“سلطان العارفين” أبو يزيد البسطامي
“سلطان العارفين” أبو يزيد البسطامي*
أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان البِسطامِي، من أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، يلقب بـ “سلطان العارفين” اسمه الفارسي “بايزيد” كما عرف كذلك باسم طيفور، كان جده شروسان مجوسيًا وأسلم، وله أخوان هما آدم وعلي. ولد سنة (188) هـ في بسطام في بلاد خراسان في محلة يقال لها محلة موبدان.
قال الشيخ الحافظ أبو نعيم رحمه الله : ومنهم التائه الوحيد ، الهائم الفريد البسطامي أبو يزيد . تاه فغاب ، وهام فآب ، غاب عن المحدودات إلى موجد المحسوسات والمعدومات ، فارق الخلق ووافق الحق . فأيد بأخلاء الخير ، وأمد باستيلاء البر ، إشارته هانئة ، وعبارته كامنة ، لعارفيها ضامنة ، ولمنكريها فاتنة .
أقواله:
- – عن أبي يزيد البسطامي قال : ” ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير ، إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير ” .
- – قال : ” غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء : توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه ، فلما انتهيت رأيت ذكره سبق ذكري ومعرفته سبقت معرفتي ، ومحبته أقدم من محبتي ، وطلبه لي أولا حتى طلبته ” .
- – قال : ” اللهم إنك خلقت هذا الخلق بغير علمهم ، وقلدتهم أمانة من غير إرادتهم ، فإن لم تعنهم فمن يعينهم ؟ ” .
- – قال : ” إن لله خواص من عباده لو حجبهم في الجنة عن رؤيته لاستغاثوا بالخروج من الجنة كما يستغيث أهل النار بالخروج من النار ” .
- – قال أبو يزيد : ” لم أزل ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر الله أتمضمض وأغسل لساني إجلالا لله أن أذكره ” .
- – جاء رجل إلى أبي يزيد فقال : أوصني ، فقال له : انظر إلى السماء ، فنظر صاحبه إلى السماء فقال له أبو يزيد : أتدري من خلق هذا ؟ قال : الله ، قال أبو يزيد : ” إن من خلقها لمطلع عليك حيث كنت فاحذره ” .
- – قال أبو يزيد : ” طلقت الدنيا ثلاثا ثلاثا بتاتا لا رجعة فيها ، وصرت إلى ربي وحدي ، فناديته بالاستغاثة : إلهي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك ، فلما عرف صدق الدعاء من قلبي والإياس من نفسي كان أول ما ورد علي من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكلية ، ونصب الخلائق بين يدي مع إعراضي عنهم ” .
- – قال : ” إن في الطاعات من الآفات ما لا تحتاجون معه إلى أن تطلبوا المعاصي ” .
- – أبا يزيد يقول : ” عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي ، وما شيء أهون علي منها ” .
- – قال : ” دعوت نفسي إلى الله فأبت علي واستصعبت ، فتركتها ومضيت إلى الله ” .
- – قال : ” أشد المحجوبين عن الله ثلاثة بثلاثة : فأولهم الزاهد بزهده ، والثاني العابد بعبادته ، والثالث العالم بعلمه، ثم قال : مسكين الزاهد قد ألبس زهده وجرى به في ميدان الزهاد ، ولو علم المسكين أن الدنيا كلها سماها الله قليلا ، فكم ملك من القليل ؟! وفي كم زهد مما ملك ؟! ثم قال : إن الزاهد هو الذي يلحظ إليه بلحظة فيبقى عنده ، ثم لا ترجع نظرته إلى غيره ولا إلى نفسه ، وأما العابد فهو الذي يرى منة الله عليه في العبادة أكثر من العبادة حتى تعرف عبادته في المنة ، وأما العالم فلو علم أن جميع ما أبدى الله من العلم سطر واحد من اللوح المحفوظ ، فكم علم هذا العالم من ذلك السطر ؟! وكم عمل فيما علم ؟! ”
- – سئل : بماذا يستعان على العبادة فقال : بالله إن كنت تعرفه
- – سأله رجل فقال : يا أبا يزيد ، العارف يحجبه شيء عن ربه ؟ فقال : ” يا مسكين من كان هو حجابه أي شيء يحجبه ” .
- – قال أبو يزيد : ” من سمع الكلام ليتكلم مع الناس رزقه الله فهما يكلم به الناس ، ومن سمعه ليعامل الله رزقه الله فهما يناجي به ربه ” .
- – قال أبو يزيد : ” العارف فوق ما يقول ، والعالم دون ما يقول ، والعارف ما فرح بشيء قط ولا خاف من شيء قط ، والعارف يلاحظ ربه والعالم يلاحظ نفسه بعلمه ، والعابد يعبده بالحال والعارف يعبده في الحال ، وثواب العارف من ربه هو ، وكمال العارف احترافه فيه له ، وقال رجل لأبي يزيد : علمني اسم الله الأعظم . قال : ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك لوحدانيته ، فإذا كنت كذلك فارفع إلى أي اسم شئت ، فإنك تصير به إلى المشرق والمغرب ثم تجيء وتصف ” .
- – قال:إذا رأيتم الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تعتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة.
تاويل وشرح كلامه:
ورد في “المجموعة الصوفية الكاملة” عن أبو يزيد البسطامي أنه قال: ( بطشي أشد من بطشه بي ).
وأرودها الشيخ عبد المجيد الخاني الشافعي النقشبندي في كتابه “الكواكب الدرية على الحدائق الوردية في أجلاء السادة النقشبندية”، ما نصه: ( أنه قرئ عليه: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }؛ فقال: بطشي أشد .
نقول مقصود ابو يزيد أن بطش الربوبية بطش رحمة وتربية، وأنه مهما اشتد بطش الرحمن فلن يخلو من الرحمن أبداً..
أما بطش الإنسان مهما خف فهو خالي من الرحمة، لقوله تعالى: { وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [الشعراء : 130] ..
ويصدق ذلك تأويل شيخنا الأكبر السلطان ابن عربي، بما نصه: ( إن بطش العبد بطش معرَى عن الرحمة، ما عنده من الرحمة شيء في حال بطشه، وبطش الحق بكل وجه فيه رحمة بالمبطوش به، من وجه يقصده الباطش الحق، فهو الرحيم به في بطشه، فبطش العبد أشد، لأنه لا تقوم به رحمة بالمبطوش به )؛ ورد في “الفتوحات المكية” لابن عربي [ج1/ص: 695] انتهى ..
– قول أبو يزيد البسطامي: ( سبحاني ما أعظم شأني، حسبي من نفسي حسبي )
والتي عبر فيها الإمام الجنيد عن حالة سلطان العارفين فيها، بقوله: ( الْرْجْلِ اسْتُهِلكْ فنْطَق ما هْلِك بهْ، لْذُهولِه فْي الْحْقِِ عْن رْؤيتهِ إْيْاه، فْلْم يشْهد فْي الْحقِ إلا الحقُ ).
– أبو يزيد البسطامي: خضت بحراً وقف الأنبياء بساحله ..
لهذا القول وجهين للمعنى: الأول: أنه خاض في بحر من العلم انتهى الأنبياء من الخوض فيه ..
جاء في كتاب “الإبريز” من كلام سيدي الدباغ عبد العزيزرضي الله عنه :
وسألته رضي الله عنه قول أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه: خضنا بحورا وقفت الأنبياء بسواحلها.
فقال رضي الله عنه: النبوة خطرها جسيم وقدرها عظيم، وصاحبها كريم ذو مقام رفيع وجناب منيع، لا يبلغ أحد مقداره ولا يشق سائر غباره، فهيهات أن يصل الولي إلى رجالها، وشتان ما بينه وبين رجالها، ولكنه قد علم أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وإمام المرسلين وخيرة خلق الله أجمعين، وقد يعير صلى الله عليه وسلم بعض أثوابه لبعض الكاملين من أمته الشريفة، فإذا لبسه حصل له ما قاله أبو يزيد البسطامي، وذلك في الحقيقة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الخائض لتلك البحور والمقدم على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.)) انتهى
وقال صاحب جواهر المعاني سيدي الفرد أحمد التجاني قدس الله سره :وكقول بعض العارفين : ” نهاية أقدام النبيّين بداية أقدام الأولياء ” . والجواب عن هذه الشطحات : أنّ للعارف وقتا يطرأ عليه الفناء والاستغراق حتى يخرج بذاك عن دائرة حسّه وشهوده ، ويخرج عن جميع مداركه ووجوده . لكن تارة يكون ذلك في ذات الحقّ سبحانه وتعالى ، فيتدلّى له من قدس اللاهوت من بعض أسراره فيضا يقتضي منه أنّه يشهد ذاته عين ذات الحقّ لمحقه فيها واستهلاكه فيها ، ويصرّح في هذا الميدان بقوله : ” سبحاني لا اله إلاّ أنا وحدي ” الخ من التسبيحات كقوله: ” جلّتْ عظمتي وتقدّس كبريائي ” ، وهو في ذلك معذور لأنّ العقل الذي يميّز به الشواهد والعوائد ، ويعطيه تفصيل المراتب بمعرفة كلّ بما يستحقّه من الصفات ، غاب عنه وانحمق وتلاشى واضمحلّ . وعند فَقْدِ هذا العقل وذهابه ، وفيض ذلك السرّ القدسيّ عليه ، تكلّم بما تكلّم به . فالكلام الذي وقع فيه خلقه الخلق فيه نيابة عنه ، فهو يتكلّم بلسان الحقّ لا بلسانه ومعربا عن ذات الحقّ لا عن ذاته ، ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي : ” سبحاني ما أعظم شأني ” ، وقول الحلاّج : ” أنا الحقّ ، وما في الجبّة إلاّ الله ” ، وكقول بعضهم : ” فالأرض أرضي والسماء سمائي ” ، وكقول التستريّ رضي الله تعالى عنه :
أنظر أنا شيء عجيب لمن يراني أنا المحبّ والحبيب ما ثَمّ ثاني
، وكقوله أيضا : ” أنا من أهوى ومن أهوى أنا …” البيت . وأقوال ابن الفارض مثل هذه كثيرة . وهذا ممّا يعطيه الفناء والاستغراق في ذات الحقّ ، وهذا أمر خارج عن المقال ، يُدرَك بالذوق وصفاء الأحوال ، فلا يعلم حقيقته إلاّ من ذاقه .
وممّا أذكرُه أنّ الشيخ ابن عجيبة الحسني رضي الله عنه فسّرها في كتابه شرح المباحث الأصلية بما هو معناه: أنّه بحر الجذب، خاضه الأولياء ورجعوا منه بعد خوضه، والأنبياء عليهم السلام لقوّتهم الذاتية التي أودعها الله فيهم وقفوا على ساحله فاستشرفوه دون خوضه وعادوا إلى الخلق معلّمين ودّالين على الحقّ سبحانه.
توفي رضي الله عنه عام (261) هـ.
________________________
*نقلاً عن موقع ” نفحات الطريق”.