فنون و آداب

الجمال بين الحب والتجلي عند ابن عربي

الجمال بين الحب والتجلي عند ابن عربي

إنعام عبد المنعم حيدورة

 

مقدّمة

ولما رأينا الحب يعظم قدره ومالي به حتى الممات يدان
تعشقت حب الحب دهري ولم أقل كفاني الذي قد نلت منه كفاني
فأبدا لي المحبوب شمس اتصاله أضاء بها كوني وعين جناتي

 

يتناول هذا البحث فلسفة الجمال عند ابن عربي، الذي بدأ رحلته العلميّة باكرًا مذ كان في عمر الثماني سنوات، فحفظ القرآن الكريم، ودرس الحديث والفقه. وقد حصّل هذه العلوم الإسلاميّة، وهو لم يتجاوز العشرين من العمر. وبعد العشرين، بدأت مسيرته في التصوّف والتذوّق الجمالي العرفاني. كانت له مكانته الخاصّة بين الناس، ففي شبابه حيّر فيلسوف قرطبة، وأدهش علماء زمانه. وبعد وفاته اختلفوا فيه.  كما شكّل اتجاهًا جديدًا في الفكر الصوفي، وهو اتجاه علم المكاشفة، ووضع منهاجًا صوفيًّا ورؤية ما ورائية متكاملة لله والإنسان والكون. برزت نظرته الجماليّة في أغلب كتاباته، من الفتوحات المكيّة والتجلّيات الإلهيّة، وكتاب الجلال والجمال وغيرها من مؤلّفاته العرفانيّة والرمزيّة والشعريّة. وكان من المتقدّمين في طرح رؤية فلسفيّة جماليّة في أبهى صورها.

والسؤال الإشكالي هو التالي: هل فلسفة الجمال قديمة؟ أم أنها متأخّرة؟ وأين يقع الجمال والجماليّات في منظومة  ابن عربي؟

سيكتفي هذا البحث الوجيز بالإجابة عن الإشكاليّة المطروحة في مقدمة وفصلين وخاتمة. يتناول الفصل الأوّل تعريف فلسفة الجمال ونشأتها ومراحل تطوّرها. وينتقل الفصل الثاني للبحث في فلسفة الجمال عند ابن عربي، وتساوق الجمال مع العشق الإلهي، ومن ثم يمرّ على الجمال في التجلّي الإلهي عند ابن عربي. وفي الخاتمة، عرضٌ للاستنتاج.

 

الفصل الأوّل: فلسفة الجمال.

 التعريف والنشأة.

تعرّف فلسفة الجمال بأنّها كلّ الأفكار والتصوّرات النظريّة العامّة التي نجدها لدى الفلاسفة حول موضوع الجمال. ويرجع مصطلح الفلسفة إلى لفظ يوناني الأصلِ مشتَّق من كلمتين، (فيلو: والتي تعني المُحبٌّ)، و(سوفيا: التي تعني الحكمة)، وتعني المُحب للحكمة. وقد تطوّر مفهوم الفلسفة عبر التاريخ، من كونه قائمًا على البحث عن حقائق الأشياء وأسبابها وعللها، إلى تفريعها لكثير من المجالات والميادين الأخرى. فالفلسفة هي حقل للتفكير والبحث يهدف بشكل أساسي إلى فهم أسرار الوجود والواقع، واكتشاف ماهية الحقيقة والمعرفة، بالإضافة إلى أنّ الفلسفة تنظر في علاقة الإنسان مع الطبيعة والمجتمع المحيط به[1].

أمّا مصطلح الجمال فأصله يوناني أيضًا، فبعد أن كانت عند جورجياس نظريّة قائمةٌ على دور الجمال الفنّيِّ المؤثرِ على إحساس الإنسان؛ حيث تُقدّم الفنون للنفس البشريَّة لذّةً حسيَّةً، وكان يستند على الوهم في أفكاره، ويستقلّ عن الحقيقة،كان الجمال عند هيراقليطس تصوّر الكون صيرورة لانهائيّة بين أضداد متصارعة، والانسجام الذي ينظّم الكون في هذا الصراع الدائم. ويشير الأستاذ ف. أسموس إلى “أنّ الفكرة الأساسيّة التي طوّرها هيراقليطس في ميدان علم الجمال تقول إنّ الجمال هو تعبير عن انسجام الأضداد”[2].

وعند سقراط تدور الفكرة مدار جمال النّفس والأخلاق؛ فالجمال لديه هو ما يُحقّق النفع والفائدة الأخلاقيِّة، ويخدم الحياة الإنسانيّة، ويرجع الجميل عنده إلى الذات العاقلة والضمير الباطن. أمّا عند أفلاطون، فالجمال عنده مرتبط بالحبّ الإلهيِّ، لكون موضوع الحبّ هو الجمال بالذات، ويتدرّج الذوق الجمالي عند أفلاطون على مراحل ثلاث ترسم لنا ذوقًا جماليًّا وصوفيًّا في مضمونه بصورة تصاعديّة :

الذوق الجمالي الشكلي؛ أي جمال الأشكال.

الذوق الجمالي الأخلاقي والعقلي؛ أي جمال الأفكار.

الذوق الجمالي المطلق؛ أي الجمال المثالي الأبدي.

ويرى أفلاطون أنّ الفنون تأخذ جمالها من محاكاتها للطبيعة. وكان أفلاطون هو نقطة البداية الحقيقيّة في علم الجمال اليوناني، أو بشكل عام في تاريخ الوعي الجمالي، والجمال عنده ما هو إلّا محاكاة للمدركات والأشياء الشبيهة بمثال الجمال. فقد نظر إلى الجمال في المثال على أنّه جمال مطلق، بينما الجمال في الأشياء الأخرى هو جمال نسبي. ووفقًا لنظريّته، فإنّ الجمال ما هو إلّا محاكاة للمدركات والأشياء الشبيهة بمثال الجمال. فمفهوم الجمال عند أفلاطون هو أمر موجود بالعرض، فهو عرض ظاهر تشعر به الحواس أو إحداها فترتاح إليه، وتسرّ به النفس، وينشرح له الصدر، ويبتهج به القلب فهو مشترك بين الحواس كلها. فيعتبر الذوق الجمالي الأفلاطوني ذوقًا تصاعديًّا متسلسلًا من درجة إلى أخرى، حتّى يتمّ التوصّل إلى المفهوم الأعلى للذوق الجمالي، حيث يتحد هذا الذوق الجمالي بالخير. وقد رأى أفلاطون أنّ في أصل كلّ ذوق جمالي لا بدّ من ذوق أوّلي يجعل الأشياء جميلة[3].

كما تطرّق أرسطو لميادين الفنّ أكثر منه للجمال في الأشياء الذي بحث فيها أفلاطون في المثاليّة. لقد بحث أرسطو في الأثر الذي يتركه هذا الجمال في النفس، وكان هذا آخر ما وصلت إليه الفلسفة الإغريقيّة في الجمال.

وفي القرن الخامس عشر ميلادي، وبعد الحملات الصليبيّة ومدّ الفكر الأوروبي بالثروات الفكريّة الإسلامية عبر صقلية وقرطبة، ونقل التراث الفلسفي اليوناني والإسلامي إلى الحضارة الغربيّة، أخذ تعريف مفهوم الجمال الفلسفي عند الفلاسفة منحىً آخر، وكان لكلّ من المفكّرين في أوروبا رأيه وأفكاره حول هذا العلم. فمنهم من عرّف علم الجمال بالمعنى الحرفي لمصطلح الإستاطيقا، اليوناني، والذي يعني الجمال، بينما توجّه آخرون بتعريفهم لعلم الجمال بالربط بين الجمال والفن، وخلص بعضهم بتعريفهم لمفهوم الجمال بالمرادفات، ومن مرادفاته علم الجمال والجماليّات وفلسفة الجمال. فظهر مفهوم الجمال بحلّة جديدة، وأصبح أحد فروع الفلسفة الحديثة حيث ظهر في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، ورغم شبه الاتفاق بين الفلاسفة على أنّ جوهر الفن هو فلسفة الجمال، إلّا أنّهم اختلفوا بعد ذلك حول ماهية “الجمال”، وما هي الشروط التي ينبغي توفرها في “الشيء” حتّى نُطلق عليه جميلًا؟

وقد عُرف المجال الذي يحاول أن يجيب عن هذه التساؤلات بالإستطيقا[4]، (أو فلسفة الجمال)  Aesthetics، وهي كلمة ترجع جذورها إلى اللغة اليونانيّة القديمة، وتعني المعرفة الحسيّة أو الصورة الأوّليّة لها، وأوّل من صاغ هذا الاسم هو “ألكسندر بومجارتن” في بداية القرن الثامن عشر، وذلك في كتابه تأمّلات فلسفيّة في موضوعات تتعلّق بالشعر؛ حيث ربط الفنون بالمعرفة الحسيّة، وهو رأي شاع بعد ذلك في طرح هيجل عن الجمال. بينما عرّف إيمانويل كانط علم الجمال بأنّه خوض تجربة الجمال، ويصدر من حكم الفرد الذاتي، ولكن مشابه وقريب من الحقيقة الإنسانيّة.

فلسفة الجمال علم معياري تمامًا مثل المنطق أو علم الأخلاق، ولا تتّسم موضوعاتها بالتقنين الموضوعي، بل إنّها ذاتيّة. ويعرف معجم لالاند فلسفة الجمال على أنّها “علم موضوعه الأحكام التقويميّة الذي ينطبق على التفريق بين الجميل والبشع”[5].

الجمال عند العرفاء.

يعدّ الجمال من اصطلاحات الصوفيّة، حيث إنّ الجمال الحقيقي عندهم هو صفة أزليّة لله تعالى، وعبارة عن أوصافه العليا وأسمائه الحسنى على العموم، وأمّا على الخصوص، فصفة الرحمة والعلم واللطف والنعم والجود والرازقيّة والنفع وأمثال ذلك كلّها من صفات الجمال.

والجمال في التصوّف والعرفان الإسلامي يتميّز بخاصيّة الذوق، وهو ذوق يختلف عن ذلك الذي نجده في الفلسفات الأخرى، لأنّ مفاهيم الذوق العرفاني لا تحصل عن طريق التأمّل العقلي، بل هو ذوق كشفي أساسه القلب. فنقطة انطلاق  الذوق الجمالي الصوفي قد بدأت في المنهج الإشراقي انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ…[6]؛ حيث يصف الله نفسه بأنّه نور الأنوار الذي تستمدّ سائر الموجودات نورها منه. ومن هنا، يترقّى العارفون فيرون بالمشاهدة العيانيّة أن ليس في الوجود إلاّ الله، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجهه. وتبدأ معرفتهم بالحسّ وتنتهي بالعقل، إلاّ أنّ أعلى مراتب المعرفة ليست العقل أو الإيمان، بل مرتبة جماليّة الذوق والكشف التي هي بمثابة نور يقذفه الله في الصدر، وذلك بالإقرار بأنّه هو الموجود الفرد الفاعل الأحد، والنور الذي ليس وراءه نور آخر، وإنّ إدراك هذا النور لا يكون بالنظر المجرّد ولا بالاتحاد والمشاهدة[7].

من هنا، فإنّ علم الجمال ليس علمًا حديث النشأة، إلّا أنّه نتاج فكري تأمليِّ فلسفيِّ، استمدّ أُصوله من المذاهب الفلسفيّة الميتافيزقيّة القديمة، وتطوّر عبر التاريخ، وبرز بحلّة جديدة بعد الانفتاح الغربي على المشرق العربي، فهو علم قديم بلحاظ، وحديث بلحاظ آخر. وهو يدلّ على الخير والحقيقة؛ ففلسفة الفنّ والجمال نشأت بنشوء الفلسفة، وهي لا تنفصل عنها.

الفصل الثاني: الجمال عند ابن عربي.

يظهر الجمال عند ابن عربي من خلال الأنساق الجماليّة والتعابير الفنيّة والشعرية التي تحوّل نظرته إلى الوجود بكلّ مراتبه إلى صور فنيّة تنمّ عن قوة الافتتان بحقائق الوجود الجماليّة. والعالم بمجموعه عنده صفة لجمال الحقّ وحسنه، ولم يرَ للقبح وجودًا أصلًا، فليس العالم سوى ظلّ المطلق، ولا وجود لشيء يمتلك صفة الجمال ذاتيًّا سواه، لأنّ كلّ شيء خاضع تحت هيمنته، ولذا كان يرى الجمال في هذا الجوهر الذي هام في عشقه.

“فمن أحبّ العالم لجماله فإنّما أحبّ الله، وليس للحقّ مجلى إلّا العالم وما ثم جميل إلا هو … فخلق العالم على صورة جماله”[8].

ولما كانت جماليّات العالم هي التي تنفتح على سطوع الحقّ وسحر بهائه الذي لا ينتهي هام به ابن عربي، وانجذب نحو سيمفونيّة لحن الكون الأخّاذ، ورأى كلّ شيء جميلًا.

يقول: فكلّ الخلق محبوبي فأين مهيّمي أين؟[9]

فالجمال عند ابن عربي نعوت الرحمة والألطاف المتجلّية من الحضرة الإلهيّة. وقد فرق بين نوعين من الجمال: الجمال العرضي، وهو الجمال المتبدّل المتغيّر، وهو صفة من صفات العالم، والجمال المطلق، وهو جمال الله المتمثّل بالكمال الإنساني المتجلّي في هذا العالم بصفته الإنسانيّة، والتي هي “صورة الرحمان”.

تساوق الجمال مع العشق الإلهي.

يذهب ابن عربي إلى أنّ الجمال الإلهي هو القاعدة الأساسيّة للحبّ؛ فجمال الله هو مصدر كلّ أشكال الحبّ. كما أنّه سبب الخَلق وسبب عبادة الإنسان له. ويرى أنّ هناك ثلاثة أنواع من الحبّ: الحبّ الطبيعي، والحبّ الروحي، والحبّ الإلهي، بل إنّ الحبّين الأوّلين هما نوع من الحبّ الإلهي لأنّ الحبّ الإلهي هو الحبّ الأبدي الذي تصدر عنه أنواع الحبّ الأخرى. ويقصد ابن عربي بالحبّ الروحي ذلك الحبّ الصوفي الذي يكون هدفه الأقصى هو الفناء في المعشوق الإلهي.

إنّ جماليّة الذوق العرفاني خاصّة في الجمال الإلهي تحكمها صفة الأزليّة، لأنّ جمال الحقّ يتجلّى بجلال جماله، والله لما أراد أن يعرف بإرادته هو في معرفة نفسه في مرآة نفسه، أي الكون، خلق الإنسان في أكمل صورة، وجعل جمال حسن صورته دليلًا على جمال صانعه. لذلك، فإنّ التجلّي الإلهي يعكس ذوقًا جماليًّا يتمثّل في الحركة العشقيّة التي تحصل عند العارف عروجًا نحو الذات الإلهيّة. وهذه الحركة تكون في عالم التغيّر والتبدّل والكثرة، بحيث تعكس كلّ الموجودات في الكون جمال الصور بما في ذلك المرأة والطبيعة. وتكون كلّ الكائنات الوجوديّة حاكية عن تجلّي جمالي للصور الوجوديّة، غير أنّ الذوق الجمالي الإلهي هو الحقيقة الأبديّة، وهو سرّ المناجاة في كتاب التجلّيات حيث يقول ابن عربي: “كم أندرج لك في الروائح فلا تشمّ، وفي الطعوم فلا تطعم لي ذوقًا، ما لك لا تلمسني في الملموسات؟ ما لك لا تدركني في المشمومات؟ ما لك لا تبصرني؟ ما لك لا تسمعني؟ ما لك…؟”[10].

فهناك تجلٍّ جمالي رفيع عند ابن عربي يثبت من خلاله أنّ هناك علاقة اتصال بين الطبيعي والإلهي، وأنّ نقطة الحبّ هي مركز الذوق الجمالي والمجلى للحقيقة الإلهيّة في العالم، لأنّ ابن عربي حينما يتحدّث عن الكائنات الوجوديّة في العالم، أو ما يمثّل الصور بالنسبة إلى العارف، يقول بالكشف والتجلّي الإلهي داخل العالم، فهو استحضار ذوقي وتجلٍّ جمالي للذات الإلهيّة في الكون.

فكان عيني فكنت عينه وكان كوني فكنت كونه
ياعين عيني ويا كون كوني الكون كونه و العين عينه[11]

 

من هنا، فإنّ هذا النوع من الذوق والجمال يكمن في الحبّ؛ لأنّ الحبّ الإلهي بالنسبة إلى ابن عربي هو أساس الكشف والتجلّي ” كنت كنزًا مخفيًا فأردت أن أُعرف فخلفت آدم فكان آدم عين جلاء المرآة”[12].

حصول الذوق الجمالي عند العارف بالتجلّي.

“فيتجلّى لتلك العين بالاسم الجميل فتتعشّق به، فيصير عين ذلك الممكن مظهرًا له”[13]. يرى ابن عربي أنّه لا بدّ لكل ّكشف من تجلٍّ؛ فما التجلّي؟ وكيف يحصّل العارف ذوقًا جماليًّا؟

يقول ابن عربي: “اعلم أنّ التجلّي عند القوم ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهو على مقامات مختلفة: فمنها ما يتعلّق بأنوار المعاني المجرّدة عن الموادّ من المعارف والأسرار، ومنها ما يتعلّق بأنوار الأنوار، ومنها ما يتعلّق بأنوار الأرواح وهم الملائكة، ومنها ما يتعلّق بأنوار الرياح، ومنها ما يتعلّق بأنوار الطبيعة، ومنها ما يتعلّق بأنوار الأسماء، ومنها ما يتعلّق بأنوار المولّدات والأمهات والعلل والأسباب على مراتبها. فكلّ نور من هذه الأنوار إذا طلع من أفق، ووافق عين البصيرة سالمـًا من العمى والغشي والصداع والرمد وآفات العين كشف بكلّ نور ما انبسط به”[14].

والتجلّي عند العرفاء هو ظهور ذات الله وصفاته، وهذا هو التجلّي الرباني، ويسمّى شأنًا إلهيًّا بالنسبة إلى الحقّ سبحانه وتعالى، وحالًا بالنسبة إلى العبد، ولا يخلو ذلك المتجلّي من أن يكون الحاكم عليه اسمًا من أسماء الله تعالى أو وصفًا من أوصافه، فذلك الحاكم هو المتجلّي[15] .

وينقسم التجلّي إلى ثلاثة أقسام:

التجلّي الأوّل: هو التجلّي الذاتي، وهي الحضرة الأحديّة التي لا نعت فيها ولا رسم، فالذات هي وجود الحقّ المحض، وما سوى الوجود من حيث هو وجود ليس إلّا العدم المطلق.

التجلّي الثاني: هو الذي يظهر في أعيان الممكنات الثانية التي هي شؤون الذات لذاته تعالى، وهو التعيّن الأوّل بصفة العالميّة والقابليّة.

التجلّي الثالث: هو ظهور الوجود المسمّى بالنور، وهو تجلّي الحقّ بأسمائه في الأكوان التي من صورها، وذلك ظهور نفس الرحمن الذي يوجّه الكلّ”[16].

إذًا، فالتجلّي هو انكشاف الحقائق الغيبيّة للقلوب من خلال الأنوار الإلهيّة التي تشرق على القلوب المستعدّة لتلقّي الفيوضات وتحصّل المكاشفة والمشاهدة من خلال القلوب المبتعدة عن كلّ ما من شأنه أن يشوبها، ويرين عليها صدأ علائق المادة، حيث يتذوّق العارف جماليّة ذلك النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن العارف بالله، فيطلع على أسرار الموجودات، ويتذوّق من مشاهدته التجلّيات الجماليّة في مختلف تشكّلاتها. فالتجلّيات الإلهيّة تعبّر عن صفات الحقّ تعالى المتعدّدة بتعدّد أسمائه التي تنكشف لقلوب العارفين، وفي أعلى مراتب التجلّيات الجماليّة يفنى العبد عن ذاته، ويكون الحقّ سمعه وبصره. والفناء ذوق جمالي يتجلّى بالتخلّي عن الأوصاف المذمومة، والتحلّي بالصفات المحمودة. وعلامة الفناء يتحقّق حينما ينقطع العبد عن الخلق؛ فلا يرى شيئًا غير الله، ويغفل عن نفسه وعن كلّ ما سوى الله تعالى، وعند هذا الانقطاع يتذوّق العبد التجلّيات الإلهيّة بأبهى صورها.

“الكل هو المعشوق والعاشق حجاب والمعشوق حي والعاشق ميّت”[17].  

 

والاشتياق تعبير عن تجلّيات وجماليّات روحيّة وإلهية حيث يقول:

لـــــــــــــشــــــــــــــوق يسكــــــــــــــن بـــالـــــــــــــلّقــــــــــــاء والاشتيـــــــــــاق يهيج بالارتــــــــــقـــاء
لا يـــــــــــــعــــــــــــرف الاشـــــــــتــــيـــــــــاق إلّا الـــعــــــــــــــشّـــــــــــــــــــاق
فمن سكن باللقاء فما هو بعاشق عـــــــنـــــــــــد أربــــــــــــاب الحقــــــــــائــــــــــــق
مـــــــن قــــــــــام بـــــثــــيــــــــــــابـــــــــه الحـــريـــــــق كـــــــــيــــــــــف يــــــــــســـــكــــــــــن
كـــــــــــيـــــــــــف يــــــصـــــــــــحّ الـــــسكــــــــون وهـــــــــــــــل في العــــــــــــشـــــــق كــــــــمــون
هـــــــــــــو كــــــــــــلّــــــــــــــه ظــــــــــــــــــــــــــهـــــــــــور ومـــــــــــقامـــــــــــه نـــــــــــشـــــــــــــــور

 

وعند قراءة كتاب ترجمان الأشواق، فالملفت أّن ابن عربي أضاء من خلاله على تجربة التجلّيات الجماليّة والكشوفات القلبيّة من خلال العشق الإلهي والتيه الوجودي في السبوحات الإلهيّة، والإنسان الكامل هو المتذوّق لهذا الجمال المتجلّي. ولمّا كان الله هو غاية هذا التجلّي، فإنّه يتّخد في القلب أشكالًا تختلف باختلاف مدى استعداد القلب لتلقّي الأنوار الإلهيّة والفيوضات الربانيّة.

خاتمة.

إنّ علم الجمال ليس علمًا حديث النشأة، بل هو نتاج فكري فلسفيِّ، استمدّ أُصوله من المذاهب الفلسفيّة الميتافيزقيّة القديمة، وتطوّر عبر التاريخ، وبرز بحلّة جديدة بعد الانفتاح الغربي على المشرق العربي، فهو علم قديم بلحاظ وحديث بلحاظ آخر. وهو يدلّ على الخير والحقيقة. وفلسفة الفنّ والجمال نشأت بنشوء الفلسفة، وهي لا تنفصل عنها.

يرى ابن عربي أنّ الله تعالى هو مطلق الجمال والمصدر الحقيقي له، وأنّ جمال الموجودات تجليّات لجماله ومفاضة عنه، والقبح أمر عارض ولا وجود له إلا في الاعتبار. والجمال عنده يدور مدار الحب، وعشق العارف للذات الإلهية تجعله في سير دؤوب لرؤية هذه الذات، ولذلك عشق كلّ ما تتجلّى فيه، وكونها لا تتجلّى إلّا في كلّ جميل. اتخذ العارف من الجمال الحسّي سلّمًا يترقّى به إلى الجمال المطلق. فهو لا ينظر إلى الجمال بعيدًا عن المطلق الإلهي الغيبي الذي يتحرّك فيه، ولا يعبّر عن إحساسه بالجمال بمعزل عن روعة الكون وتمام الخلق وعظمة الوجود. فابن عربي يربط في البداية الكشف والتجلّي بعامل مهمّ في سير العارف، وهو الحبّ. وتكون تجربة الكشف والتجلّي عند ابن عربي هي التي تكشف في الحقيقة عن ذوقه الجمالي الرفيع.

وعلى ضوء ما تقدم تبرز الأسئلة التالية:كيف تجلّى الذوق الجمالي في فكر ابن عربي، وخاصة على مستوى الشعر؟ وكيف انطلق من وحدة الوجود في رؤيته الجماليّة؟  وهل هناك من تأثر بفلسفته العرفانيّة من الفلاسفة الغربيين؟

________________________

*نقلًا من “المعارف الحكمية- معهد الدراسات الدينية والفلسفية”.

 

 

 [1]  كامل محمد محمد عويضة، زينون وما حققته الفلسفة اليونانية، (بيروت: دار الكتب العلمية)، الجزء 26، سلسلة أعلام الفلاسفة.

[2]  ثيوكاريس كيسيديس، هيراقليطس، جذور المادية الديالكتيكية، ترجمة: حاتم سليمان، (بيروت: دار الفارابي، 2001).

[3]  مصطفى عبده، مدخل إلى فلسفة الجمال، (القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة 1، 1982)، الصفحة 111.

 [4] الإستطيقا: علم المدرك الحسّي كما أطلقها ألكسيس بومجاردن الذي اعتبر الشيء الجميل ينتج من إدراك الحواس وأنّ الفنّ جمالًا أملي على تصوّر عقلي .

[5]  أميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة: جورج طرابيشي، مجلد القرن التاسع عشر (بيروت: دار الطليعة، 1997).

[6]  سورة النور، الآية 35.

[7]  يوسف زيدان، شعراء الصوفيّة، (بيروت: دار الجيل، الطبعة 2،  1996)، الصفحات 24 – 52.

[8]  ابن عربي، الفتوحات المكية، (بيروت: دار الكتب العلميّة، الطبعة 2، 2006)، الجزء 7، الصفحة 295.

[9] المصدر نفسه، الجزء 6، الصفحة 224.

[10]  الفتوحات المكيّة، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 145.

[11]  – سهيلة عبد الباعث الترجمان، نظرية وحدة الوجود بين ابن عربي والجيلي، (منشورات خزعل، الطبعة 1، 2002)، الصفحة 601.

[12]– ابن عربي، فصوص الحكم، شرح الشيخ عبد الرزاق الكاشاني، (مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة 1، 2006)، الصفحة 344، الفصّ الآدمي.

[13] ابن عربي، كتاب الجلالة ضمن رسائل ابن عربي، (بيروت: دار إحياء الثرات العربي، الطبعة 1، 1984)، الصفحة 137.

[14] الفتوحات المكيّة، مصدر سابق، الجزء 4، الصفحة 171.

[15] – عبد المنعم حنفي، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، (مكتبة مدبولي، الطبعة 3، 2000)، الصفحة 184.

[16] مراد وهبة، المعجم الفلسفي (دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1988)، الصفحة 735.

[17]  ابن عربي، ديوان ترجمان الأشواق، ترجمة: د.عبد الرحمن نجيم، (القاهرة: دار صادر للنشر، الطبعة 2، لا ت)، الصفحة 124.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى