أعلام وأقطاب

نسيمي الشاعر الصوفي الأذربيجاني: الذي أغضب السلطان المملوكي فأعدمه

مجد أبو ريا

نسيمي الشاعر الصوفي الأذربيجاني:

الذي أغضب السلطان المملوكي فأعدمه

مجد أبو ريا

بأمرٍ من السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي الذي يحكم سلطنة المماليك من القاهرة، قُتل رجلٌ في مدينة حلب عن طريق سلخ جلده حياً! ربما كانت لهذا الرجل أشعارٌ اعتبرها بعض الفقهاء هرطقةً دينيّة، لكنّ المدقّق في الأحداث سيعرف أنّ الأمر كان سياسياً بالأساس، استغلّه السلطان للقضاء على الشاعر عماد الدين نسيمي. فما قصّة هذا الشاعر الأذربيجاني الذي تعتبره دولة أذربيجان أحد أعلامها التاريخيين؟

عماد الدين نسيمي.. صوفي تحوّل إلى المذهب الحروفي

ولد عماد الدين نسيمي عام 1370 تقريباً، وهو شاعر صوفي أذربيجاني، اختلفت الروايات حول مكان ولادته، فمنها من اعتبر أن ولادته كانت في بغداد، ومنها من اعتبر أنه وُلد في تبريز، ولكن الروايات التي اتفق عليها أغلب المؤرخين أنه وُلد في مدينة شاماخي في أذربيجان.

يلقّب عماد الدين بالنسيمي الشيرواني، وذلك لأنه قضى مدة من حياته في مدينة شيروان الإيرانية، وأما نسبته نسيميّ فإلى ضاحية نسيم في بغداد. وهو ليس بناءً على موطن ولادته بل بناءً على ما قضاه فيها من شبابه في التعلّم والدّعوة إلى الصوفية والحروفية.

تعمَّق نسيمي في دراسة الفلسفة والفلك والمنطق والرياضيات، وكان يجيد اللغة العربيّة والفارسيّة والتركيّة والأذربيجانية، وقد كتب بهذه اللغات أشعاراً صوفيّة، واستطاع أن يبدع تحديداً في لغته الأذربيجانية، وقد ترك ما يزيد على 10 آلاف بيت شعري في مختلف الموضوعات.

أما ديوانه بالفارسية فضمّ حوالي 5 آلاف بيت، غير أن دواوينه بالعربيّة تعرّضت للضياع أو للإتلاف لاعتباراتٍ مختلفة، في أغلبها اعتبارات السياسيّة، ولكن وصلت بعض قصائده بالعربيّة وبعض مُلمّعاتِه. و”المُلمّعات” هي قصائد يجمع فيها الشعراء بين العربيّة والفارسيّة أو بين العربيّة والتركيّة.

اعتنق نسيمي في بداية حياته الفلسفة الصوفيّة الممتدة من مدرسة الصوفي والشاعر العباسي العراقي الحسين بن منصور المشهور بـ”الحلّاج” أحد روّاد التصوف في العالم الإسلامي، والذي قتل أيضاً بطريقةٍ مأساوية عام 922، بصلبه وقطع رأسه وأطرافه وحرقه بعد ذلك.

بعد ذلك اعتنق نسيمي المذهب “الحروفي” على يد فضل الله نعيمي الاسترآبادي في مدينة باكو -عاصمة أذربيجان الحالية- وأصبح واحداً من دعاتها، كما تزوّج أيضاً بابنة أستاذه الاسترآبادي.

والحروفية هي فرقة شيعية فارسية متأثرة بالإسماعيلية والصوفية “الغنوصية” أو الباطنية. أسسها فضل الله نعيمي الأسترآبادي، وهو والد زوجة نسيمي كما أسلفنا. وتقول هذه الفرقة إن العبادة هي اللفظ، وبه يمكن للإنسان الاتصال بالله، والمعرفة هي أيضاً معرفة الألفاظ لأنه مظهر الموجودات، واللفظ لذلك مقدَّمٌ على المعنى.

في إحدى قصائده، يقول نسيمي:

كل الموجودات أنا، وكل المرايا لا تحتويني
قد أكون اليوم نسيمياً، وقد أكون هاشميّاً، وقد أكون قُرشياً
أنا الذي تتجلّى آياتي فيَّ، وكل آياتي لا تسعني
الكون والمكان هي آيتي
وذاتُكَ هي بدايتي
وأنت بهذه العلامة اعرفني، ولكن اعلم أنّ كلّ العلامات لا تسعني
أنا سرّ الكنوز، أنا المحيط، وكلّ الموجود أنا
وإنّ كلّ الكون الأعظم هو ذاتي واسمي
وكلّ هذا الكون لا يسعني

 

بعد حرق أستاذه.. اضطر نسيمي إلى الفرار

تسببت آراء الاسترآبادي في إغضاب ميران شاه بن تيمورلنك سلطان الدولة التيمورية في فارس، والذي أمر بحبسه في زنزانة ثم قطع رأسه وحرق جثته أمام النّاس. ووفقاً لكتاب “الحركة الحروفية وانتفاضة البسيخانيين النقطوية في إيران من تيمورلنك إلى الشاه عباس الصفوي” كان الاسترآبادي قد كتب رسالة وصيةً أرسلها سراً إلى باكو، قال فيها لأتباعه أن يغادروا باكو وشيروان على جناح السرعة.

وبالفعل نفَّذ نسيمي وصية أستاذه وترك باكو متوجهاً إلى آسيا الصغرى مقيماً في الأناضول، ومنذ ذلك العهد حتى عهد سلطنة شاه رخ بن تيمورلنك، قام نسيمي مع أتباعه بتجديد طائفتهم وبدأوا بنشر دعوتهم السرية بفعالية ونشاط في شتى أنحاء الأناضول التي لاقى فيها قبولاً بين الناس.

بعد عدّة ملاحقات في بلدان مختلفة استقرّ المقام بنسيمي في مدينة حلب التابعة للسلطنة المملوكية، واتخذ منها مركزاً لإعادة صياغة الحركة الحروفية، التي كانت وقتها أحد المراكز المهمة للحِرَف والتجارة وملتقى القوافل التجارية للهند.

سرَت دعوته ولاقت قبولاً كبيراً بين الشباب، فاستشعرت السّلطة السّياسيّة مع الفقهاء خطورة دعوته التي تهدد النظام القائم.

أمّا الفقهاء فكانوا يرون دعوته خطراً على الدّين وعلى الشّريعة بما فيها من انحرافاتٍ يتضمّنها المذهب الحروفيّ، بينما بدأ المماليك يرون فيه خطراً على استقرار سلطتهم لاتّساع تأثيره وخشيتهم من تحوّل ثوريّته الفكريّة إلى ثوريّة سياسيّة، خصوصاً أنّ نسيمي كانت له علاقات قوية مع الأمراء التركمان في الأناضول.

وما يؤكد ذلك هو ما أورده محمد جمال باروت في كتابه “الصراع العثماني – الصفوي وآثاره في الشيعية في شمال بلاد الشام”، من أن نسيمي تمكّن من نسج علاقاتٍ وثيقة مع الأمراء التركمان في المناطق العليا المملوكية من شمال بلاد الشام و المتأرجح ولائها بين المماليك والدولة التيمورية من جهة و العثمانية من جهةٍ أخرى.

وكان في مقدمة حلفائه آل دلغدار التابعون اسمياً للمماليك، وكذلك الأمير التركماني عثمان قره يولك في منطقة ديار بكر.

نهاية نسيمي المأساوية.. تهمة دينية حقيقتها سياسية

نتيجة علاقة نسيمي بالأمراء التركمان الذين كانت فكرة التمرد تحكم طبيعة علاقتهم مع المركز المملوكي في القاهرة، قرر سلطان المماليك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي التخلُّص من عماد الدين نسيمي، لكنّ أغلب فقهاء مدينة حلب عارضوا إباحة دمه، ما عدا الشيخ شهاب الدّين أحمد بن هلال الحسبانيّ الشّافعيّ الصّوفيّ.

كان السلطان يخشى بشكل أو بآخر، من فكرة إعدام نسيمي بلا تهمة حقيقية فهو شاعرٌ صوفي له أتباع في النهاية، فحاول المقربون منه أن يدبروا تهمةً “دينية”، للتستر على الهدف الحقيقي من قتله الذي كان سياسياً بحتاً، وقد اختلفت الروايات حول التهمة التي وجهت لنسيمي.

الرواية الأولى تحدَّثت عن قيام سلطة المماليك بتدبير مكيدة، بتحريضٍ من الشيخ الشافعي، وقيامهم بتمزيق بعض أوراق المصحف ووضعها في حقائب النسيميّ ومن ثم الوشاية به، وعلى أثر ذلك تمّ اعتقاله ومحاكمته، وعندما وقف أمام القاضي سأله: ما الحكم في اليد التي تعبث بالقرآن؟ فأجاب: تقطع، فقال القاضي: ها أنت قد أفتيت لنفسك، فما كان منه إلّا أن أعلن أنّه يسلّم أمره لله.

أما الرواية الثانية التي ذكرها الكاتب السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي في كتابه “ياقوتة حلب، عماد الدين النسيمي”، أن واحداً من تلاميذ نسيمي كان يتغنى بأشعار أستاذه في أسواق حلب، وتم إلقاء القبض على هذا الشاب، وأثناء المحاكمة نسب الشعر إلى نفسه ليدرأ الخطر عن أستاذه، فحكم عليه بالإعدام، لكن نسيمي سارع ورد الشعر إلى نفسه.

وهنا وفَّر نسيمي على السلطان كلفة أن يلقي عليه تهمة، وأُحضِرَ إلى دار العدل بحضور مجموعة من العلماء والفقهاء، الذين اتهموه بالكفر والإلحاد والزندقة، لكن القضاة الآخرين رفضوا الحكم عليه بالإعدام، ورفعوا الأمر للسلطان.

على كل، اتفقت كلتا الروايتين على حكم السلطان المملوكي ضد نسيمي، الذي لا يمكن وصفه. فقد أمر السلطان بإعدام نسيمي بعد سلخ جلده حياً والتشهير به في حلب سبعة أيام، وينادى عليه وتقطع أعضاؤه على أن تكون النّهاية بقطع رأسه، وأن يكون كلّ ذلك في ساحةٍ عامّة ويدعى الجمهور لمتابعتها.

ولم يكتفِ السلطان في القاهرة عند هذا الحد، بل أمر بإرسال قطعةٍ من أعضاء نسيمي إلى كل من: علي بك آل دلغدار وأخيه ناصر الدين، وعثمان قره يلوك، لأنه كان قد “أفسد عقولهم”. ولنا الآن أن نتخيّل ماذا يعني “إفساد عقول” لديهم نزعة استقلالية عن الحكومة المركزية.

حلقة المأساة الأخيرة: تنفيذ الحكم

جاء وصف مشهد الإعدام في كتاب “حيونة الإنسان” للكاتب السوري ممدوح عدوان في عبارة: “كانت براعة الجلاد عالية تماماً بحيث إن نسيمي لم يمت أثناء تنفيذ عملية السلخ، ولذلك أُطلق “حياً” وهو يحمل جلده على كتفه، وظل يسير وينزف”.

اقتيد نسيمي في عام 1417، إلى مسلخه الذي احتشد حوله الآلاف من محبّيه الذين تقاطروا من كل مكان. بدأ نسيمي يردّد بعضاً من أشعاره، وعندما بدأ سلخ جلده، قال له القاضي باستهزاء: “إذا كنت الحقَّ كما تدّعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب؟” فرد عليه نسيمي قائلاً: “الشمس تشحب دائماً عند المغيب؛ لتشرق من جديد”.

ومن الجدير ذكره أن مفتي حلب آنذاك كان من شهود قتله، وأعلن وقتها أن عماد الدين نسيمي نجس ويموت ميتة نجسة قائلاً: “ولو وقعت نقطة من دمه على جارحةٍ من جوارحي لقطعتها”.

وفعلاً أصاب المفتي رشاش من دم النسيمي أثناء سلخ جلده وهو يُعذّب، وسقطت نقطة من دم النسيمي على إصبع المفتي، فتنبّه إلى ذلك أحد الحاضرين من محبي نسيمي، فنظر إلى المفتي وقال: لقد سقطت نقطة من دمه على إصبعك فاقطعها كما وعدت بذلك أيها المفتي.

فذعر المفتي وقال: كلا، إنما قلت ذلك حينما كنت أمثّل لكم وليس في التّمثيل من حرج، عندها قال النّسيميّ وهو يعاني آلام السّلخ: “لا بدّ من قطع إصبع هذا الزاهد الذي زاغ عن الحقّ، وانظر إلى ذلك العاشق المسكين الذي يمزّق إهابه من قمّة رأس إلى أخمص قدمه، فما بكى ولا شكا”.

لفظ نسيمي آخر أنفاسه أمام أسوار قلعة حلب، بعد أن تم تعذيبه بطريقةٍ غير إنسانية، واعتقد قاتلوه بأن شعره دفن معه إلى الأبد، لكن ذلك لم يحدث.

نسيمي في الحضارة الإنسانية الحديثة

احتفل الأذربيجانيون عام 1973 مع اليونسكو ومجلس السلم العالمي بذكرى مرور 600 عام على ميلاد عماد الدين نسيمي، وفي عام 1989 أهدت الحكومة الأذربيجانية مدينة حلب تمثالاً له، ووُضع في الجناح الإسلامي بالمدينة، كما أهدى الوفد إلى اتحاد الكتاب العرب ديوان نسيمي المطبوع بالتركية وديوانه المطبوع بالفارسية.

وفي عام 2018، أعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، في كلمته التي ألقاها في اجتماع مجلس الوزراء المكرّس لنتائج التنمية الاقتصادية الاجتماعية في باكو، أن عام 2019، سيكون عام الشاعر الأذري عماد الدين نسيمي، حيث تحتفل أذربيجان بذكرى مرور 650 عاماً على ميلاد شاعرها في هذا العام.

وفي احتفالات نسيمي عام 2019،  غنّى المنشد والملحّن البريطانيّ ذي الأصل الأذريّ سامي يوسف، وقد أعيد الترويج لها مؤخراً بعد ترجمتها من اللهجة الأذربيجانيّة التركمانية وقد نالت الأغنية ملايين المشاهدات ولاقت رواجاً واسعاً بسبب جمال لحنها وأدائها، وهي قصيدة قالها بلسان الذّات الإلهيّة، وقد تمت ترجمتها إلى العربية.

_____________________________________________

*نقلاً عن موقع ” عربي بوست”.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى