الدراسات والبحوث

ميتافيزيقا العدل الإسلاميِّ في ميزان الحكمة

د. أحمد عبد الحليم عطيَّة

ميتافيزيقا العدل الإسلاميِّ في ميزان الحكمة

د. أحمد عبد الحليم عطيَّة

أستاذ الفلسفة في كليَّة الآداب –جامعة القاهرة-جمهوريَّة مصر العربيَّة.

تمهيد:

لا تمثِّل الميتافيزيقا اليونانيَّة التي نُقلت إلى العربيَّة تعريف أرسطو لما بعد الطبيعة؛ تلك التسمية التي تشير إلى الأُسُس الفلسفيَّة للوجود، والتي عرفها الفلاسفة المسلمون وأسَّسوا انطلاقاً منها فلسفاتهم المختلفة. وهي تختلف عمَّا قدَّمه الصوفيَّة والعرفانيون. وهناك من جعل من جهود علماء الأصول ميتافيزيقا إسلاميَّة متمايزة عنها.

تقدِّم هذه الدراسة نموذجاً لميتافيزيقا إسلاميَّة تقوم على أُسُس تختلف عن كلِّ ما سبق، وهي ما نطلق عليها ميتافيزيقا الحكم التي نجدها لدى عدد من العلماء العرب الذين اهتمُّوا بالميزان، وأطلقوا عليه تسمية ميزان الحكمة، وفي مقدِّمة هؤلاء جابر بن حيَّان وأبو الفتح الخازنيُّ الذي تُخصَّص له هذه الدراسة لبيان ميتافيزيقا العدل في الإسلام.

في نصٍّ فريد من نصوص تاريخ العلم العربىِّ، كتبه أبو الفتح الخازنيُّ (-550 )(1) بعنوان “ميزان الحكمة”(2)، نجد تكاملاً واضحاً بين العلم وتاريخ العلم، بل أُسُسه وميتافيزيقاه.

 

يتضمَّن العمل قسمين أساسيين ومقدِّمة: يدور القسم الأول حول علم الميزان أو الميزان من الناحية العلميَّة، حيث يتداخل علما الفيزياء والميكانيكا في تحديد أشكال ومكوِّنات الميزان. ويدور القسم الثاني حول الناحية العمليَّة حيث يذكر ويعدِّد أهمَّ الموازين وأصنافها وأشكالها وأغراضها وأصحابها من اليونان والهلنستيين والمسلمين وتطوُّرها، فهو كتاب في العلم من جهة، وفي تاريخ العلم من جهة أخرى.

 

بيد أنَّ الأبرز بالنسبة إلى الباحث والقارىء هي المقدِّمة التي لا تقلُّ أهميَّة عن موضوع العمل، ولا هي تمهيد أو تلخيص له، بل أقرب إلى الأساس الفلسفيِّ؛ وتعدُّ نموذجاً فريداً في بابه يمكن أن نطلق عليه، إن جاز التعبير، مسمَّيات عدَّة توضح دلالته، مثل أبستمولوجيا علم الميزان التي تؤسِّس ما يمكن أن يطلق عليه أنطولوجيا العدل، أو على الأدقِّ ميتافيزيقا العدل في الإسلام.

 

ونحن إذا ما حلَّلنا ما جاء في نصِّ الكتاب، وأوردنا ما أخبرنا به الخازنيُّ في مقدِّمته، وترجمنا لغته القديمة إلى مفاهيمنا الفلسفيَّة المتعارَف عليها على امتداد تاريخ الفلسفة، فقد نجد في ما قدَّمه لنا أيضاً، بالإضافة إلى ما سبق، ما يمكن أن يتَّفق مع ما يطرحه الفلاسفة المعاصرون حول القضايا الراهنة التي تهمُّ عصرنا من قبيل العدل والمساواة والإنصاف، خصوصاً لدى كلٍّ من رولزJohn Rawls وهابرماسJurgen Habermas، ولكن في إطار ومصطلح إسلاميٍّ فلسفيٍّ أكثر من كونه فقهيّاً.

سيكون اعتمادنا في تحليل كتاب “ميزان الحكمة”، أو بمعنى أدقّْ مقدِّمته، على منهج القراءة أو التلقِّي، محاولين التعرُّف على كيفيَّة تلقِّي الخازنيِّ لإنجازات سابقيه ومعاصريه من العلماء في صياغة كتابه الذي نحن بصدده. وتتحدَّد مهمَّتنا في هذه الدراسة في تقديم قراءة لما قام به في قراءة جهود العلماء السابقين عليه، وتحليله لها، وإضافته عليها ممَّن يذكرهم على امتداد صفحات عمله وفصوله.

 

ينطلق الخازنيُّ من مفهوم العدل، الذي يشغل المقدِّمة؛ فهو يبدأ بحمد الله الذي لا إله إلاَّ هو الحكم العدل. تلك هي القضية الأولى والأساس الذي ينطلق منه ويصلِّي على جميع أنبيائه؛ الذين بعثهم إلى عباده للعدل، وخصَّ نبيُّنا (ص) بالشريعة السمحة؛ العدل وتلك هي القضية الثانية.

وسنرى في ما يلي كيف يصف المفهوم الأساسيَّ الذي يقوم عليه عمله، وهو العدل، وكيف يحدِّده.

العدل هو نظام الفضائل جملة، وملاك الخيرات أجمع؛ لأنَّ الفضيلة التامَّة هي الحكمة وهي في شقَّي العلم والعمل وشطرَي الدين والدنيا، علمٌ تامٌّ وفعل محكم، والعدل يجمع بينهما وملتقى كماليهما، به تُنال ناصية كلِّ مجد، وبسببه يُحاز السبق في كلِّ خير، ولاعتلائه ذروة الكمال، عرف البارىء تعالى نفسه إلى خلص عبادة باسم العدل، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام “بالعدل قامت السموات والأرض”.

ولمَّا اختصَّ العدل بهذه الرتبة العليا حبَّبه الله إلى قلوب عباده حتى صار مألوف الطباع ومطلوب النفوس، تراها متشوِّقة إليه، فإن عاقهم عنه عائق أو صرفهم ضدَّه صارف هوى، يجدوا في أنفسهم اعترافاً به وإقراراً بحقيقته حتى أنَّ الجائر يستحسن عدل غيره.

بل إن الهيئة التي خُلق على أُسُسها البشر كما يواصل الخازنيُّ؛ تهيِّئ لهم السبيل إلى تحقيق السعادة. وفى شرح مفصَّل يوضح لنا أنَّه أساس كلِّ ما في الكون، كما أنَّه أساس حياة وسلوك الإنسان ومعيار فعله وسلوكه. لقد جعل الله تعالى أعضاء الإنسان الواقعة في الأطراف في ما يقول المؤلِّف زوجين اثنين، وفي الأوساط واحداً واحداً. ثمَّ أهاب بهم إلى سلوك سبيل السعادة باستعمال العدل وملازمة الاستقامة عليه .. ولا يعبر أحد جسر النجاة إلاَّ بجواز من الاستقامة في العمل، ولا يسكن حرم السعادة إلاَّ بتوقيع من العدل في العلم والعدل في العمل..(3).

ويتوسَّع الخازنيُّ في توضيح ذلك المفهوم المحوريِّ في عمله ببيان أن العدل فى العمل نوعان: عمل وهو تهذيب الأخلاق، ورعاية المساواة بين قوى النفس، والقيام عليها بحسن السياسة على ما قيل “أعدل الناس من أنصف عقله من هواه ومن تتمَّاته بث النصفة بين ذويه وكفَّ أذاه عن غيره حتى يأمن الناس شرَّه.

ومعاملة وهي رعاية الإنصاف بين نفسه ومعامليه في أداء حقوقهم واستيفائها. وهو يذكر خصائصه وكأنها أقرب إلى أُسُس الوجود، أو علل الوجود كما حدَّدها أرسطو. فالعدل هو القوام لأمر الدين والدنيا العلَّة المادِّيَّة، والركن لسعادة الآخرة والأولى، فمن تمسَّك به أو بشعبة من شعبه فقد استمسك بالعروة الوثقى..العلة الغائيَّة.

ثمَّ يضيف ما يوضح كونه العلَّة الصوريَّة يقول:

أراد الله تعالى برعاية مصالح عباده وتقويمهم على نهج سداده أن يبقى العدل بينهم … وحفظ عليهم بشمول رأفته وسعة رحمته نظام الخير بأن بعث فيهم حكَّام عدل يحفظون عليهم العدل ولا يعتدون، وهم ثلاثة بحسب أقسامه.

ومن المفيد للغاية أن نبيِّن هذه الأقسام أو المعايير للعدل حتى تتَّضح لنا الأُسُس الفلسفيَّة التي يؤسِّس عليها الخازنيُّ تصوُّره للوجود والمعرفة والاجتماع البشريِّ، وسبله المتعدِّدة لتحقيق العدل. تلك المعايير هي التي تتأسَّس عليها الميتافيزيقا الإسلامية، وهي:

أوَّلاً: كتاب الله العزيز .. وهو القانون الأعظم المرجوع إليه في الأصول والفروع، وتتبعه سنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

ثانياً: الأئمَّة المهتدون والعلماء الراسخون المنتجون لحلِّ الشبه ورفع الشكوك ومنهم الوالي العادل.

ثالثاً: الميزان الذي هو لسان العدل، وترجمان الإنصاف بين العامَّة والخاصَّة، والحكم العدل الذي رضي بقضائه الفصل كلُّ برٍّ وفاجر ومنصف ومتعسِّف، القائم باستقامته لفصل خصوماتهم، الحافظ عليهم النظام والعدل في تصرُّفاتهم ومعاملاتهم.(4)

وقبل أن نواصل بيان ميتافيزيقا العدل كما تظهر وتتَّضح في نصِّ مقدِّمة “ميزان الحكمة”، يمكننا تقديم الملاحظات الأوليَّة التالية:

1-إنَّ الحكَّام العدل الذين يعدِّدهم لنا الخازنيُّ يمثِّلون مستويات أو معايير ثلاثة هي: الأوَّل، هو كتاب الله، النصُّ أو الشريعة أو القانون، الوحي، الروح. الثاني، هم الأئمة والعلماء والولاة ممَّن يمثِّلون السلطة الدينيَّة والسلطة العلميَّة والسلطة السياسيَّة، والثالث، هو الميزان العينيُّ المادِّيُّ الذي يجسِّد المعاملات بين البشر في حياتهم الأخلاقية والاجتماعيَّة، أي أننا، بلغة هيغل، إزاء جدليَّة ثلاثيَّة المستويات: الأول مستوى عقليٌّ روحيٌّ هو كتاب الله، والثاني مستوى الأئمة والعلماء ممَّن يمثِّلون العالم الحقيقيَّ، والثالث مستوى زمانيٌّ تاريخيٌّ يحيا فيه البشر باختلافاتهم ونزعاتهم وصراعهم وتنافسهم. هذه المستويات الثلاثة يحكمها الميزان سواء كان نصَّاً أوليّاً أم أداة ماديَّة عينيَّة.

تلك هي الملاحظة الأولى المتعلِّقة بتداخل وبترابط الحكام الثلاثة أو الأُسُس الثلاثة في علاقة وثيقة متداخلة فيها الروحيُّ والمادِّيُّ وقوامها مفهوم العدل، وهي تقترب من مفهوم هيغل الجدليِّ الذي كثيراً ما يشبهه للتقريب بالحديث القدسيِّ القائل “كنت كنزاً مخفيّاً؛ ذاك هو النصُّ أو الكلمة أو الكتاب والوحى الإلهيِّ؛ فأردتُ أن أعرف فخلقت الخلق، وهم هنا من يشير إليهم المؤلِّف بالأئمَّة والعلماء والوُلاة. وبي عرفوني، أي باعتبار الله هو العدل والميزان العدل الذي يحقِّق المساواة والإنصاف. ذلك هو التركيب الكلِّيُّ لدى الخازنيّْ، إلاَّ أننا لا نستطيع تأكيد التطابق بين تصوُّره وبين فكرة هيغل الجدليَّة لمجرَّد المراحل والخطوات الثلاثيَّة المتداخلة وارتباطها معاً أو قيام اللاَّحق على السابق، ذلك أنَّ جدل هيغل يُبنى كما نعلم على السلب بينما ميزان الخازنيِّ يقوم على العدل بمعانيه: الأنطولوجيَّة والمعرفيَّة والاجتماعيَّة.

يقدِّم لنا الخازنيُّ تصوُّراً أنطولوجيّاً دينيّاً للكون؛ قائماً على أساس العدل، وهو ليس تصوُّراً كلاميَّاً رغم أننا نلمح فيه مظهراً شيعيّاً معتزليّاً خصوصاً الحاكم الثاني وهم الأئمَّة والعلماء كما يذكر. ومن هنا، فإنَّ هذا التصوُّر هو تصوُّر فلسفيٌّ في الأساس محوره فكرة الميزان، وكأنَّ ميزانه أقرب إلى نار هراقليطس، ذو طبيعة رمزيَّة وحسِّيَّة.

ذلك ما يظهر في الفقرة التالية من مقدِّمة “ميزان الحكمة” والتي توضح أنَّ هذا الميزان قد جعله الله قرينة قرآنه؛ (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)(5)، وجعل المنَّة (الهبة أو المنحة) في وضع الميزان مقرونة بالمنَّة في رفع السماء (والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان)(6)، و(زنوا بالقسطاس المستقيم) (7)، وهو في الحقيقة نور من أنوار الله تعالى أفاض على عباده من كمال عدله ليفصلوا به بين الحقِّ والباطل، إذ حقيقة النور ما يظهر بنفسه فيبصر ويظهر غيره فيبصر به. والميزان هو الذي يعرف منه استقامته وانحرافه، ويعرف منه استقامة غيره، ولشدَّة ظهوره ووكادة (المقصود يقينه) أمره، قال تعالى (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد).(8)

هكذا، كما يؤكِّد الخازنيُّ يكون الميزان هو أحد الأركان الثلاثة التي بها يقوم العدل؛ الذي به قوام العالم. وهو ما نجده حتى يومنا هذا على واجهات المحاكم في الشعار القائل: “العدل أساس الملك”، وعلى هذا الأساس، والكلام لصاحب “ميزان الحكمة”، سمَّى العدل ميزان الله تعالى بين عباده، وبما هو نموذج له نفى الظلم عن حكمه يوم الدين في قوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا)(9) فمن أوتي الميزان بالقسط فقد أوتي خيراً كثيراً.

يضيف كلام الخازنيِّ بُعداً أخلاقيّاً للميزان؛ هو الهدف من كتابه، رابطاً بينه وبين الحكمة مثلما جاء في العنوان بقوله فمن أوتي الميزان فقد أوتى خيراً كثيراً تماماً مثل من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً. وكأن الحكمة ليست السعادة أو اللَّذة أو المنفعة كما أكد فلاسفة الأخلاق القدماء والمحدثون؛ هي سبيل تحقيق الخير للفرد؛ بل هي أن العدل هو المطلب الإنسانيٌّ، والتأكيد على العدالة هو ما نجده اليوم لدى اثنين من أهمِّ فلاسفة العصر هما: الأميركيُّ جون رولزJohn Rawls ، والألمانيُّ يورغن هابرماس J.Habermas

بعد هذا المدخل أو الأساس الفلسفي، تتناول مقدِّمة الكتاب ستة فصول هي على التوالى:

-الفصل الأول، فوائد ميزان الحكمة ومنافعه.

-الفصل الثاني، المدخل إليه فهو مبنيٌّ على البراهين الهندسيَّة، ومستنبط من العلل الطبيعيَّة.

-الفصل الثالث، في مبادئها وهي المصادرات التي تستند إليها وتجمع بين كونها مبرهنة في علوم أخر، وأن تكون مستفادة من التجربة والمزاولة.

-الفصل الرابع، في وضع ميزان الماء وأسماء المتكلِّمين فيه وطبقاتهم وأصناف صور الموازين المستعملة فيها وأشكالها وأسماء واضعيها، وهو أقرب إلى تاريخ العلم يقدَّم لنا قراءة الخازنيِّ العلميَّة.

-الفصل الخامس، يشير في مقدِّمته صور وأشكال ميزان الماء إلى أصناف ثلاثة: الأول ذو كفَّتين معهودتين، والثاني ذو ثلاث كفَّات طرفيَّات (في الأطراف)، والثالث ذو خمس كفَّات ويقال له الميزان الجامع وهو ميزان الحكمة. ويبدو أنه إبداع خاصٌّ يختلف عن كلِّ ما سبق ذكره من موازين، فقد وضع للوزن في ماء مخصوص مناسب من اللَّطافة (المقصود خفَّة الوزن) ماء جيحون خوارزم من دون سائر المياه.

-الفصل السادس، جعله في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: في الكليَّات والمقدِّمات نحو الثقل والخفَّة ومراكز الأثقال في الاستخدام، ومقدار غوص السفن في الماء، واختلاف (نسب) أنساب الوزن، وصنعه الميزان والقفان، وكيفيَّة الوزن به في الهواء والماء، ومقياس الماء لمعرفة الأخفِّ والأثقل منهما من غير وساطة الصنجات، ومعرفة النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم. وفي هذا الفصل أيضاً يقدم قراءة في أقوال المتقدِّمين والمتأخِّرين في ميزان الماء وما أشاروا إليه.

القسم الثاني: في صنعه ميزان الحكمة وامتحانه وإثبات مراكز الفلزات والجواهر عليه، ووضع صنجات لائقة به، ثمَّ العمل به في تحقُّق الفلزات وتمييز بعضها من بعض من غير سبك ولا تخليص بعمل شامل للموازين كلِّها، ومعرفة الجواهر الحجريَّة وتمييز حقها من أشباهها وملوِّناتها، وزيادة فيه من باب الصرف ودار الضرب بالعمل الكلِّيِّ السيَّال والمعاملات .

القسم الثالث: يشتمل على طرف الموازين ونوادرها نحو ميزان الدراهم والدنانير من غير وساطة الصنجات. وميزان الساعات يعرِّف به الساعات الماضية من ليل أو نهار وكسورها بالدقائق والثواني وتصحيح الطالع بها بالدرج وكسورها.(10)

وإذا ما استعرضنا الكتاب نجد الخازنيَّ يقدِّم لنا قراءاته في المقالة الأولى لمسائل مراكز الأثقال لابن الهيثم المصري وأبي سهل القوهيِّ، ولمسائل أرشميدس وأقليدس ومانلاوس، ومقياس المائعات لقوقس الروميِّ، ويفيض في الثانية في بيان الوزن واختلاف أسبابه لثابت بن قرَّة، ومراكز الأثقال للمظفَّر الأسفزاريِّ، ويتوقَّف في الرابعة لبيان النسب بين الفلزات والجواهر لأبي ريحان البيرونيِّ. وموضوع قراءته في المقالة الرابعة موازين الماء التي ذكرها الحكماء المتقدِّمون والمتأخِّرون وأشكالها خصوصاً عند أرشميدس وميلاوس والرازي والخيَّام، والخامسة مخصَّصة للموضوع الأساسيِّ المتعلِّق بصنعة ميزان الحكمة وتركيبه وامتحانه وتعريفه، كما أشار إليه المظفَّر بن اسماعيل الأسفزاريُّ، ومنها يبدأ إبداعه الخاصُّ، والسادسة في مسائل متعدِّدة يختمها بذكر قيم الجواهر للبيرونيِّ، والسابعة في ميزان الصرف وتقويمه ووزن الدراهم والدنانير، والثامنة والأخيرة في ميزان الساعات.

يظهر بيان الموضوعات التي يعرضها الخازنيُّ في مقالات الكتاب؛ تجاور أسماء العلماء القدماء والمحدثين اليونان والمسلمين بدياناتهم المختلفة، وبلدانهم المتعدِّدة. وهو تطبيق لمفهوم العدل العلميِّ والمساواة الدينيَّة ويوضح لنا درجة تطوُّر علم الطبيعة في الإسلام، وماذا أضاف المحدثون للقدماء في علم الموازين في تصوُّر الخازنيِّ، وماذا أبدع هو على وجه الخصوص. وهنا نطرح السؤال الذى أجَّلناه منذ بداية الدراسة وهو العلاقة بين الميزان والعدل التي أكَّد عليها في مقدِّمة كتابه، وهل يمثِّل الميزان أبستمولوجيا العدل في مستوياته التي ذكرها والتي أشرنا إليها من قبل؟

لاحظنا في ما سبق التشابه والتقارب، بل التماثل والتماهي، بين الميزان والعدل في مفردات الخازنيِّ من قبيل قوله “الميزان هو لسان العدل، وترجمان الإنصاف بين العامَّة والخاصَّة” (ص 265)، وتماهي قوله “بالعدل قامت السموات والأرض” (ص263)، واقترابه من معنى الآية 7 من سورة الرَّحمن ( والسماء رفعها ووضع الميزان) (ص 265)، وقوله “سمَّى العدل ميزان الله تعالى” (ص 266)، والتعبير الأوضح في الآية الكريمة (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) (ص 266).

والسؤال الذي سيكون البحث فيه موضوعاً للفقرة التالية هو: هل المعنى الذى أعطاه صاحب ميزان الحكمة للميزان وربطه بالعدل في المعايير والمستويات الثلاثة التى أشرنا إليها، يمكن أن يتَّفق مع ما طرحه الفلاسفة المعاصرون ممَّن شغلوا بالعدل؟.

يحيلنا ما طرحه الخازنيُّ في الحكَّام العدل الثلاثة: الكتاب أو القانون الأعظم للأصول والفروع، والأئمة المهتدون والعلماء الرَّاسخون، والميزان لسان العدل وترجمان الإنصاف القائم باستقامته لفصل الخصومات، الحافظ النظام والعدل في التصرُّفات والمعاملات (ص265)، إلى ثلاث نظريَّات قدَّمها لنا الفيلسوف الألمانيُّ المعاصر يورغن هابرماس J. Habermas هي على التوالي: نظريَّته في اللُّغة المثاليَّة الأوليَّة والتي يمكن أن نقارنها مع الحكم الأول وهو الكتاب أو القانون الأعظم وفكرته عن جماعة العلماء أو جماعة البرهان قوله إنَّ الميزان لسان العدل وترجمان الإنصاف بين العامَّة والخاصَّة والذي يقترب إلى حدٍّ ما مع ما طرحه هابرمس وكارل آوتو أبل  K.O. Apel عن التواصل وأخلاق الحوار للحوار والاتفاق أو الاختلاف. ويمكن شرح هذا الافتراض على الشكل التالي:

يرى هابرماس أن عمليَّة الوصول إلى الفهم المشترك هي عمليَّة تحقيق الاتفاق على أساس قبليِّ يتمثَّل بادِّعاءات الصلاحيَّة والتي تعترف بها الأطراف المشاركة في الحوار بداية من أرضيَّة مشتركة لتفسيرات أقرَّ بها المشاركون في الحوار، وبمجرَّد التشكيك في هذه المزاعم الأربعة لا يمكن أن يستمرَّ التواصل. فهدفها ضبط شروط الممارسة الاجتماعيَّة السليمة القائمة على تواصل سليم، إذ إنَّها بمثابة ردع واقٍ ومعيار ضابط للُّغة من الوقوع في الاستغواء بين الأفراد، وهي تعادل الحالة المثاليَّة للكلام”(11).

ولتحقيق التواصل والتبادل البشريِّ، ولجعل الحياة أقلَّ عنفاً واضطهاداً، علينا تأسيس أتيقا كونيَّة نكون فيها شركاء في تقرير مصيرنا، فلن يتمَّ ذلك من دون اعتراف بجماعة البرهان كشرط أساسيٍّ للحوار، أي أنَّ جماعة الحوار تمثِّل شرطاً أساسيّاً للحوار بمعنى أنَّ حلَّ مشكلة المسئوليَّة الجماعيَّة لن يتحقَّق بشكل مكتمل إلاَّ في ظلِّ الاعتراف بجماعة التواصل “إن هابرماس يعمل على إبراز الممارسة المعقولة لجماعة معيَّنة يهتمُّ أعضاؤها بالانخراط في مناقشة ذات طابع علميّْ(12). يبقى سؤال في الختام: هل يمكن لجماعة البرهان، العلماء الراسخين في العلم، وهي جماعة تضمُّ علماء الطبيعة والعلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، أن يقدِّموا ميتافيزيقا كونيَّة أنطولوجيَّة وأيتيقيَّة تؤسِّس للعدل في عالمنا اليوم من خلال الحوار وليس شيئاً آخر؟

 

 

الهوامش:

  • المؤلِّف هو أبو منصور أبو الفتح عبد الرحمن الخازنيُّ ويُعرف بالخازن، توفِّي 550 هـ -1155م. وهو من أكثر علماء النصف الأول من القرن السادس الهجري؛ الثانى عشر الميلاديِّ، اهتماماً بعلوم الفلك والهندسة والفيزياء والميكانيكا بصفة خاصَّة، كما يظهر في كتابه “ميزان الحكمة”. وهو مولى القاضي أبو الحسن علي بن محمد الخازنيِّ المروزيِّ، عاش في مدينة مَرو في خراسان، وتعلَّم بها الطبيعة والرياضيَّات. كان من المقرَّبين من سلطان خراسان معزِّ الدين أبي الحارث سنجر، والذي ألف له ” الزيج السنجري”، وأهدى إلى خزانته “ميزان الحكمة”، ومع هذا كان يحيا حياة العامَّة والزاهدين.
  • عرف “ميزان الحكمة” بعض الاهتمام حيث نشره المستشرق الروسيُّ خانيكوف عام 1857 م، وأعاد نشره في العددين 58-60 من مجلَّة Jaos . وطُبع في دائرة المعارف العثمانيَّة في حيدر آباد الدكن 1359 هـ-1940 م، وقدم فؤاد جمعيان نشره له بالقاهرة 1947م ، وحقَّقه ونشره منتصر محمود مجاهد مع دراسة مستفيضة بالقاهرة 2005 م. وقُدِّمت بعض الفصول والدراسات القصيرة القليلة عنه في إطار بيان إنجازات العلماء القدامى.
  • الخازني: ميزان الحكمة، ص 264.
  • الخازني: ميزان الحكمة، ص 265
  • سورة الشورى: الآية 17.
  • سورة الرحمن: الآية 7.
  • سورة الإسراء: الآية 35.

8-سورة الحديد: الآية 25.

9-سورة الأنبياء: الآية 47.

10-الخازني: ميزان الحكمة، ص 272.

11-J. Habermas: On the prgmatics of communication Ed.by Maevecooke, Cambridge, 1998, p.23.

-12مارك فيري: فلسفة التواصل ترجمة عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2006، ص 107.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى