الدراسات والبحوث

العرفان والفينومينولوجيا : (دراسة في العلاقة بين التصوُّف والفلسفة عند هنرى كوربان)

د. أحمد عبد الحليم عطيَّة

العرفان والفينومينولوجيا : (دراسة في العلاقة بين التصوُّف والفلسفة عند هنرى كوربان)

د. أحمد عبد الحليم عطيَّة

أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة – مصر.

تقديم:

نتناول في هذا البحث مفهوم المستشرق والفيلسوف الفرنسي هنري كوربان H. Corbin (1903- 1978) في «الفلسفة المقارَنة»([1])، ذلك المجال الحديث نسبيًّا والذي بدأ يتخذ مكانًا هامًّا في الجامعات الأوروبيَّة والأميركيَّة، وهو يهدف إلى إيجاد نظرة عامَّة شاملة تجمع الأفكار الفلسفيَّة التي ظهرت في بيئات ووحدات ثقافيَّة مختلفة([2]).

والحقيقة أنَّ دراسة كوربان للفلسفة المقارَنة، وهو مستشرق فرنسيٌّ وفيلسوف غربيٌّ، تثير العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، حول الدافع الذي يحفِّز المستشرق ابن الغرب، الذي يعدُّ تراثه من وجهة نظره إنسانيًّا عامًّا وشاملًا، وربَّما وحيدًا، وقد درسه كوربان وتعمَّق في اتِّجاهاته المختلفة([3])، وتحول إلى البحث في تراث فلسفيٍّ مغاير، هو التراث الإسلاميُّ، سعيًا وراء التماثُل والتشابُه بين الآراء والأفكار والمذاهب التي وُجدت لدى هؤلاء الفلاسفة الذين اهتمَّ بهم، خصوصًا فلاسفة الإشراق الإيرانيين، فتلك المحاولة أحقُّ بأن تغري الباحثين في الثقافات الأوروبيَّة.

وفي ضوء الزَّعم بأنَّ الفلسفة الوحيدة الجديرة بهذا الاسم، هي تلك الفلسفة التي نشأت في اليونان، وازدهرت في أوروبا، وعرفت بهويَّتها الغربيَّة، كان سعي بعض الباحثين والفلاسفة في العالم الثالث، خصوصًا في آسيا وأفريقيا، لتصحيح هذا التمركز الغربيِّ حول الذات([4])، وتحديد حقيقة الفلسفة الغربيَّة([5])، من خلال الفلسفة المقارنة، وبيان إسهام الحضارات والثقافات المختلفة في تاريخ الأفكار، ولتأكيد أنَّ الفلسفة الغربيَّة ليست هي النمط والشكل الوحيد للفلسفة.

في هذا السياق، يعرض لنا ديا كريشنا في دراسته «الفلسفة المقارنة: ما هي؟ وكيف ينبغي أن تكون؟ “إشكاليَّة انطلاق الفلسفة المقارنة من المنظور الغربيِّ، ويسعى لبيان إمكانيَّة هذه الدراسة، هناك بطبيعة الحالة شموليَّة موضوعيَّة للعقل الإنسانيِّ من جانب، ولظروف الحياة الإنسانيَّة من جانب آخر، وهذا هو ما يكفل ضرورة وجود تكرار مناسب في ما بين المشكلات المطروحة والحلول المقترحة لها، إلَّا أنَّ الدراسات المقارنة، تعني المقارنة في ما بين المجتمعات والثقافات كافَّة، بمصطلحات المعايير التي تزوِّدنا بها المجتمعات والثقافات الغربيَّة. وبدلًا من أن ينظر المفكِّرون ممَّن ينتمون إلى المجتمعات والثقافات الأخرى إلى المجتمع والثقافة الغربيين من منظورهم الخاصِّ، نراهم وقد قبلوا المصطلحات التي زوَّدهم بها مفكِّرو الغرب، ونراهم وقد حاولوا إظهار أنَّ ما تحقَّق في مختلف المجالات على نطاق ثقافتهم يوازي ذلك الذي تمَّ في الغرب، ومن ثمَّ لا يمكن اعتباره أقلَّ أهميَّة منه على الإطلاق([6]).

هكذا وجدت «الفلسفة المقارنة» نفسها منذ البداية غارقة في التساؤل عمَّا إذا كانت هناك “فلسفة خارج التراث الغربيِّ”، واستغرق إدراك الباحثين بأنَّ ما يُدعى بتاريخ الفلسفة ليس إلَّا تاريخًا للفلسفة الغربيَّة ردحًا طويلًا من الزمان.

إلَّا أنَّ المشكلة ظلَّت كما هي حتى يومنا هذا، وهي: هل نعترف بما هو موجود كفلسفة خارج التراث الغربيِّ أم لا؟ وقد أثير السؤال مرارًا في ما يتعلَّق بالفلسفات الهنديَّة والصينيَّة، ومنذ عهد قريب تفجَّر النقاش حول ما إذا كان هناك شيء مثل الفلسفة في أفريقيا* إلَّا أنَّ من المثير للدهشة أنَّ هذا التساؤل لم يثر على الإطلاق بالنسبة إلى الفلسفة الإسلاميَّة([7]). وسوف نرى حين نعرض لدراسة كوربان أنَّه قد طرح هذا التساؤل وسعى لتلمُّس الإجابة عليه، واجتهد في تقديم مثل هذه الإجابة. ومن هنا أهمية دراسة جهوده في ذلك.

مهما يكن الأمر؛ فإنَّ السبيل الوحيد الذي تأتي منه أولى الخطوات نحو أيِّ حلٍّ للمشكلة، يكمن في النظر إليها من كلا الجانبين، وهو ما يعني النظر إلى كيف يبدو كلٌّ منهما عندما يرى من وجهة نظر الآخر؟.

إن البحث عن مشكلات فلسفية مميزة، أو عن سمات مميَّزة في الحلول المقدَّمة لمشكلة مألوفة، لا يتأثَّر بالنظر في التراث الأجنبيِّ فحسب، لكن بإثراء وعي المرء بإمكانيَّة بديلة في الفكر، إمكانيَّة سبق تحقيقها، هي أنَّ الوعي بهذه الإمكانيَّة التي سبق تحقيقها قد يحرِّر خيال المرء التصوُّريِّ. وهكذا، فإنَّ الفلسفة المقارنة قد تعمل كمحرِّر مشترك للتراث الفلسفيِّ: من القيود التي تفرض عليه من ماضيه، ومن فرض معايير إحدى الثقافات المسيطرة على كلِّ ما عداها من ثقافات([8]).

هذا ما سعى له هنري كوربان، وحاول تقديم خطوطه العريضة في عمله الذي نتناوله هنا بالدراسة والتحليل، وبيان الحدود التي انطلق منها، ونظرته إليها وإمكانيَّة تطوير هذه النظرة.

 هنري كوربان ودراساته الفلسفيَّة:

 

وُلِد هنري كوربان([9]) في 14 أبريل 1903، وقد تلقَّى في طفولته تعليميًّا دينيًّا والتحق بجامعة السوربون، وتخرَّج فيها 1925، وحصل على دبلومات عدَّة في الفلسفة والدراسات الشرقيَّة. درس على أتيين جيلسون E. Gilson التراث الفلسفيَّ للقرون الوسطى الغربيَّة دراسة عميقة([10])، وخصوصًا الترجمات اللَّاتينيَّة لابن سينا، كما درس على ماسينيون الذي وجَّه لدراسة التراث الصوفيِّ الإسلاميِّ، وقام بالتدريس في المدرسة العمليَّة للدراسات العليا بباريس أعوام 36- 1938، وألقى محاضرات في اللَّاهوت عن “طرق التفسير الكتابيِّ عن أتباع لوثر”، ونشر مقالًا عن “اللَّاهوت الديالكتيكيِّ والتاريخ” عن منهج كارل بارث  K. Barth([11]).

كذلك درس الفينومينولوجيا لدى هوسرل Husserl، والوجوديَّة عند هيديغر Heidegger الذي نقل بعض مؤلَّفاته إلى الفرنسيَّة، وظلَّ يعدُّ نفسه منتميًا إلى الفلاسفة الطبيعيين إلى أن اكتشف “حكمة الوجود” في آثار الفلاسفة الفرس.

سافر كوربان في بداية الحرب العالميَّة الثانية إلى اسطنبول بتركيا، وأمضى فيها ست سنوات حيث اطَّلع على مؤلَّفات السهرورديِّ؛ الذي اهتمَّ به اهتمامًا كبيرًا، وكان أول ما كتبه بالفرنسيَّة عن «السهروردي مؤسِّس فلسفة الإشراق»([12]). وفي عام 1946 اختارته الخارجيَّة الفرنسيَّة رئيسًا لقسم الإيرانيَّات في معهد الدراسات الفرنسيَّة الإيرانيَّة في طهران، وظلَّ طيلة عشرين عامًا يحضر إلى إيران للتدريس في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في جامعة طهران.

ويعدُّ كوربان من المؤسِّسين لمؤسَّسة الإيرانيَّات، وقد طبع طائفة كبيرة من أبحاثه ودراساته في تلك المؤسَّسة([13]) خصوصًا مصنَّفات شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي، ودراسات وتحقيقات أخرى حول: كشف المحجوب للسجستاني، وجامع الحكمتين لناصر خسرو([14]) والمشاعر لملَّا صدرا، وجامع الأسرار ومنبع الأنوار للآملي وغيرها.

يتَّضح من دراسة آثار كوربان أنَّه لم يكتفِ بالإلمام بجوانب الفكر الإيرانيِّ في العصر الإسلاميِّ. بل كان يهتمُّ كذلك بجوانب الفكر الإيرانيِّ في عصر ما قبل الإسلام. فقد سعى للكشف عن الصلة بين بعض جوانب الفلسفة في إيران منذ أقدم العصور حتى القرون الأخيرة، وظهرت جهوده تلك في كتابه «الصلات بين حكمة الإشراق وفلسفة إيران القديمة»([15]).

في هذا الإطار، اهتم كوربان بالأبحاث الخاصَّة بالإمامة من وجهة نظر الشيعة الاثنى عشريَّة، والعلاقة بين الظاهر والتأويل، ودور الإمام الغائب في هداية الخلق، والاجتهاد عن الشيعة. ومنذ بداية نشاطه العمليِّ اهتم بالفلسفة وعلم الكلام عند الإسماعيليَّة، وشارك في إحياء الآثار الهامَّة لهم([16]) ويسيطر على أبحاثه وكتاباته، كما هو واضح، الميل إلى هذه النوعيَّة من الاتِّجاهات، وهو في عمله، “أسهم مساهمة شديدة في إبراز نصيب الفكر الشيعيِّ أكثر من اهتمامه بالفكر السنِّيِّ”([17])، ويوضع في هذا السياق جهده في دراسة ابن سينا([18])، الذي يعد مقدمة – كما يخبرنا سيد حسين نصر – لما كان يريد أن يقوله للغرب عن السهروردي.

لم يكتب كوربان عن أيٍّ من فلاسفة المسلمين بمثل ما كتب عن السهروردي، فهو الذي قام بالتعريف بحكمة الإشراق في الغرب، كما أنَّ فضله في بعث الاهتمام بالسهروردي في إيران نفسها في العصر الحديث يزيد عن فضل أي عالم آخر. وكما دار إنتاج ماسينيون حول شخصيَّة “الحلاج”، دار إنتاج كوربان حول شخصيَّة السهروردي. ويمكن القول: “أنَّ السهروردي دلَّ الفيلسوف والباحث الفرنسيُّ الشاب على إيران وأدخله عالمًا واسعًا من الفكر والروحانيَّة، وهو عالم كان إلى ذلك العهد مجهولًا بالنسبة إلى المحافل والأوساط (العلميَّة) في الغرب”([19])، واهتمَّ بابن عربي ومدرسته، وبعد قراءات موسَّعة ومتعدِّدة قدَّم كتابه الهام «الخيال الخلَّاق في تصوُّف ابن عربي»([20]). وقد كتب مقالات عديدة عن ملَّا صدرا، وقام بتنقيح وطباعة أحد مؤلَّفاته وهو «المشاعر»، بالإضافة إلى دراسات عن فلاسفة آخرين مثل: جابر بن حيان، محمد بن سعيد القمي. وتجدر الإشارة إلى “مختارات من مؤلَّفات حكماء التصوُّف الإيرانيين” وإلى مؤلَّف هامٍّ له هو “في أرض الإسلام الإيرانيَّة” En Islam Iraniean في أربعة مجلَّدات، والذي خصَّصه للحديث عن الشيعة الاثني عشريَّة، والسهروردي، وأنصار أفلاطون في إيران، وأتباع العشق الإلهيِّ، ومدرسة أصفهان في العرفان([21]).

 

فهم كوربان لطبيعة الفلسفة الإسلاميَّة:

يهمُّنا هنا أن نتوقَّف أمام فهم كوربان لطبيعة الفلسفة الإسلاميَّة، ومعناها، والأُسُس الضروريَّة لتفسير تسميتها وبنيانها كما يقدِّمها لنا في بداية كتابه عنها، فهو يتحدَّث عن «فلسفة إسلاميَّة» وليس عن فلسفة عربيَّة، كما ظلَّ سائدًا ومعروفًا منذ القرون الوسطى، لأنَّنا إذا قبلنا التسمية الأخرى (العربيَّة) كما يقول فأين نضع المفكِّرين الإيرانيين الذين كتبوا بالفارسيَّة حينًا وبالعربيَّة حينًا، يقول “سنتكلَّم عن الفلسفة الإسلاميَّة كفلسفة ترتبط نهضتها وانتشارها الأساسيُّ بالواقع الدينيِّ والروحيِّ للإسلام، والتي وجدت لتشهد على أنَّ الإسلام لا يعبِّر عن ذاته بالفقه وحده كما يُشاع خطأ([22]).

وبناءً على ذلك، فمفهوم الفلسفة الإسلاميَّة لا يمكن أن ينحصر في ذلك الشكل التقليديِّ الذي نجده في “موجزات” التاريخ والفلسفة التي تكتفي ببعض الأسماء الكبيرة لمفكِّري الإسلام الذين عرفتهم المدرسة الأوروبيَّة من خلال الترجمات اللَّاتينيَّة، فإنَّ ذلك كما يرى كوربان لا يكفي للقول باتِّجاه عام يسمح بفهم معنى التأمُّل الفلسفيِّ في الإسلام وتطوُّره «إنَّه لخطأ أساسيٌّ القول أنَّ التأمُّل الفلسفيَّ قد توقَّف بموت ابن رشد، حيث نجد في المشرق خصوصًا في إيران أنَّ الرشديَّة قد مرَّت مرورًا غير ملحوظ. لذا يبحث كوربان عن معنى أوسع وأرحب للفلسفة أو الحكمة حيث لا يمكن من وجهة نظره فهم حقيقة معنى التأمُّل الفلسفيِّ واستمراره في الإسلام إلَّا بالتخلِّي عن ذلك الادِّعاء بوجوب التنقيب عن معنى مقابل له يوازي ما درجنا على تسميته في الغرب منذ قرون عدَّة بالفلسفة. فالتمييز بين الفلسفة واللَّاهوت في الغرب يرجع إلى المدرسة الوسيطة ويفترض نزعة علمانيَّة لا يمكن أن تأتي للإسلام وذلك لسبب بسيط، هو أنَّ الإسلام لا يعرف ظاهرة الكنيسة بمضمونها ونتائجها. وعلى ذلك، يرى أنَّ مصطلح “حكمة” هو المعادل الصحيح للمصطلح Sophia والحكمة الإلهيَّة، هي المصطلح الحرفيُّ المعادل للمصطلح اليونانيِّ ثيوصوفيا Theosophia. أمَّا ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) فيشار إليها على أنَّها العلم الذي يبحث في الإلهيَّات([23]).

إنَّ هذه الخصوصيَّة في الفلسفة الإسلاميَّة هي التي يسعى كوربان لإيجاد تسمية مميَّزة لها عن مسمَّياتها التقليديَّة، تتَّفق وطبيعتها ومضمونها، فقد كان التفكير الفلسفيُّ في الإسلام منصبًّا على أمر أساسيٍّ هو النبوَّة أو الوحي النبويُّ، وعلى المسائل والمواقف التي يتضمَّنها هذا الأمر الأساسيُّ، وعندما تأخذ الفلسفة شكل فلسفة نبويَّة أو حكمة لدُنيَّة. من هنا، فقد أعطى السيادة في دراسته للفلسفة النبويَّة بشكليها الرئيسيين: الإمامة الإثنى عشريَّة والإسماعيليَّة، ومن هنا فهو لا يستطيع تناول الحكمة في الإسلام من دون أن يدرس التصوُّف، الصوفيَّة في مظاهرها المختلفة سواء من حيث التجربة الروحيَّة، أو من حيث حكمتها الإلهيَّة النظريَّة، التي نجد جذورها في التعليم الفلسفيِّ الشيعيِّ، فجهد السهروردي ومدرسته الإشراقيَّة إنما ترجع أهميَّتها لربطها البحث الفلسفيَّ بالإنجاز الشخصيِّ، ويعطينا في النهاية حكمًا يعبِّر عن كوربان أكثر ممَّا يعبر عن الإسلام، حيث يرى أنَّ تاريخ الفلسفة، وتاريخ الروحانيَّة غير قابلين للانفصال في الإسلام([24]).

وطبيعيٌّ أن يصدر ذلك الحكم عن كوربان الذي ينزع روحًا ثيوصوفيا إشراقيًّا، ويستند إلى الوجدان والتجربة الصوفيَّة وهو الذي شارك  أتو A. Otto العمل في دائرة إيرانوس Eronas للثيوصوفيَّة، وهو أحد أعضائها الذي داوم على حضور اجتماعاتها([25]).

كذلك نراه يواصل تحديده لمعالم الفلسفة الإسلاميَّة – كما يتصورها – موضحًا اهتمام المفكِّرين المسلمين بتقسيم تاريخهم إلى حقب وفترات، من خلال طريقة خاصَّة بهم، وأنَّ هذا الأمر ليس غريبًا على مفهوم الأدوار في النبوَّة، وهي مسألة سيحدِّثنا عنها بالتفصيل ثانية في دراسته مفهوم «الفلسفة المقارنة»، ويعطينا مثالًا بتاريخ قطب الدين الأشكوري الذي يقسم المفكِّرين الروحانيين إلى ثلاثة أدوار كبرى، هي: المفكِّرون السابقون للإسلام، مفكِّرو الإسلام الشيعي، مفكِّرو الإسلام السنِّيِّ، وعلى هذا يعطينا تقسيمًا لكتابة الفلسفة الإسلاميَّة يميِّز فيه بين الحقب الثلاثة التالية([26]):

الحقبة الأولى: تمتدُّ هذه الحقبة منذ بدء الإسلام حتى وفاة ابن رشد (595هـ – 1198م)، وتعدُّ حقبة مجهولة أقلَّ من سواها، وقد انتهت بعض الأمور في الإسلام المغربيِّ مع ابن رشد، وفيها بدأت بعض الأمور الأخرى مع السهروردي وابن عربي وبقيت حتى أيامنا هذه.

الحقبة الثانية: تمتدُّ خلال القرون الثلاثة التي تسبق النهضة الصوفيَّة في إيران، وهي تتَّفق وبشكل أساسيٍّ مع ما يقتضي أن نسمِّيه “ميتافيزيقا”. وتستمرُّ آثاره من خلال حقبة (الفاجار): حتى أيامنا هذه، وسيكون ثمة مجال لتحليل الأسباب التي جعلت من إيران خصوصًا، ومن الوسط الشيعيِّ عمومًا، ولادة هذه الظاهرة([27]). أنَّ هذا الإبحار في الإشراق، والسكر بخمر السهروردي، والوله بحب الشيعة، يغرق كوربان في مناطق إبداع لا نختلف معه عليها لكنَّها، وهذا ما نختلف معه فيه، لا يمكن بمفردها أن تمثِّل الفلسفة الإسلاميَّة. فالعرفان نتاج جهد كبير لا يلغي ولا ينفي غيره.

آراء بأبحاث كوربان:

 

لا ريب في أنَّ كوربان كان محلَّ إشادة عارف تامر الذي رأى أنه من أعمق الباحثين في قضايا الفلسفة الإسلاميَّة وتطوُّرها، ومن أدقِّهم معرفة بالفكر الإيرانيِّ على اختلاف تشعُّب مواضيعه([28])، كما رأى فيه سيد حسين نصر “العالم الذي ندين له بتحقيقاته وجهوده التي لا تعرف الكلل في سبيل تقديم الفلسفة الإسلاميَّة إلينا”([29])، لكن، في المقابل، لا يقبل علم شيعيٌّ بارز هو موسى الصدر؛ بعض ما جاء في كتابه “الفلسفة الإسلاميَّة”، ويرى أنَّ “هذا الكتاب الجليل يحتوي على أبحاث أساسيَّة تقبل النقد العلميَّ وتستحقُّ النقاش العادل”([30]). الأمر نفسه نلاحظه في الأستاذ العربي المدقِّق الدكتور محمد علي أبو ريان، الذي قدَّم أهمَّ دراسة بالعربيَّة عن الفلسفة الإشراقيَّة، وحقق “هياكل النور” و”اللَّمحات في الحقائق”([31])، فهو يرى أنَّه (يقصد كوربان) بعيد في بعض مؤلَّفاته عن الروح العلميَّة في تصنيفه لكتابات السهروردي([32]). وهو يناقش نظريَّاته في بحثه “الإشراقيَّة مدرسة أفلاطونيَّة إسلاميَّة”، فالمستشرق الفرنسي قد نحى في نشراته النقديَّة لنصوص السهروردي منحى خاصًا به محاولًا التدليل على صحَّة رأيه بالتزامه بالحدود الضيِّقة للمنهج الفيلولوجي([33]). ويلاحظ أنَّ السهروردي نفسه ويقيم حدًّا فاصلًا بين الحكمة البحثيَّة المشائيَّة والحكمة الذوقيَّة([34]).

ويضيف أبو ريان موضحًا أنَّ السهرورديَّ يجعل من أفلاطون تلميذًا لزرادشت، منطلقًا من أنَّ الثنائيَّة الفارسيَّة هي مصدر فلسفة أفلاطون، متجاهلًا بذلك بنية المذهب الأفلاطونيِّ المثاليَّة، وكذلك الظروف الاجتماعيَّة التي كانت وراء صياغة المذهب في صورته المعروفة عند أفلاطون. ويخلص أبو ريان إلى أنَّ المذهب الإشراقي فضلًا عن أنَّه إحياء إسلاميٌّ لمذهب أفلاطون، فهو أيضًا يخضع لضرورات استمرار الفكر الفلسفيِّ الإسلاميِّ، ويستمدُّ عناصره الأولى ابتداء من المشائيَّة الإسلاميَّة. والسهرورديُّ نفسه يذكر أنَّ مذهبه يرجع إلى المصدرين معًا اليونانيِّ والفارسيِّ، أي الغربيَّ والشرقيَّ على السواء، لهذا يسمِّي أتباعه بحافظي الكلمة من الجانب الغربيِّ والجانب الشرقيّْ([35]).

وبيان الأُسُس التي أقام عليها كوربان دعواه يعد مدخلنا لتناول تصوُّره لـ«الفلسفة المقارنة» التي يعرض فيها للفلسفة الإسلاميَّة الإشراقيَّة في إيران لدى السهرورديِّ، وغيره مع ما يماثلها في فلسفات الغرب، وهو لا يفعل ذلك باستخدام المنهج التاريخيِّ أو النزعة التاريخيَّة بل انطلاقًا من الفينومينولوجيا([36]).

وسوف يتضح لنا ذلك إذا حاولنا بيان الخطوط الأساسيَّة التي قدَّمها لنا كوربان في دراسته.

 

مفهوم الفلسفة المقارنة عند كوربان:

يحدِّثنا كوربان في أول فقرات دراسته «مفهوم الفلسفة المقارنة» عن: الفلسفة المقارنة والفينومينولوجيا، مبيِّنًا حداثة البحث في الفلسفة المقارنة، وصعوبة هذه الدراسة حيث لا يوجد منهج يحدِّد طريقة المقارنة، ومن الصعب إيجاد تعريف لها، وذلك بسبب قلَّة الفلاسفة الذين يهتمُّون بتناول الوحدات الثقافيَّة والمقارنة بينها، لعدم كفاية الإعداد العلميِّ (اللُّغويِّ) لهم. فدراسة اللُّغة أو اللُّغات المتعدِّدة هي المدخل لفهم وتمثُّل هذه الوحدات الثقافيَّة، وبالتالي المقارنة بينها. ويذكر لنا أولى الجهود في سبيل: تمهيد الطريق للفلسفة المقارنة، ذلك الذي قدَّمه بول ماسون أورسيل “الذي وهب نفسه، كلما كان ذلك ممكنًا، لمهمَّة تحديد المعنى الدقيق لطبيعة وغاية الفلسفة المقارنة”. إلَّا أنَّ تحليله أقرب إلى التاريخ منه إلى الفلسفة المقارنة، وأنَّ الفينومينولوجيا؛ التي تسعى للكشف والبيان والغوص إلى الباطن والكامن، تختلف عن تاريخ الفلسفة والنقد التاريخيّْ.

أنَّ الفينومينولوجيا تقوم بالدور الذي تقوم به أبحاث الصوفيَّة القدماء تحت اسم “كشف المحجوب”، وهي عنده التأويل الذي يعدُّ أساس التفسير الدينيِّ، وهو ما يمكِّننا من الوصول إلى جوهر الأشياء، أي أنَّها كما يؤكِّد كوربان ضدَّ التاريخ، ويستخلص ثلاثة مواضيع من الفلسفة الإيرانيَّة كنماذج للبحث المقارن.

ويتعرَّض في القسم الثاني من البحث إلى كيفيَّة تحريرنا أنفسنا من النزعة التاريخيَّة، ويبيِّن أنَّ فينومينولوجيا هيغل إحدى العلامات المميَّزة للفلسفة الغربيَّة، وأنَّها ليست علمًا وضعيًّا، ويتحدَّث عن انقسام المدرسة الهيغليَّة، ويقف أمام اليمين الهيغليِّ الذي يقرأ الفيلسوف بالطريقة نفسها التي يقرأون بها الثيوصوفيين الكبار: ايكهارب وبوهمه، وللأسف فإنَّ هذه الطريقة لم تستمر، وصارت الهيغليَّة في طريق أحاديِّ الجانب ومختلف، وهو التفسير الذي شاع في القرن التاسع عشر، أنَّ التاريخ توقَّف، وترك الأخرويَّات وراء ظهره، وفقد الاتجاه، ومن هنا أصبح التاريخ مجنونًا. ويتساءل كوربان: كيف يمكننا اكتشاف معنى للتاريخ، أو اتجاه للتاريخ؟ إنَّ من المهمِّ بالنسبة إلينا أن نضع هذه المأساة نصب أعيننا؛ لأنَّ الأخرويَّات متأصِّلة في ضمائرنا نحن أهل الكتاب، وهذا ما يجعل عدم استسلامنا لأخطار التاريخ أمرًا ممكنًا.

يوضح كوربان إشكاليَّة دراسته مؤكِّدًا السؤال المحوريَّ لها هو: كيف يمكن لفلسفتنا المقارنة أن تباشر مهامَّها بتحرير نفسها من أخطار التاريخ بطريقة فينومينولوجيَّة؟ ويرى ذلك في “التفسير” مقابل “السببيَّة التاريخيَّة”، وأنَّ علينا أن نحوِّل دراسة التطوُّر الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ إلى قاعدة تفسيريَّة. وعليه، فإنَّ علينا كفلاسفة، كفينومينولوجيين، أن نرتفع ضدَّ هذا المفهوم الذي لا يتصوَّر الأشياء إلَّا طبقًا لتكوينها الزمنيِّ “التاريخانيَّة”، ويدلي بالآراء التالية:

  • ليس المقصود الإقلاع عن دراسة التاريخ (ذاكرة البشريَّة).
  • أنَّ حالة المجتمع هي الواقعة الأولى، عندما تنتج من إدراك العالم الذي سبق كلَّ ترتيب تجريبيٍّ للأشياء. ومن هنا، فنحن نصادف السقوط الكبير للفكر الحديث الذي يغلق كلَّ المنافذ التي تؤدِّي إلى ما وراء هذا العالم (موقف اللَّاأدرية). ويفرق كوربان بين: العالم (التاريخ)، والملكوت (الفينومينولوجيا) الذي يرى رؤية قلبيَّة باطنيَّة.
  • هناك “أحداث” ليست عرضة للمعايير التجريبيَّة. إنَّها أحداث السماء، الملكوت، التاريخ الداخليُّ، مقابل التاريخ الخارجيِّ، أحداث الملكوت عالم الروح، وهذه الأحداث تدرك نفسها بالتساوي مع التاريخ، وذلك بكشف المحجوب الذي يظلُّ مختفيًّا في الظاهرة تلك هي الفينومينولوجيا، وهذا هو تمامًا ما يفعله التأويل. إنَّها جدل مركب، ومسألة قيادة الملاحظ إلى نقطة تسمح له برؤية ما هو خفيّْ.
  • من هنا يحدِّد مهمَّة «الفلسفة المقارنة»، بأنَّها لا تهتمُّ بالترتيب الزمنيِّ لتاريخ الفلسفة، ولا إنشاء فلسفة التاريخ.

ويقدِّم كوربان ثلاثة أمثلة توضح الدور الذي يمكن أن يقوم به الفلاسفة الإيرانيون في مجال الفلسفة المقارنة، وهي على التوالي: الأفكار الأفلاطونيَّة، مذهب تكثيف الجوهر، وتحديد مهمة التاريخ المقدَّس، أو مرحلة ما قبل التاريخ.

أ-الأفكار أو المثل الأفلاطونيَّة(نماذج النور): يخبرنا كوربان في قضية تحتاج إلى نقاش يقول فيها: لقد كان الإبداع الشخصيُّ للسهرورديِّ ليفسِّر الأفكار الأصليَّة كما تصوَّرها أفلاطون بلغة المذهب الملائكيِّ الزرادشتيِّ، ويطابق بين الكوزمولوجيا الزرادشتيَّة والأفلاطونيَّة المحدَثة، ويقارن عالم الكائنات الأصليَّة للنور وعالم sefirat في القبالة عند اليهود وبين أفكار السهرورديِّ مع افتراضات جيمس دارمستتير Darmesteter الذي قارن ملائكة الديانة الزرادشتيَّة ومفهوم القوى الإلهيَّة لدى فيلون السكندريِّ، ويرى أنَّ كلَّ ما سبق يفسح المجال أمامنا للمقارنة.

ويذكر لنا ابن اجهاجاني Ibn Aghajan (تلميذ ملَّا صدرا) في القرن الثاني عشر الذي ترك لنا تعليقًا على كتاب “الفحم المحترق” لميرداماد، أن الأخير لم يكن إشراقيًّا إلَّا أنَّه رمز إليها في كتابه بمصطلح غريب هو الطبائع المرسلة “الجواهر المرسلة”. ويوضح ابن اجهاجاني أنَّ ذلك يشير إلى الأفكار الأفلاطونيَّة ويصفها بأنَّها “مرسلة نبويَّة” تفيد بأنَّ ميرداماد يدعونا إلى إدراك الأفكار الأفلاطونيَّة بأسلوب الأنبياء المرسلين في هذا العالم، ويضيف أنَّ الفلسفة النبويَّة للشيعة تدعونا إلى مفهوم نبويٍّ للفلسفة الأفلاطونيَّة. فوظيفة الرسول أن يحدث تقابلًا بين السماء والأرض، تقابلًا خياليًّا عن طريق التجلِّي في العالم الوسيط، عالم المثال (العالم الخياليِّ). وعلى ذلك فالحديث عن المُثل الأفلاطونيَّة وتفسيراته المتعدِّدة لدى الفلاسفة الإيرانيين يفتح أفقًا جديدة للفلسفة في ما يرى كوربان.

  • يحدِّثنا عن ميتافيزيقا الوجود عند ملَّا صدرا([37])، الذي أعطى الأسبقيَّة للوجود، وأنَّ الوجود لديه يقبل الإضافة والنقصان. من هنا، فإنَّ وجود الإنسان يتضمَّن درجات متعدِّدة، فهو من القائلين بالتناسخ، والقول بدرجات الوجود يستتبع الحديث عن أشكاله التي هي إحدى الخصائص الهامَّة لفكره الميتافيزيقيِّ؛ والذي يهيِّئ للفينومينولوجيا.

ويبين كوربان أنَّ هذه المسألة قد شغلت الفلاسفة المدرسيين في القرن الرابع عشر الميلاديِّ، ويذكر منهم جان الريباوي، ونيفولا أوريسم. ومهارة أوريسم تساوي مهارة معاصره حيدر آملي في الهندسة والرسم التخطيطيِّ. وهو يشير إلى العلاقة بين أفلاطونيِّي فارس وأفلاطونيِّي كمبريدج، وأنَّ هذا يفتح أمامنا مجالًا جديدًا للمقارنة.

ج-يشير كوربان إلى موضوع ثالث للمقارنة وهو فكرة الزرادشتيَّة لتحديد مدَّة عصور العالم: الخلق، (المزج والخلط)، الانفصال، هذه العصور الثلاثة انتشرت في مدة اثني عشر عامًا، وهي تتطابق مع حديث الشيعة الذي يصف لنا هبوط النور المحمديِّ إلى هذا العالم، والذي يخرج من اثني عشر حجابًا من النور (هم الأئمة الاثنا عشر الذين يرمزون إلى عصور العالم الاثني عشر). وهو يوضح أنَّ هذا التمثيل لعصور العالم ظهر لأول مرة في العالم الغربيِّ في القرن الثاني عشر الميلاديِّ في أعمال يواقيم الفلوري، وأن حيدر آملي؛ يمكن أن يكون مفتاحًا لهذه المقارنة حيث أشار إلى أنَّ من رمزت إليه الشيعة على أنَّه الإمام المنتظر؛ هو المرموز له في المسيحية بالروح القدس.

ويعرض لنا كوربان في القسم الرابع والأخير من دراسته للمغامرة الغربيَّة ومقامرة التغريب، والتي يناقش فيها مشكلة التحدِّي الشخصيِّ بين مصير الشرق والغرب. ويشير إلى أنَّ كلمة الشرق عند السهرورديِّ ليس لها معنى جغرافيٌّ بل معنى ميتافيزيقيٌّ (يصف بها العالم الروحيِّ)، ويميِّز بين المقامرة Venture الغربيَّة، ومغامرة Adventure تغريب الشرق من ناحية أخرى، وأنَّ الأخيرة ليست امتدادًا للأولى، ويذكر لنا الكيمياء كوسيلة من وسائل المساعدة بالنسبة إلى العلوم الروحيَّة، وفي ذهنه “الجلدكي” و”يعقوب بوهمة”، ويوضح أنَّ ما يطلق عليه المغامرة الغربيَّة هو تطبيق الذكاء على البحث العلميِّ في طبيعة غير مقدَّسة للكشف عن قوانينها وإخضاعها للإرادة البشريَّة. ويلفت إلى أنَّ هذا جرَّنا إلى ما يُطلق عليه “القوَّة الخلَّاقة المضادَّة أو الزائفة”، حيث يؤكِّد أنَّ ما وراء الانتصارات العمليَّة للغرب هناك في الوقت نفسه المسائل الروحيَّة، فالعلم المحرَّر قد خلق أداة للموت.

إلى ذلك، يرى أنَّ اليأس يخفي بين جوانبه تحرير الغرب، ومن هنا له ثقة   كبيرة بأنَّ هناك كثيرًا من الشرقيَّات في الغرب تحمل المعنى الذي يطلقه عليها السهروردي، وهي أنَّنا كلنا أهل كتاب يجب أن نضع في اعتبارنا ماضينا اللَّاهوتي، وأننا لنفهم كتبنا المقدَّسة تواجهنا المشاكل نفسها، لذا علينا جميعًا أن نتحرَّى بالتفصيل، وبكل وحدة، تاريخنا الفلسفيَّ اللَّاهوتيَّ، وتلك مهمة الفلسفة المقارنة. وهو يرى أن تلك المهمَّة تقع على عاتق الثيوصوفيين الروحانيين الذين نتعلَّم منهم، أو الحكيم الكامل عند السهرورديِّ الذي يجمع بين المعرفة الفلسفيَّة والخبرة الروحيَّة، فمثل هؤلاء الحكماء هم عنده ورثة الأنبياء، وهم القادرون على مواجهة عواقب تدنيس كون غير مقدَّس.

 

 

مفهوم الفلسفة المقارنة  

 

1-الفلسفة المقارنة والفينومينولوجيا:

 

يتردَّد مصطلح الفلسفة المقارنة Comparative Philosophy كثيرًا هذه الأيام، إذا أخذنا في الاعتبار مدى اتِّساع الأنظمة المقارنة وفروعها مثل: علم النحو المقارن، الأدب المقارن، وعلم الجمال المقارن… إلخ، فإننا نسلِّم بأنَّ هذه الفلسفة ما زالت في مرحلة البداية الأولى.

إنَّ هذه البداية المتأخرة نسبيًّا من المسائل التي تثير الدهشة(1)، حيث تكمن الصعوبة في تكوين منهج يحفظها من الاعتباطيَّة، بسبب عدم إمكانيَّة مقارنة كلِّ الأشياء بعضها ببعض. من هنا، فإنَّنا نواجه صعوبة إيجاد التعريف التقنيِّ لتعبيرات مقبولة في مجال الدراسات المقارنة، وفي قلب هذه المشكلة الصعبة تواجهنا صعوبة أنَّ هناك فلاسفة قلائل يجمعون بطريقة مُرضِية بين وحدات ثقافيَّة كاملة متعدِّدة، وإعداد لغويٍّ كافٍ وقادر على التغلُّب على مشكلات النص.

على حدِّ علمي، فإنَّ مفهوم الفلسفة المقارنة قد تمت صياغته من قبل في العقد الثاني من هذا القرن في رسالة دكتوراه قدِّمت تحت العنوان نفسه إلى جامعة “السوربون” بفرنسا لبول ماسون أورسيل Paul Masson Oursel(2) الذي تم تعيينه ليشغل كرسي الديانات الهنديَّة، في قسم العلوم الدينيَّة في مدرسة الدراسات العليا، ولقد وهب نفسه، كلَّما كان ذلك ممكنًا، لتحديد المعنى الدقيق، ومرمى وغاية الفلسفة المقارنة، ورأى أنَّها بنية أساسيَّة من التشابهات المفكَّكة في صورة تعبيرات مضلِّلة لا أكثر ولا أقلّْ، ولكن إلى حدٍّ ما تقدِّم علاقات تماثل مثل (ب = د/جـ).

ولكن، ربما ظلَّ ثانويًّا جدًّا تحليله للمنظور المتميِّز لتاريخ الفلسفة، كتاريخ في تبعيَّته لقوانين الزمنيِّ والافتراضيِّ – للسببيَّة التاريخيَّة. وبالتأكيد، فإنَّنا لا يمكن أن نستبعد هذا النوع من الأبحاث، فهناك الزمان والمكان المناسب، لكنه ليس مبدئيًّا ولا جوهريًّا موضوعًا للفلسفة المقارنة، أو أحد المباحث الأوليَّة التي يجب أن تكون مطلوبة هنا وهناك في الوقت الحاليِّ، أو في المفهوم المتقدِّم لشيء ما مثل التاريخ أو تاريخ الفلسفة أيضًا.

وبالتالي، فإنَّ ما تسعى له الفلسفة المقارنة هو – فوق كلِّ شيء – ما يطلق عليه في الألمانيَّة حدس الماهيَّة Wesenschau. وهذا المصطلح ينتمي إلى المفردات الفينومينولوجيَّة  Phenomenology، أو دعنا نقل إنَّه ينتمي إلى فينومينولوجيا هوسرل الأكثر تحديدًا، والذي ينتمي إلى فينومينولوجيا الوجود عند هيدغر (من الأفضل أن نطلق عليها لفظ وجوديَّة)(3)، أنه يبدو أن ظهور الفينومينولوجيا هو الذي أوضح هذا المفهوم – لعالم مثل ماسون أورسيل – الذي يجب أن يستمر في الذيوع.

ويجدر القول أنَّ الافتراضات المسلَّم بها في مبدأ الإدراك الحدسيِّ للماهيَّات مختلفة تمامًا عن تلك التي وضعتها لنفسها عن طريق الاقتراب التاريخيِّ الذي يسعى لتحديد الأسباب والتردُّدات والتأثيرات التطوُّريَّة كي يستنتج منها محاولات خاصَّة ممَّا يؤكِّد الاعتقاد أنَّه يمكن مقارنتها بعضها ببعض. ولهذا، يجب أن ندعو ثانية باختصار شديد إلى إدراك معنى كلمة فينومينولوجيا.

لقد سبق أن أتيحت لي فرصة تعريف هذا المصطلح في مكان آخر(B)، فهناك معنى مستقل عن أيِّ مدرسة فينومينولوجيا خاصَّة. لن نحاول ترجمة الكلمة إلى الفارسيَّة بما يوازي المعنى المعجميِّ، فمن الأحرى بنا أن ننظر إلى مجرى الأحداث التي تنجزها أبحاث الفينومينولوجيا، فهي مرتبطة أساسًا بشعار العلم اليونانيِّ وهو “إنقاذ الظواهر”، ماذا يعني هذا؟ يعني أنَّ الظاهرة هي التي تكشف نفسها، والتي تظهر وتكون واضحة، وتوضح شيئًا ما يمكنه الإفصاح عن نفسه فحسب في ذلك المكان بالبقاء مختفيًا تحت ظواهره. أمَّا في العلوم الفلسفيَّة والدينيَّة فإنَّ الظاهرة تقدِّم نفسها عن طريق هذه المصطلحات الفنيَّة والتي يكون العامل المشترك فيها جميعًا هو الجزء الذي يمثِّل معنى الوضوح والجلاء، التجلِّي الإلهيِّ، الحكمة الإلهيَّة، والظاهرات التي هي من أصل يونانيٍّ أساسًا مثل كلمة الظاهر Zahir الخارجيِّ الغريب… إلخ، الظاهرة، وهي كلمة يونانيَّة، تعني الظاهرة بينما تبقى هي مختفية في ما يسمَّى بالباطن أو الداخليِّ أو السريِّ. والظاهريات (الفينومينولوجيا) تتوقَّف على “إنقاذ الظاهرة” أو إنقاذ الظواهر التي توضح المختفي، والتي توضح نفسها تحت هذه الظاهرة. واللوغوس أو مبدأ الظواهر الفينومينولوجيا هو ما يمكنه توضيح ما يكون مختفيًا، أو الحاضر غير المرئيِّ تحت الأشياء الواضحة. وهذا لكي نجعل الظاهرة توضح نفسها، وبهذا تكون مجالًا مختلفًا عن مجال تاريخ الفلسفة أو النقد التاريخيّْ.

وعليه، أليس بحث الفينومينولوجيا هو ما قد صاغته أبحاث الصوفية القدماء تحت اسم “كشف المحجوب” أي كشف النقاب عن الأشياء المختفية؟ أليس هذا ما يعرف تحت مسمَّى التأويل Tawl(C) والذي يُعدُّ أساسيًّا في التفسير Hermenutic الدينيِّ للقرآن؟ فالتأويل هو نسبة الشيء إلى أصله، إلى طرازه الأصليِّ، وفي سبيل إرجاع الشيء إلى أصله يجب أن يمرَّ بمستويات متعدِّدة لبنائه، وبهذه الطريقة يمكن حلُّ جوهر الشيء. لذا، فالبناء هنا يعني ترتيب المظاهر ونظام التجليات المعطاة للجوهر.

هذا هو تقريبًا معنى الفينومينولوجيا، وهذا ما يجب عمله لكي نضع مهمة الفلسفة المقارنة في مكانها، وهذا ما يجب فهمه على أنَّه تمييز واضح لها عن مفهوم تاريخ الفلسفة، ولنقل أيضًا إنَّ الحذر من هذه الأخطار أصبحت ملجأ عند بعض الفلاسفة الغربيين في وقتنا هذا، ولكي نفهم ذلك، وفي الوقت نفسه نستوعب مفهوم الفلسفة المقارنة، وأقصد بالطبع هيغل Hegel وفينومينولوجيا الروح، حيث أنَّ الفيلسوف الغربيَّ المعاصر في وقتنا هذا لا يستطيع تجنُّب الإشارة إلى هيغل بطريقة أو بأخرى، فنحن أيضًا سنفعل ذلك كي لا نقبل تبعيَّة برنامجه علينا، وإنما بالأحرى لكي نتخلص منه، وفي هذا الوقت فقط نعرضه، ونحدِّد ما الذي يجب فعله لمعارضة التاريخية التي تعتبر شكلًا بلا أمل لإنقاذ الظواهر من دون اللجوء إلى أي جدل   مهما كان.

ونسأل هنا: لماذا ندعي أنَّ التاريخية هي نتيجة تحلُّل أو تحطُّم مذهب هيغل؟ كما نسأل أنفسنا ما هو مكان التاريخ؟ وما الذي يتكون منه تاريخ الإنسان بالضبط وما الذي لا يتكون منه؟ وبعد ذلك، فإن الطريق سيكون مفتوحًا أمامنا لاستخلاص ثلاثة مواضيع نموذجيَّة من الفلسفة التي تمَّ اتخاذها في إيران كفلسفة أساسيَّة، مع مراعاة وجهة نظر البحث المقارن، وهذا سوف يسمح لنا بالانتهاء عن بعد من تحرِّي معنى المشروع الغربيِّ، وليس هذا فحسب، بل أيضًا مغامرة تغريب العالم. إنهما شكلان للظاهرة نفسها، إلَّا أننا لا نستطيع أن نخلطهما بعضهما ببعض. وهذا المشروع المزدوج سوف يعلمنا كيف أنه إذا ما كانت هناك أية شرقيَّات Orientals باقية في العالم اليوم – وهذا بالمعنى الذي يفهمه السهروردي من هذه الكلمة – فإنها لا تنتمي كليَّة إلى أيٍّ من الغرب أو الشرق الجغرافي لعالمنا.

 

2-كيف نحرِّر أنفسنا من النزعة التاريخيَّة؟

إنَّ فينومينولوجيا الروح – كما أدرك هيغل- هي من دون شكٍّ إحدى العلامات المميَّزة للفلسفة الغربيَّة. وهذا ليس تقديرًا شخصيًّا، وهي لا تعني علمًا وضعيًّا كما يعتقد، وهو ما قد فجر مذهب هيغل، بل إنها قمة فينومينولوجيا الروح، والتاريخ هو الذي فعل ذلك، فما الذي نقصده من ذلك بالضبط؟

إنَّ اللغة السياسيَّة الدارجة التي انتقلت إلى الفلسفة عند الجيل الأول من تلاميذ هيغل قد أدت إلى الحديث عن اليمين واليسار الهيغلي، وكان اليمين الهيغلي ممثَّلًا   بهؤلاء اللَّاهوتيين الذين كانوا يُعرفون بالتأمُّليين، وذلك بالمعنى التقنيِّ لهذه الكلمة (التي اشتُقَّت من الكلمة اللَّاتينية Speculum، أي المرأة)، والذين يقرأون هيغل  بالطريقة نفسها التي يقرأون بها للثيوصوفيين الكبار أمثال السيد ايكهارت M. Echart ويعقوب بوهمه J. Boehme اللذين كان هيغل يكنُّ لهما إعجابًا عميقًا. ولكن، لسوء الحظ، فإنَّ هذه الطريقة لقراءته لم تستمر، والهيغليَّة التي تمثِّلها قد ذهبت بعيدًا إلى تفسير أحاديِّ الجانب ومختلف تمامًا، هو التفسير الذي ظهرت قسوته ودهاؤه في القرن التاسع عشر، فقد كان هناك منذ البداية لبس يثقل على النسق بأسره، وعلينا أن نتعمَّق أكثر إلى جذوره، في ضوء الفلسفة المقارنة، التي تملك آفاقًا جديدة ما زالت غير معروفة حتى الآن، أو على الأقل مجهولة في زمن هيغل، وتظلُّ حقيقة أن هذا الالتباس الأصليَّ الذي أتاح بحقٍّ للتاريخ أن يفجِّر المذهب الهيغليّْ.

ماذا سيكون في النهاية – من ناحية الأثر – موقف الفينومينولوجيا؟

إنَّ الروح المطلقة قد وجدت طريقها، لقد اكتملت العصور، واكتمل التاريخ،    وما يُطلق عليه الآخرة في لغة اللَّاهوت كي يدلَّ على أحداث يوم القيامة، أدركناه بأنفسنا. وبالتأكيد إذا قام أيٌّ من التأمُّليين الثيوصوفيين بقراءة هذه الأشياء وفهمها على أنها شيء تام بذاته في “الملكوت” Malakit – أي عالم الأرض السفلى، أو عالم الروح، وليس في عالم الأرض التجريبيَّة أو الموضوعيَّة التاريخيَّة فسوف يدهش أو يصدم في مفاهيمه. ولسوء الحظِّ، ففي النص الهيغليِّ ذاته هناك العديد من الأشياء تمرُّ في هذا العالم وفي صورة من صور الإيمان بالأخرويَّات. لقد اكتملت هذه الأحداث (مثل: نابليون ومملكة بروسيا) وكان على التاريخ أن يتوقَّف.

لكنه لم يتوقف، واستطاع الاستمرار كونه اتخذ مذهبًا أخرويًّا تألق في هذه الآونة وأعطاها اتجاهًا من هذه الأخرويات، حيث تركها وراءه بدلًا من أن تكون أمام عينيه. لقد انحرف التاريخ وأصبح يبحث في يأس عن اتجاه له ولم يكد يجده، وبفقدان الاتجاه أصبح مجنونًا (أردِّد أيضًا كلمات الشاعر الإنكليزي تسيسترون Chesterton والذي أوضح أنَّ العالم في وقتنا الحاضر مليء بالأفكار المسيحيَّة التي أصابها الجنون). نحن ندرك جميعًا النشاط المأساويَّ للعلمانَّية، للمذهب اللَّاهوتيِّ، والذي تأسَّس على وجهة نظر أخرويَّة، على توقُّعات مستمرة وأساسية. أمَّا الحدُّ من هذه التوقُّعات فيعني أن ندفع بالأخرويَّات إلى أخطار التاريخ.

إنَّ الأخرويات الحالية تصنع أساطير زائفة من الناحية التاريخيَّة تزهق ضمائرنا، فكيف يمكننا اكتشاف معنى للتاريخ، أو اتجاه له في غياب أي علامة تحول وراءه، أي نقطة استطاع فيه أن يجهد نفسه أو أن يطلق سراح نفسه؟ هذا هو المقصود: بلا ميتا- تاريخ وبلا بعد يتخطى التاريخ.

إنه لمن المهم بالنسبة إلينا أن نضع هذه المأساة نصب أعيننا، لأنَّ التوقُّعات الأخرويَّة متأصلة في أعماق ضمائرنا نحن أهل الكتاب، وهذا ما يجعل عدم استسلامنا لأخطار التاريخ أمرًا ممكنًا، وإذا لم نكن على حذرنا من ذلك، إذا كنا نسعد برضا ذاتي معيَّن، هو في الحقيقة ضدُّنا، فإننا سنجد أنفسنا مهدَّدين بأن نصبح من المنغمسين في الملذَّات، وبالتأكيد فإنَّ السرَّ في هذا الترتيب الكونيِّ المسرحيِّ مجرَّدًا من معانيه بسبب آخرته، أو نظراته المحتومة التي لا يمكن تصوُّرها أبدًا. ويمكن أن يدعونا إلى إرجاعها ثانية إلى أصولها اللَّاهوتية والتي تعتبر أنَّ كلَّ مذاهبنا الأيديولوجيَّة السياسيَّة، الاجتماعيَّة في الغرب في القرن التاسع عشر ما هي إلَّا أشكال مختلفة من العلمانيَّة، أين هو ذاك الشعار القائل بالروح المطلق والذي تكون فيه الإنسانيَّة هي الأساس في أعمال فيلسوف مثل هيغل؟.

لقد أشرت في مكان آخر إلى الاختلاف مع هذا الشكل المسمَّى بالروح القدس، والذي يرى فيه فلاسفتنا التقليديون العقل الفعَّال، الذي هو ملاك الإنسانيَّة، وفي  الوقت نفسه ملاك المعرفة، وملاك الوحي، وإلى محاولات فهم وإدراك أشكال هذه القوة النشيطة عن طريق ملاك الروح القدس، الذي أعتبره قاعدة للإنسانيَّة، والذي يعتبر هو تلك الشفقة لهذه القاعدة، إلَّا أن هذا الروح القدس ليس هو الروح المطلق الهيغليَّ، والتي كانت تسمِّم الإنسانيَّة عن طريق تأليهه، لكي لا نقول تعطيه نوعًا من الدوار بسبب مصائبه، ومن وقت إلى آخر أحاول أن ألقي نظرة خاطفة على ما يمكن أن تكون عليه «فينومينولوجيا الروح» إذا أعدنا التفكير، وأعدنا بناء هذا العالم كوظيفة لهذا الروح القدس، الذي هو وفقًا للغنوصيَّة الإسلاميَّة يعدُّ على التوالي وحي الأنبياء والفلاسفة على السواء، ولن أركز على هذا في هذه اللحظة، لأنه من مهام الفلسفة المقارنة القادمة والتي لا يمكن للإنسان أن يحاول صياغتها من دون “خوف ورعدة”.

من الأفضل الآن أن نأتي إلى الموضوع الأساس لهذه الدراسة وهو: كيف يمكن لفلسفتنا المقارنة أن تباشر مهامَّها بتحرير نفسها من أخطار التاريخ بطريقة فينومينولوجيا، التي تركت نفسها معرَّضة لكارثة الهيغليَّة؟

ربما تكون هناك حلقة وصل بين اختفاء الأخرويَّات من ناحية، متضمنة – سقوط في التاريخ من دون نهاية أو حد، Protology وعلم الآثار القديمة، كما يمكن أن نطلق عليه، وهو البحث في أصل كلِّ ما هو قديم أو حديث من دون التعاطف مع كل ما هو قديم، أنَّ المنظور الأخرويَّ (كما في الزرادشتيَّة) يعني التوحيد أو الإحياء النهائيَّ لكلِّ الأشياء في أصلها النقيِّ الصافي مرَّة ثانية بعد الانتهاء من مأساة هذا العالم. هذا المفهوم كان الضمان الكافي ضدَّ كلِّ تهديدات الموت، وحينما ينتهي هذا الضمان فكلُّ شيء يحدث وكأنه معركة قد اشتعلت ضدَّ الموت، ليس للبكاء على الأطلال التي اختفت فحسب، لكن أيضًا لإنقاذ الحضارات البائدة بعد الموت والنسيان ويا لها من أعمال عظيمة وكفاح متتال ذلك الذي قام به الغرب في القرن الماضي لاسترداد أو إحياء الحضارات البائدة! إن الغرب يجب أن يفخر لعمله هذا، لأنه عمل لم يسبق له مثيل، ولكن في قلب هذا الكم من الانتصارات نحس بالكم نفسه من الألم، فهل إعادة اكتشاف عصور الإنسانيَّة البائدة يعوِّضنا عن فقدان شعورنا بالبعث أو الآخرة؟ هل يمكن أن يفتح لنا الأبواب على مستقبل يتدفَّق في ما وراء هذا العالم، تلك الأبواب التي كنا قد أغلقناها أمام أنفسنا؟

لا بدَّ من القول أنَّ علماء الآثار ودارسي ما قبل التاريخ لم يقصِّروا في ترتيب الآثار التي أعادوها إلى النور ثانية في خطَّة زمنيَّة دقيقة، تلك الدقَّة التي لا تترك هامشًا للشكِّ وعدم الاتفاق، لكن حين ننجح في هذا الوصف الزمنيِّ فما الذي سنستفيده بالتحديد؟ هل سيقوم عالم الآثار بالسماح لنا باكتشاف آخرة الأخرويَّات؟ من الذي سيجرؤ على أن يذهب إلى هذا الحدِّ؟ بالتأكيد هي ليست الفلسفة التاريخيَّة حيث إنَّ ذلك من الأشياء التي علمها عند الله، ولكن الفلسفة التاريخيَّة ترضي نفسها بتأسيس مذاهب أيًّا تكن أنواعها، إلَّا أنَّ فاعليَّتها عرضة للانتقاد بدرجة كبيرة. وفي الحقيقة، فإن هذا التفسير نادرًا ما يبقى صالحًا إلَّا لجيل واحد فقط، ومن الملاحظ جيِّدًا أنَّ مجموعات دوائر المعارف التاريخيَّة الكبرى يجب أن يُعاد النظر فيها وصياغتها ثانية مرة كل ثلاثين عامًا.

وسط كل قواعد التفسير قليلة الفائدة التي أعدَّها البشر لأنفسهم، هناك هذه العقيدة، السببيَّة الزائفة، رغم أنَّ كلَّ أيديولوجيَّة لم تكن إلَّا بنية فوقيَّة ترتفع على بنية أساسيَّة لنظام اقتصاديٍّ – اجتماعيٍّ، عقيدة محولة اعتباطيًّا إلى قاعدة للتفسير تظلُّ هي نفسها غير مفسَّرة، حيث أنَّه لم يعد مقبولًا أن يكون حدوث كلِّ شيء على النقيض ممَّا يجب أن يكون عليه: أليس الإنسان هو من يدير هذا العالم! واجبه الاقتصاديُّ والسياسيُّ في العالم وظيفة لهذا المعنى الذي يعطيه لوجوده، لدخوله وخروجه من هذا العالم. وباختصار، طبقًا لرؤيته لعالم آخر من دون البحث بلا جدوى عن اتجاه له فيه. وفي هذه الحالة، فإنَّه لوهم صاف أن نحوِّل التطوُّر الاجتماعيَّ الاقتصاديَّ إلى قاعدة تفسيريَّة عندما تكون هي نفسها قابلة للتفسير في نطاق ما لعمليَّة أكثر تميُّزًا، وكلُّ شيء سوف يعتمد في الحقيقة على التدهور أو الهروب القويِّ لما وراء الطبيعة. إنَّ الإنسانيَّة التي ليس لديها أي علم عن أصل الكون لا يمكن أن تنظِّم العالم بإعطاء نفسها أهدافًا إنسانيَّة، ويكون مجهودها متَّجهًا إلى تضييع قوى ينفذ إلى وراء عالمنا؟ إنَّها إنسانيَّة هربت من أخطار التاريخ لتفقد عقلها بفقدانها اتجاهها.

والآن، ماذا عسانا أن نقول إذا كنَّا كفينومينولوجيين وكفلاسفة نرتفع ضدَّ هذا المفهوم الذي لا يمكن أن يتصوَّر الأشياء إلَّا طبقًا لتكوينها الزمنيِّ والتي تطلق على نفسها التاريخانيَّة؟

  • إنَّها ليست مسألة الإقلاع عن الدراسات التاريخيَّة بالتأكيد! فالإنسانيَّة التي تتوقَّف عن التعمُّق في دراسة تاريخها هي إنسانيَّة فاقدة للذاكرة، وحتى اليوم ربما يكون هناك خطر مؤجَّل، إذا لم يكن كذلك بالفعل؟ فكيف يمكن وجود بعض التصريحات أو القرارات التي تتضمَّن عن طريق مباشر وغير مباشر مصير الإنسانيَّة كلِّها وتدلُّ على جهل بالتاريخ لا يمكن تصديقه؟ وعندما يعلن حقيقة أنَّه يوجد على العكس من ذلك – بين الجيولوجيين وعلماء المعادن من يعرفون تمامًا إلى أيِّ مدى يرجع موضوع أبحاثهم العلميَّة في الماضي. وبعد ذلك أين توجد مصادر الطاقة التي كثر الحديث عنها في وقتنا هذا إذا لم يكن لها أصل في الماضي السحيق للأرض؟ أين هو مستقبل أيِّ نهر من الأنهار؟ هو هو عند مصبِّه عندما يبدأ في فقدان مياهه في المحيط، أم هو بالأحرى عند مصدره؟ لعلَّ علومنا الإنسانية لا تنسى هذا.

إنَّ احتجاج الفلاسفة ضدَّ ما يُطلق عليه التاريخانيَّة لا يتعلَّق بأيِّ صورة بمثل هذه النظرة البسيطة، فما يوجد في عقولهم هو:

  • أنَّهم يضعون أبصارهم بالتحديد أمام هذا المفهوم الذي يوضح ذاته مع انحراف الوعي التاريخيِّ عن الوضع السويِّ، والذي يدَّعي أنه يفيد معنى ومجال المذهب الفلسفيِّ إلى العصر الذي يظهر فيه كما لو كان هذا العصر هو المفسِّر الوحيد له. إنه دائمًا الهوس أو الجنون نفسه، فحالة المجتمع تعتبر كالمعطى الأول عندما نكون بالفعل نتيجة إدراك العالم الذي سبق كلَّ ترتيب تجريبيٍّ للأشياء. فوجهة نظر الدراسات الدينيَّة تمَّ تزييفها كليَّة، أنَّ الناس يقولون عن الفيلسوف إنَّه ابن عصره تمامًا، لكن هذا التفسير يغفل ببساطة كون الفيلسوف أولًا هو نفسه عبارة عن زمنه، لأنه إذا كان فيلسوفًا حقيقيًّا فيرتفع فوق ما اصطلح عليه تعسفيًّا تحت اسم “عصره” لأن هذا العصر أو الزمن ليس على الأقل زمنه حيث هو الوقت المجهول للعالم بأجمعه.

وهنا نقترب من مواجهة السقوط الكبير لما يسمَّى بالفكر الحديث، والذي يغلق بشدَّة كلَّ المنافذ التي يمكن أن تؤدِّي إلى ما وراء هذا العالم، هذا هو ما يُعرف باسم “اللَّارادية”، وقد استخدمت لأغراضها علم الاجتماع والتاريخانيَّة والتحليل النفسيَّ واللسانيَّات أيضًا، وبدلًا من إنقاذ الظواهر فقد بدَّدتها تمامًا، رافضة أيَّ معنى تصاعديٍّ لما يمكن أن يمثِّل أمنًا زائفًا لاستحالة إقامة ميتافيزيقا صالحة.

ولكن لماذا يتعيَّن علينا أن ننحني أمام هذا القرار؟ أكان يجب أن يكون الذريعة التافهة لننحاز إلى زماننا؟ وفي هذه الحالة، إذا كان بمقدورنا أن نرى الأشياء تبعًا لطريقة السهروردي شيخنا الشرقيِّ (شيخ الإشراق)، فسوف نسرع في إعلان الانفصال.

بالنسبة إلى “شيخنا الشرقي” كانت هناك، على سبيل المثال، أرصاد الفلكيين التي استمرَّت صلاحيتها حتى عندما ظهرت أشياء أكثر دقَّة وحتى هؤلاء الذين لم يكونوا فلكيين كانوا على ثقة كبيرة بهم. وكانت هناك ملاحظات الفلاسفة والروحانيين الذي نفذوا إلى الملكوت، أي إلى ذلك العالم السفليِّ الخفيِّ، أي إلى عالم الروح. ولعل ملاحظتهم نالت الثقة نفسها التي نالها الفلكيون، والذين لم يتفكَّروا في الملكوت من قبل أن كانوا يعتبرونهم مرشديهم. فما هي القيمة التأثيريَّة للنقد الموجَّه ضدَّ هؤلاء الذين رأوه رؤى العين في الواقع من بعض الناس الذين لم يروا أي شيء؟

أعرف أن الموقف كان جزئيًّا ولكنني أعتقد أنَّه في عصرنا سيكون في تمثيل الفيلسوف ضمير مسئولَّيته، جراءة السهروردي ويتخذها لنفسه.

إن الذي أشرت إليه الآن كحدس الماهيَّة: Wesenschau في فكر السهروردي يمكننا أن نطلق عليه رؤيا الأشياء في الملكوت. فالتاريخ الذي يشكِّل في الفيلسوف رؤيته هو نقطة تحوُّل لا أكثر، والذي يجعل الثيوصوفيَّة الشرقيَّة حقيقة ليس كونها تأسست في الحقيقة من 582هـ- 1187م على يد السهروردي،ِّ ذلك أنَّ هذه الرؤية لا تحدث في هذا العالم ولكن في الملكوت، وليس في زمن هذا العالم، لكن في زمن الملكوت. وعليه، فعدم تقييم هذه الرؤية ورفض مضمونها هو ببساطة تدمير للظاهرة، وهذا ما يفعله النقد العقلانيُّ التاريخيُّ، وبالتأكيد فهو ليس هدف الفينومينولوجيا.

  • ينشأ من هذا النقد الأساسيُّ والذي نضعه في مستوى النقص التاريخيِّ للمفاهيم الميتافيزيقيَّة نقدًا آخر، والذي يعتبر من ضمن المبادئ السابقة، يظهر ضدَّ الادِّعاء بتغيير شعار الحدث وإثباته إلى أحداث هذا العالم وليكن إدراكه حسيًّا بالوسائل التجريبيَّة، وإثباته عن طريق أيِّ شخص، أو عن طريق تسجيله في الأرشيف، لا نفي الحقيقة. فهناك أحداث أخرى ليس لها الحق الكامل بأن تكون في مرتبة الحدث ولكنها ليست عرضة لمعاييره التجريبيَّة. هذه هي “الأحداث في السماء أو في الجنة”، في الملكوت كما في مقدِّمة ونهاية الجزء الثاني من “فاوست”.

إنَّ الضعف الكبير لهذا العصر في كونه لم يعد قادرًا على استيعاب حقيقة أحداث من هذا النوع، لذلك فهي تحبس نفسها داخل إطار مشكلة “الأسطورة” أو التاريخ؟ وأيُّ شيء لا يمكن تأسيسه منة دون شك كشيء تاريخيٍّ بالمعنى التجريبيِّ للكلمة نسمِّيه “أسطورة” أو خرافة والتي تُعتبر إلى حدٍّ كبير شيئًا غير حقيقيٍّ، ثم تسقط في الفخ الساخر لهذه الأيام والمسمَّى عدم الإيمان بالأساطير لأنَّه لم يعد لها أيُّ رغبة في إظهار ترتيب الأحداث والتي ليست بأسطورة أو تاريخ؟

في الواقع، إنَّ المفهوم السائد هذه الأيام هو إظهار الإنسان كما هو كائن في تاريخ، هذا هو المفهوم السطحيُّ للتاريخ والذي يخضع لسراب السببيَّة التاريخيَّة والتي نقدمِّها – فهو مفهوم مضادٌّ في وضعه، لا يكون للتاريخ الخارجيِّ للظاهرات التاريخيَّة أي أساس فيه. هذه النظرة تضع في اعتبارها أنَّ التاريخ هو الإنسان، وثمة شيء مثل التاريخ قد بدأ مع الإنسان لذلك يحضر معه أساسًا شيئًا يعدُّ دائمًا سابقًا للتاريخ، لا يتوقف عن اصطحابه معه، وسيكون ملاذه ضدَّ التاريخ الخارجيِّ.

إنها إذن، مسألة تاريخ داخليِّ أو تاريخ خفيٍّ بالمعنى الدقيق للكلمة، التاريخ الباطنيِّ الذي لا تتمُّ أحداثه في العالم الخارجيِّ للأشياء، لكن في العالم الكامن الداخليِّ للحالات المعاشة، أحداث في الملكوت، في عالم الروح في “السماء” أو في “جهنم” التي يحملها الإنسان داخل نفسه.

ولا بدَّ من القول أنَّ هذه الأمور التي تنتج من كلِّ مناسبة مختلفة لرغبات الإنسان، تشيِّئ نفسها بالتساوي في التاريخ، وتعتبر أحداثه في الواقع تتَّخذ لنفسها مسرحًا في الملكوت حتى ولو كانت أحداثه ومآثمه تنطبق على سيناريو ينتمي شكلًا إلى هذا العالم. لكن هذه الأحداث يمكن إدراكها والتعرُّف عليها عن طريق أداة غير المعرفة التجريبيَّة أو الميتافيزيقية أو التاريخية، أن هذه أحداث الملامح البطولية (مثل أحداث الافستا أو الشاهنامة، أو أحداث أسطورة الكنائس المقدَّسة).

مرة ثانية نقول إنَّها أحداث التاريخ الخفيِّ الداخليِّ والتي تكون أكثر الروايات صدقًا. ولنتحدث بتفصيل أكثر، هي التي تصنع التاريخ المقدَّس، وإذا أردنا أن نتجنَّب أي تدخُّل بالتاريخ التجريبيِّ فلنقل ببساطة أحداث المتغيِّرات الدينيَّة Hierologies أو الأشياء المقدَّسة.

ولكي نفهم هذه الأحداث يجب أن ينتمي الإنسان نفسه بطريقة أو بأخرى إلى هذا التاريخ المقدَّس، كما يحدث أن يمرَّ في الملكوت، أي إن أمكن القول في الإنسان الداخليِّ، والدليل أنَّ هؤلاء الذين لا يؤمنون بذلك ينكرون حقيقة تميز هذه الأحداث عندما يكونون غير مهتمين باحترامها بأيِّ وسيلة، نحن جميعًا نعرف السؤال القرآني، العرض البلاغيَّ الذي طرح على الإنسانيَّة كلِّها ممثلة في الإنسان الأول: ألستُ بربِّكم؟ ألستُ أنا سيدكم؟ بالتأكيد، هذا ليس بتاريخ بالمعنى المتداول للكلمة ذلك لأن هذه المسألة حدثت قبل زمن عالمنا الحاليِّ، لكنها ليست بأسطورة بالمعنى المعتاد للكلمة، ويمكنني مضاعفة الأمثلة المأخوذة من الإنجيل ومن القبالة لدى اليهود ومن القرآن والحديث، فهذه الأحداث تعدُّ من نوع مختلف تمامًا عن أحداث حملات يوليوس قيصر أو حكم نابليون بونابرت التي يمكن أن تسجل في كتب التاريخ. وللإنصاف، ومن أجل إعطاء هذه الأحداث قدرها، فهي تعني إدراك الحقيقة الخاصة بها في عالم وسيط، والذي كان الهدف الخاص لأبحاث فلاسفتنا الإيرانيين “عالم المُثل”، وهو ليس خياليًّا على الإطلاق ولكنه البرزخ Barsakh(D) (4) أي المساحة بينهما، أو المسافة الوسيطة بين المحسوس والعقليٍّ.

والآن يمكنك رؤيتها: سواء أكانت مسألة تأسيس ظاهرة التاريخ الخارجيِّ كما هي متأصِّلة في التاريخ للإنسان، أم تلك التي في العالم الوسيط التي هي الشواهد المرئيَّة لهذا العالم الداخليِّ للإنسان. فلكي يفهم هذا المعنى، ولإنفاذ الحقيقة، يتطلَّب الأمر اعتماد الوسيلة نفسها وهي “كشف المحجوب” الذي يكشف النقاب عما يوضح نفسه، بينما يظلُّ مختفيًّا في الظاهرة.

لقد قلت إنَّ هذه هي الفينومينولوجيا، وهذا هو تمامًا ما يفعله التأويل في أعمال الثيوصوفيين الروحانيين. هي ليست مسألة جدل تركيبي بل مسألة قيادة الملاحظ إلى نقطة يسمح لنفسه برؤية ما هو مختفٍ، وهذا هو التأويل أساسًا. فلا يساوي شيئًا أن يكون كلُّ ما تقدَّم، له أصول لاهوتيَّة بين الفروع الثلاثة الكبيرة لأهل الكتاب.

  • نحن الآن في موقف أفضل لنفهم مهمَّة الفلسفة المقارنة، ولنرى كيف أنَّها لا تهتم بالترتيب الزمنيِّ لتاريخ الفلسفة، ولا بغرض بناء فلسفة للتاريخ. سأذكر مثالًا يمسُّنا في إيران بملحوظة مألوفة، حيث سأشير ثانية إلى السهرورديِّ. فإذا كان “شيخ الإشراق” قد اعتقد كما قيل عنه في وقتنا، أنَّ الفلسفة ليست إلَّا بنية فوقيَّة تعكس حالة مجتمع ما في لحظة معيَّنة، بنية فوقيَّة قد هجرت عن طريق البنيَة السفلية السابقة عليها، فلن يكون الباعث لفلسفة النور في إيران والتي كان قد مارسها، حكماء فارس القدماء. لقد كان قراره كافيًا لإلغاء الفجوة الزمانيَّة، ومنذ ذلك الحين حتى الآن كان الخسروانيَّة Khasrovanuyum في إيران القديمة السابقين للإشراقيين الأفلاطونيين في فارس، وهذه ربما تُعتبر نظرة للروح بالنسبة إلى المؤرِّخ المؤمن بالمادِّيَّة التاريخيَّة الوضعيَّة. وبالنسبة إلى الفينومينولوجي فهي واقعة روحيَّة صالحة الأساس، رغم كلِّ العواقب التي ستتلوها.

وعند فهم وجهة النظر هذه، سوف أسوق ثلاثة أمثلة توضح لنا من البداية الدور الذي يمكن أن يقوم به الفلاسفة الإيرانيون، ويأخذوه على عاتقهم من بين المهام المتعدِّدة للفلسفة المقارنة. ولقد تجنَّبت والتففت حول موضوعين آخرين مقارنين في الملاحظات السابقة: من ناحية “ميتافيزيقا الروح” التي تقوم على مطابقة القوَّة العقليَّة للفلاسفة والروح القدس للوحي، ومن ناحية أخرى “ميتافيزيقا الخيال”، مؤيِّدًا فينومينولوجيا “البرزخ” أو “عالم الخيال”. فقد تعاملت مع هذه المواضيع في كتبي، لهذا أفضَّل أن أركز الانتباه الآن على ثلاثة مواضيع للبحث المقارن، والذي ما زال يعدُّ بالنسبة إليَّ في مرحلة التكوين، لذلك فلا تتوقَّع مني استنتاجات كاملة، لكن إلى حدٍّ ما تأكيدًا لمطالب أخرى على الخطِّ نفسه في المستقبل.

 

3- ثلاثة نماذج لقضايا مقارنة:

لا شكَّ في أنَّ مهمَّة المقارنة هنا محدَّدة جدًّا كون المواضيع التي تطرح نفسها لها جذور في الثيوصوفيَّة الروحيَّة، كما سلَّم بها حكماء المجتمعات الثلاثة الكبيرة للتراث الإبراهيمي. فالمشاركة الإيرانيَّة في هذه النقطة أضافت إليها هذه الملاحظة التي في صالحها، والتي ندين بالفضل فيها للسهرورديِّ، وقد نتجت من اندماج التراث النبويِّ الزرادشتيِّ لإيران القديمة في التراث النبويِّ للقرآن والإنجيل.

إنَّ أيَّ فلسفة مقارنة ترمي إلى السير في خطوط فينومينولوجيَّة يجب أن تتصرَّف بحصافة كبيرة. فالمقارنة لا تهتم فقط بالتشابهات، بل تأخذ في اعتبارها الاختلافات أيضًا، وربما تكون هذه التشابهات والاختلافات لها معنى بعلاقاته. وأعتقد أنَّ هذه هي الحالة بالنسبة إلى الموضوعات الثلاثة التي سوف أقدمها لكم الآن، وتتعلَّق بــ:

  • الأفكار الأفلاطونيَّة.
  • مذهب تكثيف الجوهر.
  • تحديد مهمَّة التاريخ المقدَّس أو مرحلة ما قبل التاريخ.

 

1-الأفكار الأفلاطونيَّة (المثل الأفلاطونيَّة) أو نماذج النور “المُثل النوريَّة” Mothal Nuriya: هي الموضوع السائد في فلسفة الإشراقيين الأفلاطونيين الفرس. فلنعُد قراءة بعض السطور لأفلاطون – ضمن سطور أخرى عديدة – لعلَّها تحيي ذاكرتنا عن بعض الخصائص الأساسيَّة لفلسفته: “هذه الأفكار تتضمَّن مجموعة من الأُسُس ذات شكل ثابت، ليست بمخلوقة أو فانية، لا تقبل بينها أيَّ عنصر أجنبيٍّ، ولا تحوِّل نفسها إلى شيء آخر، لا تدرك للعين أو لأيِّ حاسَّة أخرى، تعطي نفسها للعقل فقط (طيماوس Timaeus 52a).

لقد كان الإبداع الشخصيُّ للسهرورديِّ تفسير الأفكار النموذجيَّة، كما تصوَّرها أفلاطون، بلغة المذهب الملائكيِّ الزرادشتيِّ، الأفكار أصبحت ملائكة أو سادة العناصر أو الأنواع في هذا العالم، وفي الوقت نفسه هناك علم الكون الزرادشتيِّ والمندمج في الأفلاطونيَّة المحدَثة(5).

وفوق عالم الأفكار النموذجيَّة، تصوَّر شيخ الإشراق عالم الكائنات الأوليَّة للنور، عالم الأمهات والذي يمكن مقارنته بنيويًّا مع عالم Sefirat. في القبالة عند اليهود، يبدو لي أنَّ التقدُّم في دراسة أفكار السهرورديِّ، كما تبدو اليوم، وثيقة الصلة بالاقتراحات التي اقترحها درامستتير Darmesteter(E) منذ أعوام عدَّة مضت. وهذا الرجل ظلَّ كعلامة فخر لعلم للإيرانيَّات الفرنسيِّ في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وفي تعليقه على ترجمته لـ”الإفستا”، الكتاب المقدَّس للزرادشتيَّة، قارن الملائكة الرئيسيَّة في الديانة الزرادشتيَّة الخالدين منهم فحسب، ومفهوم القوى الإلهيَّة المقدَّسة لدى فيلون السكندريِّ الذي يعدُّ تأثيره على الفكر الدينيِّ الغربيِّ معترفًا به تمامًا.

والواقع أنَّ اقتراح دارمستتير لم تنتج منه أيَّة ثمار، لأنَّه يوجد القليل من الفلاسفة الذين اهتمُّوا بالمذهب الإيرانيِّ، ولكن لديَّ إحساس بأنَّ السهرورديَّ قد وافق عليها وبحماسة، ومن ثمَّ فأمامنا مجال واسع للدراسة المقارنة.

بالإضافة إلى ذلك، سوف نجد في الجزء الثاني من كتاب “مختارات من الفلاسفة الإيرانيين” عملًا بارزًا ندين بالفضل فيه لصديقي وزميلي البروفيسور سيد جلال اشتياني Ashtiyani . ولقد كنت مسئولًا عن الجزء الفرنسيِّ من هذا الكتاب، وهناك فصل طويل أيضًا مخصَّص لأحد فلاسفتنا الذي ما يزال حتى الآن غير معروف تمامًا، وهو ابن أجهاجاني Ibn Aghajani(6). فقد كان أحد تلاميذ ملَّا صدرا الشيرازي في القرن الثاني عشر، وترك لنا تعليقًا بارزًا على كتاب “الفحم المحترق” Burnig Cook لميرداماد الفيلسوف الكبير ومعلم مدارس أصفهان في عصر الدولة الصفويَّة. وها أنا أكرِّر الآن قصة ظهور واختفاء ثمَّ ما تلا ذلك من إعادة اكتشاف هذه المخطوطة الأصليَّة المكتوبة بخط اليد. فهذا الجزء بأكمله يعتبر مثالًا لهذا النوع من الروايات البوليسيَّة التي ليست بنادرة في السجلات التاريخيَّة للبحث العلميِّ، ومفاجآتها(F) أنَّ ميرداماد معلم ابن أجهاجاني، لم يكن إشراقيًّا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كان موقفه من الأفكار الأفلاطونيَّة يتقلَّب خلال رحلة حياته العلمية. وتبقى حقيقة أنه قد رمز إليها في كتابه العظيم بمصطلح غريب كنت اطلعت عليه بالصدفة، ولم أستطع تفسير معناه الدقيق، ولكن عند ظهور عمل ابن أجهاجاني إلى النور ثانية قد أعطانا مفتاحها أخيرًا(G).

ها هو ميرداماد يسأل قارئه: هل أتى إليك ما هو منسوب إلى “إمام الحكمة”، أفلاطون العظيم وأستاذه سقراط؟ هذا السؤال يشير إلى مذهب الأفكار الأفلاطونيَّة، لكن ميرداماد يطلق عليها هذا الاسم الغريب “الطبائع المرسلة” Tabau Marsala أو حتى “الجواهر المرسلة” Opastalic natures. والفضل يعود لابن أجهاجاني في معرفتنا أنَّ هذا المصطلح يشير إلى هذه الأفكار. ولعلَّ ما يدهشنا فعلًا هو وصفها بأنَّها “مرسلة” ومطلقة، ومصطلح “مرسل” هو أحد مميزات معجم مذهب النبوَّات. فالنبيُّ المرسَل هو نبيٌّ مبعوث للناس، لمدينة أو لمجتمع ما، ويجب تمييزه عن النبيِّ والرسول، والذي يكون مكلَّفًا بإظهار دين أو كتاب سماويٍّ جديد.

في هذا السياق، تبرز مشكلة  يجب وضعها موضع الاعتبار من بين أهم المشاكل في الفلسفة الأفلاطونيَّة، وهي: كيف يستطيع التوفيق بين تأصيل الفكرة وتصعيدها؟ فالفكرة يجب أن تكون متأصلة وإلَّا فلن يكون الهدف العقليُّ كما هو، لكن في الوقت نفسه يجب أن تظلَّ مصعدة جذريًّا، فهي ليست عرضة للتغيير، الميلاد، والتحلُّل أو الموت. وعليه، فالعلاقة بين الأفكار الأصليَّة للعالم العقليِّ، وحقائق العالم المحسوس، هي كما اقترح أفلاطون تسميتها بالمشاركة(7).

وفي معجم ميرداماد، هذه العلاقة لا نعبِّر عنها بمصطلحات التأصيل أو التجسيد، ولكن بمصطلحات مذهب النبوَّات والرسالة النبويَّة، وهو يدعونا إلى إدراك الأفكار الأفلاطونيَّة بأسلوب الأنبياء المرسلين في هذا العالم، والفلسفة النبوية للشيعة تدعونا إلى مفهوم نبويٍّ للفلسفة الأفلاطونيَّة، كاختلافها عنها مثلًا، أو كديانة نبويَّة للتجلِّيات بالنسبة إلى ديانة التجسيم.

إنَّ وظيفة الرسول هي أن يحدث تقابلًا عن طريق التجلِّي في العالم الوسيط، عالم المُثل (العالم المثاليِّ) أو العالم الخياليِّ، وهذا المفهوم من دون شكَّ يتوافق – على ما أعتقد – مع مفهوم السهرورديِّ وهمًا معًا يحدِّدان الخطَّ الزمنيَّ الأفلاطونيَّ في إيران، كل في وقته وفي عصره، ويبدو لي أنَّ هذا الشكل من الأفلاطونيّة واجه تفسيرات متعدِّدة على مرِّ القرون، لذا فإنَّ لدينا هنا طريقًا ملكيًّا – نادرًا ما تمَّ اتباعه من قبل – ومفتوحًا أمامنا للبحث في موضوعات الفلسفة المقارنة.

  • موضوع آخر لا يضيف شيئًا ذا أهميَّة لما سبق، ذلك الذي نشأ من عمل ملَّا صدرا الشيرازي (797هـ – 1571م)(8) أشهر تلاميذ ميرداماد، والذي سيطرت أعماله العبقريَّة البارزة على الفلسفة الإيرانيَّة طوال القرون الأربعة الماضية. فقد أحدث ثورة في ميتافيزيقا الوجود، من خلال عكسه ترتيب الأولويَّات المدروسة عن طريق فلاسفة ميتافيزيقا الماهيَّات العظام في هذا الحين، واعتبر أنَّ الماهية، أو كينونة الأشياء ثابتة وغير قابلة للتغيير، وأنَّ الوجود يمكن أن يحدث أو لا، وفقًا للحالة، فهي لا تغيِّر شيئًا في تركيب هذه الماهيَّات.

من ناحية أخرى، أعطى ملَّا صدرا الأسبقية للوجود، وهكذا فإنَّ طريقة الوجود هي التي تحدِّد طبيعة الجوهر، إذ هي بالفعل قادرة على عدد من الدرجات من التكيّف والتداني بالنسبة إلى ميتافيزيقا الماهيَّات. فتكوين الإنسان على سبيل المثال أو تركيب الجسم، هو من الثوابت. وبالنسبة إلى الوجود الميتافيزيقيِّ عند ملا صدرا فإنَّ كينونة الإنسان تتضمَّن درجات متعدِّدة، بدءًا من تلك الشياطين ذات الوجه الآدميِ، إلى الحالة السامية للإنسان الكامل. وما يطلق عليه الجسد يمرُّ خلال حالات متعدِّدة بدءًا من تلك الحالة الفاسدة للجسم في هذا العالم إلى الحالة الراقية، بل وحتى ما نسمِّيه الجسم الإلهيَّ Jism elahi. وفي كلِّ مناسبة، تعتمد هذه الإثارات على مدى التكثيف أو التهدئة على تداني الوجود، وملَّا صدرا هو فيلسوف النسخ والتناسخ(9).

يجدر القول أنَّ فكرة الوجود تستتبع فكرة أشكال الوجود، أو أشكال الماهيّة التي هي إحدى السمات العظيمة لفكرة الميتافيزيقيِّ، وهي بطبيعتها تعدُّ الطريق وتهيِّئ للفينومينولوجيا فعل الوجود.

لا يب في أنَّ هذه المسألة قد شغلت حيِّزًا كبيرًا لدى الفلاسفة المدرسيين اللَّاتين في القرن الرابع عشر، والذين اهتمُّوا بمل أطلق عليه في اللاتينية تكثيف أو تخفيف الأشكال De intensione et remissione Farmarum . وهذه المسألة تفترض أن هناك مجالًا للتغيُّر لعبت على حدوده تغيُّرات الكثافة النوعيَّة، وتمّ تحديده بأنَّه “نطاق الأشكال”. وهناك فلاسفة تساوي إبداعاتهم رهافة أفكارهم الفائقة ما زالوا متّصلين بالبحث المتعمِّق في هذا الموضوع، ومنهم خصوصًا جان الريباوي Jean de Ripa(10) الفيلسوف الإيطاليُّ الفرنسيسكانيُّ من القرن الرابع عشر، وما زالت أعماله بعيدة جدًّا عن إمكانيَّة نشرها كاملة، وهو أيضًا مثل ملَّا صدرا منذ قرنين ونصف قرن مضت، كان يجب عليه أن يصارع الفلاسفة القليلي الدهاء والذين يعتقد أنَّهم يمكنهم الإبقاء على الماهيّات آمنة من تنويعات التكثيف هذه، ومن تجريد فعل الوجود Variations of intensity and degradation.

ولكن، للسيطرة على هذه المسألة، بل وحتى على الفترة الزمنيَّة، نجد اسم نيقولاس أورسييم Oresme(11) الفيلسوف النورمانديَّ الذي كان أستاذًا في جامعة نافار Navarree، ثم أسقفًا في ليزيز(H). وقد أوحت عبقرية أورسيم إليه نهجًا جديدًا تمامًا لا يمكن تقدير كفاءته إلَّا بصعوبة، فأخذ على عاتقه إعداد بيان تخطيطيٍّ تمثيليٍّ للاختلافات النوعيّة، فلنفهم هذا جيِّدًا أنَّها ليست مسألة التحويل إلى إعداد كما نفعل عادة الآن، وليست العوامل الكميَّة مثل الأعداد والإحصائيات على الإطلاق، إنَّها مسألة ترتيب أورسيم بتوافق للبيانات التي كان متعذِّرًا اختزالها، وهي في الأساس نوعيَّة، وتمثيل عدديٌّ لهذه البيانات من خلال الوسيط، ليس في أعداد بل في أشكال هندسيَّة (المثلَّث، الدائرة، شبه المنحرف… إلخ). وبالتأكيد أنَّ هذه الأشكال وطبيعتها تخصُّ عنصرًا نوعيًّا معيَّنًا، ويجب ألَّا ننسى الشيء المدهش وهو أنَّ نقطة الانطلاق لهذه الأبحاث كانت لاهوتيَّة، وكان اللَّاهوتيون يسألون على الزكاة أو الصدَقة يمكن أن تزيد أو تنقص في الإنسان. واللَّاهوت الذي أصبح من البدع الآن انكار أيَّة فعاليَّة عمليَّة، له وجود في أصل المشكلة التي كرس لها أساتذة جامعة باريس أنفسهم خلال القرن الرابع عشر.

من ناحية أخرى، يجب أن نسأل مثلًا عمَّا هو تكثيف صورة أو لون من حيث النوعيَّة، هل يتعيّن إخفاء شكل قديم أو إضافة شكل جديد إليه؟ إنَّهم يبحثون في مسألة ما إذا كانت أحداث الروح يمكن أن تكثَّف أو تصبح أقلَّ كثافة، وما إذا كانت التسليم باقتراح أو اعتقاد يمكن أن يكثَّف أو يخفَّف. إذن، ما الذي يتوقف عليه الزيادة والنقصان؟

هنا، نجد الموضوع نفسه الموجود في ملَّا صدرا والمتَّهم بتكثيف وتجريد كلِّ الكائن، ثمَّ استمرَّ وتطوَّر بشكل مختلف تمامًا مع أورسيم الذي يمكن القول أنَّه أخذ على عاتقه مهمَّة ترتيب التنويعات بواسطة أمثلة هندسيَّة، أمثلة لها خصائص وحركات في الكائنات. لقد عبَّر عن امتداد الخصائص والحركات بطول أشكاله، وقوَّة هذه الحركات والخصائص باتِّساع أشكاله، وبفعل ذلك فقد مثَّل هندسيًّا المسافات التي يمرُّ من خلالها اختلاف حركة متغيِّرة (لاحظ أنَّها ليست مسألة حركة محليَّة فحسب، ولكن أيضًا التقدُّم النوعي للتغيُّر). وتكمن أهمية هذا الموضوع في أنَّه أفضل ما قام به حيدر آملي Haydar Amali(12). والذي كان أحد المعاصرين لأورسيم في القرن الرابع عشر في إيران، وتميَّز بذوقه ومهاراته في الفنِّ التخطيطيِّ أو البيانيِّ وذلك بإعطاء تمثيل هندسيٍّ للمسافات الروحيَّة. والواقع أنَّ معدَّل هذه البيانات ليس تشابهًا محكومًا بتركيب الأشكال الهندسيَّة فحسب، ولكنه بالأحرى تشابه مؤسَّس بالتوصيلات المحدَّدة بهذا الجبر الفلسفيِّ المعروف باسم “علم الحروف”، وعلى حدِّ علمي لم يتمّ تخصيص أيِّ دراسة مقارنة لهذا الموضوع.

صحيح أنَّ بعض مؤرِّخي العلم قد رأوا في هذه الطريقة في التعبير – عن الظاهرة النوعيَّة بمصطلحات كميَّة كما نجد أورسيم – شيئًا مثل البدايات الأولى لما قد أطلق عليه في العصر الحديث علم الفيزياء. وهناك نقطة أخرى أبعد يجب أن تتبادر إلى الذهن، فالذي تمنَّى أورسيم أن يجعله ممكنًا هو الحدس المكانيُّ “التأمُّل الخياليُّ” بفضل الأشكال الهندسيَّة الظاهرة نوعيًّا والتي بطبيعتها الذاتيَّة تبتعد عن التمثيل البعديّْ. وهو بذلك التقى ثانية مع ميتافيزيقا الخيال التي كانت بارزة في الشرح العظيم لبروكلرس Praclus(13) على “عناصر” إقليدس. ويقول فينومينولوجي إنَّ ما لدينا هنا ليس التحوُّل من علم نوعيٍّ إلى علم كميٍّ كما هو في عصرنا، أمَّا أنا فأعتبر أنَّ مؤرِّخي العلم بعيدون جدًّا عن الغرض الحقيقيِّ من مجهوداتهم ليجعلوا أورسيم المبشِّر بالهندسة التحليليَّة لأنَّ فكرة تبديل الأشكال الهندسيَّة بعلاقات جبريَّة لم تخطر بباله أبدًا. ولا شكَّ في أنَّ مثل هذا الإجراء كان يمكن أن يدمِّر اتجاه جهوده، الجهود التي كانت تهدف في النهاية إلى توضيح كيف يصبح الزمان مكانًا. ولهذا، أفضِّل القول أنَّ أورسيم كان يحاول أن يدرك نوعًا من العلم لا يزال في انتظار تطوُّره الحقيقيِّ، وبالتأكيد فإنَّ حالة البحث كما تركها يمكن أن توجِّه الباحثين عن الحقيقة إلى اتجاه جديد، ولكنه ليس ممكنًا استنتاج ضرورة منطقيَّة للعبور من إحداها إلى الأخرى، ولهذا فإنَّ الهندسة التحليليَّة كانت في أشدِّ الحاجة إلى وجود تفسير ديكارت، الذي ظلَّ أول وآخر تفسير لهذه الظاهرة.

ليس هناك ضرورة منطقيَّة تسمح لنا باستنتاج أفكار ديكارت من بين أفكار أورسيم، ولهذا، سنكرِّس أنفسنا بدلًا من ذلك للاستطلاع كفينومينولوجيين على كلِّ المجال المفتوح أمامنا بالإبداعات بفضل عبقريَّة أورسيم الحدسيَّة، وهو مجال ضخم.

وبالفعل، يمكن أن تمثِّل الموضوع الذي تحدَّث فيه الاختلافات النوعيَّة على شكل خطٍّ، أن خطَّيْ الطول والعرض هما الإحداثيان اللَّذان يمثِّلان هذه الاختلافات بيانيا واللذان يؤسسا معا السطح، إلا أن المرء يمكن أن يمثل هذا الموضوع من البادية بسطح منبسط ثمَّ تدرس الصلة التي تخبرنا عن كلِّ نقاط السطح. وخطُّ العرض هنا سوف يكون لخط على سطح مكوِّنًا بعدًا ثالثًا. ولكن هذه الصفة السطحيَّة لا ترهق فكرتنا عن الصفة، فالموضوع المعروف بهذه الصفة هو في الحقيقة ليس خطًّا أو سطحًا لكنه جسم صلب حقيقيٌّ. إننا الآن مهتمُّون بالصفة الجسديَّة، لكن إذا مثلنا هذه الاختلافات النوعيَّة الآن بجسم صلب ذي ثلاثة أبعاد، فالإنسان هكذا يمدُّ أسلوب التمثيل المستخدم من الأصل للصفات الخطيَّة والسطحيَّة للصفات الجسديَّة ذات الثلاثة أبعاد. ولكن إذا كان هناك الآن مثال ذو ثلاثة أبعاد يأخذ الدور الذي يلعبه خطُّ الطول في الحالات السابقة لكي يمثِّل ما يجب أن يكون هنا خطُّ العرض، فلا بدَّ من وجود بعد رابع هنا، ولسوء الحظ فإنَّنا لا نملك مثل هذا البعد.

مرة ثانية نقول إنَّه كان لدى أورسيم حدس عبقريٌّ، إذ اعتبر صفة الجسديَّة كما لو كانت مركَّبة من جسدين، تلك الناتجة من امتداد الموضوع في الأبعاد الثلاثة (للفضاء) المكان. وهناك أخرى هي تلك الموجودة في الخيال فحسب والتي تنتج من تكثيف الصفة المضاعفة بتعدُّد السطوح والتي يمكن اكتشافها في الطبيعة الداخليَّة للموضوع. لقد تحدثت عن هذا كحدس لعبقريَّة لأنَّه ظهرت فيها الفكرة العامَّة للجسديَّة، من مجرَّد حقيقة أنها تفترض بعدًا رابعًا، وتكمل نفسها في العالم الخياليِّ الذي تؤكِّده في الوقت الذي تفترضه فيه. إلَّا أن هذا العالم الخياليَّ للجسم الخفيِّ الذي أطلق عليه هنري مور(14) – أحد أفلاطونيي كمبريدج في القرن السابع عشر – البعد الرابع، وهكذا فإنه هو نفسه هذا العالم الخفيُّ الخياليُّ الذي قامت ميتافيزيقا الخيال عليه، والمحولة في فكر ملَّا صدرا إلى قدرة روحيَّة صافية تفترضه وتستكشفه. ولفت هنا إلى أتَّ ملَّا صدرا يرفض الافتراض بالجسديَّة التي ليست كاملة في العالم التجريبيِّ ذي الأبعاد الثلاثة، وتحت جذور موضوع الهياكل السماويَّة النموذجيَّة. إنه الهيكل الأرضيُّ لا يكون منتهيًا أو كاملًا بناؤه الحسِّيُّ ذو الثلاثة أبعاد المكانيِّة، إنما يكون كاملًا في مجموعة فحسب وفي الخفاء الذي يمكن تخيُّله.

في هذا السياق، نرى فيلسوفًا إيرانيًّا مثل القاضي سعيد القمي Qazi Said Qommi(I) (15) من القرن السابع عشر، قد طوَّر موضوع الطراز الأوليِّ السماويِّ للهيكل التكعيبيِّ بطريقة رائعة، وهذا هو الموضوع الذي يتطابق مع المعرفة الروحيَّة الإسلاميَّة لهذا الهيكل السماويِّ لأورشليم (القدس) كنموذج بدائيِّ للهيكل الأرضيِّ في القدس.

إلى ذلك، أشرت في مكان آخر إلى علاقة أساسيَّة بين أفلاطونيِّي فارس وأفلاطونيِّي كمبريدج هي أكثر من أن تكون مجرَّد تاريخ زمنيِّ، والذي يرى من خلالها أنهما كانا متعاصرين. وعلى ضوء أبحاث أورسيم نجد مجالًا للفلسفة المقارنة مفتوحًا أمامنا وهو من عدم التحديد والاتِّساع حتى أنَّه يسبب نوعًا من الدور، لكنني لن أصر  عليه حيث أنه الموضوع الذي سأبدأ في اكتشافه، ولكنني أعتبر أنَّ هنا المكان والزمان الصحيحين لجذب الانتباه إليه ولو لفترة بسيطة مؤقتة.

  • في النهاية، هناك موضوع ثالث استطعت أن أبحثه بتفصيل أوسع في مكان آخر، وبالتالي يكون ناضجًا بدرجة كافية ليكون موضع دراسة للفلسفة المقارنة. لذا سأتكلم باختصار، وبقدر ما أستطي. فنحن ندين للزرادشتيَّة بفضل المحاولة الأولى لما يمكن أن نسمِّيه تحديد مدة عصور العالم: الخلق، المزج أو الخلط Melange الانفصال Gumecishn. وهكذا فإنَّ عصور العالم قد انقسمت إلى الفصول الثلاثة المكوِّنة للدراما الكونيَّة، تثير أحدهما ضد الآخر، قوى النور اهراماذان Ohramazdian وقوى الظلام اهرامان Ahrimanian. هذه الفصول الثلاثة انتشرت في مدة اثني عشر ألف سنة، والتي تعتبر قيمتها كلمة حسابيَّة Aruthmosphuc وليست مجرَّد حسابيَّة، وفي النهاية فإننا ندرك عيد الظهور أو الغطاس لـ Seoshyant تجهيزًا لتغيير منظر العالم أو البعث.

نحن هنا نواجه توازنًا مدهشًا، فحديث الشيعة يصف لنا هبوط النور المحمديِّ على هذا العالم كشعاع يخرج من اثني عشر حجابًا من النور هم أنفسهم الاثنا عشر إمامًا، الذين يرمزون إلى عصور العالم الاثني عشر، والألف الثانية عشر فيها هي إمام البعث (قائم القيامات)  Qaim al Qiyamat. كذلك فإنَّ الشعور الشيعي كان قد نظم مدَّة عصور العالم في خطة اثني عشريَّة.

هنالك الكثير لم يأت بعد، فدائرة النبوَّة الشرعيَّة قد أغلقت وتبعتها دائرة الولاية، دائرة أصدقاء الله، أو دائرة الاستهلال الروحيِّ والتي حلَّ عقدها بعودة The Partousia الإمام المنتظر (الثاني عشر أو الإمام المختفي). لقد انتبهت في مكان آخر إلى التوازي في هذا التمثيل لعصور العالم بما يظهر لأول مرة في العالم الغربيِّ في القرن الثاني عشر في أعمال يواقيم الفلوري Joachim of Flora(16) وهذا الأخير أيضًا قد تمَّ تقسيمه إلى ثلاثة فصول، ولكنها كانت كلُّها تتوافق والثالوث المقدَّس.

إنَّ المملكة الثالثة هي تلك التي بها الروح المقدَّسة، الإنجيل الخالد، الروح القدس. وهنا يمكن أن يكون حيدر آملي مرشدنا في بحثنا، عندما أشار إلى أن من رمزت إليه الشيعة على أنه الإمام المنتظر هو نفسه المرموز له في المسيحية بالروح القدس.

ومع ذلك، فإنَّ الفينومينولوجيا المقارنة يجب أن تنتبه إلى نقطة أساسيَّة هنا وهي: لمن سيكون تحديد قيمة أزمنة التاريخ، وفي أيِّ مجال للرؤية سيتمُّ وضعه؟ بالتأكيد ليس في هذا المجال الذي يعتبر فيه الإنسان موجودًا في التاريخ. إلَّا إذا كان هذا التحديد سيفرض نفسه على كلِّ شخص كما تفعل الوقائع مثل حكم قيصر ونابليون، وهذا أبعد ما يكون عليه الحال! فمعنى هذا التحديد ينطبق أساسًا على هذا المجال الشعوريِّ الذي يكون التاريخ فيه موجودًا في الإنسان، لهذا فإننا نتعامل هنا مع التاريخ المقدَّس والذي تتمُّ أحداثه في الشعور الداخليِّ للإنسان والذي يكون إحساسه الداخلي موجودًا في التأويل، بتفسير روحيٍّ ولنطلق عليها فينومينولوجيا، التي هي كشف المحجوب، كشف النقاب عن السرِّ الخفيّْ.

لنلاحظ ذلك! عندما يترك الإنسان نفسه يجرف في التاريخ فإنَّه يستطيع أن يختبر كلَّ فلسفات التاريخ كما يحلو له، إنه يتجاهل كل الميتافيزيقا، ويستطيع أن يتصرف كاللاإرادي تمامًا، لكن هذا لا يعدُّ ممكنًا عندما يدخل التاريخ ويتمُّ إدماجه مع شعور الإنسان، فالأحداث هي أحداث الروح، إذ إنَّ لها بعدًا تصاعديًّا. لم يعد بإمكان الإنسان اللعب على ما يحبه من الفلسفة اللَّاإراديَّة للتاريخ فقط هؤلاء الثيوصوفيون مثل فرانز فون بادر F. Von Baadr(17) أو شيلنج Schellin الذين يمكن تسميتهم وبحقٍّ فلاسفة التاريخ والذين يمكننا اتِّباعهم الآن.

في ضوء ما تقدَّم، أعتقد أن الموضوعات الثلاثة التي قدمها لكم هي بحق ثلاثة أمثلة للاتجاهات المقارنة.

 

 4 المغامرة الغربيَّة ومغامرة التغريب:

 

لكي نختم القول يبدو لي أنَّ هناك مواضيع من هذا النوع يمكن أن تضعنا على نقطة حيويَّة عندما تدعونا فلسفة مقارنة إلى تقديم أوليٍّ، ومن هذه النقطة الحيويَّة ربما أمكننا أن نلتقط ومضة خاطفة من الضوء الجديد حول مُعطى هذه المشكلة التي لا يمكننا أن نحوِّل نظرنا عنها، هي مشكلة مواجهة مصير الشرق والغرب على التوالي، وأنا أعلم جيِّدًا أنَّه في الوضع الحالي للأشياء، ومع اتِّساع نطاق عمليَّة التغريب، لم يعد لهذه الكلمات المعنى نفسه من التضادِّ كما كان الحال منذ جيل أو جيلين.

من ناحية أخرى، فإنَّ مفهوم الشرق Orient عند السهرورديِّ وعند كلِّ رفاقه، ليس هو الشرق الذي يمكن أن يوضع كعلامة للجهات على خرائطنا، وهذه الكلمة في عمله ليس لها معنى جغرافيٌّ ولا معنى عرقيٌّ، بل لها معنى ميتافيزيقيٌّ يصف العالم الروحيَّ كهذا الشرق الأعظم الذي تتَّجه نحوه الشمس الصافية عند إشراقها. والشرقيون هم أولئك الذين يستقبل شعورهم الداخليَّ إشعاع هذا الفجر الأبديّْ. ولا يزال هناك من دون شك القليل من هؤلاء في الشرق وأيضًا في الغرب الجغرافيِّ لعالمنا، لكن ليس لأيٍّ منهما أيُّ  تفوُّق على الآخر، وعندما نتكلَّم عن مصير الشرق والغرب فإنَّنا عادة ما نفهم المعنى المتداول لهذه الكلمات عندما يبحث الشخص في عواقب اختفاء ما كانت عليه الحضارات التقليديَّة.

وهكذا، يجب أن نبدأ بالتمييز عمقًا بين ما سأطلق عليه المغامرة Venture الغربيَّة من ناحية، ومقامرة تغريب الشرق من ناحية أخرى، وهذه الأخيرة ليست امتدادًا للأولى. لقد كانت هناك لحظة في القرن الثاني عشر، عندما تمَّت ترجمة “الافستا” إلى اللَّاتينية في طليطلة، لحظة كانت ثقافتانا في الشرق والغرب متشابهتين في النوع، كان مفهوم العالم غير منفصل عن مضمونه الروحيِّ، فأنا مثلًا أفكِّر في هؤلاء الكيميائيين الذين يعتبرون العمليَّة الكيميائيَّة التي تحت أيديهم قد أسفرت عن نتائجها النهائيَّة إذا كانت مصحوبة بتحويل داخليٍّ للإنسان، أي إذا أثَّرت في الميلاد الداخليِّ للإنسان الروحيِّ فحسب. وبالطبع، فإن هناك كيميائيين لا يعرفون شيئًا عن هذا الهدف الروحيِّ، أو ببساطة يتجاهلونه ويشغلون أنفسهم بأقرانهم على أمل إدراك طموحاتهم المادِّيَّة والتي عادة ما تتحطَّم. وهؤلاء بالطبع كانوا معروفين باسم النفَّاخين أو شاعلي الفحم النباتيّْ.

لا شكَّ في أنَّ بعض النتائج التي يحصل عليها هؤلاء يمكن أن تسهم في فصل تمهيديٍّ عن الكيمياء الحديثة. وعلى العكس فإنَّ الكيمياء كوسيلة من وسائل المساعدة بالنسبة إلى العوالم الروحيَّة (أنا أفكِّر هنا كثيرًا في الجلدكي Jaldaki(18)، في يعقوب بوهمه Boehme) لن يكون لها أيَّة صلة مع فصل تمهيديٍّ يمكن أن يقدم على أنه مرحلة ما قبل التاريخ للكيمياء الحديثة. هناك عدم استمراريَّة، أو خواء في الانتقال من عالم إلى آخر، إنها هنا بالتحديد الفجوة، أو نقطة الانتقال التي يجب أن ندركها لكي نفهم مصائرنا الشخصيَّة.

ولكن، هل هناك في الحقيقة لحظة معيَّنة دقيقة محدَّدة؟ هل هناك لحظة في الزمن بعدها انحراف أو استمرار للحركة يمكن تصوُّرها؟

إنَّ ما يظهر لنا بعد الحدث كاستمرار، كان في الحقيقة مجرَّد تتابع لقفزات غير مستمرَّة، أو نقاط انطلاق جديدة كلَّ مرَّة لا يمكن توقعها. لذا تجدني الآن فجأة متحفظًا بشدَّة عندما أتكلَّم عن أورسيم، والذي أودُّ أن أقارن فكرته عن تكثيف الأشكال بفكرة ملَّا صدرا، ولديَّ شعور بأنَّ الشكل الهندسيَّ للأشكال النوعيَّة عند أورسيم لم يعد فصلًا تمهيديًّا للهندسة التحليليَّة – بالمعنى الخاصِّ للكلمة – كما أنَّ الكيمياء القديمة ليست مرحلة ما قبل التاريخ للكيمياء الحديثة، وللحصول على هذا، كما قلنا، فإنَّ ظهور ديكارت كان مهمًّا، إلَّا أنَّه لم يكن من المهمِّ وجوده بعد أورسيم، بل كان حدثًا، وكان بمثابة عدم استمرارية. ولسوء الحظ، فإننا دائمًا لنميل إلى رؤية الأشياء بالطريقة نفسها التي تظهر بها الصور في الفيلم، الواحدة تلو الأخرى، وما يتبع ذلك ليس بالضرورة أن يكون بسبب Propter hoc كما يعرفها علماء المنطق جيدًا، ولكن هؤلاء الذين يتحدَّثون عن الأحداث الأساسية للتاريخ عادة لا يعرفونها.

وبعد قلت ذلك، أودَّ إيضاح الملاحظ التالية: إنَّ ما نسمِّيه المغامرة الغربيَّة هو تطبيق الذكاء على البحث العلميِّ لطبيعة غير مقدَّسة والتي يجب انتهاك حرمتها كي نكتشف قوانينها، ونخضع قواها للإرادة البشريَّة. ولقد شدَّنا هذا إلى حيث توجد الآن: قوَّة دافعة فنيَّة حوَّلت ظروف حياتنا، واستفاد العالم كله منها، ولكن في الوقت نفسه جرَّنا إلى موقف سوف نطلق عليه “القوة الخلَّاقة المضادَّة أو الزائفة” بالمعنى الذي للعمل الإبداعي، بما أنَّها قد وضعت البشريَّة الأرضيَّة في موقف التدمير، وفي موقف إلغاء سكناها هذه الأرض التي تستمدُّ منها اسمها ووجودها.

إنَّه عمل من لا شيء ومن موت يجب أن نتناوله مواجهة، إذا كان يجب إدانته بطريقة حكماء فارس القدماء الذين لم يكونوا أول من فعل ذلك فحسب، وإنما أيضًا كانوا أول من ينظرون في عيني الإنسان البشع.

فلنؤكد أيضًا أنَّ وراء الانتصارات العلميَّة للغرب هناك المسائل الروحيَّة، لكن لنفكر في عدد الأرواح البشريَّة التي تطلَّبتها تضحيات الاكتشافات الغربيَّة، فعندما نتَّخذ المكان المخصَّص لنا في طائرة مريحة سواء أكان هناك إحساس بالأمان أم لا، فلنفكر في كلِّ هؤلاء الذين ضحُّوا بأرواحهم في السنوات الأولى من هذا القرن لكي نصل إلى الأماكن التي نقصدها (أشير هنا إلى طيران ليلي Night Flight لسنت اكزوبري Saint Exupery(19) الذي يمسُّ القلوب). فلنفكر في كميَّة الطاقة الذهنيَّة التي لا يمكن قياسها، والمستثمرة في كلِّ الآلات التي غطَّت الأرض شيئًا فشيئًا، ما هي فائدة توبيخ – الغرب في الوقت الذي نحن مضطرون في كلِّ الحالات إلى تقليده، بل، وأن نصبح مثله؟ لكن الثقة التي بدأ بها الغرب في مطلع هذا القرن ما زالت تؤمن بأنَّ التقدُّم التكنولوجيَّ سوف يقود العالم إلى السعادة وإلى الفردوس الموعود تعطينا فكرة، إذا نظرنا إليها ثانية بالقياس إلى اليأس الموجود اليوم. لقد كان هناك خداع وتضليل حول أنَّ العالم المحرَّر قد خلق أداة للموت، لكنني مقتنع بأنَّ هذا اليأس يخفي بين جوانبه تحرير الغرب، وأنَّ السلاح الذي صنعه هو الذي يعالج الجراح كما يقول بارسيفال Parzifal في دراما فاجنر، ولديَّ ثقة كبيرة في أنَّ هناك الكثير من الشرقيين في الغرب Orienataux، في الغرب بالمعنى السهرورديِّ للكلمة ليوجِّهوا هذا الخلاص.

إنَّ الموقف المختلف الذي خلق عن طريق تغريب الشرق (هذه المرة بالمعنى الجغرافي للكلمة) يبدو لي إلى حدٍّ كبير في الضوء نفسه، والحصول على الشيء أو الانتفاع به أو اختياره يعني شيئًا واحدًا، واكتشاف أنفسنا يعني مسألة أخرى مختلفة. لقد كنت أنوِّه  بأن الأيديولوجيَّات السياسيَّة – الاجتماعيَّة للغرب هي ادِّعاءات علمانيَّة ودنيويَّة، أنسقة المذاهب اللَّاهوتيَّة السابقة. ومرَّة ثانية نجرِّب الفاعليَّة الرهيبة للعلوم الفلسفيَّة والدينيَّة والتي حاولت بدع عصرنا هذا أن تحرمها من كلِّ القيم العمليَّة. وعلى العكس، فإنَّ الفاعليَّة الرهيبة التي تعطيها لنا، إذا لم تكن المفتاح فهي على الأقلِّ أحد المفاتيح الرئيسيَّة للموقف. وهكذا، فإنَّنا كلُّنا أهل الكتاب، أي أهل مجتمعات الكتاب، يجب أن نأخذ في الاعتبار معًا ماضينا اللَّاهوتيَّ، فكتبنا المقدَّسة – القرآن والإنجيل – تواجهنا بالمشاكل نفسها حين نحاول فهمها. وكنت لتويِّ أتذكَّر الأصل اللَّاهوتيِّ للمفهوم التأويليِّ والذي تندفع منه كثيرًا هذه الأيام.

هنا أيضًا تبرز حقيقة حرجة تبرِّر نفسها. فإذا ركزت انتباهي على أحداث هذا العالم الروحي، الذي أنا على معرفة كبيرة به، ذلك العالم الصوفيِّ الروحانيِّ الشيعيِّ، “العرفان الشيعيِّ” يجب أن أقرِّر حقيقة أن هذه المشاكل نفسها التي تبرز في كل مناسبة، وأنَّ الحلول التي تمَّ اختيارها كانت تمامًا هي تلك التي رافقتها القرارات المسيحيَّة الرسميَّة في الغرب.

ولهذا، من الضروريِّ أن نتحرَّى بالتفصيل تاريخنا الفلسفيَّ واللَّاهوتيَّ كوحدة مشتركة، فالذي انشق في الغرب من أيديولوجيَّات علمانيَّة ببساطة لا توجد هنا في الشرق، فكيف إذا كانت الاختيارات والقرارات التي تصدر عن العلمانيَّة في الغرب تتحوَّل في الشرق من دون إحداث أي ضرر بها أو من دون تدميرها؟

هنا لدينا كما أرى نور جديد تمامًا والذي نرى من خلاله التأثير المدمِّر للغرب على ما كان عليه الشرق التقليديُّ. ولا نستطيع أن نقول أكثر أيضًا: أنَّ الذي يخفي السم سوف يخفي هو نفسه الترياق المضادَّ له، حيث إنَّ السم المختصَّ لم يفِ هنا، وما الذي سوف يظهر إذن؟ لا نزال في قلب هذه العمليَّة، فما زال الوقت مبكرًا جدًّا لنفهمها ونجيب عليها، ولكنه ليس مبكرًا جدًّا أن نحاول الإحاطة بالكارثة المفجعة. لذا أقول إنَّ المسئولية الثقيلة لهذا المجهود، وفهم كيفيَّة تفادىدي الموقف، عبء كبير يقع على الفلسفة المقارنة حتى إذا لم تكن هي نفسها مجهزة جيِّدًا لتواجه مباشرة هذه المهام.

ما هو نوع البشر الذين يأخذون على عاتقهم هذه المسئوليَّة؟ هناك نوع من البشر في هذا البلد يعتبرون مفخرة الثقافة الكلاسيكيَّة، وهذه معروفة تحت اسم العارفين، الثيوصوفيين الروحيين، والذين لا تنفصل لديهم التعاليم العليا عن الروحانيَّة السامية والأخلاق العالية لتمارسها في مجتمعاتنا، وهذا النوع من الرجال يوازيه في التراث الغربيِّ هؤلاء الذين كانوا أعمدة التراث حتى الإعلان عن واقعة “خيانة الشمَّاسين” أو رجال الدين، عندما قام رجال الدين بالخيانة، فقد ظلَّ هناك هذا النوع من الرجال الذين ظهروا نتيجة الثقافة العصريَّة غير الدينيَّة أو غير المقدَّسة والذين يطلق عليهم لفظ المثقَّفين الذين لم تعد كلمة الروحيين تعني بالنسبة إليهم أي معنى، ذلك لأن اللَّاإراديَّة قد دمَّرت الإنسان بداخلهم، وهذا يعني أن هناك انفصالًا داخليًا في النفس بين الفكر والوجود وبين الوجود والفعل، وهذا الانفصال هو ما كان يرجو السهروردي أن يحبط عندما نادى بفكرة الحكيم الكامل الذي يجب أن تكون لديه كميَّة كبيرة من المعرفة الفلسفيَّة بالتساوي مع الخبرة الروحيَّة، حيث إن كليهما يمكن الحصول عليه من دون الآخر. ومثل هؤلاء الحكماء هم الذين يطلق عليهم أحد الأحاديث الشهيرة ورثة الأنبياء.

إن إحدى المميِّزات المدهشة للفلسفة الشيعيَّة في إيران، خصوصًا في الأربعة قرون الماضية، كان هو الإصرار على الوظيفة العامَّة، للفيلسوف والنبيِّ. فالنبيُّ بالطبع ليس هو ذلك الشخص الذي يتنبَّأ بالمستقبل، بل هو الذي ينطق بلغة الوحي غير المرئيِّ، لذلك فلكي يطوِّر الحكماء كخلفاء للأنبياء يجب أن تكون فلسفاتهم في أساسها فلسفة نبويَّة، وما زلت أعتقد أنَّ العارفين وكلَّ الفلاسفة الصوفيين الذين ينتسبون إلى التراث الإبراهيميِّ لهم صفة مميِّزة واحدة، سوف تكون موضع حديثنا في مناسبة أخرى، وهو شيء يمكن أن يوضع بمثابة ادخار للمستقبل بالنسبة إلى برنامج فلسفتنا المقارنة، أي أنَّ هؤلاء الحكماء هم القادرون على مواجهة عواقب تدنيس كون قد تمَّ انتهاكه، والإمام الأول “يشير إليهم في مقابلته الشهيرة مع تلميذه كميل بن زيادة Kamayl ibn Ziyd(J) فيقول إنهم ينتمون إلى الغرب مثلما ينتمون إلى الشرق في هذا العالم، وأنهم لن يكونوا أكثر من حفنة قليلة من الرجال، غير معروفين لعامَّة الناس، لأنهم تخلفوا عن طموحات هذا العالم، وسوف يكونون كسابقيهم على دراية تامَّة بالمسئوليَّة الأخلاقيَّة والإنسانيَّة لرجال العلم، ولم يعد كافيًا أن يكون مجرَّد رجل علم أو فيلسوف إذا كان الشخص أحد أبناء الأنبياء.

نلفت هنا إلى أنَّ محسن فايز، وكان من ألمع تلاميذ ملَّا صدرا، قد أنهى  مقدِّمة أحد كتبه(K) بدعاء كان في الوقت نفسه اعترافًا بالإيمان. لقد دعا أن يكون كتابه النور والسلام لقلوب الساعين إلى ذلك، فهو يعتبره الكنز الذي سيكون في انتظاره في مكان اللقاء يوم القيامة، ولكن لأنَّه يعرف الثقل الحقيقيَّ لأسراره يسأل الله أن يحفظها بعيدًا عن متناول الشياطين، وألَّا يختار لموضع أسراره إلَّا قلوب رجال الطيِّبي المنبت(L) والسلام.

ملاحظات النص:

*هذه محاضرات أُلقيت في ديسمبر 1974 في كليَّة الآداب بجامعة طهران، وطُبعت في Sophia Perennis نشرة أكاديمية الأمبراطوريَّة الإيرانية للفلسفة، الجزء الأول، العدد الأول طهران 1976 – الترجمة الحاليَّة (الإنكليزية) تمَّت من خلال النص المرجع المطبوع في هنري كوربان: “الفلسفة الإيرانيَّة والفلسفة المقارنة”: الأكاديمية الأمبراطوريَّة الإيرانية للفلسفة 1977، والمترجم والناشر يتقدَّم بأسمى آيات الشكر للسيدة ستيلا كوربان لمساعدتها غير المحدودة ولسماحها بعمل هذه النسخة الإنكليزية.

*ه. كوربان: “في الإسلام الإيراني” ملامح روحية وفلسفة، أربعة أجزاء، باريس 71- 1974، جاليمار، مقدمة الجزء الأول.

*ملاحظة المترجم الإنكليزي: كلمة البرزخ (من أصل عربي) كلمة غير تقليديّة لأنَّه ليس لها جذور لفظيَّة، وتعني في القرآن: الفترة، الفاصل، موطن الأرواح أي مثوى الأموات، وتعني في اللَّغة العربية الحديثة الفجوة، الفاصل بين الموت والبعث، وفي الفارسية تعني صورة من صور الخيال أو الوهم، وتعني شخصًا واقعًا في غرام امرأة، بالإضافة إلى المعاني العربية.

*هامش المترجم الإنكليزي: التأويل هو العودة إلى أول الكلمة العربية، إرجاع الشيء إلى أصله.

*كوربان: السهروردي والأفلاطونيين الفرس، الجزء الثاني.

*مختارات من الفلسفة الإيرانية في الفترة من القرن السابع عشر حتى يومنا هذا، الجزء الثاني، نصوص مختارة كتبها س. ح. اشيباني، مقدِّمة تحليليَّة لكوربان، الموسوعة الإيرانيَّة، الجزء 19= طهران، باريس Adrien naisonneune 1975، الفصل العاشر في الطبعة الفرنسيَّة تاريخ النسخة المخطوطة لنظريَّة الأفكار الأفلاطونيَّة.

*مختارات من الفلسفة الإيرانيَّة، ج1، ص84 : 79 من الجزء الفرنسي في الإسلام الإيراني، ج4، الفهرس العام، الكينونة، الميتافيزيقا.

*من تكثيفات الكينونة، راجع مختارات من الفلاسفة الإيرانيين، ج2، المقدِّمة الثانية، الفصل الثامن ص16، والعاشر، وعن أورسيم ومسألة تكثيف الأشكال، انظر كتاب بييردوهيم “نسق العالم من أفلاطون إلى كوبرنيكوس”، الجزء السابع- باريس 1956.

*”في الإسلام الإيراني” الجزء الرابع، ص145- 148- 183- 186.

*راجع “الإسلام الإيراني” الجزء الرابع، الفهرس تحت اسم كميل بن زياد.

*راجع مختارات من الفلاسفة الإيرانيين، ج2 مقدِّمة، الفصل التاسع ص238 والكتاب الذي أشرت إلى اسم مؤلِّفه على أنَّه محسن فايز هو أصول المعارف” م. اشيباني “أعطي طبعة جزئيَّة له في كتاب المختارات”.

*في دولة تحكمها العامَّة من النا، ربما يبدو هذا الأمر غير ديمقراطي وحتى معارض، وفي الحقيقة أنَّ الديمقراطيَّة والمساواة تُعتبر مفاهيم ليس لها علاقة بهذا الموضوع كليَّة مثلما في Gentil في شعر Dolce stil Novo فإنَّها مسألة قلب أصبح نبيلًا بسبب التأهُّل الروحيِّ أو التنوير الروحيِّ، (المترجم الإنكليزي).

 

 

هوامش وملاحظات الترجمة العربيَّة:

  • نشير إلى دراسة دياكريشنا “الفلسفة المقارنة” ما هي؟ وماذا ينبغي أن تكون؟ ترجمة محمد عزب، مجلة ديوجين، المجلس الدولي للفلسفة والعلوم الإنسانيَّة، العدد 80 فبراير – أبريل 1988، والحقيقة أنَّ الفلسفة المقارنة حديثة العهد بالنسبة إلى الدراسات المقارنة التي استقرَّت مثل الأدب المقارن الذي عرف في الدراسات الأكاديميَّة منذ عام 1828 بفضل الباحث الفرنسيِّ “ابيل فرانسوا فلمان” في كتابه “صورة الأدب الفرنسيِّ في القرن الثالث عشر”، ثمَّ عرف بعد ذلك في الآداب المختلفة. ونجد في العربيَّة دراسة عامَّة للدكتور سعيد علوش تتناول الأدب المقارن تحت عنوان “التيارات والتأثيرات الأدبيَّة في الوطن العربي” 1986، ويمكن أن تشير أيضًا إلى بحث الكسندر ديما، “تطوُّر علم الأدب المقارن” ترجمة محمد يونس – مجلَّة “الثقافة الأجنبيَّة” العدد 2 عام 1985 وزارة الإعلام والثقافة – بغداد 1985.
  • يتَّضح اتجاه أورسيل Masson Oursel لدراسة الفلسفة المقارنة في رسالته للدكتوراه، في محاضراته في مدرسة الدراسات العليا، وكتاباته المختلفة، حيث يقول في مقدِّمة كتابه “الفلسفة في الشرق” محدِّدًا لنا هدفه: “ستكون مهمَّتنا مزدوجة: أوَّلًا عرضًا موجزًا لما يمكن أن تحويه النظم الفلسفيَّة التي كان يجهلها أو يهملها عادة محلِّل الثقافة الغربيَّة. ثانيًا أن تشير إلى الصلات التي كانت قائمة بين هذه الفلسفات الشرقيَّة المختلفة من جهة، وبينها وبين الفلسفة الغربيَّة من جهة أخرى “ماسون أورسيل: الفلسفة في الشرق، ترجمة محمد يوسف موسى، دار المعارف، القاهرة د. ت، ص16.
  • يجمع هيدغر – الذي نقل كوربان مؤلَّفاته إلى الفرنسيَّة، بين الفينومينولوجيا في فلسفته وبين التأويل، حيث يعدُّ من مؤسِّسي التأويل أو الهرمينوطيقا، راجع: الهرمينوطيقا ومعضلة تفسير النص في د. نصر حامد أبو زيد: إشكاليَّات القراءة وآليَّات التأويل، الهيئة العامَّة لقصور الثقافة – القاهرة 1991، ص30 وما بعدها.
  • البرزخ هو العالم المشهور بين عالم المعاني المجرَّدة والأجسام المادِّيَّة، والعبادات يجسَّد بما يناسبها إذا وصلت إليه وهو الخيال المنفصل. وهو الحائل بين الشيئين، ويعبر به عالم المُثل، أعني الحاجز بين الأجسام الكثيفة وعالم الأرواح المجرَّدة، أعني الدنيا والآخرة. الجرجاني: التعريفات، دائرة الشئون الثقافيَّة العامَّة، بغداد، د. ت. ص31 ود. سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، المؤسَّسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص45.
  • جيمس دار مستتير 1849 – 1894 شاعر، مستشرق مهتمٌّ باللُّغة الفارسيَّة القديمة، قام بترجمات فرنسيَّة وإنكليزيَّة للافستا، وتعدُّ دراسته عن الأساطير الزرادشتيَّة 1875 من أهمِّ أعماله، قام بتدريس اللُّغة الفارسيَّة في مدرسة الدراسات العليا بباريس 1877، وواصل إصدار “دراسات إيرانيَّة”، وقد عمل أستاذا بالكوليج دي فرانس 1885.
  • هو ابن الأقاجاني (محمد بن علي بن رضا) فيلسوف من مدرسة أصفهان كتب شرحًا على كتاب معلِّمه “القبسات”.
  • يشير كوربان إلى أهمِّ مشكلة في الفلسفة الأفلاطونيَّة وهي العلاقة بين عالم المُثل والعالم المحسوس، وهي المشكلة التي لم يستطع أفلاطون تقديم حلٍّ مُرضٍ لها كما يظهر في حيرته في محاورة بارمنيدس. راجع أفلاطون بارمنيدس ترجمة الأب جرجس باربارة، منشورات وزارة الثقافة السوريَّة، دمشق، وراجع العرض الذي قدَّمته د. أميرة حلمي مطر في الفلسفة اليونانيَّة، الباب المخصَّص لأفلاطون، دار المعارف القاهرة، 1988، ص169 وما بعدها.
  • الشيرازي (صدر الدين) المعروف بصدر المتألِّهين وُلد في 979هـ، 1571م متكلِّم وفيلسوف من مدرسة شيراز، أبرز ممثِّل للتيار الشيعي في الفلسفة الإسلاميَّة، قام بتأليف لمختلف المدارس الإماميَّة وأعطاها أكمل تعبير فلسفيٍّ، أهمُّ أعماله الأسفار الأربعة الذي حقَّقه ونشره كوربان الذي فسَّر فلسفته كما يتَّضح من دراسته الحالية – تفسيرًا وجوديًّا.
  • راجع دراستنا عن التناسخ في الموسوعة الفلسفيَّة العربيَّة، المجلَّد الثاني، القسم الأول، معهد الإنماء العربي، بيروت 1988 (مادة تناسخيَّة).

10- يوحنا الريباوي، المعروف بيوحنا الملائكي، لاهوتيٌّ إيطاليٌّ فرنسيسكانيٌّ كتب باللَّاتينيَّة شرح الأحكام، وله كتاب التعيُّنات، لُقِّب بالمعلِّم الفائق الدقَّة.

  • – أورسيم (نيقولا) 1320 – 1382، وُلد في بايو في فرنسا، ودرس اللَّاهوت في جامعة باريس، حصل على لقب أستاذ في اللَّاهوت عام 1362، تولَّى تعليم الملك شارل الخامس، ثمَّ عمل مستشارًا له بعد تولِّيه الحكم، حاول وضع تعاليم للحكم مستقاة من آراء أرسطو، وشرح بناء على أمر الملك كتابي الأخلاق والسياسة للمعلِّم الأول، سبق ديكارت وجاليليو بالقول بقانون سقوط الأجسام ودوران الأرض، من مصنفاته، رسالة في السماء والعالم 1377، دعا إلى استخدام الإحداثيَّات وهو أول من استخدم الفرنسيَّة في التأليف الفلسفي.
  • حيدر آملي، فيلسوف شيعيٌّ وُلد في عامل عاصمة طبرستان 720هـ/ 1320م. له مؤلَّفات عدَّة حاول فيها ربط الفكر الإماميِّ بميتافيزيقا الصوفيَّة خصوصًا مذهب ابن عربي. له شرح على فصوص الحكم باسم “نص النصوص”.
  • ابروقلوس (412- 485م)، فيلسوف يونانيٌّ أفلاطونيٌّ محدَث، وُلد في القسطنطينيَّة، درس في الإسكندريَّة، وله شروح عدَّة على المحاورات الأفلاطونيَّة، الثيوجونيا مبادئ الإلهيَّات، ورسالة في العلم الهندسيِّ. تؤلِّف كتاباته مزيجًا من التصوُّف والمنطق، اليونان والشرق، وكان لمؤلَّفه “رسالة في العلم الهندسيِّ” تأثير هائل بالنظر إلى أنَّه، على ما يبدو، كان يبشِّر بجدل هيغل، ويرى أنَّ الوحدة تظلُّ حاوية على كلِّ ما يتولَّد منها، أنَّ كلَّ ما ينبثق منها يعود لا محالة إلى أصله بضرب من فاعليَّة دائريّة. لذا، يقول هيغل “لقد مضى أبعد من أفلوطين، ومعه تبلغ أعلى ذرى الفلسفة الأفلاطونيَّة المحدثة”.
  • هنري مور More (1614 – 1987)، تخرَّج في جامعة “كمبريدج”، وعمل أستاذًا فيها، تأثَّر بالأفلاطونيَّة المحدثة، وأكَّد على جوانبها الصوفيَّة والثيوصوفيَّة. يُعتبر كتابه “الوجيز في الأخلاق” 1667 من بين الوثائق المميِّزة لأفلاطونيي كمبريدج.
  • راجع الإمام السيد محسن الأمين: “أعيان الشيعة”، تحقيق حسن أمين، المجلَّد الثاني، دار التعارف، بيروت 1986، ص44 – 84.
  • يواقيم الفلوري: متصوِّف إيطاليٌّ، أسَّس الرهبانيَّة الفيوريّة في القرن السادس عشر، عرض مذهبه في “وفاق العهد” فميَّز في التاريخ البشريِّ عصر الآب (الشريعة، المادَّة، العهد القديم)، وعصر الابن (الإيمان، الكنيسة، المذهبيَّة)، وعصر الروح الآتي (وهو عصر ستتولَّى فيه كنيسة نسكيَّة خالصة إدارة شئون البشريّة المرتدَّة إلى العصر الملائكيِّ. وقد أثَّرت أفكاره في الحركات الفرنسيسكانيّة).
  • بادر (فرانتز بندكت فون): فيلسوف ألمانيٌّ، وُلد وتوفِّي في ميونخ في (1765 – 1841)، درس الطبَّ ومارسه، ثمَّ المعادن، والكيمياء، وكتب في توليد الحرارة. درس الفلسفة وأصدر “مساهمة في الفلسفة الديناميَّة المعارضة للفلسفة الإلهيَّة”، كما أصدر عددًا من النصوص الصوفيَّة والثيوصوفيَّة. سعى للتوفيق بين الفلسفة القديمة وفلسفة كانط وهيغل، كما أراد أن يجمع بين الفلسفة والثيوصوفيَّة، ليؤلِّف فلسفة طبيعيَّة جديدة.
  • الجلدي (عز الدين محمد): كيميائيٌّ من جلدك في شمال مشهد بخُراسان، عاش في دمشق، ثمَّ في القاهرة، وتوفِّي حوالي 750 أو 762 هـ. ترك كتبًا عدَّة في الكيمياء والتنجيم وفي الفلسفة، وحاول التوفيق بين علم العرفان النبويِّ وصورته الإماميَّة الاثني عشريَّة، وبين الكيمياء بوصفها علمًا روحيًّا شقيقًا للحكمة، وله في ذلك كتاب “البرهان في أسرار علم الميزان”.
  • سنت اكسوبري، روائيٌّ فرنسيٌّ معاصر، وُلد عام 1900 في ليونز، وتوفِّي عام 1944 في حادث طائرة من قصصه “طائرة الليل”.

 

 

 

                                              الهوامش:

 

([1])H. Corbin: The concept of comparative philosophy, trans. By: Peter Reussll, -Golgonoza Press   1981

وهي أصلًّا محاضرة ألقيت في كليَّة الآداب جامعة طهران في ديسمبر 1974 ونشرتها الأكاديميَّة الإمبراطوريّة الإيرانيَّة للفلسفة، ج1، طهران، 1976، والترجمة الإنكليزيَّة التي ننقلها في هذه الدراسة إلى العربيَّة مأخوذة عن كوربان “الفلسفة الإيرانيَّة والفلسفة المقارنة” 1977.

([2]) ديا كريشنا: الفلسفة المقارنة: ما هي؟ وماذا ينبغي أن تكون؟ ترجمة: محمد عزب، مجلة ديوجين، المجلس الدولي للفلسفة والعلوم الإنسانيَّة، العدد 80، فبراير – أبريل 1988، ص65.

([3]) درس كوربان فلسفة العصور الوسطى الغربيَّة على يد جيلسون، والفلسفة الإسلاميَّة على ماسينيون، واهتمَّ بالفينومينولوجيا والوجوديَّة، وترجم كتب هيدغر إلى الفرنسيَّة، أي أنَّه ألمَّ بتاريخ واتِّجاهات الفلسفة الغربيَّة في العصور القديمة والوسطى والعصر الحديث.

([4]) نشير إلى محاولة ديا كريشنا السابقة وكذلك دراسة حسن حنفي “مقدِّمة في علم الاستغراب” التي يسعى فيها  لدراسة الغرب من وجهة نظر العالم الثالث، الدار الفنيَّة، القاهرة 1991. وكذلك دراسته “نحو علم اجتماعيٍّ جديد: أفكار خارج التمركز الأوروبي. مجلَّة دراسات شرقيَّة، العدد الرابع 1989، ص9- 31.

([5]) كتب تاريخ الفلسفة بوجهة نظر غربيَّة مدَّعيًا أنَّها “تاريخ الفلسفة” العام، وربما يكون رسل هو الوحيد الذي تنبَّه إلى ذلك فأطلق على كتابه “تاريخ الفلسفة الغربيَّة”.

([6]) ديا كريشنا: المرجع السابق، ص66- 67.

([7]) المرجع السابق، ص67.

([8]) المرجع نفسه، ص79.

([9]) من أجل بيان أكثر تفصيلًا عن كوربان ودراساته المختلفة، يمكن الرجوع إلى كلٍّ من: د. سيد حسين نصر، البروفيسور هنري كوربان، حياته وآثاره وأفكاره، مجلَّة المندى، المركز الثقافي الإيراني، القاهرة، العدد الثاني، 1978، ص22- 61. وتضمُّ هذه الدراسة ثبتًا كاملًا بكلِّ مؤلَّفات كوربان، د. عبد الرحمن بدوي: هنري كوربان، موسوعة المستشرقين، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1984، ص335.

  • H. De Fouchecour: H. Corbin, in journal Asiatique annee 1979 fasc. 3et. 4, pp. 231: 237, Paris, 1979.
  • Jean Louis Vieillard – Baron: H. Corbin in les Etudes philosphiques, jones- Mars 1980, pp. 73:89.

(مراجعة شهور الإصدار فإمَّا أنها يناير – مارس 1980، أو يونيو 1979 – مارس 1980)

([10]) راجع دراستنا عن تأثير جيلسون في “الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة”. والحقيقة أنَّ أهميَّة جيلسون بالنسبة إلى كوربان تتمثَّل في توجيه اهتمامه إلى ابن سينا الذي عني به وأصدر عنه كتاب “ابن سينا والحكاية ذات الرؤى”، أو ابن سينا والتمثيل العرفاني. وقد كتب لويس جارديه في الكتاب التذكاريِّ يوضح العلاقات بين آراء السهروردي وابن سينا حول عديد من الموضوعات وكذلك فعل د. إبراهيم مدكور في دراسته “بين السهروردي وابن سينا” ص63- 81. د. إبراهيم مدكور: الكتاب التذكاري (شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي في الذكرى المئويَّة الثامنة لوفاته) الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة، 1974.

([11]) كارل بارث K. Barth (1886- 1968) لاهوتي سويسري معاصر، أقيل من منصبه لمعارضته الهتلريَّة، أسس ما يسمَّى باللَّاهوت الجدليِّ أو لاهوت الأزمة، وعارض النزعة التاريخيَّة في التأويل العصريِّ للكتاب المقدَّس، تمسَّك بثنائيَّة مطلقة بين الله والعالم وقال بأخرويَّات جذريَّة تعارض كلَّ تشابه بين المبدأ الإلهيِّ والأشكال التاريخيَّة للمسيحيَّة – وهذا ما يبدو في دراسة كوربان التي نحن بصددها، تحوَّل إلى لاهوت الوجود كما في كتاب أصول العقيدة الكنسيَّة، اهتمَّ كثيرًا بدراسة فيورباخ والكتابة عنه.

([12]) ألقى أول محاضرة عن “السهروردي الحلبي مؤسِّس مذهب الإشراق” ونشرت ضمن أعمال “جمعيَّة الدراسات الإيرانيَّة” ترجمها بدوي في كتابه “شخصيَّات قلقة في الإسلام”، القاهرة، 1947.

([13]) من هذه الكتب ما يأتي:

(أ) كشف المحجوب. رسالة إسماعيليَّة من القرن الرابع هـ. تصنيف أبو يعقوب السجستاني.

(ب) المجموعة الثانية من مصنفات السهروردي وتشمل: حكمة الشرق، رسالة في اعتماد الحكماء (النص العربي) تصحيح وتقديم كوربان، 1952.

(ج) جامع الحكمتين، تصنيف ناصر خسرو قيادياني، تحقيق كوربان مع محمد معين.

(د) ، (هـ): ابن سينا والتمثيل العرفاني.

(و) شرح قصيدة فارسيَّة لخواجة أبو الهيثم (ق 4، 5 الهجري).

(ز) مجموعة في أحوال شاة نعمت الله الوالي الكرماني.

(ح) كتاب جهر العاشقين، تصنيف روزنهان البقلي الشيرازي.

(ط) إيران واليمن: ثلاثة رسائل إسماعيليَّة تضمُّ: كتاب “الينابيع” للسجستاني، رسالة المبدأ والمعاد للحسين بن علي وبعض تأويلات كلشن راز.

(ي) كتاب المشاعر لصدر الدين الشيرازي (ملَّا صدرا).

(ك) مجموعة رسائل الإنسان الكامل تصنيف عزيز الدين النسفي.

(ل) شرح شطحات الشيخ روزنهان البقلي (النصُّ الفارسيُّ).

– متفرِّقات من أشعار أقدم شعراء الفارسيَّة.

– شاهنامة الحقيقة (النص).

– شاهنامة الحقيقة، القسم الثاني (الفهارس).

– جامع الأسرار ومنبع الأنوار، من مصنفات سيد حيدر الآملي.

– المجموعة الفارسيَّة لشيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي.

– منتخبات من مؤلَّفات علماء التصوُّف والحكمة الإلهيَّة العظام في إيران في القرون الأربعة الأخيرة، الجزء الأول.

– منتخبات من مؤلَّفات علماء التصوُّف…، الجزء الثاني.

– رسائل أهل الفتوَّة.

– مكاتبات عبد الرحمن الاسفراني لعلاء الدولة السمناني.

– المقدِّمات من كتاب نص النصوص في شرح نصوص الحكم لمحيي الدين بن عربي، تصنيف سيد حيدر الآملي (في جزئين).

– منتخبَّات من آثار علماء الحكمة والإلهيَّات والتصوُّف في إيران، الجزء الثالث.

والجدير بالذكر أنَّ كوربان شارك في تحقيق وتصحيح ودراسة وتقديم معظم هذه الأعمال إما منفردًا أو بالاشتراك، باستثناء بعضها، فقد قام يره بها مثل: ل. ن.

([14]) راجع ترجمة ومقدمة د. إبراهيم الدسوقي شتا لكتاب جامع الحكمتين لناصر خسرو، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1978.

([15]) يتَّضح من جهود كوربان مدى تعمُّقه في الدراسات المتعلِّقة بإيران القديمة، وهو يميل إلى تفسير الفلسفة الإسلاميَّة في إيران بردِّها إلى هذه الأصول. يرى د. حسن حنفي في دراسته “حكمة الإشراق والفينومينولوجيا” أنَّ حكمة الإشراق لا تعدُّ جزءًا من تاريخ الفكر الفلسفيِّ الإيرانيِّ القديم رغم إشارة السهروردي إلى الفلاسفة الفرس القدماء. راجع د. حسن حنفي: المصدر السابق، ص188.

([16]) حقَّق كوربان رسائل إسماعيليَّة عدَّة وترجمها إلى الفرنسيَّة، وهي: كتاب الينابيع لأبي يعقوب السجستاني، رسالة المبدأ والمعاد لسيدنا الحسين بن علي، وبعض تأويلات كلشن راز، وصدرت 1961 “مجموعة الآثار الإيرانية”.

([17]) د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين، مادة كوربان، ص339.

([18]) لقد بحث كوربان في مؤلَّفات ابن سينا عن الحكمة الشرقيَّة والفلسفة التي اعتبرها ضروريَّة لفهم الإشراق، فابن سينا هو الذي أشار إليه السهروردي في مقدِّمة رسالته “قصَّة الغربة الغربيَّة”، وقد قدَّم كوربان ابن سينا للغرب في صورة جديدة في دراسة عنوانها “ابن سينا والتمثيل العرفاني”. يقول سيد حسين نصر، أن كوربان: بدلًا من أن يجعل منه (ابن سينا) أسيرًا للفلسفة الغربيَّة بين أرسطو والقديس توما الإكويني أعاده إلى مهده وسلَّط عليه الأضواء تمامًا كما ظلَّ حكماء إيران ينظرون إليه على مدى ألف عام (ص31).

([19]) سيد حسين نصر: المصدر السابق، ص25.

([20]) قدَّم هذا العمل إلى العربيَّة الدكتور محمود قاسم في دراسته “الخيال عند ابن عربي”، وترجمه الأستاذ فؤاد كامل في ثلاثة أجزاء. راجع دراسة الدكتور سليمان العطار: الخيال عند ابن عربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1992.

([21]) يعدُّ هذا العمل – كما يخبرنا بدوي – أعظم أعمال كوربان “في الإسلام الإيرانيِّ” في أربعة أجزاء، وهو يتناول في الأول مذهب الشيعة الاثنى عشريَّة الذي أوَّله تأويلات صوفيَّة ثيوصوفيَّة عرفانيَّة، والثاني مكرَّس للسهروردي المقتول والإشراقيين في إيران، والثالث تناول فيها المخلصين للعشق الإلهيِّ، كبار الصوفيَّة الإيرانيين رزيهان البقلي، الشيرازي، حيدر آملي، علي أصفهان، علاء الدولة السمناني، والجزء الرابع خصَّصه لمفكِّرين إيرانيين محدَثين: ملَّا صدرا، ميرداماد، محمد باقر الاستسرابادي، وقد ترجم الجزء الأول من هذا العمل وصدر بعنوان: في الإسلام الإيراني جوانب روحيَّة وفلسفة [1] الشيعة الإثنا عشريَّة، ترجمة: د. ذوقان قرقوط، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1993.

([22]) هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، 1966، ص30.

([23]) المرجع السابق، ص31.

([24]) المرجع السابق، ص32.

([25]) د. عبد الرحمن بدوي، المصدر السابق، ص336.

([26]) هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، ص34.

([27]) الموضع السابق.

([28]) عارف تامر: كلمة وحقيقة، تقديم ترجمة كتاب كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، ص5: 6.

([29]) سيد حسين نصر: شيخ الإشراق، الفصل الأول من الكتاب التذكاري عن السهروردي في الذكرى المئويَّة الثامنة لوفاته- القاهرة، 1974، ص23.

([30]) موسى الصدر: تصدير ترجمة كتاب كوربان السابق.

([31]) د. محمد علي أبو ريان: مقدِّمة تحقيق كتاب السهروردي “اللَّمحات في الحقائق”، دار المعرفة الجامعيَّة، الإسكندريَّة، 1988، ص17.

([32]) د. محمد علي أبو ريان: الإشراقيَّة مدرسة أفلاطونيَّة إسلاميَّة “مناقشة المصدر الإيرانيِّ”، الكتاب التذكاريُّ، ص39.

([33]) المرجع السابق، ص40.

([34]) الموضع نفسه.

([35]) المرجع السابق، ص58.

([36]) راجع دراسة د. حسن حنفي: حكمة الإشراق والفينومينولوجيا، الفصل الثامن من الكتاب التذكاريِّ للسهروردي الصادر في القاهرة عام 1974.

([37]) د. سليمان اليدور: ميتافيزيقا الوجود في فلسفة صدر الدين الشيرازي، مجلَّة دراسات، الجامعة الأردنيَّة، المجلَّد 13، العدد الرابع، أبريل 1986، ص215- 235.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى