الموت عند الصوفيَّة وتجلّياته في مجموعة «الذمَّة المعكوسة”
رشيد أمديون
(كاتب مغربي)
الموت هو زوال الحياة عن كل كائن حي. وهو ضد الحياة. أما في بعده الميتافيزيقي فهو انتقال من عالم المادة إلى عالم البرزخ، أو من الدنيا إلى الآخرة: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»
وهذا المعنى بدلالته اللغوية المعجمية، له حضور داخل العالم القصصي للقاص رضا نازه، في مجموعته «الذمة المعكوسة»، عبر قصص منها: «نعي كاذب» و»ماهية من دم». وتأتي نصوص أخرى من المجموعة نفسها، يصير فيها الموت مفهوما يتقاطع مع اصطلاحات الحقل المعرفي الصوفي الذي يزخر بالعديد من المصطلحات الخاصة التي تنتمي إلى معجم يعكس دلالات معان وأسرار باطنية وعرفانية وروحـــــية، كقولهم: «نحن قومٌ لنا في المعاني أسرارْ». والموت عند الصوفية موتان «موت شهوات النفوس والأبدان بهدف التحرر من شؤون التسفل والانحطاط. وموت تتخلص فيه الروح عن البدن وتحيا الحياة الإلهية الدائمة السعيدة»، بما يعني قمع هوى النفس، لإحياء الارتــــباط الروحي للقلب بالله، قال تعالى: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». كما أن مفــــهوم الموت عندهم «هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي».
وقد طرحت قصة «باب دكالة» جدلية الموت والحياة في نسق فلسفي صوفي، من خلال دلالتين رمزيتين هما بئر الماء والمقبرة، حيث قال السارد: «البئر ذات ماء إذن. تحت القبور ماء، تحت الموت حياة، نبعها يكفي إن توغل في الحفر قليلا، أو يكفي أن يصعد منسوب الماء كي ينبتوا من الأرض نباتا. ما بين الموت والحياة إلا درجة». فإذا كان الماء يعبر عن الحياة وعن النماء: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» ، فإن المقبرة تعبر عن الموت والسكون: «ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ». والمقبرة اسم مكان. موضع دفن الموتى، أي ما يدل على الموت. ووجود الماء تحت أرض المقبرة، دلالة على وجود الحياة. بما يعني أن الحياة قد تخرج من الموت: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ». فكما يحيي الله الأرض بعد موتها، يُحيي القلب بعد موته/بعد قسوته..
الحياة والموت متلازمان حسب المفهوم الصوفي كما أوردنا سابقا، فلا تباعد بينهما، لهذا قال السارد: «ما بين الموت والحياة إلا درجة»، وهي درجة الانتقال والعبور. وقد يكون هذا الانتقال فيزيائيا أو نفسيا /روحيا عبر السمو والتطهر الروحي.
لهذا يحاول الكاتب أن يتناول هذا المعنى ويجعل له انعكاسا على مظاهر حياة المدينة وتجليات السكون بالمقبرة، قال: «ضجيج الحياة والسيارات وأنفاس المدينة الحرّى كما هو. لم أكن أسمع ذلك داخل السور. المقبرة عازلة. المقبرة على ذبذبات خاصة. كانت قديما في أطراف المدينة، خارج السور، لكن زحف الحياة اكتنفها حتى صارت مركزا. الموت لا يسكن الضاحية أبدا».
بما يعني أن السارد يقصد أن الموت مركز، والدائرة هي الحياة، فهو حين يقول «الموت لا يسكن الضاحية» يؤكد على المعنى بأبعاده الفلسفية الصوفية، بأن الموت هو الحقيقة المركزية في الحياة، فمن أراد الحياة الحقيقية فلابد أن يعيش حقيقة الموت وفقا للمفهوم الصوفي، لأن الموت «هو موت آفات النفوس التي تعوق العبد عن صدق التوجه إلى الله، والحياة الحقة هي التي يعيشها في رحاب الله، لأن النفس هي الحجاب الأعظم للعبد عن الله تعالى، ولا ينال العبد سعادة لقاء الله تعالى صحيح المعنى؛ إلا بمجاهدتها وقمعها وموتها. قال بعضهم: ما الحياة إلا في الموت، أي ما حياة القلب إلا في إماتة النفس». لهذا قال السارد في نهاية القصة: «الموت موتان.. موت النفس بالطاعة.. أو موت الروح بالمعصية».
الصوفية يعتبرون العبادات والطاعات المُقربة لحضرة الله تقهر رغبات النفس الأمارة، فتميتها الطاعةُ، لهذا قيل إن: «الموت هو التوبة».
لأن المعاصي دلالة على موت القلب، وموته يعني تجرده من أي إحساس أو شعور بعظم الذنب، فلا يستاء من سيئة، ولا يُسَرُّ بحسنة. وهذا ما يوافق قول ابن عطاء الله السكندري: «مِنْ عَلاَمَاتِ مَوْتِ القَلْبِ، عَدَمُ الحُزْنِ عَلى مَا فَاتَكَ مِنَ المُوَافَقَاتِ، وَتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلْتَهُ مِن وُجُود الزَّلاَّتِ».
أما موت النفس بالطاعة، فلأن الصوفية يعتبرون العبادات والطاعات المُقربة لحضرة الله تقهر رغبات النفس الأمارة، فتميتها الطاعةُ، لهذا قيل إن: «الموت هو التوبة» ، وفي القرآن: «فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» ، «فمن تاب فقد قتل نفسه»، أي قتلها بمجاهدتها، و«المجاهد من جاهد نفسه، فمن مات عن هواه فقد حيا بهواه عن الضلالة، وبمعرفته عن الجهالة». وفي القرآن: «أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ». بهذا فالسارد حريص على تحقيق هذا المفهوم الصوفي ضمن القصة وعبر الألفاظ والعبارات التي يختارها: (الحي/حجاب الغبار/أنفاس/أحييته/أحيا..)، وأيضا من خلال استرجاعه لصورة شخصية سائق التاكسي الذي أقلَّهُ. واعتبره السارد امتداد سلالة أولئك الذين أحرقوا كتب الغزالي بسبب ما رآه منه من تشدد. (وهو عنده ميت يحتاج إلى إحياء قلبه)، قال: سألته من يوسف هذا؟ قال لي «بن علي «! وتبسم تبسم رجل من «الفرقة الناجية» وكل من عداه مشركون. ثم نطق مستبقا سؤالي: «كثرو علينا من الصّْلاحْ.. هَذْ هْلْ مراكش»». فالسارد لم يعجبه رد السائق، وسوء أدبه مع ذكر اسم أحد الرجال السبعة، يوسف بن علي الصنهاجي، الذي يسمى باسمه حيٌّ في مراكش.
ونجد هذا المفهوم نفسه يرخي ظلاله على قصة «خاتمة»، التي تستحضر ضمنيا حكاية من الأثر لإبراهيم بن أدهم مع سكران وجده يردد لفظ الجلالة. وطهَّر ابن أدهم فم السكران بالماء من أجل كلمة الله، فطهر الله قلب السكران بنور هداه. وقد تجلى مفهوم الموت والحياة في هذه القصة، من حيث أنها تتقاطع مع هذه الحكاية في مضمونها (الذي صور شخصية السكران وهو مصر على صلاة الفجر جماعة في المسجد) فشكلت متخيلا سرديا يحيل على الواقعي، من خلال ما يتمظهر في سلوك الناس من انطباعات وأحكام حاجبة لتمثل المفاهيم الجوهرية للإسلام في قلوبهم كالرحمة والحكمة والتبصر… ونص» نعم لا» يعرج بنا إلى مقام من التجلي الصوفي وحالة من تواصل الأرواح وتلاقيها من خلال ما يُعرف عند الصوفية بالمشاهدة (التي تخص اليقظة والصحو) والتي تقابلها الرؤيا المنامية التي تكون في النوم، وهو عندهم الموت الأصغر… كما يتناص عنوان هذه القصة مع تلك العبارة التي قالها ابن عربي لابن رشد عند لقائه به أول مرة، «نعم لا، وبين «نعم» و»لا» تطير الأرواح من مواردها، والأعناق من أجسادها» .
بهذا نرى أن القاص استثمر مفهوم الموت عند الصوفية ليؤسس رؤية وجودية، قائمة على التأمل والتفكير، كما يؤطر العالم القصصي للمجموعة برؤية عميقة، تساوق طرح معنى الحياة الذي يراه القاص أنه لا تتجلى حقيقته إن لم يعش الإنسان حقيقة الموت بالمفهوم الصوفي الذي هو قتل النفس بقمعها، أو ما يماثل مفهوم التوبة. وفي ذلك حياة القلب ويقظته، وكل قلب حي يرى ببصيرة مجردة من غشاوة تحجب الحقائق.
__________________________
*نقلاً عن موقع ” القدس العربي”.