأت عمليات التعذيب الرهيب تنهال عليهم، لكن الاستاذ رغم الظروف الشاقة استمر في الارشاد والتوجيه، فتحول كثير من المسجونين إلى ذوي صلاح وتقوى ([27]).
لاشك في ان النورسي قد وجه جزءاً كبيراً من عنايته إلى مسألة (التربية الروحية) أو بالأحرى (التزكية)، كيف لا؟ وهي مفتاح الفهم لكل عملية تربوية تتغيا اخراج جيل قرآني رباني يُساهم من خلال (العمل الايجابي البناء) في خلافة الارض وعمارتها، والقيام بمسؤوليات الأمانة الملقاة على عاتقه بحكم اختياره وحمله لها ([28])، وانطلاقات من القرآن الكريم الذي حث في الكثير من آياته على ضرورة التزكية، واتساقا مع تركيز النورسي على الجانب العملي في التربية الروحية، أكد بديع الزمان ان الطرائق إلى الخالق عز وجل كثيرة ومتعددة، لكن مردّها جميعاً إلى القرآن الكريم([29]).
وبعد ان قضى مدة محكوميته في سجن (أسكي شهر) تم نفيه إلى مدينة قسطموني وقد بقي فيها ثماني سنوات، وهو يكتب رسائل النور ويرشد المجتمع، ويستمر في تهذيب الافراد آنذاك كيما ينظموا إلى الجيل القرآني/النوراني الذي عكف على تهذيبه قبالة جيل اللادينيين، ثم يستمر مسلسل الاتهامات له ولتلاميذه واتباعه بأنهم يألفون (جمعية سرية) تحرض الشعب على الحكومة العلمانية، ومحاولة قلب نظام الحكم، ثم تسمية مصطفى اتاتورك بـ(الدجال و(السفياني)([30]).
ولقد حاولوا مراراً وتكراراً تسميم طعامه، ولكن بعض تلاميذه ينقذوه ويستمر النفي تلو النفي والسجن تلو السجن، تحت دعاوى الاتهام ذاتها التي تتكرر، وما خشيتهم منه ومن رسائل النور ومن تلاميذه، إلّا لأنهم جيل قرآني يمارس العرفان السياسي بنحوٍ من التقية المكثفة تحت مظلة نشر معارف القرآن الكريم المتعددة.
ما نريد ان نختم بهِ هو القول بأن الاستاذ النورسي على سيرة الاولياء والعرفاء وفي مقدمتهم أبن العربي، ذهبَ نحو أن اصلاح الباطن مقدمة جوهرية لا مهرب منها لإصلاح الظاهر، فإصلاح الدولة لا يتم من دون أفراد صالحين يقودون هذا الامر ويولونه اهميته، ومن دون هذهِ المعادلة لا طائل من الاندكاك بالعمل السياسي.
المراجع
([1]) هادي العلوي، مدارات صوفية: تراث الثورة المشاعية في الشرق، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق – بغداد، ط2، 2007، ص49.
([2]) ينظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1977، ص63-65.
([3]) كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، الجزء الاول، منشورات الجمل-بيروت-بغداد، 2011، ص280.
([4]) سليمان بشير ديان، الصوفي والدولة، مقالة في كتاب: ما وراء الغرب العلماني، تحرير: عقيل بلغرامي، ت: عبيدة عامر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2018، ص41-42.
([5]) المصدر نفسه، ص47-48.
([6]) المصدر نفسه،ص50_51.
(7)لتفاصيل أكثر ينظر: خليل عبد الكريم، شدد الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، دار مصر المحروسة، القاهرة، ط1، 2011، ص328 وص334.
([8]) بومدين بوزيد، التصوف والسلطة: جدل المقاومة والسلم ورمزية صاحب الوقت، دائرة الامة، الجزائر، 2012، ص85.
([9]) المصدر نفسه، ص87.
([10]) حسن محمد الشرقاوي، الحكومة الباطنية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1992، ص20.
([11])المصدر نفسه،ص20.
([12]) محي الدين بن العربي، التدبيرات الإلهية في اصلاح المملكة الانسانية، دراسة وتحقيق وتعليق: د. محمد عبد الحي العدلوني الادريسي الحسني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2015، ص70.
([13]) المصدر نفسه، ص77.
([14]) بديع الزمان سعيد النورسي، كليات رسائل النور، سيرة ذاتية (المجلد 9)، اعداد وترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر، القاهرة، ط6، 2011، ص88-89.
([15]) ابراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي وتحديات عصره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، بيروت، ط1، 2010، ص30.
([16]) بديع الزمان سعيد النورسي، المصدر نفسه، ص105-106.
([17]) المصدر السابق نفسه، ص107.
([18]) المصدر نفسه، ً241.
([19]) ينظر تفاصيل اكثر: المصدر نفسه، ص243.
([20]) محمد نور الدين، قبعة وعمامة: مدخل إلى الحركات الاسلامية في تركيا، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1997، ص20.
([21]) إبراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي، مصدر سابق، ص65.
([22]) بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص259.
([23]) المصدر نفسه، ص277.
([24]) بديع الزمان النورسي، كليات رسائل النور، الشعاعات، المجلد (4)، مصدر سباق، ص384.
([25]) المصدر نفسه، ص384-385.
([26]) ينظر: بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص295-296.
([27]) المصدر نفسه، ص296.
([28]) محمد حلمي عبد الوهاب، التصوف في سياق النهضة: من محمد عبده إلى سعيد النورسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2018، ص145.
([29]) المصدر نفسه، ص146.
([30]) بديع الزمان النورسي،سيرة ذاتية ،مصدر سابق، ص375.
____________________________
*نقلًا عن موقع “حكمة “.