القطب عبد الرحيم القِنائي من أعلام التصوُّف المغاربة بالمشرق
د. كريمة بنسعاد
هو صوفي ناسك، وعالم فذ، جمع بين الثقافتين المغربية والمشرقية، ووفق بين النورين، نورالشريعة، ونورالحقيقة، صاحب المقام السَّنيْ، والمشرب الشاذلي، سيدي: “عبد الرحيم بن أحمد بن حَجُّون بن محمد بن حمزة بن إسماعيل بن علي بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين الترغدي المولد، السبتي الأصل المغربي الصوفي، ولد رضي الله عنه عام (521ﮪ)، في ترغة غمارة، من قبيلة بني عموان”،[1] بشمال المغرب.
كان رحمة الله عليه رجلا ذا شخصية متكاملة، تلاحمت من خلالها الثقافتين وانصهرت العلوم والمعارف فيها، كان مذهبه ذا حدين، الجد في العمل، والحث على طلب العلم، حيث كان عالماً عاملاً، ومرشداً داعياً، وأستاذاً مدرساً لأصول الشريعة، ومناهج الطريقة؛ ترعرع على طلب العلم، وتعليمه، فحفظ القران بتعاليمه، وأتقنه وتعلم تجويده، وهو لم يبلغ الحلم بعد، وبعد وفاة والده، الذي ترك عنده عظيم الأسى والحزن، رحل إلى دمشق، ومكث بها مدة مع أهله، حيث اغتنم وجود العلماء والفقهاء المشارقة، الذين أخد عنهم العلم، ثم بعدها أرجعه الحنين إلى بلاده، لكن هذه المرة بجعبة عامرة بالعلوم والمعرفة، وقد وظفهما في خدمة الشريعة والطريقة، وأصبح مدرسا في حلقات علمية بجامع ترغاي الكبير، يتقاطر عليه الناس من كل حدب وصوب.
يقول محمود عبد الحليم: “… ومن أجل ذلك اتخذ طريقه إلى الحجاز عبر الإسكندرية، مارا بالقاهرة…، ووصل إلى مكة، و أدى فريضة الحج، ثم أحب التنقل بينها وبين المدينة المنورة، يتاجر بعض الوقت ليكتسب قوته، ويعكف بعد ذلك على العبادة، والعلم، والتدارس مع علماء مكة…، واستمر على هذه الحال تسع سنوات، عابداً عالماً…، إلى أن التقى بالشيخ مجد الدين القشيري، ودار بينهما حديث طويل عن التصوف والإسلام…، فأقسم القشيري على عبد الرحيم أن يصحبه إلى مصر، إلى “قنا”، فأهلها في حاجة إليه وإلى علمه…، ليرفع راية الإسلام، ويعلم المسلمين أصول دينهم، ويجعل منهم دعاة للحق، وجنودا لدين الله”،[2] وقد صاحب الكثير من العلماء والصوفية والشيوخ نذكر منهم: “الشيخ أبي يعزى، والإمام أبو الحسن علي بن أحمد الصباغ…”.[3]
طابت نفس القنائي إذ ضل “بقنا” وارتاح في مقامه بها، حيث “… اعتكف عامين كاملين يدرس، ويتعرف، ويتعبد، ويعمل بالتجارة، وخلال هذه الفترة صدر قرار من والي مصر، بتعيين الشيخ عبد الرحيم شيخا لقنا، وأصبح من ذلك اليوم يسمى “بالقنائي”…، وضل يقيم حلقات العلم بالمكان الذي به مزاره ومسجده “بقنا”، حيث يجتمع بكل الوافدين من كل مكان، يستمعون له ويتدارسون معه، ويتتلمذون عليه”،[4] وذلك لمكانته الكبيرة بين أقرانه وتلاميذه، حيث “… اتفق أهل زمانه على أنه القطب المشار إليه، والمعول في الطريق عليه…، فكان من الزهاد المذكورين، والعباد المشهورين، تخرج على يده جماعة من أعيان الصالحين، بصالح أنفاسه”.[5]
تفرد القنائي بنظرياته، وبمواقفه، التي تصب في قالب صوفي علمي محض، حيث أفرز هذا التلاحم، مدرسة متكاملة، نُسبت إلى القنائي، واشتهر بها.
جاء في كتاب أقطاب التصوف الثلاث أن القنائي “له مدرسة كاملة من العلم الصوفي المحمدي…، ولذلك لم يطلق عليه شيخ طريقة كسابقيه، كالإمامين: الرفاعي، والبدوي، وإن كان البعض قد اتخذ طريقة تنسب إلى القنائي، على أساس أن العلوم التي أورثها لتلاميذه، وأسرته، لا تقل في المرتبة، أو التنظيم عن منهاج الطرق الأخرى”،[6] فمدرسة القنائي “…تسمح للجميع بالأخذ منها من غير الخروج على طريقته، ولأنها لا تقل فوق ذلك على أي مدرسة فكرية، إسلامية، تصوفية، كمدرسة الإمام الغزالي وغيره”.[7]
من أقواله رحمه الله
“إن الدين الإسلامي دين علم، وعمل، وأخلاق، فمن ترك واحدة، فقد ضل الطريق”.[8]
و”العلم أصل العقائد الدينية مدللا على ذلك بقوله تعالى:{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم}،(آل عمران/18)”.[9]
أما آرائه الصوفية، فقد كانت لها أبعاد عميقة، حيث يقول: “إن التصوف أهم أركان الأخلاق، فالتصوف ليس ركنا من أركان الإسلام، ولكنه ركن من أركان الأخلاق، والأخلاق الحسنة تجر صاحبها إلى الحسن والكمال، والكمال كله القرآن…، فالأخلاق تنبع من مزيج من العلم الظاهر، والباطن المنتج”.[10]
أما عن قيمة العمل “…فكان يدعو من يأتي إلى حَلقة علمه، باتخاذ حرفة، وإلى المزيد من العمل لمن يعمل إلى جانب العلم، ومن راح إلى غير عمل بعلم وأخلاق، فهو تحت حكم ما قاله الله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن أهذى سبيلا}،(الإسراء/84)”.[11]
هكذا يرى القنائي المنهج العلمي، والعملي، والتأطير الخُلقي الذي يضبط سلوك المريد السالك أو الصوفي الناسك، و يرتفع به إلى أكبر الكمالات، وأعلى المقامات، فيصبح بذلك جسدا وروحا امتزجا وتشكلا من عاملين رئيسيين: علم الظاهر، وعلم الباطن المنبثقين من رحم الشريعة.
للمُترجم مؤلفات مهمة نذكر من بينها: “تفسيره للقرأن، وكتاب الأصفياء، ورسالة في الزواج، وأحزاب وأوراد…، وله أيضا مقالات في التوحيد منقولة عنه، ورسائل في علوم القوم.
توفي رحمة الله عليه في شهر صفر يوم الجمعة عام (592ﮪ)، وكانت وفاته بقنا، وقبره بجبّانتها يُزار، ولا يكاد يخلو من زائر قاصد أو عابر، تقصده العباد من أقصى البلاد”.[12]
الهوامش:
[1]– طبقات الشاذلية الكبرى، الحسن بن محمد قاسم الكوهن، تحقيق: مرسي محمد علي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط2/2005، ص:82.
[2] – أقطاب التصوف الثلاث: السيد: أحمد البدوي، السيد: أحمد الرفاعي، السيد: عبد الرحيم القنائي، عبد الحليم محمود، و صلاح عزام، ط:1968، مؤسسة دار الشعب- القاهرة، ص: 88/89.
[3] – طبقات الأولياء، لابن الملقن، تحقيق:نور الدين شريبة ، مكتبة الخانجي، ط2/1994، ص:299.
[4] – أقطاب التصوف الثلاث، ص: 90.
[5] – طبقات الشاذلية، ص:82.
[6] – أقطاب التصوف الثلاث، ص:91.
[7] – نفس المصدر السابق.
[8] – نفس المصدر السابق.
[9] – نفس المصدر السابق، ص:92.
[10]– نفس المصدر السابق، ص:95.
[11]– نفس المصدر السابق، ص:93.
[12]– طبقات الشاذلية، ص:82.
_____________________________
*نقلًا عن موقع ” الرابطة المحمدية ” في المملكة المغربية.